الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاختلاف في تسمية «صحيح البخاري»
مما لا يخفى على أحد أن عناية المؤلفين واختيارهم لوضع أسماء كتبهم المعبرة عن مضمونها ومحتواها يحتل من اهتمامهم المقام الأول؛ لأن عنوان الكتاب هو الدال على ما فيه.
فبعنوان الكتاب يعرف من ينظر إليه موقع هذا الكتاب من العلم الذي ألف فيه.
ولذا كان العلماء لهم عناية شديدة بصياغة عنوان الكتاب؛ ليكون دالا بدقة واستيعاب على ما يدخل فيه وما لا يدخل، فهو في كثير من الأحوال يصاغ صياغة التعريف، فيكون جامعًا مانعا كما هو شأن التعريف إذا كان دقيقًا.
ومما يصدق عليه القول في ذلك كتاب الإمام أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى؛ حيث قد اختار لكتابه اسمًا عرف منه شرطه في كتابه ومنهجه فيه، ولذا استلزم ذلك أن يكون الاسم طويلًا، ولذا وقع الاختصار في بعض أجزائه مما يترتب عليه الإخلال بما قصده البخاري.
ولذا فمن أهم الأشياء التي ينبغي التحقق منها ونحن نتناول «صحيح البخاري» رحمه الله تعالى، بشيء من الدراسة، هو التحقيق في ألفاظ اسم «صحيح البخاري» .
ولا يمنع ذلك من اختصار الاسم بما يدل على تميزه عن غيره من الكتب التي ألفت في هذا المجال فنقول مثلًا: «صحيح البخاري» أو «الجامع الصحيح» ، أو غير ذلك، فقد ثبت عن البخاري نفسه اختصار اسم «الصحيح» .
وإنما أعني بالتحقق في اسم الكتاب عندما يساق الاسم ويراد به اسم المصنف كما ذكره مؤلفه، وهذا عادة ما يكون في الفهارس والأثبات
والمعاجم والمشيخات (1)، ويكون أيضًا في مقدمات الشروح أو المختصرات للكتاب، أو غير ذلك.
ولذلك حينما نتناول التحقيق في اسم «صحيح البخاري» ينبغي تتبع هذه الكتب، وبعد الرجوع إلى المتاح لي من هذه الكتب يمكن تصوير الاختلاف في اسم «الصحيح» في النقاط التالية.
1 -
أشمل وأتم ما وقفت عليه وأرجح ما قيل هو أن اسمه: «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه» .
وهذا الاسم بهذه الكلمات وبهذا الترتيب ذكره جمع من العلماء منهم:
أبو نصر أحمد بن محمد بن الحسين الكلاباذي (398) هـ في أوائل كتابه «رجال صحيح البخاري» (2).
والحافظ أبو بكر محمد بن خير الإشبيلي (575) هـ في كتابه «فهرسة ما رواه عن شيوخه» (3).
والعلامة أبو عمرو ابن الصلاح (643) هـ في كتابه المعروف بـ «مقدمة ابن الصلاح» (4) وشيخ الإسلام يحيى بن شرف النووي (676) هـ في مقدمته للقطعة التي شرحها من «صحيح البخاري» المسمى بـ «التلخيص» (5) وفي أول كتاب «تهذيب الأسماء واللغات» (6).
(1) المشيخات: هي التي تشتمل على ذكر الشيوخ الذين لقيهم المؤلف وأخذ عنهم أو أجازوه وإن لم يلقهم. الرسالة المسطرفة: 1/ 141
(2)
1/ 24.
(3)
ص: 94.
(4)
ص: 167 ط. د / عائشة
(5)
1/ 213
(6)
1/ 73
وأبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد السبتي الأندلسي (721) هـ في كتابه «إفادة النصيح بالتعريف بسند الجامع الصحيح» (1).
والعلامة سراج الدين عمر بن علي المعروف بابن الملقن (804) هـ في مقدمة شرحه لـ «صحيح البخاري» المسمى بـ «التوضيح» (2).
والعلامة بدر الدين محمد بن محمود العيني (855) هـ في مقدمة شرحه «عمدة القاري» (3) والإمام جلال الدين السيوطي (911) هـ في أول شرحه للصحيح المسمى بـ «التوشيح» (4) فهذا العنوان كما سقته وبهذا الترتيب ذكره كل من تقدم وهو الأرجح عندي، والله أعلم بالصواب.
وذكره القاسم بن يوسف التجيبي السبتي (730) هـ في «برنامجه» (5) بتقديم كلمة (المختصر) فذكرها بعد كلمة الجامع هكذا: «الجامع المختصر المسند الصحيح ..» .
2 -
لفظ: «الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه» .
بدون ذكر كلمة: (المختصر)، وكلمة:(حديث) بدلا من كلمة: (أمور).
وهو ما ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني (852) هـ في مقدمة شرحه «فتح الباري» .
ووجد هكذا مكتوبا على ظهر الورقة الأولى من نسخة أبى زيد المروزي ت (371) هـ عن الفربرى عن البخاري، وهذه النسخة تعتبر أقدم قطعة معروفة
(1) ص: 16.
(2)
2/ 26.
(3)
1/ 5.
(4)
1/ 43.
(5)
ص: 68.
حتى الآن من «صحيح البخاري» حيث كتبت في حدود سنة (370) هـ أي قبل وفاة صاحبها بسنة على الأقل، وسوف يأتي مزيد تفصيل لهذه الرواية.
وذكر الأستاذ محمد المنوني في بحث له بعنوان «صحيح البخاري في الدراسات المغربية» (1) أن في مكتبة الأحمدية بفاس نسخةً من «الصحيح» تنسب إلى رواية ابن الحطيئة عن أبى ذر الهروي عن شيوخه الثلاثة، وقد كتب على أول الجزء الثاني منها ما نصه: الجزء الثاني من «الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله وسننه صلى الله عليه وسلم وأيامه» . بمثل ما جاء عند ابن حجر في المقدمة.
وابن الحطيئة المذكور هذا اسمه: أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد اللخمي الفاسى ساكن مصر والمتوفى بها في سنة (560) هـ (2).
وجاء أيضًا مكتوبا على ظهر نسخة أبي على الصدفي (3).
ونسخة أبى على الصدفي هذه لها قيمة كبيرة وسيأتي الحديث عنها تفصيلًا.
ويتناول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في جزء صغير بعنوان: (تحقيق اسمي الصحيحين وجامع الترمذي) الكلام على اسم «صحيح البخاري» ويرجح القول باللفظ الأول الذي سقته سابقًا، ونقله عن بعض من ذكرتهم ممن نقل عنهم اسم «الصحيح» ، ونقل عن ابن حجر رحمه الله ما نقلته عنه ثم قال: فالاسم الذي أورده الحافظ ابن حجر فيه قصور شديد والدقة والتمام فيما
(1) ص: 142.
(2)
ينظر «وفيات الأعيان» لابن خلكان 1/ 170 - 171.
(3)
فيما ذكره الدكتور عبد الهادي التازي في مقاله المنشور في مجلة معهد المخطوطات بعنوان «صحيح البخاري بخط الحافظ الصدفي» ، ص: 36 من العدد التاسع عشر المنشور في سنة 1973 الجزء الأول.
ذكره الآخرون .. ثم قال: والظاهر أن الحافظ رحمه الله تعالى كتب هذا الاسم في حال شغل خاطر فإنه إمام ضابط حاذق دقيق جدًا
…
اهـ (1).
قلت (الباحث): صنيع ابن حجر هذا ليس ذهولًا منه عما قيل عند غيره، وإنما قصد ما ذكر، وذلك يتبين بوضوح بعد ورود هذا الاسم على ظهر ثلاث نسخ مخطوطة، كل واحده منها تتمتع بالدرجة العالية في الصحة والإتقان.
وأما عن اختصار العنوان عند بعض العلماء فمنهم من أسقط كلمة (المسند) وكلمة (سننه) كما جاء عند الإمام القاضي أبى محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي المتوفى في حدود سنة (541) هـ وذلك في كتابه المسمى «فهرس ابن عطية» (2) فصار هكذا «الجامع الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه» (3).
ومن العجيب أن هذا الاسم كما وصف لم يثبت على طبعات «الصحيح» التي وقفت عليها، وحقه أن يثبت على وجه كل جزء ليدل على مضمونه بالاسم الذي سمَّى مؤلفه به هذا الكتاب.
والاسم الذي اختاره البخاري لكتابه على كل هذه الروايات فيه طول غير مألوف في أسماء الكتب، وليس من السهل أن يورده المتكلم بتمامه عندما يقصد الإشارة إلى الكتاب، ولذلك كان البخاري رحمه الله تعالى كثيرًا ما يعبر
(1) ص: 11.
(2)
ص: 45.
(3)
كما وقفت على صور أخرى للعنوان فيها اختصار كبير، ومنها ما جاء عند الحافظ أبى علي الحسين بن محمد الغساني الجياني (498) هـ وذلك في كتابه:«تقييد المهمل» 1/ 59 حيث جاء بلفظ:
«الجامع المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه» .
ومنها ما جاء عند القاضي عياض (544) في مقدمة كتابه «مشارق الأنوار» 1/ 9.
عن الكتاب ببعض الألفاظ المختصرة التي تدل عليه، ومما ثبت في ذلك أنه سماه:«الجامع الصحيح» كما جاء ذلك في قوله: كنا عند إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع «الجامع الصحيح» (1).
وربما اقتصر في الدلالة عليه بلفظ: «الجامع» كما جاء في قول البخاري: ما أدخلت في كتابي «الجامع» إلا ما صح، وتركت من الصحيح؛ حتى لا يطول (2).
كما أنه قد يقتصر في الدلالة عليه بكلمة «الصحيح» ومن ذلك قول البخاري: ما كتبت في كتاب «الصحيح» حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين (3).
وأبعد من ذلك كله تسمية البخاري لكتابه هذا بـ (البخاري)، حيث جعله شريكا له في التسمية والشهرة به بين الناس، كما جاء في قوله من رواية محمد بن أبي حاتم الوراق على ما جاء في بعض المصنفات: لو نُشِرَ بعض أستاذيَّ هؤلاء لم يفهموا كيف صنفت البخاري ولا عرفوه (4).
(1) سيأتي تخريجه في ترجمة إبراهيم بن معقل النَّسفي.
(2)
سيأتي تخريجه في ترجمة إبراهيم بن معقل النَّسفي.
(3)
أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» 2/ 9، ابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة» 2/ 249 - 250، النووي في «التلخيص» 1/ 216، المزي في «التهذيب» 24/ 443، الذَّهَبِيّ في «السير» 12/ 402، وكذا أورده ابن حجر في «هدى الساري» ص: 7، كلهم من طريق الفربري، عنه.
(4)
أخرجه الخطيب في «التاريخ» 2/ 7، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» 52/ 75، والمزي في «تهذيب الكمال» 24/ 440، وكذا أورده الذَّهَبِيّ في «السير» 12/ 403، والسبكي في «الطبقات» 2/ 221، الحافظ في «الهدي» ص:487. قلت: ويتعلق بهذا السياق أمران:
أحدهما: تصحف قوله: (أستاذي) إلى: (أستاري) في «هدي الساري» ، كما تصحف إلى (إسنادي) في «تاريخ بغداد» و «الطبقات» للسبكي.
الآخر: قوله: (كيف صنفت البخاري) كذا هو عند الحافظ في «الهدي» أما عند غيره فجاء مرة: (كيف صنفت التاريخ) وأخرى: (كيف صنفت كتاب التاريخ) وثالثة: (لم يفهموا كتاب التاريخ).
وإذا كان الإمام البخاري قد أطال في تسمية كتابه، فقد جعل اسمه بهذا الطول غير المألوف عنوانا دقيقا شاملًا لكل مزايا الكتاب وخصائصه وموضحًا لمنهجه في تأليفه.
فهو جامع حيث لم يقتصر على أحاديث موضوع واحد، وإنما نوّع في موضوعاته وجعله شاملًا لكثير من الفروع من العلم في الأحكام والفضائل والآداب والرقائق والتفسير والأخبار .. إلخ، حتى وصلت أبوابه إلى أكثر من ثلاثة آلاف وأربعمائة بابًا، جمع فيها قدرًا لا بأس به لتحقيق ما زاد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه.
وهو صحيح في كل ما أورده من أحاديثه الأصول، وهي التي أخرجها في متون الأبواب موصولة السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفردها بطابع وصيغة محددة عنده، وهي التصريح بقوله: حدثنا، والعنعنة بشرطها الذي التزمه وتشدد فيه، فكل حديث ورد في كتابه على هذا النحو فهو صحيح عنده.
ولا يعكر على وصف الكتاب بالصحة أنه اشتمل على أحاديثَ أخرى ليست من شرطه؛ لأنه قد ميز ذلك، حيث ميز الأحاديث المسندة عن المعلقات والنقول الأخرى، وعلى اعتبار تميز المسند الصحيح، يجب أن نفسر ما رواه إبراهيم بن معقل النَّسفي من قوله: ما أدخلت في كتابي «الجامع» إلا ما صح بأن المراد أنه لم يدخله على هذا النحو، وبهذا الطابع من وصله على الطريقة المعنية، ويؤكد صحة هذا التفسير ما رواه الإسماعيلي من قوله: لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا.
وهو مسند بالنظر إلى أحاديثه الأصول أيضًا، فهو لم يورد في الكتاب