المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ في كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده: - روايات الجامع الصحيح ونسخه «دراسة نظرية تطبيقية» - جـ ١

[جمعة فتحي عبد الحليم]

فهرس الكتاب

- ‌حول ألفاظ عنوان الرسالة

- ‌1 - الاختلاف:

- ‌2 - الرواية:

- ‌3 - النسخة:

- ‌الاختلاف في تسمية «صحيح البخاري»

- ‌الدراسات السابقة التي تناولت الموضوع

- ‌تمهيد

- ‌المحور الأول:وضع المحدثين ضوابط وآداب لتحمل الرواية(التحمل والأداء)

- ‌أولًا: التحمل

- ‌سن التحمل:

- ‌ السماع من لفظ الشيخ

- ‌القراءة على الشيخ أو العرض

- ‌ثانيًا: الأداء

- ‌1 - طرق الأداء:

- ‌2 - آداب الرواية (أي: الأداء):

- ‌3 - حالات الإمساك عن الأداء:

- ‌4 - شروط الأداء:

- ‌المحور الثاني:وضع المحدثين ضوابط لضبط الكتاب وتقييده والحفاظ عليه

- ‌كتابة الحديث وكيفية ضبطه

- ‌ في كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده:

- ‌الباب الأول«طبقات الرُّواة»

- ‌تمهيد

- ‌الفَصْل الأول«طبقات الرُّواة عن البُخارِيّ»

- ‌المبحث الأولرواية إبراهِيم بن مَعْقِل النَّسفي (295) ه

- ‌المبحث الثانيرواية حماد بن شاكر النَّسفي (311) ه

- ‌المبحث الثالثرِواية أبي عبد الله الفَرَبْريّ (231 - 320) ه

- ‌المبحث الرابعباقي الرُّواة عن البُخارِيّ

- ‌رواية أبي طلحة البّزدوي (329) ه

- ‌رِواية أبي عبد الله المحاملي (330) ه

- ‌الفَصْل الثاني«الرُّواة عن الفَرَبْريّ»

- ‌المبحث الأولرِواية أبي علي بن السَّكن (294 - 353) ه

- ‌المبحث الثانيرِواية أبي زيد المَرْوَزيّ (371) ه

- ‌المبحث الثالثرِواية أبي إسحاق المُسْتَمْلِيّ (376) ه

- ‌المبحث الرابعرِواية أبي محمد الحَمُّوييّ (381) ه

- ‌المبحث الخامسرِواية أبى الهيثم الكُشْمِيهَني (389) ه

- ‌المبحث السادسباقي الروايات عن الفربري

- ‌ رِواية حفيد الفَرَبْريّ (371) ه

- ‌ رِواية أبي أحمد الجرجاني (373) ه

- ‌ رِواية ابن شَبُّويه (378) ه

- ‌ رِواية النُّعَيميّ (386) ه

- ‌ رِواية الإشتيخني (381) ه

- ‌ رِواية أبي علي الكُشّانيّ (391) ه

- ‌ رِواية الأَخْسِيكَتي (346) ه

- ‌ رِواية محمد بن خالد الفَرَبْريّ

- ‌ رواية أبي لقمان يحيى بن عمار الختلاني

- ‌الفَصْل الثالث«أشهر الروايات بين العلماء حتى القرن السادس الهجري»

- ‌المبحث الأولرِواية أبي ذر الهَرَويّ (434) ه

- ‌المطلب الأولترجمة أبي ذر الهَرَويّ

- ‌المطلب الثانيرِواية أبي ذر الهَرَويّ (434) ه

- ‌المطلب الثالثالنسخ الموجودة من رِواية أبي ذر الهَرَويّ

- ‌المبحث الثانيرِواية الأَصِيلي (392) ه

- ‌المبحث الثالثرِواية أبي الوَقْت (553) ه

- ‌المبحث الرابعرِواية كريمة المَرْوَزيّة (463) ه

- ‌خاتمة الباب الأول

- ‌الباب الثاني«الاختلاف بين الروايات»

- ‌الفصل الأول:صور الاختلافات

- ‌أولًا: السياق العام للكتاب

- ‌ثانيًا: اختلافات في أسانيد الأحاديث وهي أنواع:

- ‌ثالثًا: الاختلافات الواردة في متون الأحاديث: وهي أنواع:

- ‌رابعًا: الاختلافات الواقعة في الأبواب والتراجم والمعلقات:

الفصل: ‌ في كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده:

النوع الخامس والعشرون:‌

‌ في كتابة الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده:

إن على كَتَبةِ الحديث وطَلَبَتِهِ صرفَ الهمةِ إلى ضبط ما يكتبونه أو يُحصِّلونه بخط الغير من مروياتهم، على الوجه الذي روَوْهُ شكلًا ونَقْطًا يؤمَنُ معهما الالتباس، وكثيرا ما يتهاون بذلك الواثق بذهنه وتَيقُّظه، وذلك وخيمُ العاقبة؛ فإن الإنسان معَّرضٌ للنسيان وأولُ ناسٍ أولُ النّاسِ (1).

وإعجام المكتوب يَمْنَعُ من استعجامه، وشَكلُهُ يمنع من إشكاله، ثم لا ينبغي أن يتعنَّى بتقييد الواضح الذي لا يكاد يلتبس، وقد أحسنَ مَنْ قال: إنما يُشْكَلُ ما يُشْكِلُ (2).

وقرأت بخط صاحب كتاب «سمات الخط ورقُوُمهُ» علي بن إبراهيم البغدادي (3) فيه: أن أهل العلم يكرهون الإعجامَ والإعرابَ إلا في الملتبِس.

(1) إشارة إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115].

(2)

ذكر مثله الرامهرمزي في «المحدث الفاصل» ص: 608 فقرة (688)، والقاضي في «الِإلمَاع» ص: 135 - 136.

(3)

لم أقف على ترجمته، وقد ذكره صاحب «كشف الظنون» 4/ 1001، ولم يذكر فيه شيئًا غير وصف الكتاب.

ص: 87

وحَكَى غيرهُ عن قومٍ أنه ينبغي أن يُشكلَ ما يُشكِل وما لا يُشكِل؛ وذلك لأن المبتدئ وغير المتبحر في العلم لا يميزُ ما يُشكِل مما لا يُشكِل، ولا صوابَ الإعراب مِنْ خَطئِهِ، والله أعلم (1).

وهذا بيانُ أمورٍ مفيدة في ذلك:

أحدها: ينبغي أن يكون اعتناؤه - من بَيْن ما يَلتبسُ - بضبط الملتبسِ من أسماءِ الناسِ أكثرَ؛ فإنها لا (تستدرك)(2) بالمعنى، ولا يستدل عليها بما قبل وما بعد (3).

الثاني: يُستحبُّ في الألفاظ المُشْكِلة أن يُكرِّرَ ضَبْطَها، بأن يَضبطها في متن الكتاب، ثم يكتبها قبالة ذلك في الحاشية مفردة مضبوطة، فإن ذلك أبلغُ في إبانتها وأبعدُ من التباسِها، وما ضبطه في أثناء الأسطر ربما داخله نَقْطُ غيره وشَكْلهُ مما فوقه وتحته، لاسيما عند دقة الخط وضيق الأسطر، وبهذا جرى رسمُ جماعةٍ من أهل الضبط (4) والله أعلم.

(1) ينظر «المحدث الفاصل» ص: 608، و «الِإلمَاع» ص: 135 - 136.

(2)

هكذا في طبعة د / عائشة وطبعة د / عتر، أما في طبعة الطباخ ونقلها عنه أحمد شاكر:(تدرك).

(3)

وينظر فيه: النقط والشكل من «المحدث الفاصل» ص: 608 فقرة (886)، و «الِإلمَاع» ص:135.

(4)

وهذا من أدق أنواع الاحتياط، وقد اختار بعض العلماء طريقة أدق من هذه، وهي التي ذكرها العراقي في شرحه على كتاب ابن الصلاح وهو كتاب «التقييد والإيضاح» قَال في ص: 192: اقتصر المصنف على ذكر كتابة اللفظة المشكلة في الحاشية مفردة مضبوطة ولم يتعرض لتقطيع حروفها، وهو متداول بين أهل الضبط، وفائدته ظهور شكل الحرف بكتابته مفردًا، كالنون والياء إذا وقعت في أول الكلمة أو في وسطها، ونقله ابن دقيق العيد في «الاقتراح» ص: 41 عن أهل الإتقان فقال: ومن عادة المتقنين أن يبالغوا في إيضاح المشكل، فيفرقوا حروف الكلمة في الحاشية ويضبطوها حرفًا حرفًا. اهـ.

وقد رأيت ذلك في خط سبط بن العجمي في نسخته من كتاب «التوضيح لشرح الجامع الصحيح» لابن الملقن وهو - أي السبط - من المعروفين بالدقة والإتقان في كتابتهم.

ص: 88

الثالث: يُكرَهُ الخطُّ الدقيق من غير عذرٍ يقتضيه، رُوِّينا عن حنبل بن إسحاق قال رآني أحمد بن حنبل وأنا أكتب خطًّا دقيقًا فقال: لا تفعل؛ أحوج ما تكون إليه يخونك (1).

وبلغنا عن بعض المشايخ أنه كان إذا رأى خطًّا دقيقًا قال: هذا خط من لا يوقن بالخلف من الله تعالى.

والعذر في ذلك هو مثل ألا يجد في الورق سعة، أو يكون رحالًا يحتاج إلى تدقيق الخط؛ ليخف عليه محمل كتابه ونحو هذا، والله أعلم.

الرابع: يختار له في خطه التحقيق دون المشق (2) والتعليق (3).

بلغنا عن ابن قتيبة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شر الكتابة المشق وشر القراءة الهذرمة (4) وأجود الخط أبينه (5) والله أعلم.

الخامس: كما تضبط الحروف المعجمة بالنقط، كذلك ينبغي أن تضبط المهملات غير المعجمة بعلامة الإهمال؛ لتدل على عدم إعجامها، وسبيل الناس في ضبطها مختلف:

فمنهم من يقلب النقط فيجعل النقط الذي فوق المعجمات تحت ما يشاكلها من المهملات، فينقط تحت الراء والصاد والطاء والعين ونحوها من

(1) ينظر: «أدب الكتاب» للصولي ص: 50.

(2)

هو سرعة الكتابة، «الصحاح» 4/ 1555.وينظر:«أدب الكتاب» ص: 124 - 125.

(3)

هو خلط الحروف التي ينبغي تفريقها، وقد تقدم الإشارة إلى ذلك.

(4)

هي سرعة القراءة.

(5)

أخرجه الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي» 1/ 262.وينظر: «أدب الكتاب» ص: 49.

ص: 89

المهملات (1)، وذكر بعض هؤلاء أن النقط التي تحت السين المهملة تكون مبسوطة صفًّا، والتي فوق الشين المعجمة تكون كالأثافي (2).

ومن الناس من يجعل علامة الإهمال فوق الحروف المهملة كقلامة الظفر مضطجعة على قفاها،

ومنهم من يجعل تحت الحاء المهملة حاءً مفردة صغيرة، وكذا تحت الدال والطاء والصاد والسين والعين وسائر الحروف المهملة الملتبسة مثل ذلك.

فهذه وجوه من علامات الإهمال شائعة معروفة، وهناك من العلامات ما هو موجود في كثير من الكتب القديمة ولا يفطن له كثيرون، كعلامة من يجعل فوق الحرف المهمل خطًّا صغيرًا (3). وكعلامة من يجعل تحت الحرف المهمل مثل الهمزة، والله أعلم.

(1) قَال الحافظ العراقي في «التقييد» ص: 193: أطلق المصنف في هذه العلامة - علامة الإهمال - قلب النقط العلوية في المعجمات إلى أسفل المهملات، وتَبعَ في ذلك القاضي عياضًا، ولابد من استثناء الحاء المهملة؛ لأنها لو نقطت من أسفل صارت جيمًا. اهـ. واعترض الأبناسي عليه أيضًا. ينظر «الشذا الفياح» 1/ 334.

(2)

الأثافي: حجارة ثلاثة توضع عليها القدر، واحدها: أثفية. بضم الهمزة أو كسرها، مع إسكان التاء المثلثة وكسر الفاء وتشديد الياء.

(3)

قَال الحافظ العراقي: اقتصر في هذه العلامة على جعل خط صغير فوق الحرف المهمل وترك فيه زيادة ذكرها القاضي عياض في «الِإلمَاع» ص: 141 فحكى عن بعض أهل المشرق أنه يعلم فوق الحرف المهمل بخط صغير يشبه النبرة، فحذف المصنف منه ذكر النبرة، والمصنف إنما أخذ ضبط الحروف المهملة بهذه العلامات من «الِإلمَاع» للقاضي عياض، وإذا كان كذلك فحذفه لقوله: يشبه النبرة يخرج هذه العلامة عن صفتها، فإن النبرة هي الهمزة كما قَال الجوهري وصاحب «المحكم» ، ومقتضى كلام المصنف أنها كالنصبة لا كالهمزة والله أعلم، اهـ. «التقييد والإيضاح» ص:194.

ص: 90

السادس: لا ينبغي أن يصطلح مع نفسه في كتابه بما لا يفهمه غيره فيوقع غيره في حيرة، كفعل من يجمع في كتابه بين روايات مختلفة ويرمز إلى رِواية كل راو بحرف واحد من اسمه أو حرفين وما أشبه ذلك، فإن بيَّن - في أول كتابه أو آخره - مراده بتلك العلامات والرموز فلا بأس (1). ومع ذلك فالأولى أن يتجنب الرمز ويكتب عند كل رِواية اسم راويها بكماله مختصرًا، ولا يقتصر على العلامة ببعضه، والله أعلم.

السابع: ينبغي أن يجعل بين كل حديثين دارة تفصل بينهما وتميز، وممن بلغنا عنه ذلك من الأئمة أبو الزناد، وأحمد بن حنبل، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، ومحمد بن جرير الطبري رضي الله عنهم (2).

واستحب الخطيب الحافظ أن تكون الدارات غفلًا، فإذا عارض فكل حديث يفرغ من عرضه ينقط في الدارة التي تليه نقطة أو يخط في وسطها خطًّا، قال: وقد كان بعض أهل العلم لا يعتد من سماعه إلا بما كان كذلك أو في معناه، والله أعلم.

الثامن: يكره له في مثل (عبد الله بن فلان بن فلان) أن يكتب عبد في آخر سطر والباقي في أول السطر الآخر، وكذلك يكره في (عبد الرحمن بن فلان) وفي سائر الأسماء المشتملة على التعبيد لله تعالى أن يكتب عبد في آخر سطر، واسم الله مع سائر النسب في أول السطر الآخر، وهكذا يكره أن يكتب (قال رسول) في آخر سطر، ويكتب في أول السطر الذي يليه (الله صلى الله

(1) كما فعل اليونيني في نسخته من «صحيح البُخَارِيّ» فإنه يبين مراده بتلك العلامات، وسيأتي في موضع آخر من الرسالة بيان عن روايات اليونيني.

(2)

الرواية عنهم رواها الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي» 1/ 273، أما رواية أبي الزناد فانظرها في «المحدث الفاصل» ص: 606 (882) باب الدائرة بين الحديثين.

ص: 91

تعالى عليه وآله وسلم) وما أشبه ذلك (1)، والله أعلم.

التاسع: ينبغي له أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره؛ فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك حرم حظًّا عظيمًا (2).

وقد روينا لأهل ذلك منامات صالحة، وما يكتبه من ذلك فهو دعاء (يثبته)(3)، لا كلام يرويه فلذلك لا يتقيد فيه بالرِّواية، ولا يقتصر فيه على ما في الأصل، وهكذا الأمر في الثناء على الله سبحانه، عند ذكر اسمه نحو: عز وجل و تبارك وتعالى وما ضاهى ذلك.

وإذا وجد شيء من ذلك قد جاءت به الرِّواية كانت العناية بإثباته وضبطه أكثر، وما وجد في خط أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه من إغفال

(1) قَال الحافظ العراقي في «التقييد» ص: 195: اقتصر المصنف في هذا على الكراهة، والذي ذكره الخطيب في كتاب «الجامع» 1/ 268 امتناع ذلك؛ فإنه روى فيه عن أبي عبد الله بن بطة أنه قَال: هذا كله غلط قبيح فيجب على الكاتب أن يتوقاه ويتأمله ويتحفظ منه.

قَال الخطيب: وهذا الذي ذكره أبو عبد الله صحيح فيجب اجتنابه. انتهى. واقتصر ابن دقيق العيد في «الاقتراح» على جعل ذلك من الآداب لا من الواجبات والله أعلم.

وقال الأبناسي في «الشذا الفياح» 1/ 335: ولا يختص ذلك بأسماء الله تعالى، بل أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وأسماء الصحابة، يأتي فيها مثل ذلك.

(2)

بيَّن البلقيني في «محاسن الاصطلاح» الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.

ويلحق بذلك جمل الترضي والترحم على الصحابة رضوان الله عليهم، فتثبت ولا تنقص ويرمز إليها، وينظر في ذلك «الجامع لأخلاق الراوي» 2/ 103 - 107 حيث يقول ناقلًا عن القاضي الرامهرمزي: فينبغي أن لا يمر حديث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قيل: صلى الله عليه وسلم، ولا يذكر أحد من الصحابة إلا قيل: رضي الله عنه. اهـ.

(3)

كذا في المطبوع، وفي «الشذا الفياح» أيضًا، وصحفت في المطبوع من «الكافي في علوم الحديث» للتبريزي إلى:(لنبيه).

ص: 92

ذلك عند ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم، فلعل سببه أنه كان يرى التقيد في ذلك بالرِّواية وعز عليه اتصالها في ذلك في جميع من فوقه من الرُّواة.

قال (الخطيب أبو بكر): وبلغني أنه كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم نطقًا لا خطًّا. قال: وقد خالفه غيره من الأئمة المتقدمين في ذلك.

وروي عن علي بن المديني وعباس بن عبد العظيم العنبري قالا: ما تركنا الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حديث سمعناه، وربما عجلنا فنبيض الكتاب في كل حديث حتى نرجع إليه، والله أعلم (1).

ثم ليتجنب في إثباتها نقصين:

أحدهما: أن يكتبها منقوصة صورة رامزًا إليها بحرفين أو نحو ذلك (2).

والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى، بأن لا يكتب:(وسلم)، وإن وجد ذلك في خط بعض المتقدمين.

سمعت أبا القاسم منصور بن عبد المنعم وأم المؤيد بنت أبي القاسم بقراءتي عليهما قالا: سمعنا أبا البركات عبد الله بن محمد الفراوي لفظا قال: سمعت المقرئ ظريف بن محمد يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن إسحاق الحافظ قال: سمعت أبي يقول: سمعت حمزة الكناني يقول: كنت أكتب الحديث، وكنت أكتب عند ذكر النبي (صلى الله عليه) ولا أكتب (وسلم) فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال لي: ما لك لا تتم الصلاة علي؟ قال: فما كتبت بعد ذلك: (صلى الله عليه) إلا كتبت: (وسلم).

(1) ينظر: «الجامع لأخلاق الراوي» 1/ 275

(2)

كره ذلك - اختصار صلى الله عليه وسلم التبريزي في «الكافي» ص: 549، باب: التحذير من اختصار الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أحمد شاكر في تعليقه على «المسند» 7/ 112: وهي الاصطلاح السخيف لبعض المتأخرين في اختصار كتابة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 93

قلت: ويكره أيضا الاقتصار على قوله عليه السلام والله أعلم بالصواب.

العاشر: على الطالب مقابلة كتابه بأصل سماعه وكتاب شيخه (1) الذي

(1) المقابلة في اللغة: المعارضة، فالمحدثون يعبرون عن المقابلة أحيانًا: المعارضة.

وتعتبر المقابلة أو المعارضة من أهم مظاهر التوثيق في المرويات والمخطوطات العربية؛ لأنها الوسيلة التي يتم بها التحقيق من سلامة النص وصحته بمطابقته على النسخة الأصل المعتمدة رغبة في إثباته كما كتبه مؤلفه، وإحالة الشيء إلى أصله، ونسبة الكلام إلى قائله هو زبدة التوثيق.

ومن فوائد المقابلة تقويم النص واكتشاف الخطأ الذي قد يحدث من المؤلف تارة، ومن النساخ تارة أخرى، بالإضافة إلى اكتشاف السقط إن وجد، واستكماله.

ويلاحظ أن فن مقابلة النص من وسائل التوثيق التي تعود إلى زيادة المحدثين في العناية بضبط الحديث، ثم صار من بعدهم تبعًا لهم.

ويستدل المحدثون على أهمية المقابلة بمعارضة جبريل عليه السلام للقرآن مع الرسول صلى الله عليه وسلم مرة كل عام، وقد عارضه مرتين في عامه الأخير.

(وينظر: «أصول نقد النصوص ونشر الكتب» لبرجستراسر ص: 96، وكتاب «أنماط التوثيق في المخطوط العربي» ص: 47 - 48.

وقد بلغت عناية المحدثين بالتأكيد على المقابلة أو المعارضة مبلغًا عظيمًا حتى اعتبر العلماء الكتب التي لم تعارض كأنها لم تكتب، كما روي ذلك عن عروة بن الزبير، كما سيأتي عند ابن الصلاح، وقال الخطيب في كتابه «الجامع لأخلاق الراوي» في باب وجوب المعارضة بالكتاب لتصحيحه وإزالة الشك والارتياب: يجب على من كتب نسخة من أصل بعض الشيوخ أن يعارض نسخته بالأصل، فإن ذلك شرط في صحة الرواية من الكتاب المسموع. اهـ.

وقال القاضي عياض في «الِإلمَاع» : ص: 142 وأما مقابلة النسخة بأصل السماع ومعارضتها به فمتعينة لابد منها، ولا يحل للمسلم التقي الرواية ما لم يقابل بأصل شيخه أو نسخة تحقق، ووثق بمقابلتها بالأصل.

وما أجمل ما أخرجه الخطيب في «الجامع» 1/ 279 عن الإمام الشافعي حيث قَال: إذا رأيت الكتاب فيه إلحاق وإصلاح فاشهد له بالصحة.

ولبعض الشعراء:

المح كتابك حين تكتبه

واحرسه من وهم ومن سقط

واعرضه مرتابًا بصحته

ما أنت معصومًا من الغلط

[الِإلمَاع ص: 143].

ولقد كتب في المقابلة أو المعارضة وأهميتها وشروطها وآدابها كثير من المتقدمين، منهم الرامهرمزي، والقاضي عياض، والخطيب البغدادي، وابن السَّمْعَاني، وابن عبد البر، وغيرهم.

كما كتب كثير من المُحدثين في إبراز دور المحدِّثين وسبقهم في الارتقاء بهذه الطريقة وريادتهم فيه، وقد سبق ذكر طائفة منهم قبل قليل.

ص: 94

يرويه عنه، وإن كان إجازة.

روينا عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أنه قال لابنه هشام: كتبت؟ قال: نعم، قال: عرضت كتابك؟ قال: لا، قال: لم تكتب (1).

وروينا عن الشافعي الإمام وعن يحيى بن أبي كثير قالا: من كتب ولم يعارض كمن دخل الخلاء ولم يستنج (2).

(1) ينظر «المحدث الفاصل» ص: 544، «الجامع لأخلاق الراوي» 1/ 275، «الكفاية» ص: 350، «أدب الإملاء» ص: 79 وغيرها.

(2)

ما جاء عن يحيى بن أبي كثير أخرجه الرامهرمزي في «المحدث الفاصل» ص: 544، والخطيب في «الجامع» 1/ 275، و «الكفاية» ص: 350، والقاضي في «الِإلمَاع» ص:143.

أما ما جاء عن الشافعي فقد قَال العراقي في «التقييد والإيضاح» ص: 196: هكذا ذكره المصنف عن الشافعي، وإنما هو معروف عن الأوزاعي وعن يحيى بن أبي كثير، وقد رواه عن الأوزاعي أبو عمر ابن عبد البر في كتاب «جامع بيان العلم» [1/ 337 (451)] من رواية بقية، عن الأوزاعي، ومن طريق ابن عبد البر رواه القاضي عياض في كتاب «الِإلمَاع» [ص: 143] بإسناده، ومنه يأخذ المصنف كثيرًا، وكأنه سبق قلمه من الأوزاعي إلى الشافعي، وأما قول يحيى بن أبي كثير فرواه ابن عبد البر أيضًا [(450)]، والخطيب في كتاب «الكفاية» [ص: 350]، وفي كتاب «الجامع» [1/ 275 (577)] من رواية أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، ولم أر لهذا ذكرًا عن الشافعي في شيء من الكتب المصنفة في علوم الحديث ولا في شيء من مناقب الشافعي، والله أعلم. اهـ.

ص: 95

وعن الأخفش قال: إذا نسخ الكتاب ولم يُعارَض، ثم نسخ ولم يعارض خرج أعجميًّا (1).

ثم إن أفضل المعارضة أن يعارض الطالب بنفسه كتابه بكتاب الشيخ مع الشيخ في حال تحديثه إياه من كتابه، لما يجمع ذلك من وجوه الاحتياط والإتقان من الجانبين (2).

وما لم تجتمع فيه هذه الأوصاف، نقص من مرتبته بقدر ما فاته منها، وما ذكرناه أولى من إطلاق أبي الفضل الجارودي الحافظ الهَرَويّ قوله: أصدق المعارضة مع نفسك.

ويستحب أن ينظر معه في نسخته من حضر من السامعين، ممن ليس معه نسخة، لاسيما إذا أراد النقل منها، وقد روي عن يحيى بن معين: أنه سئل عمن لم ينظر في الكتاب والمحدث يقرأ: هل يجوز أن يحدث بذلك عنه؟ فقال: أما عندي فلا يجوز، ولكن عامة الشيوخ هكذا سماعهم.

قلت: وهذا من مذاهب أهل التشديد في الرِّواية، وسيأتي ذكر مذهبهم إن شاء الله تعالى. والصحيح أن ذلك لا يشترط، وأنه يصح السماع، وإن لم ينظر أصلا في الكتاب حالة القراءة، وأنه لا يشترط أن يقابله بنفسه بل يكفيه مقابلة نسخته بأصل الراوي، وإن لم يكن ذلك حالة القراءة، وإن كانت المقابلة على يدي غيره إذا كان ثقة موثوقا بضبطه (3).

قلت: وجائز أن تكون مقابلته بفرع قد قوبل المقابلة المشروطة بأصل شيخه أصل السماع، وكذلك إذا قابل بأصل أصل الشيخ المقابل به أصل

(1) رواه عن الأخفش الخطيب في «الكفاية» ص: 351 باب المقابلة، وابن عبد البر في «الجامع» 1/ 78.

(2)

ينظر: «الكفاية» ص: 352.

(3)

ينظر: «الكفاية» ص: 351.

ص: 96

الشيخ؛ لأن الغرض المطلوب أن يكون كتاب الطالب مطابقا لأصل سماعه وكتاب شيخه، فسواء حصل ذلك بواسطة أو بغير واسطة، ولا يجزئ ذلك عند من قال: لا تصح مقابلته مع أحد غير نفسه، ولا يقلد غيره، ولا يكون بينه وبين كتاب الشيخ واسطة، وليقابل نسخته بالأصل بنفسه حرفًا حرفًا، حتى يكون على ثقة ويقين من مطابقتها له، وهذا مذهب متروك، وهو من مذاهب أهل التشديد المرفوضة في أعصارنا، والله أعلم.

أما إذا لم يعارض كتابه بالأصل أصلا، فقد سئل الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني عن جواز روايته منه فأجاز ذلك، وأجازه الحافظ أبو بكر الخطيب أيضا وبيَّن شرطه، فذكر أنه يشترط أن تكون نسخته نقلت من الأصل وأن يبيِّن عند الرّواية أنه لم يعارض (1).

وحكى عن شيخه أبي بكر البرقاني أنه سأل أبا بكر الإسماعيلي: هل للرجل أن يحدِّث بما كتب عن الشيخ ولم يعارض بأصله؟ فقال: نعم، ولكن لابد أن يبين أنه لم يعارض قال: وهذا هو مذهب أبي بكر البرقاني فإنه روى لنا أحاديث كثيرة قال فيها: أَخْبَرَنا فلانٌ، ولم أعارض بالأصل (2).

قلت: ولابد من شرط ثالث، وهو أن يكون ناقل النسخة من الأصل غير سقيم النقل، بل صحيح النقل قليل السقط، والله أعلم.

ثم إنه ينبغي أن يراعي في كتاب شيخه بالنسبة إلى من فوقه مثل ما ذكرنا أنه يراعيه من كتابه، ولا يكون منه كطائفة من الطلبة، إذا رأوا سماع شيخ لكتاب قرءوه عليه من أي نسخة اتفقت، والله أعلم (3).

(1)«الكفاية» ص: 353.

(2)

ينظر «الكفاية» أيضًا ص: 353.

(3)

وصيغ المقابلة كثيرة وعبارات العلماء فيها مختلفة، واستخدمها النساخ والوراقون أنفسهم في الإشارة إلى المقابلة، ومنها ما يقتصر على كلمة واحدة وهي: بلغ، أو قوبل، أو مقابلة، أو قوبلت، ومنها ما يتكون من كلمتين، أو أكثر مثل: بلغ مقابلة، أو بلغ مقابلة وتصحيحًا، وهناك نمط آخر من ألفاظ المقابلة يحدد الصفة التي تمت عليها المقابلة، كأن يقول: بلغ مقابلة على شيخنا، أو بلغ بأصل مؤلفه، أو بلغ مقابلة على نسخة المؤلف، وقد يقول: بلغ مقابلة من أوله إلى آخره على أصل مؤلفه، وأحيانًا يحدد تاريخ المقابلة بذكر السنة، واليوم وقد يضاف إليها اسم المكان.

وينظر كتاب «أنماط التوثيق» ص: 52 - 53.

ص: 97

الحادي عشر (1): المختار في كيفية تخريج الساقط في الحواشي - ويسمى اللحَق بفتح الحاء - وهو أن يخط من موضع سقوطه من السطر خطًّا صاعدًا إلى فوق، ثم يعطفه بين السطرين عطفة يسيرة إلى جهة الحاشية التي يكتب فيها اللحق، ويبدأ في الحاشية بكتبه اللحق مقابلًا للخط المنعطف، وليكن ذلك في حاشية ذات اليمين. وإن كانت تلي وسط الورقة إن اتسعت له، فليكتبه صاعدًا إلى أعلى الورقة لا نازلًا به إلى أسفل.

قلت: وإذا كان اللحق سطرين أو سطورًا فلا يبتدئ بسطوره من أسفل إلى أعلى، بل يبتديء بها من أعلى إلى أسفل، بحيث يكون منتهاها إلى جهة باطن الورقة إذا كان التخريج في جهة اليمين، وإذا كان في جهة الشمال وقع منتهاها إلى جهة طرف الورقة، ثم يكتب عند انتهاء اللحق:(صح). ومنهم من يكتب مع (صح): رجع، ومنهم من يكتب في آخر اللحق الكلمة المتصلة به داخل الكتاب في موضع التخريج ليؤذن باتصال الكلام.

وهذا اختيار بعض أهل الصنعة من أهل المغرب (2). واختيار القاضي أبي محمد بن خلاد صاحب كتاب «المحدث الفاصل بين الراوي والواعي» من

(1) بعد أن انتهى المؤلف من الكلام على المقابلة وما يتعلق بها بدأ يتكلم على ما ينتج عن المقابلة.

(2)

هو القاضي عياض، وينظر كلامه في «الِإلمَاع» باب التخريج والإلحاق ص: 144

ص: 98

أهل المشرق مع طائفة (1). وليس بمرضي؛ إذ رب كلمة تجيء في الكلام مكررة حقيقة، فهذا التكرير يوقع بعض الناس في توهم مثل ذلك في بعضه.

واختار القاضي ابنُ خلاد أيضا في كتابه أن يَمُدَّ عطفة خَطِّ التخريج من موضعه حتى يُلحِقُه بأول اللَّحق بالحاشية، وهذا أيضا غير مرضيّ؛ فإنه وإن كان فيه زيادةُ بيانٍ، فهو تَسْخيمٌ للكتاب وتسويدٌ له لاسيما عند كثرة الإلحاقات، والله أعلم.

وإنما اخترنا كِتْبةَ اللَّحَقِ صاعدًا إلى أعلى الورقة، لئلا يخرج بعده نقص آخر فلا يجد ما يقابله من الحاشية فارغًا له لو كان كتب الأول نازلًا إلى أسفل، وإذا كتب الأول صاعدًا فما يجد بعد ذلك من نقص يجد ما يقابله من الحاشية فارغًا له.

وقلنا أيضًا: يخرجه في جهة اليمين؛ لأنه لو خرجه إلى جهة الشمال فربما ظهر بعده في السطر نفسه نقص آخر، فإن خرجه قدامه إلى جهة الشمال أيضا وقع بين التخريجين إشكال، وإن خرج الثاني إلى جهة اليمين التقت عطفة تخريج جهة الشمال وعطفة تخريج جهة اليمين أو تقابلتا، فأشبه ذلك الضرب على ما بينهما، بخلاف ما إذا خرج الأول إلى جهة اليمين؛ فإنه حينئذ يخرج الثاني إلى جهة الشمال فلا يلتقيان ولا يلزم إشكال، اللهم إلا أن يتأخر النقص إلى آخر السطر فلا وجه حينئذ إلا تخريجه إلى جهة الشمال؛ لقربه منها ولانتفاء العلة المذكورة من حيث أنا لا نخشى ظهور نقص بعده، وإذا كان النقص في أول السطر تأكد تخريجه إلى جهة اليمين؛ لما ذكرناه من القرب مع ما سبق.

وأما ما يخرج في الحواشي - من شرح أو تنبيه على غلط أو اختلاف رِواية أو نسخة أو نحو ذلك مما ليس من الأصل - فقد ذهب القاضي الحافظ

(1)«المحدث الفاصل» ص: 606 فقرة 884.

ص: 99

عِياض رحمه الله إلى أنه لا يخرج لذلك خط تخريج لئلا يدخل اللبس ويحسب من الأصل، وأنه لا يخرج إلا لما هو من نفس الأصل لكن ربما جعل على الحرف المقصود بذلك التخريج علامة كالضبة أو التصحيح إيذانًا به (1).

قلت: التخريج أولى وأدل، وفي نفس هذا المخرج ما يمنع الإلباس، ثم هذا التخريج يخالف التخريج لما هو في نفس الأصل في أن خط ذلك التخريج يقع بين الكلمتين اللتين بينهما سقط الساقط، وخط هذا التخريج يقع على نفس الكلمة التي من أجلها خرج المخرج في الحاشية، والله اعلم.

الثاني عشر: من شأن الحذاق المتقنين العناية بالتصحيح والتضبيب والتمريض (2).

أما التصحيح: فهو كتابةُ (صح) على الكلام أو عنده، ولا يفعل ذلك إلا فيما صح رِواية ومعنى، غير أنه عرضة للشك أو الخلاف فيكتب عليه (صح)

(1)«الِإلمَاع» ص: 146.

(2)

انتقل المصنف إلى التعريف ببعض ما يلزم من المقابلة ومن ذلك التصحيح.

والتصحيح يطلق في المخطوطات على نوعين:

النوع الأول: تفعيل من الصحة التي هي ضد السقم، ويكون المعنى على ذلك إزالة السقم من السقيم حتى يكون صحيحًا، ويتأتى ذلك بأن يكتب المصحح على الكلمة المراد تصويبها أو بجانبها في الهامش: صوابه كذا أو لعله كذا.

النوع الثاني: وهو ما ذكره هنا ابن الصلاح وهو تثبيت الصحيح وأشهر من فعل ذلك اليونيني في نسخته.

ويعد تصحيح المرويات من أشق الأعمال، ولقد وضح ذلك الجاحظ في كتابه «الحيوان» (1/ 79) بقوله: ولربما أراد مؤلف كتاب أن يصلح تصحيفًا أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ وشريف المعاني أيسر عليه من إتمام ذلك النقص حتى يرده إلى موضعه من اتصال الكلام، فكيف يطيق ذلك المعارض المستأجر والحكيم نفسه قد أعجزه هذا الباب. اهـ.

ص: 100

ليعرف أنه لم يغفُل عنه، وأنه قد ضبط وصح على ذلك الوجه.

وأما التضبيب ويسمى أيضًا التمريض، فيجعل على ما صح وروده كذلك من جهة النقل، غير أنه فاسدٌ لفظًا أو معنًى أو ضعيفٌ أو ناقصٌ، مثل أن يكون غير جائز من حيث العربية، أو يكون شاذًّا عند أهلها يأباه أكثرهم، أو مصحفًا أو ينقص من جملة الكلام كلمة أو أكثر، وما أشبه ذلك، فيمد على ما هذا سبيله خط أوله مثل الصاد، ولا يلزق بالكلمة المعلم عليها كيلا يظن ضربًا، وكأنه صاد التصحيح بمدتها دون حائها كتبت كذلك؛ ليفرق بين ما صح مطلقا من جهة الرِّواية وغيرها، وبين ما صح من جهة الرِّواية دون غيرها فلم يكمل عليه التصحيح.

وكتابة حرف ناقص على حرف ناقص إشعارًا بنقصه ومرضه مع صحة نقله وروايته، وتنبيهًا بذلك لمن ينظر في كتابه على أنه قد وقف عليه ونقله على ما هو عليه، ولعل غيره قد يخرج له وجها صحيحًا، أو يظهر له بعد ذلك في صحته ما لم يظهر له الآن (1).

ولو غير ذلك وأصلحه على ما عنده لكان متعرضًا لما وقع فيه غير واحد من المتجاسرين الذين غيروا وظهر الصواب فيما أنكروه والفساد فيما أصلحوه.

وأما تسمية ذلك ضبة، فقد بلغنا عن أبي القاسم إبراهيم بن محمد اللغوي المعروف بابن الإفليلي: أن ذلك لكون الحرف مقفلًا بها لا يتجه لقراءة، كما أن الضبة مقفل بها (2). والله أعلم.

قلت: ولأنها لما كانت على كلام فيه خلل أشبهت الضبة التي تجعل على كسر أو خلل فاستعير لها اسمها، ومثل ذلك غير مستنكر في باب

(1)«الِإلمَاع» ص: 147 - 148

(2)

أخرجه القاضي عياض في «الِإلمَاع» ص: 148.

ص: 101

الاستعارات (1).

ومن مواضع التضبيب: أن يقع في الإسناد إرسال أو انقطاع، فمن عادتهم تضبيب موضع الإرسال والانقطاع، وذلك من قبيل ما سبق ذكره من التضبيب على الكلام الناقص.

ويوجد في بعض أصول الحديث القديمة في الإسناد الذي يجتمع فيه جماعةٌ معطوفةٌ أسماؤهم بعضها على بعض علامةٌ تشبه الضبة فيما بين أسمائهم، فيتوهم من لا خبرة له أنها ضبة وليست بضبة، وكأنها علامة وصل فيما بينها أثبتت تأكيدًا للعطف خوفًا من أن تجعل (عن) مكان (الواو) والعلم عند الله تعالى (2).

ثم إن بعضهم ربما اختصر علامة التصحيح فجاءت صورتها تشبه صورة التضبيب، والفطنة من خير ما أوتيه الإنسان، والله أعلم.

الثالث عشر: إذا وقع في الكتاب ما ليس منه فإنه ينفى عنه بالضرب أو الحك أو المحو أو غير ذلك، والضرب خير من الحك والمحو.

روينا عن القاضي أبي محمد بن خلاد رحمه الله قال: قال أصحابنا:

(1) ويمكن أن يكون ذلك تشبيهًا بضبة الباب التي كان يغلق بها قديمًا.

(2)

هذا ما يعرف في المصطلحات الحديثة بعلامات الفصل بين الأسماء، مما يدل على سبق المسلمين غيرهم في ابتكار هذه العلامات والرموز الدقيقة التي اصطلحوا عليها لتأكيد الصحيح، أو للإشارة إلى الشك في صحة الكلمة، أو بيان السقط، أو لغير ذلك.

وللأستاذ العلامة أحمد زكي باشا مؤلَّف صغير اسمه: «الترقيم وعلاماته في اللغة العربية» اعتمد فيه على ما وقف عليه من علامات الوقف والابتداء المؤلفة لخدمة القرآن الكريم، وما تنبه إليه من علامات عند المحدثين، أمثال هذه الإشارات التي أشار إليها ابن الصلاح، مما يؤكد سبق المسلمين في تصحيح الكتب وضبطها أنه كان من إبداع المحدثين لا من صنع المستشرقين، كما يروج البعض في زماننا. والله أعلم.

ص: 102

الحك تهمة (1).

وأخبرني من أُخبِرَ عن القاضي عِياض قال: سمعت شيخنا أبا بَحْرٍ سفيان بن العاصي الأسدي يحكي عن بعض شيوخه أنه كان يقول: كان الشيوخ يكرهون حضور السكين مجلس السماع حتى لا يُبَشرُ شيء، لأن ما يبشر منه ربما يصح في رِواية أخرى، وقد يُسمَعُ الكتاب مرة أخرى على شيخ آخر، يكون ما بشر وحك من رِواية هذا صحيحًا في رِواية الآخر، فيحتاج إلى إلحاقه بعد أن بُشر وحُكّ وهو إذا خط عليه من رِواية الأول، وصح عند الآخر اكتفي بعلامة الآخر، عليه بصحته.

ثم إنهم اختلفوا في كيفية الضرب:

فروينا عن أبي محمد بن خلاد قال: أجود الضرب أن لا يطمس المضروب عليه، بل يخط من فوقه خطًّا جيدًا بينًا، يدل على إبطاله، ويقرأ من تحته ما خُطَّ عليه (2).

وروينا عن القاضي عِياض ما معناه: أن اختيارات الضابطين اختلفت في الضرب، فأكثرهم على مد الخط على المضروب عليه مختلطًا بالكلمات المضروب عليها، ويسمى ذلك (الشق) أيضًا (3)، ومنهم من لا يخلطه ويثبته

(1)«المحدث الفاصل» ص: 606 فقرة 883، وأخرجه القاضي عياض في «الِإلمَاع» من طريقه ص: 150 باب في الضرب والحك والشق والمحو.

وهذا مما يدل على شدة الأمانة العلمية منهم حتى لا تتطرق إليهم التهمة، حتى ولو في كلمة دخيلة على النص.

(2)

«المحدث الفاصل» ص: 606

(3)

قَال العراقي في «التقييد والإيضاح» ص: 201: (الشق) بفتح الشين المعجمة وتشديد القاف، وهذا الاصطلاح لا يعرفه أهل المشرق، ولم يذكره الخطيب في «الجامع» ولا في «الكفاية» وهو اصطلاح لأهل المغرب، وذكره القاضي عياض في «الِإلمَاع» ومنه أخذ المصنف، وكأنه مأخوذ من الشق، وهو الصدع، أو من شق العصا وهو التفريق، فكأنه فرق بين الكلمة الزائدة وبين ما قبلها وبعدها من الصحيح الثابت بالضرب عليها والله أعلم. اهـ.

ص: 103

فوقه، لكنه يعطف طرفي الخط على أول المضروب عليه وآخره (1).

ومنهم من يستقبح هذا ويراه تسويدًا وتطليسًا، بل يحوق على أول الكلام المضروب عليه بنصف دائرة وكذلك في آخره، وإذا كثر الكلام المضروب عليه فقد يفعل ذلك في أول كل سطر منه وآخره، وقد يكتفي بالتحويق على أول الكلام وآخره أجمع.

ومن الأشياخ من يستقبح الضرب والتحويق ويكتفي بدائرة صغيرة أول الزيادة وآخرها، ويسميها صفرًا كما يسميها أهل الحساب (2).

وربما كتب بعضهم عليه (لا) في أوله و (إلى) في آخره. ومثل هذا يحسن فيما صح في رِواية وسقط في رِواية أخرى (3). والله أعلم.

وأما الضرب على الحرف المكرر، فقد تقدم بالكلام فيه القاضي أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي رحمه الله على تقدمه. فروينا عنه قال: قال بعض أصحابنا: أولاهما بأن يبطل الثاني؛ لأن الأول كتب على صواب، والثاني كتب على الخطأ، فالخطأ أولى بالإبطال.

(1)«الِإلمَاع» ص: 150

(2)

رسم الصفر دائرة عند أهل الحساب هو معروف عند المغاربة، وذكره هنا المصنف نقلًا عن القاضي عياض وهو من المغاربة، فالمغاربة حتى اليوم ما زالوا يكتبون الأرقام كما تكتب باللغة الإفرنجية، بخلاف كتابة أهل المشرق فإنهم يكتبون الصفر نقطة.

(3)

وهو ما نجده كثيرًا في نسخة اليونينى التي جمع فيها أكثر من رواية لـ «صحيح البُخَارِيّ» وأحيانًا يكتب كلمة (سقط) عند الكلمة الساقطة أو يقتصر على ذكر كلمة (لا) ثم يكتب فوقها أو بجابنها الرمز الدال على النسخة الساقط منها.

ص: 104

وقال آخرون: إنما الكتاب علامة لما يقرأ فأولى الحرفين بالإبقاء أدلهما عليه وأجودهما صورة (1).

وجاء القاضي عِياض آخرًا ففصل تفصيلًا حسنًا، فرأى أن تكرر الحرف إن كان في أول سطر، فليضرب على الثاني صيانة لأول السطر عن التسويد والتشويه. وإن كان في آخر سطر فليضرب على أولهما صيانة لآخر السطر، فإن سلامة أوائل السطور وأواخرها عن ذلك أولى. فإن اتفق أحدهما في آخر سطر والآخر في أول سطر آخر فليضرب على الذي في آخر السطر، فإن أول السطر أولى بالمراعاة، فإن كان التكرر في المضاف أو المضاف إليه أو في الصفة أو في الموصوف أو نحو ذلك، لم نراع حينئذ أول السطر وآخره بل نراعي الاتصال بين المضاف والمضاف إليه ونحوهما في الخط، فلا نفصل بالضرب بينهما ونضرب على الحرف المتطرف من المتكرر دون المتوسط (2).

وأما المحو: فيقابل الكشط في حكمه الذي تقدم ذكره وتتنوع طرقه، ومن أغربها - مع أنه أسلمها - ما روي عن سحنون بن سعيد التنوخي الإمام المالكي: أنه كان ربما كتب الشيء ثم لعقه.

وإلى هذا يومئ ما روينا عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنه كان يقول: من المروءة أن يرى في ثوب الرجل وشفتيه مدادٌ (3) والله أعلم.

الرابع عشر: ليكن فيما تختلف فيه الروايات قائمًا بضبط ما تختلف فيه في كتابه، جيد التمييز بينها كيلا تختلط وتشتبه فيفسد عليه أمرها (4).

(1)«المحدث الفاصل» ص: 607 فقرة 885.

(2)

«الِإلمَاع» ص: 151 - 152.

(3)

ينظر كلا الأثرين في «الِإلمَاع» ص: 152.

(4)

كذا العبارة في جميع النسخ لمقدمة ابن الصلاح وهي غير واضحة المعنى.

ص: 105

وسبيله: أن يجعل أولًا متن كتابه على رِواية خاصة، ثم ما كانت من زيادة لرِواية أخرى ألحقها، أو من نقص أعلم عليه أو من خلاف كتبه إما في الحاشية وإما في غيرها، معينًا في كل ذلك من رواه ذاكرًا اسمه بتمامه، فإن رمز إليه بحرف أو أكثر فعليه ما قدمنا ذكره من أنه يبين المراد بذلك في أول كتابه أو آخره؛ كيلا يطول عهده به فينسى، أو يقع كتابه إلى غيره فيقع من رموزه في حيرة وعمًى.

وقد يدفع إلى الاقتصار على الرموز عند كثرة الروايات المختلفة، واكتفى بعضهم في التمييز بأن خص الرِّواية الملحقة بالحمرة، فعل ذلك أبو ذر الهَرَويّ من المشارقة، وأبو الحسن القابسي من المغاربة، مع كثير من المشايخ وأهل التقييد.

فإذا كان في الرِّواية الملحقة زيادة على التي في متن الكتاب كتبها بالحمرة، وإن كان فيها نقص والزيادة في الرِّواية التي في متن الكتاب حوق عليها بالحمرة، ثم على فاعل ذلك تبيين من له الرِّواية المعلمة بالحمرة في أول الكتاب أو آخره على ما سبق والله أعلم (1).

(1) قلت: وقد أبدع العلامة اليونيني في نسخته حيث راعى آداب المحدثين في ذلك، وما ذكره ابن الصلاح من منهج في كتابة الكتاب المتعدد الروايات، يصلح فعله اليوم في تحقيق الكتب من أكثر من نسخة لها، فتُنزّل النسخة المخطوطة من الكتاب بمقام الرواية منه عند القدامى.

وما حكاه ابن الصلاح عن أبي ذر الهروي والقابسي وكلاهما من رواة «الصحيح» سيأتي في رواية أبي ذر ورواية القابسي في الباب الأول من هذه الرسالة، وهذا يدل أيضًا على معرفة المسلمين بأصول التحقيق والمقارنة بين النسخ منذ زمن بعيد، والله أعلم.

ومن الأشياء التي لم يذكرها ابن الصلاح وهي معروفة عند المتقدمين من المحدثين:

1 -

البدل: وهو أن يكون في النص كلمة أو عبارة كتبت بخط غير واضح وتشكل على القارئ، فيعمد إلى وضع إشارة عليها ثم يكتب في الهامش الكلمة أو العبارة الواضحة ثم تعقب بكلمة: بدل أو يكتب فوقها حرف الباء هكذا: (ب).

2 -

ومنها: التقديم والتأخير:

وهو أن يسهو الناسخ فيكتب كلمة أو عبارة قبل أخرى، ولئلا يضطر إلى الضرب أو المحو أو الكشط يعمد إلى وضع إشارة تبين ما ينبغي تقديمه وما ينبغي تأخيره، فإذا كان التقديم والتأخير في عبارة طويلة وضع إشارة في بداية العبارة المتقدمة وكتب (يؤخر من) ثم حدد بداية العبارة المتأخرة التي ينبغي تقديمها وكتب يقدم.

أما إذا كان التقديم والتأخير في كلمتين فقط، فيكتب على كل منها حرف (م) للدلالة على وجوب تقديم الكلمة الثانية على الأولى كما ورد ذلك في النسخة اليونينية.

3 -

يضع الناسخ أحيانًا على بعض الكلمات كلمة (معًا) وذلك إشارة إلى صحة الضبطين في كلمة واحدة كأن يُقال مثلًا معًا.

4 -

كثيرًا ما يضع النساخ أول كلمة من الصفحة في أسفل الصفحة التي قبلها؛ وذلك للمحافظة على تسلسل الصفحات فلا تتقدم صفحة على أخرى، وتسمى بالتعقيبة.

5 -

ومن الرموز التي استخدمها النساخ أيضًا رمز (حـ) كذا للحاشية التي تكتب زيادة على أصل المروي، وقد تكون بخط الناسخ وقد تكون بخط الراوي.

وقد تكتب (خـ) كذا للدلالة على النسخة إذا كان المروي له أكثر من نسخة.

وغير ذلك وينظر في ذلك مبحث النسخة اليونينية ورموزها.

ص: 106

الخامس عشر: غلب على كتبة الحديث الاقتصار على الرمز في قولهم: (حَدَّثَنا) و (أَخْبَرَنا) غير أنه شاع ذلك وظهر، حتى لا يكاد يلتبس.

أما (حَدَّثَنا) فيكتب منها شطرها الأخير، وهو الثاء والنون والألف، وربما اقتصر على الضمير منها وهو النون والألف.

وأما (أَخْبَرَنا) فيكتب منها الضمير المذكور مع الألف أولًا (1)، وليس يحسن ما يفعله طائفة من كتابة:(أَخْبَرَنا) بألف مع علامة: (حَدَّثَنا)(2) المذكورة أولًا، وإن كان الحافظ البيهقي ممن فعله.

(1) أي: تكتب (أنا).

(2)

أي: تكتب (أثنا).

ص: 107

وقد يكتب في علامة (أَخْبَرَنا) راء بعد الألف، وفي علامة (حَدَّثَنا) دال في أولها (1).

وممن رأيت في خطه الدال في علامة (حَدَّثَنا) الحافظ: أبو عبد الله الحاكم وأبو عبد الرحمن السُّلَمِي والحافظ أحمدُ البيهقي رضي الله عنهم. والله أعلم.

وإذا كان للحديث إسنادان أو أكثر فإنهم يكتبون عند الانتقال من إسناد إلى إسناد ما صورته (ح) وهي حاء مفردة مهملة (2)، ولم يأتنا عن أحد ممن يعتمد بيان لأمرها؛ غير أني وجدت بخط الأستاذ الحافظ أبي عثمان الصابوني، والحافظ أبي مسلم عمر بن علي الليثي البُخارِيّ، والفقيه المحدث أبي سعيد الخليلي - رحمهم الله تعالى - في مكانها بدلًا عنها (صح) صريحة، وهذا يشعر بكونها رمزًا إلى (صح)، وحسن إثبات (صح) ههنا؛ لئلا يتوهم أن حديث هذا الإسناد سقط، ولئلا يُرَكَّب الإسناد الثاني على الإسناد الأول، فيجعلا إسنادًا واحدًا.

وحكى لي بعض من جمعتني وإياه الرحلة بخراسان عمن وصفه بالفضل من الأصبهانيين، أنها حاء مهملة من التحويل. أي: من إسناد إلى إسناد آخر.

وذاكرت فيها بعض أهل العلم من أهل المغرب، وحكيت له عن بعض من لقيت من أهل الحديث أنها حاء مهملة إشارة إلى قولنا (الحديث) فقال لي: أهل المغرب - وما عرفت بينهم اختلافًا - يجعلونها حاء مهملة، ويقول أحدهم إذا وصل إليها:(الحديث) وذَكَر لي أنه سمع بعض البغداديين يذكر أيضا أنها حاء مهملة، وأن منهم من يقول إذا انتهى إليها

(1) يعني تختصر حَدَّثَنَا: (دثنا)، وأَخْبَرَنَا:(أرنا).

(2)

وهى تقع كثيرًا عند مسلم في «صحيحه» ، نظرًا لطريقته في سياق الأسانيد، وذكر الاختلاف بينها.

ص: 108

في القراءة: (حا) ويَمُرُّ.

وسألت أنا الحافظ الرحال أبا محمد عبد القادر بن عبد الله الرُّهاوي رحمه الله عنها فذكر أنها (حاء) من (حائل) أي: تحَوُّلُ بين الإسنادين، قال: ولا يلفظ بشيء عند الانتهاء إليها في القراءة وأنكر كونها من الحديث وغير ذلك، ولم يَعرِفْ غيرَ هذا عن أحد من مشايخه، وفيهم عدد كانوا حفاظ الحديث في وقته.

وأختار أنا - والله الموفق - أن يقول القارئ عند الانتهاء إليها: (حا) ويمر فإنه أحوط الوجوه وأعدلها، والعلم عند الله تعالى (1).

السادس عشر: ذكر الخطيب الحافظ: أنه ينبغي للطالب أن يكتب بعد البسملة اسم الشيخ الذي سمع الكتاب منه، وكنيته ونَسَبَه، ثم يسوق ما سمعه منه على لفظه، قال: وإذا كتب الكتاب المسموع، فينبغي أن يكتب فوق سطر التسمية أسماء من سمع معه، وتاريخ وقت السماع، وإن أحب كتب ذلك في حاشية أول ورقة من الكتاب فكل ذلك قد فعله شيوخنا.

قلت: كِتْبَةُ التسميع جنب (ذَكَره) أحوط له وأحرى؛ بألا يخفى على من يحتاج إليه ولا بأس بكتبته آخر الكتاب، وفي ظهره وحيث لا يخفى موضعُه.

وينبغي أن يكون التسميع بخط شخص موثوق به، غير مجهول الخط، ولا ضير حينئذ في ألا يكتب الشيخ المسمع خطه بالتصحيح، وهكذا لا بأس على صاحب الكتاب إذا كان موثوقًا به أن يقتصر على إثبات سماعه بخط نفسه، فطالما فعل الثقات ذلك.

وقد حدثني بمرو الشيخ أبو المظفر ابن الحافظ أبي سعد المَرْوَزيّ عن أبيه، عمن حدثه من الأصبهانية: أن عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن منده قرأ

(1) قلت: وفي نسخة اليونيني جاءت في كل المواضع بالخاء المعجمة، إشارة إلى إسناد آخر. ويراجع المبحث الخاص بالنسخة «اليونينية» .

ص: 109

ببغداد جزءًا على أبي أحمد الفرضي وسأله خطه؛ ليكون حجة له، فقال له أبو أحمد: يا بني عليك بالصدق، فإنك إذا عرفت به لا يكذبك أحد؛ وتُصدَّقُ فيما تقول وتنقل، وإذا كان غير ذلك فلو قيل لك: ما هذا خطُّ أبي أحمد الفرضي ماذا تقول لهم؟!

ثم إن على كاتب التسميع التحري والاحتياط وبيان السامع والمسموع منه بلفظ غير محتمل، ومجانبة التساهل فيمن يثبت اسمه، والحذر من إسقاط اسم واحدٍ منهم لغرض فاسد. فإن كان مثبت السماع غير حاضر في جميعه ليكن أثبته معتمدًا على إخبار من يثق بخبره من حاضريه، فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى.

ثم إن من ثبت سماعه في كتابه فقبيح به كتمانه إياه ومنعه من نقل سماعه، ومن نسخ الكتاب، وإذا أعاره إياه فلا يبطئ به.

رُوِّينا عن الزهري أنه قال: إياك وغلول الكتب. قيل له: وما غلول الكتب؟ قال: حبسها عن أصحابها (1).

وروينا عن الفضيل بن عِياض رضي الله عنه أنه قال: ليس من أفعال أهل الورع ولا أفعال الحكماء أن يأخذ سماع رجل وكتابه فيحبسه عنه؛ ومن فعل ذلك فقد ظلم نفسه (2).

فإن منعه إياه فقد رُوِّينا أن رجلًا ادعى على رجل بالكوفة سماعًا منعه إياه فتحاكما إلى قاضيها حفص بن غياث، فقال لصاحب الكتاب: أخرج إلينا كتبك، فما كان من سماع هذا الرجل بخط يدك ألزمناك، وما كان بخطه

(1) أخرجه ابن المقرئ في «المعجم» ص: 288 (942)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» 3/ 366، والخطيب في «الجامع» 2/ 47 - 48 (482 - 483)، والقاضي في «الإلماع» ص: 189، والسمعاني في «أدب الإملاء» ص:176.

(2)

أخرجه الخطيب في «الجامع» 1/ 242 - 243 (485 - 486).

ص: 110

أعفيناك منه.

قال ابن خلاد: سألت أبا عبد الله الزبيري عن هذا، فقال: لا يجيء في هذا الباب حكم أحسن من هذا، لأن خط صاحب الكتاب دال على رضاه باستماع صاحبه معه.

قال ابن خلاد: وقال غيره: ليس بشيء (1).

وروى الخطيب الحافظ أبو بكر، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي: أنه تحوكم إليه في ذلك، فأطرق مليًّا، ثم قال للمدعى عليه: إن كان سماعه في كتابك بخطك فيلزمك أن تعيره، وإن كان سماعه في كتابك بخط غيرك فأنت أعلم (2).

قلت: حفص بن غياث معدود في الطبقة الأولى من أصحاب أبي حنيفة، وأبو عبد الله الزبيري من أئمة أصحاب الشافعي وإسماعيل بن إسحاق لسان أصحاب مالك، وإمامهم وقد تعاضدت أقوالهم في ذلك، ويرجع حاصلها إلى أن سماع غيره إذا ثبت في كتابه برضاه فيلزمه إعارته إياه، وقد كان لا يتبين لي وجهه، ثم وجَّهتهُ بأن ذلك بمنزلة شهادة له عنده فعليه أداؤها بما حوته، وإن كان فيه بذل ماله، كما يلزم متحمِّلَ الشهادة أداؤها، وإن كان فيه بذل نفسه بالسعي إلى مجلس الحكم لأدائها، والعلم عند الله تعالى.

ثم إذا نسخ الكتاب فلا ينقل سماعه إلى نسخته إلا بعد المقابلة المرضية.

وهكذا لا ينبغي لأحد أن ينقل سماعًا إلى شيء من النسخ، أو يثبته فيها عند السماع ابتداء إلا بعد المقابلة المرضية بالمسموع؛ كيلا يغتر أحد بتلك النسخة غير المقابلة؛ إلا أن يبين مع النقل وعنده كون النسخة غير مقابلة (3)

(1)«المحدث الفاصل» ص: 589 فقرة 838.

(2)

«الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» 1/ 241 (481).

(3)

قلت: ولإثبات السماع أو القراءة على المخطوط أثر بالغ في توثيق المروي، وخاصة بعد أن أصبح الاعتماد في نقل السنة على المصنفات التي يراد منها جمع ما تفرق في الصحف والأجزاء والنُّسخ، فانصرف العلماء إلى ضبط هذه المصنفات والتحري في نقلها، واستُخْدِمتْ مجالسُ التحديث وسائل لهذا الضبط ببيان من قرئ عليه الكتاب أو تلقي منه، ومن تولى ضبط ذلك المجلس ومن شارك فيه، ومن تولى القراءة وأين كان ذلك، ومتى وما القدر المقروء أو المسموع، وهل شارك الجميع في هذا القدر

إلى غير ذلك مما يعد وثيقة تاريخية.

ويتحقق بإثبات السماع والقراءة على المخطوط ما يلي:

أولًا: الإفادة بأن مضمونها قد سمع في حلقة سماع على شيخ معروف بتخصصه في فن يتعلق بموضوع النسخة، وهذا يمنح المخطوط ثقة في صحة مادته ونصه، وذلك بقراءته على الشيخ ومذاكرة الأقران، وتصحيح السامع سواء كان ذلك ناسخًا أم مقابلًا، والسماعات والقراءات المثبتة بعد كل ذلك تعين المعنيين بتواريخ المخطوط على تحديد تاريخه في حالة إغفاله، وهي بعد ذلك تكشف لنا عن قيمة المخطوط ومدى اهتمام الناس به في عصره وبعد عصره، بل ومدى الثقة به وبمؤلفه، وهي في آخر الأمر تعطينا صورة للحركة العلمية، ومدى انتشار الثقافة، بل ومدى عمقها في عصر من العصور. ينظر «المخطوط العربي» لعبد الستار الحلوجي ص: 173، و «عناية المحدثين بتوثيق المرويات» .. ص: 17 - 18.

ثانيًا: تشكيل حلقات مترابطة من الرُّواة الذين عن طريقهم نقلت آلاف المخطوطات، فكل سماع أو قراءة يحتوى على أسماء الأشخاص الذين تلقوا هذا الأصل عن سابقتهم، حتى ينتهي ذلك إلى مصنف الكتاب، فهي بمثابة شهادات على شهادات بنقل هذه المادة مصونة مضمونة محررة مضبوطة كما وضعها مؤلفها.

«عناية المحدثين بتوثيق المرويات» .. ص: 16.

هذا بالإضافة إلى فوائد ثقافية كثيرة منها:

1 -

دراسة تاريخ التدريس في الإسلام والتأريخ لظاهرة علمية.

2 -

معرفة أسماء كثير من الرجال والشيوخ وبعض المعلومات عنهم.

3 -

تحديد مدارس العلم وأماكنه في العصور الأولى.

4 -

معرفة بعض جوانب الحياة الاجتماعية الإسلامية.

ينظر في أهمية السماعات والقراءات بحث: «إجازات السماع في المخطوطات القديمة» ، لصلاح الدين المنجد، وهو بحث منشور في مجلة معهد المخطوطات العربية، الجزء الثاني، المجلد الأول سنة 1950 م من ص: 232 - 252

وللسماع عناصر كثيرة ومنها: ما اشتمل عليه السماع الذي حضره ابن الصلاح، والذي سيأتي ذكره فيما بعد.

وهذه العناصر على سبيل الاختصار هي:

1 -

اسم المُسمعُ: ويراد به الشيخ إذا كان راويًا للنسخة، أو المؤلف إذا كان يقرأ من نسخته.

2 -

أسماء السامعين: وتسرد فردًا فردًا مع ذكر أسماء آبائهم وذكر ما يميزهم.

3 -

القدر المسموع من الكتاب: وكانت أمانة العلم تدفعهم إلى النص على ما سمعه من الحاضرين، فقد يتأخر أحدهم عن السماع فيقولون: سمعه مع فوت .. إلى غير ذلك.

4 -

اسم القارئ على الشيخ: والمراد بالقارئ من يتولى قراءة الكتاب، ويختار القارئ عادة الشيخ، ويراعي أن يكون ممن عرف بإتقانه وحسن قراءته، وقد يكون من أقران الشيخ، أو من تلاميذه المبرزين، وقد يشترك في القراءة أكثر من شخص.

5 -

كاتب السماع: وهو الذي يتولى تدوين وقائع السماع، وقد يكون هو الشيخ المسموع عليه، وقد يكون هو القارئ على الشيخ أو غيره.

وكان يشترط في كاتب السماع الأمور الآتية:

- الأهلية: بأن يكون موثوقًا به غير مجهول الخط.

- التحري والدقة ببيان السامع والمسموع منه بلفظ غير محتمل ..

- الأمانة: وذلك بأن يكون أمينًا فيما يثبته: وتلك الشروط ذكرها ابن الصلاح، وهي تؤكد على أهمية أثر كاتب السماع في توثيق المخطوط.

6 -

ذكر عبارة: (صح وثبت) أو ما يماثلها، مما يدل على تأكد كاتب السماع من أسماء السامعين.

7 -

مكان السماع: وقد يذكر اسم البلد أو المدينة أو المدرسة أو المسجد أو المنزل الذي تم فيه السماع.

8 -

تاريخ السماع ومدته: ويحدد فيه التاريخ، وقد يذكر باليوم والشهر والسنة.

وقد يذكر مدة السماع: هل هو في مجلس واحد، أو أكثر؟ إلى غير ذلك.

9 -

وصف النسخة التي قرئت وسمعها الحاضرون وقيمتها إذا كان المُسمع أحد الرُّواة لا المؤلف نفسه.

وهكذا ضرب المحدثون أروع الأمثلة من خلال هذا المنهج التوثيقي المنقطع النظير، فهذا الميدان قد تفرد به المحدثون، ولذا كان من أعظم الأسباب لصيانة المرويات، وخاصة بعد عصر التدوين، وأصبح الاعتماد فيه على المرويات والكتب المصنفة.

وهناك ألوان أخرى من أنماط التوثيق التي تميز بها المحدثون أذكرها باختصار، لما لها من أثر في توثيق المرويات ولعدم اهتمام كثير من العلماء بالإشارة إليها: وهما القراءة والمطالعة:

أولًا القراءة: وهي عبارة عن قيام واحد أو أكثر من الطلبة بقراءة كتاب يختاره الشيخ ويقوم الشيخ بالتعليق على المسموع من حين لآخر، أو توضيح لغريب، أو لفظة شاذة، والقراءة تدل بذاتها على قراءة الكتاب على عالم متخصص في الفن الذي ألفت فيه النسخة المقروءة.

وبين السماع والقراءة عموم وخصوص كما يقول الأصوليون؛ فسماع الكتاب على الشيخ يقتضي قارئًا وسامعًا أو أكثر.

وقراءة الكتاب على الشيخ إذا جاءت بعبارة المتكلم الواحد مثل: قرأت هذا الكتاب على فلان. لا تقتضي وجود سامع أو سامعين غير المؤلف.

ومجلس السماع يعد سماعًا وقراءة، إذا كان أحد يقرأ على الشيخ وكان آخرون يستمعون، ويعد مجلس سماع وإملاء إذا كان الشيخ يملي وآخرون يقيدون ما يمليه؛ فإنه بالنسبة للسامعين يسمى سماعًا، وبالنسبة للقارئ أو القراء يسمى قراءة وعرضًا.

وقد يطلق على القراءة العرض أو المقابلة.

وكان من نتائج القراءة على الشيخ ظهور الشروح والمختصرات والحواشي التي أصبح لها أهمية كبيرة في مختلف العلوم.

أما المطالعة ويطلق عليها أيضًا النظر، فتعني أن يطالع عالم أو قارئ أو شيخ في الكتاب بقصد الاستفادة منه أو المذاكرة فيه.

وعادة ما تبدأ عبارات المطالعة بقولهم: طالعه العبد .. ، أو طالع فيه فلان .. ، أو نظر فيه فلان بن فلان، وقد تذكر معلومات أكثر مثل اسم المطالع كاملًا والجزء أو الكتاب الذي تمت مطالعته وتاريخ المطالعة ومكانها وغير ذلك.

وهناك أنماط أخرى ساعدت في توثيق المرويات عند المحدثين وهي:

الإجازات التي تكتب آخر المرويات أو أولها.

ومنها أيضًا التمليكات التي تكتب على المخطوطات.

ولولا الإطالة لتناول البحث التفصيل في ذلك.

ص: 111

والله أعلم.

هذا آخر ما ذكره أبو عمرو ابن الصلاح في هذا النوع، وهو طويل جدًّا وهو في غاية النفاسة، وفيه فوائد وفرائد كثيرة تعالج أخطاء كثير من القائمين

ص: 114

بطباعة الكتب في عصرنا الحاضر، فهذه الضوابط إنما كانت نتيجة الدرس والنظر والمباحثة في قرون طويلة، ووقائع متعددة فأنتجت مثل هذه الدقائق والضوابط.

ولقد اخترت سوق هذا النوع بتمامه من عند ابن الصلاح رحمه الله تعالى، وإن كان قد تكلم في ذلك من هو قبله؛ لعدة أسباب:

أولها: أن ابن الصلاح قد استوعب ولخص ما قيل قبله؛ حيث ذكر ما جاء عند الرامهرمزي والقاضي عِياض والخطيب وغيرهم، كما هو واضح فيما سبق.

ثانيها: التأكيد على أن ما اصطلح عليه المتأخرون من علامات للترقيم وضوابط الكتابة لا يمثل إلا جانبًا صغيرًا بالنسبة لضوابط المتقدمين، وليعلم أنصار المستشرقين وتلاميذهم أن في كتب الأوائل من المحدثين على سبيل الخصوص من استوعب هذه القواعد، وأنهم سبقوا المستشرقين في وضع قواعد للكتابة ابتداءً ثم العرض والمقابلة وضوابط التصحيح ثانيًا .. ، إلى غير ذلك من الآداب التي تجب عند السماع والإسماع والرِّواية وغيرها.

ثالثها: أن ابن الصلاح قد طبق هذه القواعد، وخاصة ما يتعلق بمجالس السماع.

فقد كان ابن الصلاح رحمه الله تعالى أول من جلس للتحديث بدار الحديث الأشرفية سنة (630) هـ والتي بناها السلطان الأشرف رحمه الله تعالى (1).

(1) هي دار الحديث التي أمر ببنائها الملك الأشرف في دمشق سنة ثمان وعشرين وستمائة، وتم فتحها في سنة ثلاثين وستمائة في ليلة النصف من شعبان، وجعل شيخها الحافظ أبا عمرو بن الصلاح ليملي فيها الحديث، ووقف عليها الملك الأشرف الأوقاف، وجعل بها نعل النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع الملك الأشرف «صحيح البُخَارِيّ» في هذه السنة على الزبيدي.

وأصبحت هذه الدار من أشهر دور الحديث في العالم الإسلامي، وولي التدريس فيها جماعة من العلماء بعد ابن الصلاح. ينظر في ذلك:«الدارس في تاريخ المدارس» 1/ 19 - 30.

ص: 115

وكان ابن الصلاح في هذه الدار قد أسمع الطلاب والحاضرين الكتاب العظيم: «السنن الكبرى» للإمام البيهقي رحمه الله تعالى.

ولقد سجل لنا التاريخ وحفظ من التلف والضياع سماعًا لهذا الكتاب على الإمام أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى. ونص هذا السماع جاء في آخر المجلد الثامن من «السنن الكبرى» من الطبعة الهندية، رواه عنه بالسند إليه أبو عمرو بن الصلاح في دار الحديث الأشرفية بدمشق الشام سنة (634) هـ في مجالس بلغت في المجلد فقط تسعين مجلسًا، أما مجالس الكتاب كله فبلغت سبعمائة وسبعةً وخمسين مجلسًا، وتحمله عن الحافظ ابن الصلاح وسمعه منه شيوخ العلم والحديث وطلابه في أدق صورة وأضبط سماع لتلك المجالس، التي كانت تساق فيها رِواية ذلك الكتاب الجليل مع العرض والمقابلة له على نسخة المؤلف الإمام البيهقي ونسخة الحافظ ابن عساكر الدمشقي.

وهي صورة رائعة ممتعة تعرفنا ما كان عليه المحدثون الكبار من الضبط والإتقان والعناية البالغة والتجويد العجيب لرِواية الحديث بالسماع والإسناد في مجالسهم وفي أخذ الرُّواة عنهم، حتى في الكتب الكبار كهذا الكتاب.

وتمثل لنا في قدمها من نحو ثمانمائة سنة ما كأنّا نشهده اليوم في الوسائل الضابطة الدقيقة المصورة كالتلفاز مثلًا.

فهي صورة - غير ناطقة ولا صوتية - تسجل تلك المجالس الحديثية، وحال الشيخ المحدث، وحال العلماء الطلاب الحاضرين فيها: سماعًا وتلقيًا، وحضورًا وغيابًا، ويقظة ونومًا، وانتباهًا واشتغالًا، وتحدثًا ونسخًا، وفواتًا

ص: 116

واستكمالًا، كأنك تشهدهم في مجالس التحديث والتسميع لكن ينقصها تسجيل الصوت والكلام، فهي صورة صافية واعية لسماع وتحمل وأداء وأمانة علمية بالغة تميز بها آباؤنا وعلماؤنا المحدثون رضي الله عنهم، وتميز عنهم فيها أيضًا الحافظ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رضي الله عنه (1).

وكان مجلس السماع على يد ابن الصلاح رحمه الله تعالى لهذا الكتاب بعنايته وقراءته وسماعه منه من أوله إلى آخره في سبعمائة وسبعةٍ وخمسين مجلسًا، وسمع المجلد الثامن منه عدد كبير بلغ ثلاثة وتسعين محدثًا، في تسعين مجلسًا، في مدينة دمشق، وترى في هذا السماع لهذا المجلد الثامن أمورًا يظهر من خلالها عناية الحافظ ابن الصلاح من أهمها:

1 -

الضبط لعدد مجالس السماع التي بلغت في هذا المجلس تسعين مجلسًا كما تقدم.

2 -

تعيين هذه المجالس بخط أبي عمرو بن الصلاح نفسه المقروء عليه، فهي كالشهادة منه بذلك.

3 -

أن كاتب السماع كتب أسماء السامعين وألقابهم وكناهم وأنسابهم تعريفًا بهم.

4 -

أنه ضبط أحوال السامعين؛ من سمع المجالس كلها بغير فوات، ومن سمعها بفوات، ومن سمعها مع نوم في بعضها أو إغفاءٍ أحيانًا، ومن سمعها وهو يتحدث خلال السماع، ومن سمعها وهو ينسخ خلال ذلك، ومن سمع وقد جمع كل ذلك، وتعيين حال كل واحد من السامعين.

(1) فهي بحق: صفحة مشرقة من تاريخ سماع الحديث عند المحدثين كما سماها وعلق عليها الشيخ العلامة عبد الفتاح أبو غدة؛ حيث ساق نص السماع وعلق عليه بما يزيل أي شك في توصل أحد من العلماء إلى ما توصل إليه آباؤنا الأوائل، ونشره مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب سنة 1992 م

ص: 117

5 -

كتابة تاريخ الفراغ من إسماع الشيخ ابن الصلاح، حيث كتب ابن الصلاح بخطه في آخر المجلد العاشر (1): بلغ سماع الجماعة - بدار الحديث الأشرفية رحم الله واقفها - وعَرْضُ هذه النسخة على الإتقان من أولِها إلى آخرها بأصلين:

أحدهما: أصل الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن علي المعروف بابن عساكر.

والثاني: أصل أبي المواهب الحسن بن هبة الله بن صَصْرَى ..

وكان الفراغ من سماعهم للكتاب مني، ومن عرض هذه النسخة يوم الإثنين الثامن عشر من شهر ربيع الأول، سنة خمس وثلاثين وستمائة بدمشق - حرسها الله وسائر بلاد الإسلام وأهله - وهو خط عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن الصلاح غفر الله له ولهم آمين.

(1) ص: 350

ص: 118

الباب الأول

«طبقات الرُّواة»

ص: 119