الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: الأداء
1 - طرق الأداء:
لقد حدد المحدثون طرقًا للأداء تتعلق بالرواية، وإذا كان قد سبق الحديث عن أهم طريقين للتحمل، فسوف أتكلم عن أهم طرق الأداء لهاتين الطريقين.
إذا سمع الراوي من لفظ الشيخ فله أن يؤدي بإحدى الصيغ التي ذكرها العلماء لذلك، ومنها في المرتبة الأولى أن يقول: سمعت. وهي أرقى الألفاظ الدالة على السماع؛ لكونها صريحة فيه.
وله أن يقول: حدثني أو حدثنا، أو يقول: أخبرني أو أخبرنا، أو يقول: نبأنا أو أنبأني أو نبأني، أو يقول: قال لنا، أو ذكر لنا، أو قال لي، أو ذكر لي.
وأما إذا كان طريق تحمل الراوي هو القراءة على الشيخ أو العرض، فالأحوط أن يقول: قرأت على فلان. أو يقول: قرئ على فلان. وأنا أسمع. أو يذكر لفظًا من الألفاظ التي سبق ذكرها في الطريق الأول مع تقييد ما يذكره منها بالقراءة، كأن يقول: حدثنا قراءة عليه .. إلخ.
2 - آداب الرواية (أي: الأداء):
ولقد نص المحدثون على آدابٍ للأداء ينبغي أن يتحلى بها من أراد التصدي للتحديث (1).
(1) لقد ذكر المحدثون آدابًا كثيرة للرواية والآداء، ولقد ذكرها الخطيب في كتابيه «الجامع لأخلاق الراوي» ، و «الكفاية» ، وكذلك القاضي عياض في «الإلماع» ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» ، وابن جماعة في «تذكرة السامع» وغير ذلك من كتب المصطلح، وسأحاول الاقتصار على الآداب التي تتعلق بضبط المرويات؛ لعلاقتها بهذا المبحث والله أعلم.
ومن هذه الآداب التي تتعلق بالضبط والإتقان:
1 -
رفع الصوت عند التحديث:
لاشك أن وضوح صوت المحدث أثناء التحديث من العوامل التي تساعد على توثيق المروي، فكلما كان صوت الشيخ واضحًا، كلما استطاع الحاضرون الأمن من دخول تصحيف في المرويات؛ ولذا قد خص المحدثون ما ينشأ عن الخطأ من السمع بنوع خاص، وهو تصحيف السمع.
لذا اعتبر المحدثون رفع صوت المحدث من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها؛ حتى يسمعه الطلاب، وخاصة إذا كثر المستمعون؛ مراعاة لضعاف السمع.
قال الخطيب: فإن حضر المجلس سيئ السمع، وجب على المحدث أن يرفع صوته حتى يُسمعه (1).
ولقد عقد الخطيب في كتابه القيم «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» بابًا كاملًا خصه بالحديث عن إصلاح المحدث (2): هيئته، وأخذه لرواية الحديث زينته، وهي باختصار شديد:
أن يبدأ بالسواك ويقص أظفاره إذا طالت، ويأخذ من شاربه، ويسكن شعث رأسه، وإذا اتسخ ثوبه غسله، وإذا أكل طعامًا زُهْمًا (3) أنقى يديه من غَمَره (4).
ويجتنب من الأطعمة ما كره ريحه، ويغير شيبه بالخضاب؛ مخالفة لطريقة أهل الكتاب، ويستحب لباس الأبيض من الثياب، ويستحب له أن يلبس القلنسوة، ويعتم من فوقها بالعمامة.
(1)«الجامع» 1/ 413.
(2)
ينظر «الجامع» 1/ 372 - 416
(3)
قَال في «القاموس» : الزهومة والزهمة بضمهما: ريح لحم سمين منتن، والزهم بالضم: الريح المنتنة.
(4)
الغَمَر: زنخ اللحم، وما يتعلق باليد من دسمه، كما في «القاموس» .
وأن يقتصد في مشيه وينبغي أن يمنع أصحابه من المشي وراءه؛ فإن ذلك فتنة للمتبوع، وذِلّة للمتبع، وأن يبتدئ بالسلام لمن لقيه من المسلمين، وإذا دخل على أهل المجلس فلا يسلم عليهم حتى ينتهي إليهم، ويمنع من كان جالسًا من القيام له؛ فإن السكون إلى ذلك من آفات النفس، ويستحب له أن يصلي ركعتين قبل جلوسه، ويستحب جلوسه متربعًا مع كونه متخشعًا، ويستحب له أن يستعمل لطيف الخطاب، ويتحفظ في منطقه، ويتجنب المزاح مع أهل المجلس؛ فإنه يسقط الحشمة، ويقلل الهيبة. ويستحب له أن ينكر برفق دون الإغلاظ والحُذْق، إلى غير ذلك من الآداب.
وهذه الآداب وإن كانت غير متعلقة بما نحن بصدده؛ إلا أن فيها ما يدل على عظمة المحدثين واستيعابهم لجميع أحوال الراوي النفسية والجسدية والعقلية، فاستحقوا أن يكونوا أسبق العلماء في هذا الميدان، فرحمهم الله رحمة واسعة.
2 -
كراهة سرد الكلمات سردًا:
فقد نص الخطيب على كراهة سرد الحديث واستحباب التمهل فيه وساق في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث سردكم (1).
ومن أجل وضوح الصوت وبيانه استحب المحدثون أن يجلس المحدث على منبر أو نحوه حتى يسمعه الحاضرون، وخاصة إذا كثروا.
قال الخطيب: إذا كثر عدد من يحضر للسماع، وكانوا بحيث لا يبلغهم صوت الراوي ولا يرونه استحب له أن يجلس على منبر أو غيره حتى يبدو للجماعة وجهه ويبلغهم صوته.
(1) أخرجه البخاري كتاب: المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم (3568)، ومسلم كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي هريرة (2493).
ثم روى عن أبي السليل القيسي قال: قدم علينا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يجتمعون عليه فإذا كثروا صعد على ظهر بيته، فحدثهم منه (1).
كما رَوى عن أيوب قال: قدم علينا عكرمة فاجتمع الناس عليه حتى أصعد فوق ظهر بيت. اهـ. (2)
3 -
تكرار الحديث ثلاثًا
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدث بحديث أعاده ثلاثًا، حتى يفهم عنه، ويحفظ ويضبط، فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا سلم سلم ثلاثًا، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا (3).
فلاشك أن الإعادة للحديث تساعد على تثبيت الحفظ، وخاصة إذا كان المستمعون يحفظون حال المجلس.
قال الخطيب: إذا كان تعويل السامع على النقل من كتاب المحدث ما سمعه، فلا وجه لإعادته وتكريره، وأما إن كان مُعَوَّلُهُ على حفظه عن الراوي فالأولى بالمحدث تكرير ما يرويه حتى يتيقن السامع حفظه، ويقع له معرفته وفهمه (4).
4 -
الرواية من أصول المحدث:
قال الخطيب: الاحتياط للمحدث والأولى به أن يروي من كتابه؛ ليسلم من الوهم والغلط، ويكون جديرًا بالبعد عن الزلل.
ثم روى بإسناده إلى أحمد بن حنبل قال: ما كان أحد أقل سَقَطًا من ابن المبارك، كان رجلًا يحدث من كتاب، ومن حدث من كتاب لا يكاد يكون له
(1)«الجامع» 1/ 413 (992).
(2)
«الجامع» 1/ 414 (993).
(3)
أخرجه البخاري كتاب: العلم، باب: من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه (94).
(4)
«الجامع» 2/ 6
سقط كبير شيء. اهـ. (1). وقد روى غير ذلك عنه، ومع ذلك فإن الرواية عن الحفظ جائزة لمن كان متقنًا لها متحفظًا فيها.
وينبغي مع هذه الحالة أن لا يَغفُل الراوي عن مطالعة كتبه وتعاهدها والنظر فيها.
ويحدث بما لا يداخله فيه الشك؛ وما شك في حفظه لزمه أن يمسك عنه.
5 -
اتخاذ المستملي وعقد مجالس للإملاء.
يستحب عقد المجالس لإملاء الحديث؛ لأن ذلك أعلى مراتب الراوين، ومن أحسن مذاهب المحدثين مع ما فيه من جمال الدين والاقتداء بسنن السلف الصالحين.
وقد قال الخليفة المأمون: ما أشتهي من لذات الدنيا إلا أن يجتمع أصحاب الحديث عندي، ويجيء المستملي فيقول: من ذكرت أصلحك الله. اهـ. (2)
وروى الخطيب بإسناده إلى معروفٍ الخياط قال: رأيت واثلة بن الأسقع يملي على الناس الأحاديث فهم يكتبونها بين يديه. وروي ذلك عن كثير من العلماء.
قال الخطيب: وفي المتقدمين جماعة كانوا يعقدون المجالس للإملاء منهم شعبة ابن الحجاج وأَكْرِمْ به؛ ومن الطبقة التي تليه: يزيد بن هارون الواسطي وعاصم بن علي ابن عاصم التميمي وعمرو بن مرزوق الباهلي.
ومن الطبقة الثالثة: محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري، وجعفر بن محمد بن الحسن الفيريابي. ثم ساق بأسانيده
(1)«الجامع» 2/ 10 - 11 (1024).
(2)
«الجامع» 2/ 55 (1152).