الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السعادة في ثلاث
(1)
الحياة السعيدة مطلب كل إنسان، لها يسعى ومن أجلها يكد ويقرع الأبواب ويسلك الأسباب ويستهين بالصعاب·
ولا تزال السعادة للإنسان وإن طال عمره ودنا أجله أعز مطلوب وأغلى مرغوب، تستشرفه النفوس مهما شاخت، والإنسان حارث ساعٍ بطبعه في تحصيل منافعه، كثير الهم لما يطلبه أو مما يحاذره·
وليس عيباً في الإنسان أن يطلب السعاة أو يحرص على أسبابها فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ
(1) الدعوة
احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» (1)
وإنما العيب أن يحرص الإنسان على ما يضره لجهله وسوء ظنه وتقديره، معتقدًا أن فيما يسعى إليه السعادة والحق أن ما سعى إليه وحرص عليه هو عين الشقاء وإن تضمن متعاً عاجلة، فيكون كمن يطلب الشفاء في مخدر يظن أن فيه دواءه، وأكثر الناس هذه حاله يطلب السعادة ولكن لا يعرف أي طريق يسلك ولا أي باب يقرع ويقف إما حائراً أو يخبط خبط عشواء حتى يأتي اليوم الذي يقول فيه:{رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} المؤمنون: 106
إن من الناس من يطلب السعادة في المال، ومنهم من يطلبها في الجاه والسلطان، ومنهم من يراها في شهوات البطن والفرج، ومنهم من
(1) مسلم 4816، وابن ماجه 79، 4158
يظنها في السياحة والأسفار، وإن كل ذلك إلاّ متاع الحياة الدنيا، قال الله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} آل عمران: 14
ولما تباين سعي الناس وراء السعادة لزم أن نسأل سؤالاً مهماً، وهو كيف يعرف العبد أنه حصل على السعادة، وما هي العلامات والأمارات التي تميز السعيد من الشقي؟
لأن كثيراً من الناس يجهد وينصب ويظن أنه في الطريق الصحيح ثم يخيب آخر الأمر ظنه، فبعد الجهد والتعب والنصب كثير ممن طلب السعادة في تلك المسالك بلسان الحال أو المقال الفشل في الوصول إلى السعادة وأيقنوا أن تلك المتع الوقتية وإن أسعدت حينا فكثيراً ما كانت عقباها إلى الندم، أو كانت كلفتها من جيوش الهم والنصب التي لا يقوم لها ما قدمته لهم، والسبب أنهم ما ضبطوها بما يكفل لهم السعادة الحقيقية·
وإذا أردت أن تعلم علامات السير الصحيح في طريق السعداء فتأمل قول الإمام ابن القيم رحمه الله يقول (1) : (من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته وكلما، زيد في عمره نقص من حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم، وعلامات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره وتيهه، وكلما زيد في عمله زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه، وكلما زيد في عمره زيد في حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه، وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده فيسعد بها أقوام ويشفى بها أقوام) ·
فجماع ما ذكره الإمام أن السعيد هو الذي كلما زيد نعماً أحدثت تلكم النعم عملاً قلبياً تنبعث عنه الجوارح بعمل ظاهر·
(1) الفوائد
وقال ابن القيم رحمه الله أيضا (1) : (إذا أنعم عليه شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر فإن هذه الأمور الثلاثة عنوان سعادة العبد وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه ولا ينفك عبد عنها أبدا فإن العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاث)
وهذا الذي ذكره ابن القيم يشمل من زيد في النعم ومن انتقص منها فالسعيد الشاكر عند الزيادة، والصابر عند ذهابها، المستخدم لها فيما يرضي الله وذلك من الشكر، المقلع عن استخدام النعم في معصيته، الأواب التائب من سائر الذنوب التي لا يحبها الله تعالى ولا يرضاها وإن أحدثت متعة وقتية أو لذة فانية·
وقال أيضاً (2) : (محبة العلم من علامات السعادة، وبغض العلم من علامات الشقاوة، وهذا كله إنما هو في علم الرسل الذي
(1) الوابل الصيب ص11
(2)
مفتاح دار السعادة 1/261
جاؤوا به وورثوه للأمة لا في كل ما يسمى علماً، وأيضاً فإن محبة العلم تحمل على تعلمه واتباعه وذلك هو الدين، وبغضه ينهى عن تعلمه واتباعه) ·
فعلى الجميع بعد أن بُينت أمارات السعادة بياناً شافياً بما خط هذا العالم الجليل أن يقف وقفة صادقة مع النفس ويتأمل هل يسير في طريق صحيح يكفل له السعادة أم أن ما يرآه سراب يحسبه الظمآن ماء؟