الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخلاق للمسلم يتحلى بها في حياته
الصبر
الصبر من حيث الجملة واجب، ويدل لذلك:
أ - أمر الله به في غير ما آية قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة:153 {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} آل عمران:200.
ب - نهيه عن ضده كما في قوله {فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} الأنفال:15 وقوله {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} محمد:33 {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} آل عمران:139 {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} الأحقاف:35.
ج - أن الله رتب عليه خيري الدنيا والآخرة وما كان كذلك كان تحصيله واجباً، أما من حيث التفصيل فحكمه بحسب المصبور عنه أو عليه، فهو واجب على الواجبات وواجب عن المحرمات، وهو مستحب عن المكروهات، ومكروه عن المستحبات، ومستحب على المستحبات،
ومكروه على المكروهات، ومما يدل على أن الصبر قد لا يكون لازماً قوله تعالى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} النحل:126، فالصبر عن مقابلة السيئة بمثلها ليس واجباً بل مندوباً إليه.
وقد أمر الله المؤمنين بالصبر والمصابرة والمرابطة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران:200، وصيغة المصابرة تفيد المفاعلة من الجانبين، والمعنى هنا: مغالبة الأعداء في الصبر، فإذا كنا نصبر على حقنا، فإن المشركين يصبرون على باطلهم؛ فلا بد أن نغلبهم بمصابرتنا، ثم أمرنا بالمرابطة على تلك المصابرة والثبات عليها لنحقق موعود الله ونظفر بالفلاح، فانتقلت الآية بالأمر من الأدنى إلى الأعلى فالصبر مع نفسك، والمصابرة بينك وبين عدوك والمرابطة: الثبات وإعداد العدة، وكما أن الرباط لزوم الثغر لئلا يهجم منه العدو فكذلك الرباط أيضاً لزوم ثغر القلب لئلا يهجم منه الشيطان فيملكه أو يخربه أو يناله بأذى. وعليه فقد يصبر العبد ولا
يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى، فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله بالتقوى.
د - درجاته:
الصبر نوعان، بدني ونفسي وكل منهما قسمان:
اختياري واضطراري، فصارت أربعة:
1 -
بدني اختياري، كتعاطي الأعمال الشاقة.
2 -
بدني اضطراري كالصبر على ألم الضرب.
3 -
نفسي اختياري كصبر النفس عن فعل ما لا يحسن فعله شرعاً ولا عقلاً.
4-
نفسي اضطراري كصبر النفس عن فقدان محبوبها الذي حيل بينها وبينه.
والصبر الاختياري أكمل من الاضطراري، فإن الاضطراري يشترك فيه الناس ويتأتى ممن لا يتأتى منه الصبر الاختياري، ولذلك كان صبر يوسف على مطاوعة امرأة العزيز وصبره على ما ناله من السجن أعظم من صبره على ما ناله من إخوته لما ألقوه في الجب وفرقوا بينه وبين أبويه،
وباعوه بيع العبد، ومن الصبر الاختياري صبره على العز والتمكين الذي أورثه الله إياه فجعله مسخراً لطاعة الله ولم ينقله ذلك إلى الكبر والبطر، وكذلك كان صبر نوح والخليل وموسى الكليم والمسيح ومحمد صلى الله عليه وسلم فإن صبرهم كان على الدعوة إلى الله ومجاهدة أعداء الله ولهذا سموا أولي العزم، وأمر الله رسوله أن يصبر كصبرهم {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} الأحقاف:35 ونهاه عن أن يتشبه بصاحب الحوت حيث لم يصبر فخرج مغاضباً قبل أن يؤذن له {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} القلم:48 ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على أولي العزم حتى ردوها إلى خيرهم وأفضلهم وأصبرهم.
واعلم أن الصبر المتعلق بالتكليف وهو صبر إما على الطاعة أو عن المعصية أفضل من الصبر على مر القدر فإن هذا الأخير يأتي به البر والفاجر والمؤمن والكافر فلابد لكل أحد من الصبر على القدر اختياراً أو اضطراراً، أما الصبر على الأوامر وعن النواهي فهو صبر أتباع الرسل، والصبر على الأوامر أفضل من الصبر عن النواهي لأن فعل
المأمور أحب إلى الله من ترك المحظور والصبر على أحب الأمرين أفضل وأعلى
2 -
فضائل الصبر في القرآن الكريم:
حديث القرآن عن فضائل الصبر كثير جداً، وهذه العجالة لا تستوعب كل ما ورد في ذلك لكن نجتزىء منه بما يلي:
1-
علق الله الفلاح به في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آل عمران:200
2-
الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} القصص:54 وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر:10.
3-
تعليق الإمامة في الدين به وباليقين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة:24.
4-
ظفرهم بمعية الله لهم: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة:153،الأنفال:46.
5-
أنه جمع لهم ثلاثة أمور لم تجمع لغيرهم: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} البقرة:157.
6-
أنه جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} البقرة:145.
7-
أنه علق النصر بالصبر والتقوى فقال: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} آل عمران:125.
8-
أنه تعالى جعل الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره فما استجن العبد بأعظم منهما: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} آل عمران:120.
9-
أن الملائكة تسلم في الجنة على المؤمنين بصبرهم {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} الرعد:23-24.
10-
أنه سبحانه رتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح فقال: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} هود:11.
11-
أنه سبحانه جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور: أي مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجلها وأشرفها: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} الشورى:43.
12-
أنه سبحانه جعل محبته للصابرين: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} آل عمران-146.
13-
أنه تعالى قال عن خصال الخير: إنه لا يلقاها إلا الصابرون: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فصلت:35.
14-
أنه سبحانه أخبر أنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار الشكور: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} إبراهيم:5، لقمان:31، سبأ:19، الشورى:33.
15-
أنه سبحانه أثنى على عبده أيوب أجل الثناء وأجمله لصبره فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ص:44، فمن لم يصبر فبئس العبد هو.
16-
أنه حكم بالخسران التام على كل من لم يؤمن ويعمل الصالحات ولم يكن من أهل الحق والصبر: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} العصر:1-3.، قال الإمام الشافعي: (لو فكر الناس كلهم في هذه الآية لوسعتهم، وذلك أن العبد كماله في تكميل قوتيه: قوة العلم، وقوة العمل، وهما: الإيمان والعمل الصالح وكما هو محتاج لتكميل نفسه فهو محتاج لتكميل غيره، وهو التواصي بالحق، وقاعدة ذلك وساقه إنما يقوم بالصبر) .
17-
أنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الذين قامت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرهم فقال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} البلد:18-19.
18-
أنه تبارك وتعالى قرن الصبر بمقامات الإيمان وأركان الإسلام وقيم الإسلام ومثله العليا، فقرنه بالصلاة {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} البقرة:45 وقرنه بالأعمال الصالحة عموماً {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا} هود:11، وجعله قرين التقوى {نَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} يوسف:90، وقرين الشكر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} إبراهيم:5، لقمان:31، سبأ:19، الشورى:33، وقرين الحق {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} العصر:3، وقرين المرحمة {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} البلد:17، وقرين اليقين {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة:24، وقرين التوكل {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} العنكبوت:58، {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} النحل:42، العنكبوت:59، وقرين التسبيح والاستغفار {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} غافر:55، وقرنه بالجهاد {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} محمد:31.
19 -
إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النحل:96.
وبعد، فهذا غيض من فيض في باب فضائل الصبر ولولا الإطالة لاسترسلنا في ذكر تلك الفضائل والمنازل، ولعل فيما ذكر عبرة ودافع على الصبر فالله المستعان.
3 -
مجالات الصبر في القرآن الكريم:
أ - الصبر على بلاء الدنيا:
لقد أخبرنا الله تعالى بطبيعة الحياة الدنيا، وأنها خلقت ممزوجة بالبلاء والفتن فقال:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} البلد:4 أي مشقة وعناء، وأقسم على ذلك بقوله:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} البقرة:155-157 وإذا أطلق الصبر فلا يكاد ينصرف إلى غيره عند كثير من الناس.
ب - الصبر على مشتهيات النفس:
وهو ما يسمى بالسراء فإن الصبر عليها أشد من الصبر على الضراء، قال بعضهم: البلاء يصبر عليه المؤمن والعافية لا يصبر عليها إلا صِدِّيق، وقال عبد الرحمن بن عوف:(ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر) . إن المؤمن مطالب بأن لا يطلق لنفسه العنان في الجري وراء شهواتها لئلا يخرجه ذلك إلى البطر والطغيان وإهمال حق الله تعالى فيما آتاه وبسط له، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} المنافقون:9.
ويمكن أن نجمل حاجة الإنسان إلى الصبر في هذا النوع بأربعة أمور:
1-
أن لا يركن إليها، ولا يغتر بها، ولا تحمله على البطر والأشر والفرح المذموم الذي لا يحب الله أهله.
2-
أن لا ينهمك في نيلها ويبالغ في استقصائها، فإنها تنقلب إلى أضدادها، فمن بالغ في الأكل والشرب والجماع انقلب ذلك إلى ضده، وحرم الأكل والشرب والجماع.
3-
أن يصبر على أداء حق الله تعالى فيها، ولا يضيعه فيسلبها.
4-
أن يصبر عن صرفها في الحرام، فلا يمكن نفسه من كل ما تريده منها، فإنها توقعه في الحرام، فإن احترز كل الاحتراز أوقعته في المكروه، ولا يصبر على السراء إلا الصديقون وإنما كان الصبر على السراء شديداً لأنه مقرون بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عند حضوره.
ومما يدخل في هذا النوع من الصبر، الصبر عن التطلع إلى مابيد الآخرين من الدنيا، والصبر عن الاغترار بما ينعمون به من مال وبنين قال تعالى:{يَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} المؤمنون:55-56 وقد نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} طه:131،
فالمؤمن من يعتز بنعمة الهداية ويعلم أنما هم فيه من الدنيا ظل زائل وعارية مستردة ولا يبالي بمظاهر الفخامة التي يتبجح بها الطغاة، لقد قال الذين يريدون الحياة الدنيا لما رأوا قارون في زينته {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} القصص:79، أما أهل العلم والإيمان فقالوا:{وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} القصص:80.
ج - الصبر على طاعة الله تعالى:
إن الصبر على طاعة الله أعظم مجالات الصبر وهو لذلك أشدها على النفوس وقد جاءت صيغة الأمر بالصبر على الطاعة مغايرة لغيرها فقال تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} مريم:65، وقال:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} طه:132، فاستخدم صيغة الافتعال وهو يدل على المبالغة في الفعل إذ زيادة المبنى
تدل على زيادة المعنى، وما ذاك إلا لمشقة مجاهدة النفوس على القيام بحق العبودية في كل الأحوال.
واعلم أن الصبر على الطاعة له ثلاث أحوال:
1-
قبل الطاعة، بتصحيح النية والصبر على شوائب الرياء، وعقد العزم على الوفاء ولعل هذا يظهر سر تقديم الصبر على العمل الصالح في قوله:{إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} هود:11.
2-
حال الطاعة بأن لا يغفل عن الله فيها، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابها وسننها، ولعله المراد بقوله:{نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} العنكبوت:58-59 صبروا إلى تمام العمل.
3-
بعد الفراغ منها فيصبر على عدم إفشائها والمراءاة والإعجاب بها، وترك ما يبطلها قال تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} محمد:33، وقال:{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} البقرة:264
د - الصبر على مشاق الدعوة إلى الله:
غير خاف عليك ضرورة صبر الداعية على ما يلاقيه في دعوته، فإنه يأتي الناس بما لا يشتهونه ولا يألفونه، وبما يخالف ما وجدوا عليه آباءهم، فلذلك يقاومون الدعوة بكل ما أوتوا من قوة، ويوصلون الأذى بالداعية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
- إن اعراضهم عن الدعوة يحتاج إلى صبر كصبر نوح الذي بقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً (1)، وحكى الله عنه قوله:{إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} نوح:5-7.
- وما يحيكه المغرضون من مؤامرات الكيد التي تؤذي الداعية في أهله ونفسه وماله تحتاج إلى صبر، وهذا ما أكده الله تعالى بقوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي
(1){وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} العنكبوت:14
أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} آل عمران:186، وقد أمر الله رسوله بقوله:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} المزمل:10، وقد أجمع الأنبياء على رد أذى أقوامهم بالصبر {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} إبراهيم:12، {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} الأنعام:34، وسحرة فرعون لما وقر الإيمان في قلوبهم قابلوا تهديده بالقتل والصلب بقولهم {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} الأعراف:125-126.
- إن طول الطريق، واستبطاء النصر يحتاج إلى صبر، وصبر حار شديد ولذا خوطب المؤمنون في القرآن بقوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} البقرة:214، وقوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} يوسف:110.
هـ الصبر حين البأس:
أي الصبر في الحرب وعند لقاء العدو والتحام الصفوف، فالصبر ثَمّ شرط للنصر، والفرار كبيرة، وقد أثنى الله تعالى على الصابرين في ساعة القتال فقال في آية البر:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} أي الفقر {وَالضَّرَّاءِ} أي المرض، {وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} البقرة:177 ويوجبه على عباده بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال: 45-46.
وعندما تضطرب أمور المعركة، وينفرط عقدها تكون الحاجة إلى الصبر أعظم وأشد كما حدث في أحد حين انكشف المسلمون وشاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، انجفل فريق من المسلمين منهزمين،
وصبر آخرون فنزل من القرآن إشادة بمن صبروا، وإنكار على أولئك:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} آل عمران:142، ثم لا يعذرهم في فرارهم وانهزامهم {مَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} آل عمران:144.. إلى أن قال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} آل عمران:146
وقد حدثنا عن الثلة المؤمنة مع طالوت عندما انتصرت لما اعتصمت بالصبر، وقد اختبر طالوت من معه بقوله:{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ..} البقرة:249 فصبر ثلة مؤمنة على ترك الشرب من النهر إلا غرفة باليد {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ} البقرة:249-250، لقد سألوا الله حين اللقاء صبراً، فقالوا {أَفْرِغْ} ، إذ هم بحاجة إلى صبر كثير، وكانت النتيجة {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} البقرة:251
و الصبر في مجال العلاقات الإنسانية:
لا تستقيم الحياة مع الناس إلا بالصبر بدءاً بأقرب من يعاشرك وهي الزوجة وانتهاءً بأبعد الناس عنك، وقد قال الله تعالى مبيناً ما ينبغي أن يتحلى به الزوج من صبر في مواجهة مشاكل الزوجية:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} النساء:19، أي فاصبروا فعاقبة الصبر حميدة، ويوصي الله عباده بالصبر على ما يلاقونه من الناس من ضر، وأن لا يقابلوا السيئة بمثلها فيقول:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} فصلت:34-35.
ومما يُنظم في هذا العقد صبر التلميذ على التعلم والمعلم، وهذا ما حدثنا عنه في القرآن عندما ذهب موسى إلى الخضر ليعلمه مما علمه الله، قال له الخضر إما لأن الله أخبره بالحقيقة أو تهييجاً على الصبر -قال:{إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} الكهف:67-68، فتعهد موسى بالصبر - قال:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} الكهف:69
…
4-
الأسباب المعينة على الصبر:
أ - المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا:
إن من عرف طبيعة الدنيا وما جبلت عليه من الكدر والمشقة والعناء هان عليه ما يبتلى به فيها لأنه وقع في أمر يتوقعه، والشيء من معدنه لا يستغرب، وقد عرفنا الله بهذه الحقيقة فقال:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} البلد:4، أي في مشقة وعناء، وقال:{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} الإنشقاق:6، وبين جل جلاله أنها
لا تدوم على حال بل يوم لك ويوم عليك {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} آل عمران:140. إن من لا يعرف هذه الحقيقة سيفاجأ بوقائع الأحداث تصب على رأسه صباً فيظن أنه الوحيد من بين بني الإنسان الذي يصاب بذلك لشؤمه وسوء حظه، ولذلك يبادر بعضهم بالإجهاز على نفسه بالانتحار، لأنه ما علم أن لكل فرحة ترحة وما كان ضحك إلا كان بعده بكاء، وما ملئ بيت حبرة إلا ملىء عبرة، وما عبت دار من السرور إلا عبت من الحزن، (وأنه لو فتَّش العالَم لم ير فيهم إلا مبتلىً، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأنَّ شرورَ الدنيا أحلامُ نوم أو كظلٍّ زائلٍ، إن أضحكتْ قليلاً، أبكتْ كثيراً، وإن سَرَّتْ يوماً، ساءتْ دهراً، وإن مَتَّعتْ قليلاً، منعت طويلاً
…
) (1) .
ب - معرفتك بأنك وما بيدك ملك لله تعالى ومرجعك إليه:
(1) من كلام ابن القيم في زاد المعاد 4/190
قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} النحل:53، وقد علمنا في كتاب ربنا أن نقول عند حلول المصائب:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} البقرة:156.
يقول ابن القيم: (1) (هذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فأنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته.
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير، وأيضا فإنه محفوف بِعَدَمينِ: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير، وأيضا فإنه ليس الذي أوجده من عدمه، حتى يكون ملكه حقيقةً، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يبقى عليه وجوده، فليس له فيه تأثير، ولا ملك حقيقي، وأيضا فإنه متصرف فيه
(1) زاد المعاد 4 / 189
بالأمر تصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خُوِّله ونهايته، فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود، ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء، ففكره في مبدئه ومعاده أعظم علاج هذا الداء)
ولذلك يقال عند تعزية المصاب «إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» (1) .
وقد أدركت أم سليم هذا المعنى عندما توفي ابنها، فلما جاء أبوه أبو طلحة يسأل عنه قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح (تعني الموت، وقد ظن أنها تريد النوم لمجيء العافية) وكانت قد هيأت
(1) البخاري 1204، ومسلم 1531
نفسها لزوجها فتعرضت له فأصاب منها فلما أراد الخروج لصلاة الفجر، قالت له: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوماً أعاروا أهل بيت عارية، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، إن العارية مؤداة إلى أهلها، فقالت: إن الله أعارنا فلاناً ثم أخذه منه فاسترجع
…
إلى آخر القصة (1) .
ج - اليقين بحسن الجزاء عند الله تعالى: أن مما يرغب الإنسان في العمل، ويزيده ثباتاً فيه علمه بحسن جزائه في الآخرة ولا نجد في القرآن شيئاً ضخم جزاؤه وعظم أجره مثل الصبر فيقول {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} العنكبوت:58-59، ويقول مبيناً أن الصابرين يجزون بأحسن ما عملوا:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} النحل:96، ويصرح بأن أجرهم غير معدود ولا محدود فيقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
(1) والقصة في البخاري 1218
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الزمر:10، وقد ذُكِّر المؤمنون بهذه الحقيقة في الكلمة التي أمروا أن يقولوها عند حلول المصائب:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} البقرة:156، فيتذكرون أنهم سيرجعون إلى الله فيجزيهم على عملهم وصبرهم أحسن الجزاء وأوفاه.
د - الثقة بحصول الفرج:
إن يقين العبد بأن النصر مقرون بالصبر وأن الفرج آت بعد الكرب وأن مع العسر يسراً يقويه على الصبر على ما يلاقيه، وقد كثرت الآيات الدالة على هذا المعنى لما له من أثر في مزيد التحمل والثبات، قال تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} الشرح:5-6، قال بعضهم:(لَنْ يَغْلِب عُسْر يُسْرَيْنِ)(1) يقصد بذلك أن العسر ورد معرفة في الموضعين والمعرفة إذا كررت في الجملة لا تفيد التعدد بخلاف النكرة وهي التي ورد به اليسر في الموضعين، فإذا قلت: جاء الرجل
(1) وهو من كلام عمر بن الخطاب كما في الموطأ 854، والطبري 6692
وأكرمت الرجل، كان الرجل في المواطنين واحداً، وإذا قلت: جاء رجلٌ وأكرمت رجلاً، كان المقصود رجلين. وقد جعل العسر في الآيتين مع العسر لا بعده أو عقبه لينبه إلى قرب تحققه بعده حتى كأنه معه ولينبه أيضاً إلى أن كل عسر مقرون بيسر وأكثر فما من مصيبة يبتلى بها عبد إلا ولله فيه إلطاف بأن لم يجعلها على نحو أعظم أو أكبر أو أطول مما هي عليه.
وقد تكرر في القرآن الأمر بالصبر مقروناً بالتذكير بأن وعد الله حق لا يتخلف أبداً قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} الزمر:20، وقال {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} الروم:60،إن اشتداد الأزمة في سنن الله تعني قرب انبلاج الفجر وظهور طلائع النصر كما قيل:
اشتدي أزمةُ تنفرجي # قد آذن ليلك بالبلج (1)
(1) من قصيدة لأبي الفضل التوزري المعروف بابن النحوي
ولهذا نجد يعقوب يكون أمله في العثور على يوسف أشد عندما أخذ ابنه الثاني فيقول: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} يوسف:83، وقال لأبنائه {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} يوسف:87.
هـ - الاستعانة بالله:
مما يعين المبتلى على الصبر أن يستعين بالله تعالى ويلجأ إلى حماه فيشعر بمعيته سبحانه وأنه في حمايته ورعايته، ومن كان في حمى ربه فلن يضام ولذا قال موسى لقومه بعد أن هددهم فرعون بما هددهم به {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} الأعراف:128.
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
ولعل حاجة الصابرين إلى الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه هي بعض أسرار اقتران الصبر بالتوكل على الله في آيات كثيرة كقوله {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} العنكبوت:58-
59، وقوله عن رسله:{وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} إبراهيم:12.
و الاقتداء بأهل الصبر:
إن التأمل في سير الصابرين يعطي الإنسان شحنة دافعة على الصبر، ومن هنا ندرك سر حرص القرآن المكي على ذكر صبر الأنبياء على ما لاقوه من أممهم وهذا ما صرح الله به في قوله:{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} هود:120، وقال الله:{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} الأنعام:34، وجاء الأمر صريحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالصابرين قبله:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} الأحقاف:35، وحين نزل البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم التذكير ببلاء من كان قبلهم: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ *
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} العنكبوت:2-3، وقال لهم:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} البقرة:214.
ز - الإيمان بقدر الله:
إن إيمان العبد بقدر الله النافذ واستسلامه له أكبر عون على تجشم مصاعب المصائب، وعلم العبد بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه برد من اليقين يصب على فؤاده، قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} الحديد:22-23، وركون المؤمن إلى قدر الله في مثل هذا المقام واحتجاجه به أمر لا غبار عليه لأنه إحالة على القدر فيما لا اختيار للعبد فيه.
واعلم أن الجزع والهلع والتبرم والضيق لايرد من قدر الله شيئاً فلابد من الصبر أول الأمر لئلا يحرم العبد من المثوبة ولئن لم يصبر أول الصدمة فسيصبر بعد ذاك رغم أنفه ولا أجر له، قال حكيم:(العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد السبعة أيام) .
إن المبالغة في التشكي والتبرم لا يغير من الواقع شيئاً بل يزيد النفس هماً وكمداً ولهذا قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} الأنعام:33-35، فأزال الوحشة عن قلب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول آية بأن تكذيبهم ليس للرسول وإنما هو لله تعالى، ثم عزاه في الثانية وسلاه بما حدث لرسل الله فصبروا، ثم قال له: إن شق عليك إعراضهم وذهبت نفسك عليهم حسرات وضاق صدرك فليس
لك إلا الصبر، وإلا فافعل ما بدا لك فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض تهرب منه أو سلماً في السماء، تصعد عليه فدونك فافعل.
الآفات المعيقة عن الصبر:
1-
الاستعجال: النفس موكولة بحب العاجل {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} الأنبياء:37، فإذا أبطأ على الإنسان ما يريد نفد صبره وضاق صدره واستعجل قطف الثمرة قبل أوانها فلا هو ظفر بثمرة طيبة ولا هو أتم المسير، ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} الأحقاف:35، أي العذاب فإن له يوماً موعوداً.
لقد باءت بعض الدعوات بالفشل ولم تؤت ثمرتها المرجوة بعلة الاستعجال، ولو أنهم صبروا لكان خيراً لهم، ثار بعضهم على الطغيان ولما يقم على ساقه ويشتد عوده وتكتمل آلته وتنضج دعوته وتمتد قاعدته فقضي على الدعوة ووئد الداعية وذهب الاثنان في خبر كان، والحديث
عن الاستعجال أطول من هذا ولكن في الإشارة للبيب ما يغني عن العبارة.
2-
الغضب: قد يرى الداعية من المدعوين ما لا يليق فيستفزه الغضب فيدفعه إلى ما لا يحسن به مما يسيء إلى الدعوة ويلصق بجبين حاملها وصمة عار تبقى الدهر كله، ولهذا حذر الله رسوله من مغبة الغضب بأن لا يقع فيما وقع فيه يونس فقال:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} القلم:48 لقد فرغ صبره فضاق صدره فغادرهم غاضباً قبل أن يأذن الله له ظناً منه أن الله لن يضيق عليه فضيق الله عليه بأن جعله في بطن الحوت: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} الأنبياء:87، فتاب الله عليه:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} الأنبياء:88.
3-
اليأس: أعظم عوائق الصبر وهو الذي حذر يعقوب أبناءه من الوقوع فيه مع تكرار البحث عن يوسف وأخيه {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} يوسف:87، وهو الذي حرص القرآن على دفعه عن أنفس المؤمنين فبذر الأمل في صدورهم:{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} آل عمران:139، وقال لهم:{فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} محمد:35، إن إضاءة شعلة الأمل دواء اليأس وهذا ما ذكرت به الآيات المؤمنين وهو ما ذكر به موسى قومه فقال:{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} الأعراف:128، ولما شكا خباب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلاقيه من أذى قريش قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكره مصاب الصالحين في الأمم قبله: «وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ
الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَحَضْرَمُوتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ» (1) .
4 -
نماذج للصابرين:
لقد ضُرب لنا في القرآن نماذج رائعة تجسدت فيهم حقيقة الصبر، واستحقوا أن يذكروا بصبرهم فيقتدى بهم الصابرون، وسنختار في هذه العجالة ثلاثة منها يتمثل في كل واحد منها لون من الصبر.
أ - الصبر على طاعة الله:
في قصة إبراهيم وإسماعيل التي حكاها الله لنا بقوله عن إبراهيم: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ
(1) أبو داود 2278، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، وأحمد 25959، وأخرجه البخاري مختصرا
أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} الصافات:99-111.
من أيهما تعجب من الأب الذي رأى في المنام أنه يذبح ابنه أم من الابن الذي يستسلم لأمر الله طواعية واختياراً، لقد كان الابن وحيد إبراهيم ولم يأته إلا على كبر فما ظنك بتعلق الأب بابنه، إنه تعلق لا يوصف، ولكن تعلقه بالله أعظم وطاعته لله فوق كل ذلك، لقد حطم إبراهيم كل نداءات الأرض لما جاء الأمر من السماء، وضرب للناس أروع الأمثال في الطاعة، ولقد كان الوحي في هذه المرة رؤيا فلم يتأولها إبراهيم لصالحه بدافع من غريزة الأبوة، ولكنه امتثل وعرض على ابنه ما رأى عرضاً في غاية الإيجاز والسهولة ولكنه يتضمن أمراً في غاية الخطورة، ولم يكن الابن صغيراً بحيث لم ير الأب من جدواه ما يجعله
شديد التعلق به والاعتماد عليه، ولكنه بلغ مع أبيه السعي فاصبح فتى مفتول العضلات، قوي الساعد، وكانت إجابة الابن محيرة حقاً، لقد حسم الموقف بجملتين قالهما لأبيه خلدهما التاريخ له، وكانتا سبباً في تدوين اسمه في الصابرين:{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} الأنبياء:95، قال إسماعيل:{يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} الصافات:102، أي لا تأخذ رأيي ولا تنتظر مشورتي بل نفذ ما أمرت به، ثم لا ينسى أن يستمد العون من الله على حاله بالصبر فهو لا يعتمد على قوته وشدة جلده بل يسأله من ربه، وصدقا وأسلم الوالد ولده، وتله أبوه للجبين، وتهيأ للذبح وجاءت البشرى عند ذاك بعد أن حقق الابتلاء ثمرته {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ..} الصافات:104.
ب - الصبر عن معصية الله:
وأبرز الأمثلة وأشدها وضوحاً صبر يوسف عليه السلام على مراودة امرأة العزيز، لقد كان الصبر ظهير يوسف في محنته التي ابتلي بها
اضطراراً واختياراً وكشف عن هذا حين عثر إخوته عليه فقال: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} يوسف:90، لقد رفض كل العروض والإغراءات وخرج من الفتنة بإيمانه وصبره، وكان صبره هذا أرقى من صبر أبيه يعقوب على الفراق وأرقى من صبر أيوب على ما بلي به لأن صبرهما كان اضطرارياً لا حيلة لهما في رفعه ولا دفعه بينما كان صبر يوسف اختياراً وحين تملك فلم يتكبر ولم يطغ صبراً اختيارياً، يقول ابن القيم نقلاً عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله:(1) (كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا، ومحاربة للنفس، ولاسيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة:
(1) مدارج السالكين 2/156
1-
فإنه كان شاباً، وداعية الشباب إليها قوية.
2-
وعزباً ليس معه ما يعوضه ويرد شهوته.
3-
وغريباً، والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي فيه بين أصحابه ومعارفه وأهله.
4-
ومملوكاً، والمملوك أيضاً ليس وازعه كوازع الحر.
5-
والمرأة جميلة وذات منصب، وهي سيدته.
6-
وقد غاب الرقيب.
7-
وهي الداعية إلى نفسها والحريصة على ذلك أشد الحرص.
8-
وتوعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار.
ومع هذه الدواعي كلها صبر اختيارياً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه) اهـ.
لقد ضحى بدنياه من أجل دينه، وبحريته من أجل عقيدته، وقال قولته المشهورة:{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} يوسف:33، ولما أفرج عنه من السجن الطويل واستدعي لمقابلة الملك، لم يستفزه هذا الخبر بل
طلب التحقيق في القضية حتى تظهر براءته على الملأ وحدث ذلك فعلاً وعند ذلك ازداد إعجاب الملك به فقال: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} يوسف:54، وكان في المرة الأولى قال {ائْتُونِي بِهِ} ، فقط {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} يوسف:54.
ج - الصبر على أقدار الله المؤلمة:
إن أشهر من يقرن اسمه بهذا اللون من الصبر نبي الله أيوب عليه السلام، لقد أصابه ضر عظيم في بدنه وأهله وماله فصبر، فخلد ذكره في القرآن فقال الله تعالى:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ص:41-44، لقد ذكر له من ألوان التكريم وأوسمة الشرف ما هو جدير بمثله لعظيم صبره
فأولهما تكريمه بتخليد ذكره ومباهاة الله به عند رسوله محمد صلى الله عليه وسلم
وثانيه: تكريمه بقوله {عَبْدَنَا} ، حيث أضافه إليه، والعبودية من أشرف أوصاف الإنسان التي يتحلى بها
وثالثها: عندما استجاب نداءه وكشف ضره ووهب له أهله ومثلهم معهم
ورابعها: حينما جعل له مخرجاً من يمين حلفه على امرأته فكرمت وكرم بما يخلصه من مأزق الحنث، وكانت خاتمة ذلك هذا الوسام من الشرف العريض {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ، فوصفه بالصبر حتى قرن الصبر بأيوب فلا يذكر إلا وهو معه، ثم قال: نعم العبد فكانت شهادة من الله بتمام عبوديته، ثم ختم ذلك بقوله إنه أواب، والأواب: المبالغ في شدة رجوعه إلى الله تعالى.
وقد ذكر الله تعالى صبره في موطن آخر فقال: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ *
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} الأنبياء:83-85، لقد كان نداء أيوب في ضرائه غاية في اللطف والأدب ولذا كانت الإجابة آية في التمام والكمال، لقد نادى ربه ولم يسأله شيئاً بعينه من الأهل والعافية وذكر ربه بما هو أهله وبما اتصف به {رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، فاستجاب له دعاءه فكشف عنه الضر ورد عليه الأهل ومثلهم معهم وجعله ذكرى للعابدين وإماماً من الصابرين.
جعلني الله وإياك منهم وحشرنا معهم وآجرنا بأجرهم إنه ولي ذلك والقادر عليه
…