الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقامات
فَمن ذَلِك مَا صدر عَنى للسُّلْطَان الْجَلِيل الْمُعظم الْكَبِير أبي عنان فَارس رحمه الله من سبتة بَين يَدي ركُوب الْبَحْر وَفِي كل كلمة مِنْهَا سين
(سقت ساريات السحب ساحة فاس
…
سواحب، تكسو السَّرْح حسن لِبَاس)
(وسارت بتسليمي لسدة فَارس
…
نسيم سرى للسلسبيل بكاس)
مِنْهَا فِي ذكر السُّلْطَان أبي عنان:
(أنست بمسرى سبتة وتأنست
…
بساحته نَفسِي وأسعد نَاس)
(ويسرت لليسرى وَيسر مرسلي
…
وسدد سهمي واستقام قِيَاس)
باسم السَّلَام أستمنح مُسبل الإسعاد، وأبلس أنفس الحساد، وبإرسال التَّسْلِيم لسَيِّد الْمُرْسلين، أَسد أسراب الْفساد، وألتمس لسفري سَلامَة النُّفُوس والأجساد، سَلام وسيم، تستعير نفس مسراه الْبَسَاتِين، ويحسده الآس والياسمين، ويستمده النرجس السَّاجِي والنسرين، يسى ر لمجلس، مستخلف القدوس السَّلَام سُبْحَانَهُ، ويستبق لسدة سُلْطَان الْمُسلمين. سل السعد حسامه، وسدد سهامه، سيف السّنة السمحاء سَحَابَة سَمَاء السخا أَسد المراس، ملبس المفسدين لِبَاس الباس، ميسر الْحَسَنَة للنَّاس، يعسوب الْخَمِيس، مسرح سوائم التسجيع والتنسيم والتجنيس سَنَد السّنة، أَسد الأسنة، الباسل السَّيِّد السّني المسدد، السَّامِي السّني، سُلْطَان السلاطين، الساطي بأسه بالساطين، مُسْتَند الْإِسْلَام، فَارس، سدلت لسيرته الْحَسَنَة الملابس، واستنار بابتسام سعده المسري العابس. حَسبك باسم ومسمى، وَنَفس نفيسة سكنت الْإِسْلَام جسما، وأسنت لسعادة الْمُسلمين قسما، ينسى السحايب الساكنة لمسنتي السنين، وتخرس ألسن محاسنه اللسنين، ويستعبد إحسانه إِحْسَان الْمُحْسِنِينَ، سما مَجْلِسه، وَسعد ملتمسه، وتسنت سَلَامَته، وحرست سبل السّنة استقامته، وسدد سَهْمه، وسنى السَّعَادَة للنَّاس بأسه وَسلمهُ، فسبحان ميسر العسير، ومسدي الكسير،
ومسهل الإكسير، ومسنى سُلْطَانه يستوعب محَاسِن السَّبْعَة المستخلفين، اسْتِيعَاب التَّيْسِير، فسهلت المسالك العسيرة، وَحسنت السِّيرَة، ليستبين سر الِاسْتِخْلَاف، ويتيسر سَبَب الاستيلاف، ويستجد ملابس سلطنة الأسلاف، وسيطهر سَيْفه مَسَاجِد الْمُسلمين بالأندلس، سالبا دنس الناقوس، ويلبس إِبْلِيس باستنقاذها، لِبَاس الْبُؤْس، ويستفتح الْقُدس، بتيسير القدوس، رسمه بسبته حرست ساحتها، واتسعت باليسر مساحتها، مسترق إحسانه، ومستعبد سُلْطَانه السعيد السفارة والرسالة، بِسَبَبِهِ، المتوسل بالوسائل الْحَسَنَة، لحسبه سمى الرَّسُول، سليل سعيد، المنتسب لسلمان، لَيْسَ بسلمان الْفَارِسِي، حَسْبَمَا استوعبه سفر الْأَنْسَاب تيسرت لسراة الْمُسلمين برسالته الْأَسْبَاب. سطره لسلطانكم السامى، وسفر السفين تيَسّر، وسور التسهيل والتيسر تفسر، والسمراء ونسبتها استوعبها الإيساق، ولسوابق المرسى استباق، ولمحاسن السلطنة الفارسية اتساق، وسكنها مستملككم تِسْعَة بِسَبَب نسيم استباد مسراه، واستتبع سراه ينتسب لسمت الْإسْكَنْدَريَّة، ويسخر بالسفن السفرية، والساعة استعجلت السّفر مستننما سُكُون، نَفسه وسهو حرسه، واستتبتت لاستصحاب الْحَسَنَة الفارسية لساحل البلس ميسورا من سكانه يُسمى، بِحُسَيْن وينسب لسالم استنجاحا بسمته الْحسن والسلامة، سلكت للتسهيل، سَوَاء السَّبِيل وسقت النَّاس سلاف المسرة، بكأس السلسبيل، ومسترق الْمجْلس الْفَارِسِي، مجْلِس السنا والقدس، مُسَافر بالجسم، مستوطن بِالنَّفسِ وَلسَانه بإحسانكم سيف مسلول، ولنفسه بتسنى سعادتكم سَوَّلَ، فبسعادتكم يستصبح، وببسملة محاسنكم يستفتح، وسلطانكم لَيْسَ ينسى وَسِيلَة متوسل، وسبل الْحَسَنَات من سما سيرتكم مسترسل، واستوعبها سينية، وبسين اسمكم سعيدة سنية، خلسة مجْلِس، ووسع مُفلس. وسمحكم مسئول، ومستعيذ سلطانكم أسعد رَسُول، نسل السَّلَام تقدس اسْمه، بتسني سعادتكم سرُور الْمُسلمين، ويسنى بسببكم سنة سيد الْمُرْسلين، ورسم تَاسِع مستفتح سنة سِتّ وَخمسين وَسَبْعمائة.
نحمد الله حمد معترف بِحقِّهِ، ونشكره على عوائد فَضله ورفقه، الَّذِي جعل لنا الأَرْض ذلولا، نمشي فِي مناكبها، وَنَأْكُل من رزقه، وَنُصَلِّي على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد خيرته من خَلفه، ونستوهب للمقام المولوي اليوسفي النصري، سَعْدا يتلألأ نور أفقه، ونصرا يُتْلَى، بغرب الْمَعْمُور وشرقه:
(وقابلة صف لي فديتك رحْلَة
…
عنيت بهَا يَا شقة الْقلب من بعد)
(فَقلت خذيها من لِسَان بلاغة
…
كَمَا نظم الْيَاقُوت والدر فِي عقد)
لما وَقع الْعَزْم الَّذِي وَقفه الله على مصَالح هَذِه الجزيرة، وَالْقَصْد المعرب عَن كريم القصيدة، وَفضل السريرة، على تفقد بلادها وأقطارها، وتمهيد أوطانها، وتيسير أوطارها، رأى فِي قَلّدهُ الله أمورها، ووكل إِلَى حمايته ثغورها، مَوْلَانَا وعصمة ديننَا ودنيانا، أَمِير الْمُسلمين، وظل الله على الْعَالمين أَبُو الْحجَّاج، ابْن مَوْلَانَا أَمِير الْمُسلمين وكبير الْمُلُوك الْمُجَاهدين الصَّالِحين أبي الْوَلِيد إِسْمَاعِيل، ابْن مَوْلَانَا الْهمام الْأَعْلَى، الَّذِي تروى مفاخره وتتلى، أبي سعيد، حفظ الله مِنْهُ على الْأَيَّام بَحر الندا، وَبدر المنتدا، وسابق الْفَخر الْبعيد المدا، وشمله برواق عصمته، كلما رَاح واغتدا، أَن يُبَاشِرهَا بِنَفسِهِ، وَيجْعَل آفاقها مظلة شمسه، نظرا لِلْإِسْلَامِ وقياما بِحقِّهِ، وَعَملا على مَا يقربهُ مِمَّن اسْتَخْلَفَهُ على خَلفه، فِي وجهة حالفها الْغَمَام المستجم، ونصبة قضى لَهَا بالسعد من لَا ينجم، فَكَانَ البروز إِلَيْهَا يَوْم الْأَحَد سَابِع عشر شهر محرم فاتح عَام ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة، خرجنَا وصفحة الْأُفق بالغيم متنفسة، وأدمع السحب لوداعنا منسكبة، نتبع من الرَّايَة الْحَمْرَاء دَلِيلا هاديا، ونثق بوعد الله سُبْحَانَهُ فِي قَوْله، وَلَا يقطعون وَاديا. وسلكنا جادة المَاء المفروش، نَسْرَح اللحاظ بَين تِلْكَ العروش، ونبتذل مَا نحلته
عروس الرّبيع من تِلْكَ الفروش، وَمن لَهُ بالحضرة حرسها الله شوق حثيث، وَهوى قديم وَحَدِيث، يكثر الِالْتِفَات، ويتذكر لما فَاتَ ويبوح بشجنه، وينشر مُشِيرا إِلَى مَسْكَنه:
(يَوْم أزمعت عَنْك طي البعاد
…
وَعَدتنِي عَن البعاد العوادي)
(قَالَ صحبي وَقد أطلت التفاني
…
أَي شَيْء تركت قلت فُؤَادِي)
وَرُبمَا غلبته لواعج أشواقه، وشبت زفراته عَن أطواقه، فَعبر عَن وجده، وخاطب الحضرة معربا عَن حسن عَهده:
(أَلا عَم صباحا أَيهَا الرّبع واسلم
…
وَدم فِي جوَار الله غير مذمم)
(وَلَا عدمت أرجاؤك النُّور إِنَّهَا
…
مطالع أقماري وآفاق أنجم)
(إِذا نسى النَّاس العهود وأغفلوا
…
فعهدك فِي قلبِي وذكرك فِي فَم)
(وَإِنِّي وَإِن أزمعت عَنْك لطية
…
وفوضت رحلي عَنْك دون تلوم)
(فقلبي لَك الْبَيْت الْعَتِيق مقَامه
…
وشوقي إحرامي ودمعي زَمْزَم)
ثمَّ اسْتَقَلت بِنَا الحمول، وَكَانَ بوادي فرذش النُّزُول، منزل خصيب، وَمحل لَهُ من الْحسن نصيب، وَلما ابتسم ثغر الصَّباح، وبشرت بمقدمه نسمات الرِّيَاح، ألفينا عمل السراج إِلَى إلإسراج، وشرعنا فِي السّير الدائب، وصرفنا إِلَى وَادي أنس صروف الركائب، واجتزنا بوادي حمتها، وَقد متع النَّهَار، وتأرجت الأزهار، فشاهدنا بِهِ معالم الْأَعْلَام، وحيينا دَار حمدة بِالسَّلَامِ، وتذاكرنا عمَارَة نواديها، وتناشدنا قَوْلهَا فِي واديها:
(أَبَاحَ الشوق أسراري بوادي
…
لَهُ فِي الْحسن آثَار بوادي)
(فَمن وَاد يطوف بِكُل روض
…
وَمن روض يطوف بِكُل وَادي)
(وَمن بَين الظبي مهاة تضرسبت
…
قلبِي وَقد ملكت فُؤَادِي)
(لَهَا لحظ ترقده لأمر وَذَاكَ
…
الْأَمر يَمْنعنِي رقادي)
واستقبلنا الْبَلدة حرسها الله فِي تبريز سلب الأعياد احتفالها، وغصبها حسنها وجمالها، نَادَى بِأَهْل الْمَدِينَة، مَوْعدكُمْ يَوْم الزِّينَة، فسمحت الحجال برباتها، والقلوب بحباتها، والمقاصر بحورها، والمنازل ببدورها، فَرَأَيْنَا تزاحم الْكَوَاكِب بالمناكب، وتدافع البدور، بالصدور، بَيْضَاء كأسراب الْحمام، متنقبات، تنقب الأزهار بالكمايم، حَتَّى إِذا قضى الْقَوْم من سلامهم على إمَامهمْ فرضا، اسْتَوْفَيْنَا أعيانهم، تمييزا وعرضا، خيمنا بِبَعْض رباها المطلة، وسرحنا الْعُيُون فِي تِلْكَ العمالة المغلة، والزروع المستغلة، فحياها الله من بَلْدَة أنيقة الساحة، رحبة المساحة. نهرها مضطرد، وطائرها غرد، تبْكي السَّحَاب فيضحك نورها، ويدندن النسيم فترقص حورها:
(بلد أعارته الْحَمَامَة طوقها
…
وكساه ريش جنَاحه الطاؤوس)
(فَكَأَنَّمَا الْأَنْهَار فِيهِ مدامة
…
وَكَأن ساحات الديار كؤوس)
معقلها بَادِي الجهامة، تلوح عَلَيْهِ سمة الشهامة، نفقت سوق النِّفَاق دهرا، وخطبتها الْمُلُوك، فَلم ترض إِلَّا النُّفُوس مهْرا، طالما تعرقت وتنكرت، وحجتها نعم الإيالة النصرية فأنكرت، ومسها طائف من الشَّيْطَان ثمَّ تذكرت، فَالْحَمْد الَّذِي هداها، بعد أَن ثَبت يداها، فجف من قنتها مَا نبع، وانقادت إِلَى الْحق، وَالْحق أَحَق أَن يتبع، وتنافس أَهلهَا فِي الْبر الْكَفِيل، والقرى الحقيل، فبتنا نثني على مكارمهم الوافية، ونواضلهم الكافية، وَلم نحفل بقول ابْن أبي الْعَافِيَة:
(إِذا مَا مَرَرْت بوادي الأشا
…
فَقل رب من لدغته مُسلم)
(وَكَيف السَّلامَة فِي منزل
…
عصبَة من بني الأرقم)
وَلما فاض نهر الصَّباح على البطاح، ونادى مُنَادِي الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح، قمنا للرواحل لارتياد منزل، وأقمنا عَن اتِّبَاع آثارها بمعزل، نظرا للمدينة فِي
مهمات الْأُمُور، وَكَانَ اللحاق بغور من بعض تِلْكَ الثغور، أتيناها والنفوس مستبشرة، والقباب لأَهْلهَا منتظرة، فحمدنا الله على كَمَال الْعَافِيَة، وَقُلْنَا فِي غَرَض تجنيس القافية:
(وَلما اجتلينا من نُجُوم قبابنا
…
سنى كل خفاق الرواق بغور)
(زرينا على شهب السَّمَاء بشهبها
…
مَتى شِئْت يَا زهر الثواقب غور)
أظلتنا بهَا لَيْلَة شَاتِيَة، وألحفتنا أنواء للْأَرْض مؤاتية، فَلَمَّا شَاب مفرق اللَّيْل، وشمرت الْآفَاق من بزتها العباسية فُصُول الذيل، بكرنا نغتنم أَيَّام التَّشْرِيق، وندوس بأرجلنا حبات الطَّرِيق، وجزنا فِي كنف الْيمن وَالْقَبُول، بحصن الببول حَسَنَة الدولة اليوسفية، وَإِحْدَى اللطائف الْخفية، تكفل للرفاق بمأمنها، وفضح سَرِيَّة الْعَدو فِي مكمنها، من أَبيض كالفازة ضمن الْفَوْز فِي تِلْكَ الْمَفَازَة، فحييناه بأيمن طير، وتمثلنا عِنْده بقول زُهَيْر:
(وسكنتها حَتَّى إِذا هبت الصِّبَا
…
بنعمان لم تهتز فِي الأيك أغصبان)
(وَلم يَك فِيهَا مقلة تعرف الْكرَى
…
فَلَو زارها طيف مضى وَهُوَ غَضْبَان)
وَكَانَ ملقى الحران منابت الزَّعْفَرَان بسطة حرسها الله، وَمَا يبسطه، مَحل خصيب، وبلدة لَهَا من اسْمهَا نصيب، بَحر الطَّعَام، وينبوع الْعُيُون المتعددة، بِتَعَدُّد أَيَّام الْعَام، ومعدن مَا زين للنَّاس حبه من الْحَرْث والأنعام، يَا لَهَا من عقيلة، صفحتها صقيلة، وخريدة محاسنها فريدة، وعشيقة نزعاتها رشيقة، لبست حلَّة الديباج الْمُوشى، مفضضة بلجين الضُّحَى، مذهبَة بنضار الْعشي، وسفرت عَن المنظر الْبَهِي، وتبسمت عَن الشنب الشهي، وتباهت بحصونها مباهاة الشَّجَرَة الشماء بغصونها، فَوَقع النفير، وتسابق إِلَى لقائنا الجم الْغَفِير، مثل الفرسان صفاء، وانتثر الرحل جنَاحا ملتفا، وَاخْتَلَطَ الْولدَان بالولائد، والتمائم بالرئد، فِي حفل سلب
النها، وَجمع الْبَدْر والسها، والضراغم والمها، وَألف بَين القاني والفاقع، وسد بالمحاجر كؤوس البراقع، فَلَا أقسم بِهَذَا الْبَلَد وَحسن منظره الَّذِي يشفى من الكمد، لَو نظر الشَّاعِر إِلَى نوره المتألق، لآثرها بقوله فِي صفة بِلَاد جلق:
(بِلَاد بهَا الْحَصْبَاء در وتربها
…
عبير وأنفاس الرِّيَاح شُمُول)
(تسلسل مِنْهَا مَاؤُهَا وَهُوَ مُطلق
…
وَصَحَّ نسيم الرَّوْض وَهُوَ عليل)
رمت إِلَى غَرَض الْفَخر بِالسَّهْمِ الْمُصِيب، وَأخذت من اقتسام الْفضل بأوفى نصيب، وكفاها بِمَسْجِد الْجنَّة دَلِيلا على الْبركَة، وبباب الْمسك عنوانا على الطّيب، يغمر من الْقرى موج كموج الْبَحْر، إِلَّا أَن الرِّيَاح لاعبتنا ملاعبة الصراع، وكدرت الْقرى بالقراع، ولقينا من الرّيح، مَا يلقاه قلب المتيم من التبريح. وَكلما شكت إِلَيْهَا الْمضَارب شكوى الجريح، تركتهَا بَين المائل والطريح.
وَلما توَسط الْوَاقِع، والتقمت أنجم الْعَرَب المواقع، صدقت الرّيح الكرة، وجادتنا الْغَمَام كل عين تره، حَتَّى جهلت الْأَوْقَات، واستراب الثِّقَات. فتستر الْفجْر بنقابه، وانحجر السرحان فِي غابه، وَكَانَ أَدَاء الْوَاجِب بِحَدّ خُرُوج الْحَاجِب. وارتحلنا وَقد أذن الله للسماء فأصحت، وللغيوم فسحت، وللريح فَلَانَتْ بعد مَا ألحت، وساعد التَّيْسِير، وَكَانَ على طَرِيق قنالش الْمسير، كبرى بناتها، وشبيهتها فِي جداولها وجناتها، مَا شِئْت من أدواح توشحت بِالنورِ وتنوجت، وغدران زرع هبت عَلَيْهَا الصِّبَا فتموجت، سفربها الشَّقِيق الأرجواني. عَن خدود الغواني، فأجلنا الْعُيُون فِي رياض، وتذكرنا قَول القَاضِي عِيَاض:
(انْظُر إِلَى الزَّرْع وخاماته يحْكى
…
وَقد مَاس أَمَام الرِّيَاح)
(كتيبته خضرًا مهزومة شقائق
…
النُّعْمَان فِيهَا جراح)
مثل أَهله فَسَلمُوا، وَمن عدم النُّزُول بهم تألموا، وأتينا فحص الْأَبْصَار
فتجددت لَهُ ملابس المجادة، وتذكر عهود من حل بِهِ عِنْد الْفَتْح الأول من السَّادة، لما خَفَقت بِهِ راية سعد بن عبَادَة. وَلم تزل الركايب تغلى الفلاة فرى الْأَدِيم، وَأَهله السنابك صيرها السّير كالعرجون الْقَدِيم، حَتَّى ألحفتنا شجراته المضبر بشذاها العنبر، وراقتنا بِحسن ذَلِك المنظر، سوار مصفوفة، وأعلام خضر ملفوفة، ونخل يانعة البسوق، وعذارى كشفت حللها الْخضر عَن السُّوق، كَأَنَّهَا شمرت الأذيال لتعبر الْوَادي على عَادَة نسا الْبَوَادِي، ينساب بَينهَا الزلَال المروق، ويغني فَوْقهَا الْحمام المطوق، فتهيج الجوى، وتجدد عهود النَّوَى، صبحتنا بهَا أصوات تِلْكَ الغمارى، وأذكرتنا قَول أبي حصن الحجاري:
(وَمَا رَاعى إِلَّا ابْن وَرْقَاء هَاتِف
…
على فنن بَين الجزيرة وَالنّهر)
(أدَار على الْيَاقُوت أجفان لُؤْلُؤ
…
وصاغ على المرجان طوفا من التبر)
(حدير شبا المنقار داج كَأَنَّهُ
…
شبا قلم من فضَّة مد فِي تبر)
(توسد من فَوق الْأَرَاك أريكة
…
وَمَال على طي الْجنَاح مَعَ الصَّدْر)
(وَلما رأى دمعي مراقا أرابه
…
بُكَائِي فاستولى على الْغُصْن النَّضر)
(وحث جناحيه وصفق طائرا
…
فطار بقلبي حَيْثُ طَار وَلَا أَدْرِي)
ونزلنا بِظَاهِر حصن شيرون، وَقد ترعرع شباب الْيَوْم، وطالبنا عزيم الظهيرة بمنكسر فرض للنوم، حصن أَشمّ، ومناخ لَا يذم، نزلنَا الهضبة بإزائه، وغمرنا من بره، مَا عجزنا عَن جَزَائِهِ، وعثرنا بَين الْمضَارب، بِبَعْض العقارب، سود الروس، متوجة بأذنابها فِي شكل الطاووس فتلقينا ذَلِك بسعة الصَّدْر، ومكنا الْعَقْرَب من منَازِل الْبَدْر. ودخلنا بِمثل تِلْكَ الصُّورَة، نلتحف ظلال وَادي المنصورة، سمر الأندية، وسلطان الأودية، يالها من أرائك مهدلة السجوف، وجنات دانية القطوف، ينساب بَينهَا للعذب الزلَال، أَرقم سريع الانسلال،
وصارم يغمد فِي جفون الظلال، يتلاعب بَين أَيْدِينَا شمالا ويمينا، فطورا تنْقَلب عَصَاهُ ثعبانا، وآونة تنعطف صولجانا، وَتارَة تستدير أفلاكا، وَرُبمَا نسجت مِنْهُ أَيدي الرِّيَاح شباكا، وَأم حسن فِيهِ ذَات لسن، تبْعَث فِيهِ بنغماتها لواعج الشؤون، وتقيم دين وَلَدهَا فِي الخلاعة المجون. وسرنا ودر الْحَصَى بِسَاط لأرجل رِكَابنَا، ودنانير أبي الطّيب تنشر فَوق أثوابنا، ترقب نُجُوم القلاع والحصون، من خلال سَحَاب الغصون، والنسوان إِلَى مُشَاهدَة التبريز قد خفت، وبشاطي الْوَادي قد صفت، قد أخذن السنايا، وسددن سِهَام المنايا، عَن حواجب كالحنايا، يشغلن الْفَتى عَن شئونه، ويسلبن الرَّوْض لين غصونه. هَذَا خلق الله، فأروني مَاذَا خلق الَّذين من دونه.
وطالعنا برشانة حرسها الله، فحيتنا ببواكر الْورْد، ونضت عَنَّا برود الْبرد، وشملتنا بالهواء المعتدل، وأظلتنا برواقها المنسدل، بلد أَعْيَان وصدور، ومطلع نُجُوم وبدور، وقلعة سامية الْجلَال، مختمة بالكواكب، متوجة بالهلال، حللناها فِي التبريز الحفيل، والمشهد الْجَامِع بَين الذّرة والفيل، حشر أَهلهَا بَين دَان ونازح، وَمثل حاميتها من نايل ورامح، فَكَانَ [ذَاك الْمُجْتَمع عيدا وموسما سعيدا. وبتنا] فِي لَيْلَة للأنس جَامِعَة، ولداعي السرُور سامعة، حَتَّى إِذا الْفجْر تبلج، وَالصُّبْح من بَاب الْمشرق تولج، سرنا وتوفيق الله قَائِد، وَلنَا من عنايته، صلَة وعائد، تتلقى رِكَابنَا الأفواج، وتحيينا الهضاب والعجاج إِلَى قتورية، فناهيك من مرحلة قَصِيرَة كأيام الْوِصَال، قريبَة الْبكر من الآصال، كَانَ الْمبيت بِإِزَاءِ قلعتها السامية الِارْتفَاع، الشهيرة الِامْتِنَاع، وَقد برز أَهلهَا فِي العديد وَالْعدة، والاحتفال الَّذِي قدم بِهِ الْعَهْد على طول الْمدَّة، صُفُوفا بِتِلْكَ الْبقْعَة خيلا ورجلا، كشطرنج
الرقعة، لم يتَخَلَّف ولد عَن وَالِد، وَركب قاضيها ابْن أبي خَالِد، وَقد شهرته النزعة الحجازية، وَلبس من حسن الحجازية، وأرخى من الْبيَاض طيلسانا، وصبغ لحيته بِالْحِنَّاءِ والكتم، ولاث عمَامَته واختتم، والبداوة تسمه على الخرطوم، وطبع المَاء والهواء يَقُودهُ قَود الْجمل المحظوم، فداعبته مداعبة الأديب للأديب، وَخيرته بَين خصلتي الذيب، وَقلت نظمت مقطوعتين، إِحْدَاهمَا مدح وَالْأُخْرَى قدح، فَإِن هَمت ديمتك، وكرمت شيمتك، فللذين أَحْسنُوا الْحسنى وَزِيَادَة وَإِلَّا فالمثل الْأَدْنَى، فَقَالَ أَنْشدني لأرى على أَي الْأَمريْنِ أثب، وأفرق بَين مَا أجتنى وَمَا أجتنب فَقلت:
(قَالُوا وَقد عظمت مبرة خَالِد
…
قاري الضيوف بطارف فِي وبتالد)
(مَاذَا تمت بِهِ فَجئْت بِحجَّة
…
قطعت بِكُل مجادل ومجالد)
(أَن يفْتَرق نسب يؤلف بَيْننَا
…
أدب أقمناه مقَام الْوَالِد)
وَأما الثَّانِيَة فيكف من البارق شعاعه، وحسبك من شَرّ سَمَاعه، ويسير التَّنْبِيه كَاف، للنبيه فَقَالَ لست إِلَى قراي بِذِي حَاجَة، وَإِذا عزمت فأصالحك على دجَاجَة، فَقلت ضريبة غَرِيبَة، ومؤتة قريبَة، عجل وَلَا تؤجل، وَإِن انصرم أمد النَّهَار فأسجل، فَلم يكن إِلَّا كلا وَلَا، وأعوانه من القلعة تنحدر، والبشير مِنْهُم بقدومها يبتدر، يزفونها كالعرس فَوق الرُّءُوس، فَمن قَالَ أمهَا البجائية، وَقَائِل أَخُوهَا الْخصي الموجه إِلَى الحضرة الْعلية، وأدنوا مربطها من المضرب، عِنْد صَلَاة الْمغرب، وألحفوا فِي السُّؤَال، وتشططوا فِي طلب النوال، فَقلت يَا بني اللكيعة، وَلَو جئْتُمْ ببازي، بِمَاذَا كنت أجازي، فانصرفوا. وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ، وَأَقْبل بَعضهم على بعض يتلاومون، حَتَّى إِذا سلت لذكاتها المدا، وَبلغ من عمرها المدا، قلت يَا قوم، ظفرتم بقرة، الْعين، وابشروا باقتراب اللقا، فقد ذبحت لكم غراب الْبَين، وَكَانَت الْبِلَاد الشرقية، قد أخلفتها الغيوث، وعدت عَلَيْهَا لِلْعَدو الليوث
فحيتنا على السجط، وَشَكتْ إِلَى سَعَادَة مقدمنا معرة الْقَحْط، فظهرت مخيلة السعد، فَأذن الله فِي إنجاز الْوَعْد، وَقربت غَرِيم الْغَمَام فِي الْمقَام أعوان الرَّعْد، فاعترف وسمح، وانقاد لحكم القضا بعد مَا جمح. وَلم يلم بكيف وَلَا حَتَّى، وقضاها الدّين فِي دفع شَتَّى، هَذَا وَإِن كَانَ إِنَّمَا كَانَ غرم، وأمده كَاد أَن ينصرم، فبمنفعته يحول الله كبرى، وَفِيه مآرب أُخْرَى، فتنفس صدر الجو وَزفر، وقطب وَجهه بعد مَا سفر، وهما الْغَمَام وانسكب، وارتكب من إيراطنا مَا ارْتكب، فَلم تَجف لَهُ قَطْرَة، وَلَا خطرت بِبَالِهِ للصحو خطرة، فسبحنا ذَلِك الْعَارِض الهطال، وسهرنا اللَّيْل وَقد طَال، وَمَا رَاعنا وَالصُّبْح قد نم من خلف الْحجاب، وَقَضيته قد انْتَقَلت من النَّفْي إِلَى الْإِيجَاب، والغمام لَا يفتر انسكابه، إِلَّا السُّلْطَان مدَار قل ركابه فضربنا بالقباب وَجه الصَّعِيد واستقبلنا طية الْغَرَض الْبعيد نهيم فِي ذَلِك الْوَادي، ونكرع من أطواقنا فِي غُدْرَان العوادي، وَقد تهدلت القروع، وخضلت بالغيث تِلْكَ الزروع، كَأَنَّمَا أخلفتها الرّيح، فترامت، وسقتها كؤوس السحب حَتَّى سكرت ونامت، والمذانب أَمْثَال الصلال [قد تفرعت] وكأنما رعناها فانسابت أمامنا وأسرعت، ومخيلة الصحو لَا تتوسم، والجو نستضحكه بشأننا فَلَا يبتسم، ومررنا بوادي المنصورة الَّتِي ينْسب الْوَادي إِلَيْهَا وَعرضت مراكب تياره بَين يَديهَا، وأطلالها بالية، وبيوتها خاوية خَالِيَة، ومسجدها بَادِي الاستكانة، خاضع للبلى على سمو المكانة، فعبرنا واعتبرنا، وأبصرنا فاستبصرنا، وَقَول أبي الطّيب تذكرنا:
(أَيْن الَّذِي الهرمان من بُنْيَانه
…
مَا قومه مَا يَوْمه مَا المصرع)
(فَتخلف الْآثَار عَن أَصْحَابهَا
…
حينا ويدركا البلى فتتبع)
ثمَّ نَبَذْنَا ذَلِك الْوَادي بالعراء، واستقبلنا أَرضًا شَبيهَة بالصحراء، ملاعب
للريح، ومنابت للسدد والشيح، سحبت علينا بهَا السحائب فضول الذيل، وطفف الْغَمَام فِي الْكَيْل، وغار النُّور، وفار التَّنور، وفاضت السَّمَاء، والتقى المَاء بالركائب تسبح سبح الأساطيل، والأرجل [تزهق زهوق] الأباطيل، وَالْمبَارك تعرى، والأدلة لَا تمتري، واللباس قد غير الطين من شكله، وَالْإِنْسَان قد رَجَعَ من المَاء والجماء إِلَى أَصله، وخيمنا من بيرة حرسها الله بالثغر الْأَقْصَى، وَمحل الرِّبَاط الَّذِي أجر ساكنه لَا يُحْصى، بَلْدَة عَددهَا متعقب، وساكنها خَائِف مترقب، مسرحة بعير، ومزرعة شعير، إِذا شكرت الوابل أنبتت حبها سبع سنابل، ونجادها بالهشم قد شابت، وزروعها قد دَعَا بهَا الْفضل فَمَا ارتابت، وندا وآنواحقه يَوْم حَصَاده أجابت، أَرحْنَا بهَا يَوْمًا، صَحا فِيهِ الجو من سكرته، وأفاق من خمرته، فَقيل للنفوس شَأْنك وذماك، وَيَا أَرض ابلعي مائك، وتجلت عقيلة الشَّمْس معتذرة عَن مغيبها، مغتنمة غَفلَة رقيبها.
ورحلنا من الْغَد، وَشَمل الأنواء غير مُجْتَمع، والجو قد أنصت كَأَنَّهُ يستمع، يعد أَن تمحض الرَّأْي عَن زبدته، واستدعى من الأذلاء من وثق بنجدته، وَكثر المستشار، وَوَقع على طَرِيق ينشر الِاخْتِيَار، وانتدب من الْفَرِيق إِلَى دلَالَة تِلْكَ الطَّرِيق، رجل ذُو احتيال، يعرف بِابْن هِلَال، اسْتقْبل بِنَا شعبًا مقفلا، ومسلكا مغفلا، وسلما فِي الدرج سامي المنعرج، تزلق الذَّر فِي حَافَّاته، وتراع الْقُلُوب لآفاته، ويتمثل الصِّرَاط عِنْد صِفَاته، أَو عَار لَا يتَخَلَّص مِنْهَا الأوعال، وَلَا تغني السنابك فِيهَا وَلَا النِّعَال، قَطعنَا بَيَاض الْيَوْم فِي تُسنم جبالها، والتخبط فِي جبالها، نهوى من شَاهِق إِلَى وهد، ونخوض كل مشقة وَجهد، كأننا فِي حلم مَحْمُوم، أَو أفكار مغموم، أَو برسام بوم. وَطَالَ مرام العروج إِلَى جو السَّمَاء ذَات البروج، قلت يَا قوم انْظُرُوا لأنفسكم فِيمَا أَصْبَحْتُم فِيهِ، وَاعْلَمُوا أَن دليلكم ابْن هِلَال عزم
على اللحاق بِأَبِيهِ. ثمَّ أَخذنَا فِي الانحدار بأسرع الابتدار، نهوى إِلَى المرقب السَّامِي الذري، ونهبط من الثريا إِلَى الثرى، ونتمثل فِي ذَلِك المسلك الواعر بقول الشَّاعِر:
(بطرِيق بيرة أجبل وعقاب
…
لَا يرتجى فِيهَا النجَاة عِقَاب)
(فَكَأَنَّمَا الْمَاشِي عَلَيْهَا مذنب
…
وكأنما تِلْكَ الْعقَاب عِقَاب)
وَلما أصبح استقبلنا الفحص الأفيح، بساطه مَمْدُود الصرح، يعجز عَن وَصفه لِسَان الشَّرْح، طاردنا قنيصه على طول صحبته للأمان من حوادث الزَّمَان، يأثرنا كل ذلق المسامع ناء عَن إِدْرَاك المطامع، كثير النفار، مصطبر على سُكْنى القفار، يختال فِي الفروة اللدنة الْحَوَاشِي، وينسب إِلَى الطَّائِر والماشي، تغلبناه على نَفسه، وسلطنا عَلَيْهِ آفَة من جنسه، وحللنا مقادة كل طَوِيل الباع، رحب الذِّرَاع، بَادِي التَّحَوُّل، طَالب بِالدُّخُولِ، كَأَنَّهُ لفرط النحول، عاشق، أَو نون أجادها ماشق، أوهلال سرار، أَو حنية أسرار، رميناه مِنْهُ بأجله على عجله، وقطعنا بِهِ عَن أمله، فَأصْبح رهين هوان، مطوفا بأرجوان، ووصلنا الخطا بَين جاثم الأرانب وأفاحيص القطا، فِي سهل يتلَقَّى السائر بترحيب [واهن إِلَى اسكوذر] حللناها، وَالْيَوْم غض الشبيبة، والجو يختال من مَذْهَب سناه، فِي الحلى العجيبة. واستقبلنا ألمرية عصمها الله فِي يَوْم سطعت أشعة سعده، وتكفل للدهر بإنجاز وعده، مثل أَهلهَا بِجَمْعِهِمْ، فِي صَعِيد سعيد، ويدعوهم عيد عَهدهم بِهِ بعيد، فَلم يبْق حجاب إِلَّا رفع، وَلَا عذر إِلَّا دفع، وَلَا فَرد إِلَّا شفع، فِي يَوْم نَادَى بالجمهور، إِلَى الْموقف الْمَشْهُور، وَأذن الله
لشهره بالظهور، على مَا تقدمه من الشُّهُور، رمت الْبَلدة فِيهِ بأفلاذها، وقذفت بثباتها وأفذاذها، وبرز أَهلهَا، حَتَّى غص بهم سهلها، وَقد أَخذهم التَّرْتِيب، ونظمهم المصف العجيب، تقدمها مراكب الْأَشْيَاخ الجلة، وَالْفُقَهَاء الَّذين هم سراج الْملَّة، وخفقت أَصْنَاف البنود المطلة، واتسقت الجموع، الَّذِي لَا توتى بحول الله من الْقلَّة، وتعددت بمناكب البدور أشكال الْأَهِلّة، فِي جموع تسد مهاب الصِّبَا، وتكثر رَحل الدبا، صُفُوفا كَصُفُوف الشطرنج، على أَعْنَاقهم قسى الفرنج، وَقد نشرُوا البنود الشهيرة الألوان، واستشعروا فِي يَوْم السّلم شعار الْحَرْب الْعوَان، يتسابقون من الاحتفال إِلَى غَايَة، وَيرجع كل مِنْهُم إِلَى شعار وَإِلَى راية، وَقد أَحْسنُوا بالمشيخة الاقتدا، وَرفعُوا بِالسَّلَامِ الندا، وامتاز خدام الأساطيل المنصورة، فِي أحسن الصُّورَة، بَين أَيْديهم الطبول والأبواق، تروح أصواتها وتهول، وتألق من تجار الرّوم من استخلص الْعدْل هَوَاهُ، وتساوى سره ونجواه، فِي طروق من الْبر ابتدعوها، وأبواب من الاحتفاء شرعوها، فَرفعُوا فَوق الركاب المولوي، على عمد الساج مظلة من الديباج، كَانَت على قمر العلياء غمامة، وعَلى خصر الْمجد كمامة، فراقتنا بِحسن الْمعَانِي، وأذكرنا قَول أبي الْقَاسِم بن هاني:
(وعَلى أَمِير الْمُسلمين غمامة
…
نشأت تظلل تاجه تظليلا)
(نهضت بعبء الدّرّ ضوعف
…
نسجه وَجَرت عَلَيْهِ عسجدا محلولا)
إِلَى غير ذَلِك من أروقة عقدوها، وكرامة أعدوها، وطلعت فِي سَمَاء الْبَحْر أهلة الشواني كَأَنَّهَا حواجب الغواني، دالكة الْأَدِيم، متسربلة بِاللَّيْلِ البهيم، تتزاحم وفودها على الشط، كَمَا تتداخل النونات فِي الْخط، فياله من منظر بديع الْجمال، أَخذ بعنان الْكَمَال، بكر الزَّمَان، وَآيَة من آيَات الرَّحْمَن، حَتَّى إِذا هالت الْقبَّة استدارت، وبالغمر السعد من وَجه السُّلْطَان أيده الله أنارت، مثلُوا فَسَلمُوا، وطافوا بِرُكْن مقَامه واستلموا، وأجهروا بِالتَّلْبِيَةِ، ونظروا من
وَجهه الْجَمِيل إِلَى سعد الأخبية، وتزاحم من النِّسَاء الأفواج، كَمَا تتدافع الأمواج، فَرفع الْجنَاح، وخفض الْجنَاح، ومهد لَهُنَّ سَبِيل الْعَطف، وشملهن كنف الإشفاق والعطف.
وَلما أَرحْنَا وَاسْتَرَحْنَا، والعيون فِي تِلْكَ الْبَلدة سرحنا، رَأينَا قيد الْبَصَر، والمحاسن الَّتِي ترمي [اللِّسَان] بالحصر، حَضْرَة يسْتَقلّ بهَا الْملك، ومربع يلتقي بِهِ القطار والفلك، رفعت راية الشّرف الْقَدِيم، وحازت على نظراتها مزية التَّقْدِيم، مَا شِئْت من ساحة طيبَة الْأَدِيم رحيبة كصدر الْحَلِيم، متناسبة الْوَضع بِتَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم، تبرجت تبرج العقيلة، وَنظرت وَجههَا من الْبَحْر فِي الْمرْآة الصقيلة. وَركب السُّلْطَان، أيده الله ثَالِث يَوْم وُرُوده، إِلَى مُشَاهدَة قلعتها الشماء، الْمُتَعَلّقَة بعنان السَّمَاء. فقدح سكانها زناد البارق المتألق، وتلعب صبيتها على جنَاح الطَّائِر المحلق، وعَلى سمو مَكَانهَا، وجلالة شَأْنهَا، فدولابها شجي الْمِضْمَار ومياهها فِي انهمار، وخزائنها تستغرق [بطوال الْأَعْمَار] ، وعددها كفيلة بحماية الذمار، فعوذناها من كل خطب فادح، وحيينا بهَا بهو خيران، وَقصر ابْن صمادح، ونظرنا إِلَى تِلْكَ الْآثَار الْكِبَار، والمشاهد الَّتِي تغني عَن الْأَخْبَار، أشرقت الْعَدو بريقه، وسطت بفريقه، وَأخذت عَلَيْهِ فِيهَا يَد الله ثنايا طَرِيقه، وَخص الْمولى أيده الله، فأيدها بتشريفه وترفيعه، وَتَنَاول بِيَدِهِ الْكَرِيمَة من صَنِيعه، فِي مجْلِس احتفى واحتفل. وَفِي حلل الْكَمَال رفل، وَأخذت مجالسها الْخَاصَّة والكبرا، وأنشدت الشعرا، فَكَانَ مقَاما جَلِيلًا، وعَلى الهمم الْعَرَبيَّة، والشيم الملوكية دَلِيلا. وَكَانَ الرحيل عَن تِلْكَ الْمَدِينَة، لَا عَن ملال، وَلَا ذمّ خلال، وَلَكِن مقَام بلغ أمد، ورحلة انْتَهَت إِلَى أمد.
(أَقَمْنَا بهَا يَوْمًا وَيَوْما وثالثا
…
وَيَوْم لَهُ يَوْم الترحل خَامِس)
فيالها من خَمْسَة علقها الدَّهْر تَمِيمَة على نَحره، وأثبتها معوذة فِي قرَان فخره، كَانَت لياليها معطرة النواسم، وأيامها كأيام المواسم. وثنينا الأعنة إِلَى الإياب، وصرفنا إِلَى أوطاننا صُدُور الركاب، فكم من قلب لرحيلنا وَجب، لما اسْتَقل وَوَجَب، ودمع لوداعنا عظم انسكابه لما رمت للبين ركابه، وصبر أصبح من قبيل الْمحَال، عِنْد ذمّ الرّحال، وإلف أنْشد بِلِسَان النُّطْق وَالْحَال:
(وَمضى وَخلف فِي فُؤَادِي
…
لوعة تركته مَوْقُوفا على أوجاعه)
(لم استتم سَلَامه لقدومه
…
حَتَّى ابتدأت عناقه لوداعه)
وانصرفنا، وعروشها تتَعَلَّق بأذيالنا، ومخاضة واديها تعترض صُدُور رجالنا، ورياحها تتدافع عَن الْمسير، ومعاملها تقنع من إلماحنا وَلَو باليسير. واستقبلنا وَادي بجانة، وَمَا أَدْرَاك مَا هُوَ، النَّهر السيال، والغصن المياد الميال، والإفياء والظلال، الْمسك مافت فِي جنباته، والسندس مَا حاكته يَد جناته، نعمه وَاسِعَة، ومساجده جَامِعَة، أزرت بالغوطتين زياتينه وأعنابه، وسخرت بشعب بوان شعابه، بِحَيْثُ لَا تبدو للشمس أَيَّاهُ، وَلَا تتأتى للحرباء حَيَّاهُ، وَالرِّيح تلوى أعطاف غصون البان، على أردان الكثبان، وتجاذب عَن أنس الخمائل فضول الغلائل، إِلَى برشانة، وَهِي الْكَوْكَب الْأَعْلَى، والأشهب الْمحلي، والصباح إِذا تجلى، والعروس على المنصة تحلى، وَبهَا حلت الغيوم سموطها، ومدت على السَّحَاب خيوطها، وعيون المزن باكية، والمنازل من توقع فراقنا شاكية.
[واستقبلنا الْوَادي نجعله دَلِيل تِلْكَ الطَّرِيق، ونتبعه فِي السعَة والمضيق. فكم مخاضة مِنْهُ عبرنا وعَلى مشقتها صَبرنَا. حَتَّى قطرت الأذيال والأردان،
وَشَكتْ أَذَى المَاء الْأَبدَان، وتوفرت دواعي الضجر، لملازمة المَاء وَالْحجر، ونسينا بمعاناة ألم البعاد، وَذكرنَا بترديده وإعادته مثلهم فِي الحَدِيث الْمعَاد. اللَّهُمَّ غفرا فَضله مديد، ومنظره فِي الْحسن فريد، وَقد راق شَأْنه، وتصاف على الشط سكانه، فَرَأَيْنَا الْحور تَحت سماط الْحور، والنور فَوق بِسَاط النُّور. وَلما كَاد عمر الْيَوْم ينتصف، وَقد بلونا من بعد الْمَشَقَّة مَا لَا تصف، وتخلصنا من ذَاك الكمد، شارقنا دَار مية بالعلياء فَالسَّنَد] .
واستقبلنا عبلة ولورسانة، وأنخنا الركاب بِظَاهِر فنيانة بقْعَة حظها من النعم موفور، وبلدة طيبَة وَرب غَفُور، حللناها ومنافسي العجماء يعرب، وَالشَّمْس يراودها الْمغرب، وَقد عظم الهياط والمياط، وسطا الكلال بالنشاط، وبتنا، والشيح وسائد مضاجعنا، وشكوى التَّعَب حلم هاجعنا، واستقبلنا النهج الأمثل، والسهل الَّذِي يضْرب بِهِ الْمثل، بِسَاط مَمْدُود، وَمن الْبحار الأرضية مَعْدُود. وَلم يكن إِلَّا كخطفة بارق، أَو خلسة سَارِق، حَتَّى تقلص الظل وطوى منشوره طي السّجل. واستقبلنا مَدِينَة وَادي آش حرسها الله، وَقد راجعت الِالْتِفَات، واستدركت مَا فَاتَ، فتجلت المخدرات، وقذفت من اشْتَمَلت عَلَيْهِ الجذرات، وتنافس أَهلهَا فِي الْعدة والعديد، واتخاذ شكك الْحَدِيد، فَضَاقَ رحب المجال، واختلطت النِّسَاء بِالرِّجَالِ، والتف أَرْبَاب الحجا برباب الحجال، فَلم نفرق بَين السِّلَاح والعيون الملاح، وَلَا بَين حمر البنود من حمر الخدود. وبتنا بإزائها، وَنعم الله كافلة، ونفوسنا فِي حلل السرُور رافلة، حَتَّى إِذا ظلّ اللَّيْل تقلص، وحمام الصُّبْح من مخالب غرابه قد تخلص، سرنا وعناية الله ضافية، ونعمه وافية. فنزلنا بوادي فرذش مَنَازلنَا الْمُعْتَادَة، وَقُلْنَا رَجَعَ الحَدِيث إِلَى قَتَادَة،
وَبهَا تلاحقت وُفُود التهاني، وسفرت وُجُوه الْأَمَانِي، فنزلنا مِنْهُ بالمروج فتفتحت بهَا أزهار القباب الْبيض فِي بساطه العريض، وخطرت ببالي مَقْطُوعَة فِي مُخَاطبَة الْمولى، انجح الله عمله، وَيسر من فَضله أمله، أَثْبَتَت على حكم الاستعجال، وأوجفت على بيوتها خيل الارتجال:
(إِذا سرت سَار النُّور حَيْثُ تعوج
…
كَأَنَّك بدر والبلاد بروج)
(لَك الله من بدر على أفق العلى
…
يلوح وبحر بالنوال يموج)
(تفقدت أَحْوَال الثغور بنية
…
لَهَا نَحْو أَسبَاب السَّمَاء عروج)
(وسكنتها بِالْقربِ مِنْك وَلم
…
تزل تهيم هوى من قبله وتهيج)
(مَرَرْت على وعد من الْغَيْث بَينهَا
…
فمنظرها بعد العبوس بهيج)
(فكم قلعة قد كلل النُّور تاجها
…
ورف عَلَيْهَا للثبات نَسِيج)
(وَلَا نجد إِلَّا رَوْضَة وحديقة
…
وَلَا غور إِلَّا جدول وخليج)
(أيوسف دم للدّين تَحْمِي ذماره
…
إِذا كَانَ للخطب الأبي ولوج)
(بفتية صدق إِن دجا ليل حَادث
…
فهم سرج آفاقهن سروج)
(بقيت قرير الْعين مَا ذَر شارق
…
وَمَا طَاف بِالْبَيْتِ الْعَتِيق حجيج)
وبتنا نتعلق بأنوار الحضرة العاطرة، ونستظل بسمايها الماطرة، ونعلق الاستبشار، وَنحن إِلَى الْأَهْل حنين العشار.
(وَأقرب مَا يكون الشوق يَوْمًا
…
إِذا دنت الديار من الديار)
فَلَمَّا تَبَسم زنجي اللَّيْل عَن ثغر الْفجْر، وشب وليد الصَّباح عَن عقد الْحجر، ولحظتنا ذكا بطرفها الرمد، وَقد ترك اللَّيْل فِيهِ بَقِيَّة الأثمد، استقبلنا الحضرة، حرسها الله، فأنست النُّفُوس بعد اغترابها، واكتحلت الْعُيُون بإثمد ترابها، واجتلينا من فحصها الْكَرِيم، الساحة الرحباء المساحة، مَا يبهر الْعين جمالا، ويقيد الطّرف يَمِينا وَشمَالًا، أم الْبِلَاد وَالْقَوَاعِد، وملجأ الْأَقَارِب والأباعد،
قعدت مقْعد الْوَقار، وَنظرت إِلَى الأَرْض بِعَين الاحتقار، ومدت إِلَيْهَا الْبِلَاد أكف الافتقار، نصبت من الْجَبَل منصة، قعدت عَلَيْهَا وَقَامَت، وصادف الْفَرِيق فِي ذَلِك الْبسَاط بَين يَديهَا، فَمن ذَا يدانيها أَو يداريها، أَو يناهضها فِي الفخار ويجاريها، وَهِي غَابَ الْأسود، والأفق الَّذِي نشأت فِيهِ سَحَاب الْجُود، وطلعت بِهِ من الْأُمَرَاء السُّعُود أنجم السُّعُود، سيدة الْأَمْصَار وَدَار الْمُلُوك من أَبنَاء الْأَنْصَار، ومصرع الطواغيت وَالْكفَّار، والغمد الَّذِي استودع بسيوف الله دامية الشفار، وَللَّه در بعض شُيُوخنَا، فقد عبر عَنْهَا ببيانه، وَاعْتذر عَن بروها فِي أَوَانه حَيْثُ يَقُول:
(رعى الله من غرناطة متبوأ
…
يسر كئيبا أَو يجير طريدا)
(تبرم مِنْهَا صَاحِبي عِنْد مَا رأى
…
مسالكها بالبرد عدن جليدا)
(هِيَ الثغر صان الله من أهلت بِهِ
…
وَمَا خير ثغر لَا يكون برودا)
وصلناها والجو مصقول كالفرند، وَالسَّمَاء كَأَنَّهَا لصفائها مرْآة الْهِنْد، فِي بروز أخرج الحلى من الأحقاق، وَعقد أزرار الْحلَل على الْأَعْنَاق، وأطلع أقمار الْحسن على الْآفَاق، وَأثبت فَخر الحضرة بِالْإِجْمَاع والإصفاق، على دمشق الشَّام وبغداد الْعرَاق، حَتَّى إِذا بلغنَا قُصُور الْملك، وانتهينا إِلَى وَاسِطَة السلك، وقفنا مهنئين ومسلمين، وَقُلْنَا ادخلوها بِسَلام آمِنين، وَأَلْقَتْ عصاها، واستقرت بهَا النَّوَى، كَمَا قر عينا بالإياب الْمُسَافِر.
وَمن ذَلِك كَلَام فِي السرحلة
لما خف عيد مقَامه صُحْبَة وَفد طَاعَته، ومقدم سنة أمره الْعَزِيز وجماعته، باذلا فِي البدار جهد استطاعته، طائرا بجناح الْحبّ الأول أَمر الْإِمْكَان وساعته، فَرَأى السرير قد اسْتَقل بِهِ عاصبه، وَالْملك قد تقررت مناصبه، فَأدى الْغَرَض،
وقرض فَأحْسن الْقَرْض، وَعرض كتائب الْمَدْح، فاستوعب الْغَرَض، وملأ بهَا الأَرْض، وَصدر قَافِلًا، فِي ثِيَاب الْعِزّ رافلا، وَاقْتضى من إِذْنه فِي زِيَارَة الْبِلَاد المراكشية مَا يُبْدِي لمن نَاب عَنهُ خلال كَمَاله، ويهني الْعباد بِتمَام الْأَمر، ونجح مآله، ويلتمس بركَة الضريح الَّذِي بِحَسب الرَّاغِب بآماله، وَظهر لَهُ أَن يدون رحْلَة، وجهته المنسوبة إِلَى عناية أمره، ويفتق كمامة فخرها عَن زهره، مستعينا بِاللَّه فِي سره وجهره.
فَقَالَ خرجنَا من أم الْقرى، وَمجمع الورى، وكعبة السّير والسرى، مَدِينَة فاس، دَار الْملك الْأَصِيل، والعز المشرف الثليل، حَيْثُ الْقُصُور الْبيض، وَالْملك الطَّوِيل العريض، والأبواب المحروسة، والبساتين المغروسة، والمياه المتدفقة، والجنود المرتزقة، والمباني الْعَظِيمَة، والرباع المترفعة عَن الْقيمَة وَالدّين وَالدُّنْيَا، من غير شَرط وَلَا ثنيا، حرسها الله وكلأها، ووفر وَقد فعل ملأها، نلتفت إِلَى معاهدة السَّادة، وعلق الودادة، ومراتب أولى الْجُود والإفادة:
(همو اسكنونا فِي ظلال بُيُوتهم
…
ظلال بيُوت أدفأت وأكنت)
(أَبَوا أَن يملونا وَلَو أَن أمنا
…
تلاقى الَّذِي لَا قوه منا لملت)
وشعينا مِمَّن كرم ذمامه، وَعرف بِرَفْع الْوَفَاء إلمامه، جملَة من الصُّدُور، والشموس والبدور، تذكرت عِنْد وداعهم المهيج الشكاة، والمدامع المشتبكات، قَول شَيخنَا أبي البركات:
(يَا من إِذا رمت توديعه
…
ودعت قلبِي قبل ذَاك الْوَدَاع)
(وَبت ليلى ساهرا حائرا
…
أخادع النَّفس بِبَعْض الخداع)
(يَا محنة النَّفس بمألوفها
…
من أَجله قد جَاءَ هَذَا الصداع)
وَكَانَ الْمبيت بدشار البوير من أحوازها، دشار نشعت الطَّرِيق بلالة أَهله، وأعدم الله الْمُرُوءَة من فتاه وكهله، وَمن الْغَد قَطعنَا للرحلة الآهلة، وَالطَّرِيق الطاعمة الناهلة، حَيْثُ السهل الْمَمْدُود، وَالْمَاء المورود، والجسور المحنية، والدشر السّنيَّة، والْآثَار المدينية إِلَى مَدِينَة مكناسة، وَمِنْهَا بعد كثير، حَتَّى إِذا الشَّمْس هَمت بتسلق الجدرات، وقادت أَهلهَا من وَرَاء الحجرات، وطفق عسجدها يذهب لجين الضحا، وَمرْسَاهَا الموشية تجلو خد الأَرْض بَعْدَمَا التحا، قمنا نستشعر التجلد للبين، وَهُوَ يفصح، ويجمل حكم الوجد، والدمع يشْرَح، فودعنا الخليط المصاحب، وسلكنا الطَّرِيق غير اللاحب. وَقد طبق ضباب لَهُ على الأَرْض، أكباب حجب الْجِهَات، ولابس بَين الْأُمَّهَات، وضللنا لَوْلَا أَن هدَانَا، وسرنا، والحفنا السَّحَاب وردانا، والنبت قد أطلع ولدانا، ونواحل الطلول قد عَادَتْ بدانا، ثمَّ إِن مرْآة الْأُفق جلت الغزالة صداها، وَأَتَتْ كل نفس هداها، فحمدت السراة مغداها. واقتحمنا الرمل الذى أقدح الله مرعاه، وَحشر غليهم فَحَضَرت مدعاه، مَا بَين خيام، ورعاة غير ليام، وبيوت شعر ومعاطن، وبقر وغنم، تملت بهَا الأَرْض، وبقر ضَاقَ بهَا الطول وَالْعرض، وعجائز يئسن من المحيص، مهدية قرب الْمَحِيض، وَقد اضْطَرَبَتْ فِي الفحص الأفيح محلّة السَّاعِي، ناجحة مِنْهُ المساعي، والأذواد تعد، والنطايع تمد، والعاملون عَلَيْهَا حجتهم لَا ترد، وَلم تكن الشَّمْس تقتعد سَنَام خطّ الزَّوَال، وتسدل من رُؤُوس القوائم ذوائب الظلال، حَتَّى نزلنَا بِعَين الشعرا، وانتبذنا عَن حصنه إِلَى العرا، حصن مثلوم مهدوم، مَوْجُود الْأنس بِهِ مَعْدُوم، إِلَّا أَنه كثير الْوُفُود، ومناخ مَقْصُود، ومعدن الْحَدِيد، وَبَاب الوطن العريض المديد، خيمنا بِظَاهِرِهِ خيفة برغوته، وَلم تخف من سباعه الَّتِي تزأر حولنا وليوثه، فَكَانَت للوقاية النادرة، وَأمنت والمن لله، البادرة
وبلونا من وَإِلَيْهِ مبرة، وَمَا فَقدنَا من اللطف مِثْقَال ذرة: وَعند الصَّباح شرعنا فِي الارتحال، وَعين الشَّمْس بَحر الضباب، مفتقرة إِلَى الاكتمال، فسلكنا خندقها خَنْدَق هَارُون وفحص خواز ماز بن برَاز ومظان احْتِرَاز، إِلَى دشار مكول، وَهُوَ إِلَى الفنا موكول، وبرحل الخراب من الْأَعْرَاب موكول. وَلما رَأينَا جنابه غير مأنوس، وَقد امتاز بلبوس البوس، جزناه إِلَى ماغوس، دشار الزاوية، ومركز الحظوظ المتساوية، ومناخ الرِّفْق السارية، وحاضرة تامسنا، حَيْثُ مجْلِس قاضيها، وتشاجر ساخطها وراضيها، وحمام متوضيها، دشار كَبِير، يَأْكُل من هوى وَيشْرب من بير، فقد النضارة، وَعدم مرافق الحضارة، إِلَّا أَنه على الاختزان أَمِين، ولحفظ الْحُبُوب ضمين، مَا لم تعث شمال للْفَسَاد وَيَمِين، قد اتخذ بِهِ مَسْجِد، شان النَّقْص من مناره، لقُصُور درهمه ودنيره، فمنظره شنيع، وحماه غير منيع، بتنا بِهِ فِي كنف شَاهده الْعدْل، فَصم عَن العذل، وترفع عَن خلق الْبَدَل، وأنشدته من الْغَد:
(مَاذَا لَقينَا بماغوس من اللَّفْظ
…
لَيْلًا من خرس الْأَجْرَاس وَالشّرط)
(وَمن رداة مَاء لَا يسوغ لنا
…
شراب جرعته إِلَّا على الشطط)
(وَمن لُغَات حوالينا مبربرة
…
كأننا بِبِلَاد الزنج والنبط)
(جرد إِلَّا شجرات نستظل بهَا
…
وَلَا أنس يربح النَّفس من قنط)
(منارها قعد الْبَانِي لنصبته
…
فَلَا تُشِير إِلَيْهِ كف مغتبط)
(كَأَنَّهُ قيشة جَاءُوا لفلقها
…
بخاتن قطّ مِنْهَا النّصْف عَن غلط)
(لَكِن فَاضل كتاب الشُّرُوط بهَا
…
بحي أبر فَتى للفضل مشترط)
(أَحْيَا بهَا الْأنس يحيى بعد وحشتها
…
وناب عَن حلَّة من ذَلِك النمط)
ورحلنا من الْغَد عَن شكر لقراه، وَصرف الركب إِلَى محلّة سُفْيَان سراه،
فسرنا نَؤُم حلَّة سُفْيَان وملاعب الرعيان بَين خيام قد استدارت كالرذائل، واشتملت على الولائد والعقائل، ودثر ركبت الهضاب بأخصاصها، ومالت الوهاد بنهمها وخلاصها، يسمح أَهلهَا بِاللَّبنِ الحامض بعد مَا نزع جبنه وزبده، وترجح للراغب فِيهِ زهده، وَوجدنَا الطَّاعُون فِي بُيُوتهم، قد نزل واحتجز مِنْهُم الْكثير إِلَى الْقُبُور وَاعْتَزل، وبقر وبزل، واحتجن واختزل، فَلَا تبصر إِلَّا مَيتا يخرج، وصراخا يرفع، وعويلا بِحَيْثُ لَا ينفع، فعفنا الهجوم، وألفنا الوجوم، وتراوغنا عَن الْعمرَان، وَسَأَلنَا الله السَّلامَة من معرة ذَلِك الْقرَان، وركضنا نبغي اللحاق بالفرج، حَيْثُ مخيم شيخ الْقَبِيلَة، ونروم الْمبيت بالمنزلة غير الوبيلة وَقلت:
(ترى لهَذَا السّير من مُنْتَهى
…
بِنَاء أَعْضَاء من بِهِ قدوها)
(قَالُوا نُرِيد البرح قلت ارْجعُوا
…
عَن سهوكم قد جرت براح السها)
فَزَالَتْ الشَّمْس ومالت ثمَّ سَالَتْ، وانهارت فِي حجر الْمغرب وانهالت، وَبعد لأي مَا بلغنَا، وَمن الكد فَرغْنَا، ومنحة الرَّاحَة تسوغنا. ونزلنا بِإِزَاءِ خيام استدارت فِي سَنَام، قد اشتبكت حبالها، وتراصت جبالها، مَدَائِن دورها شعر، ووقودها بعر، وسورها سدر، وبقلها لَا تَخْلُو مِنْهُ قدر، قد جَاوَزت بركا ريانة، ومنازل بالأمم ملآنة، ومروجا مرقومة الطرر وبطاحا معضوضة الكور، وبادر الشَّيْخ فَرَحَّبَ، وتبسط وتسحب، رجل قد اكتمل، وعَلى الوخط اشْتَمَل، تدل مِنْهُ المنابشة على نبل تَحت جمامه، وتنشق مِنْهُ كمامه الفهامة عَن فهامة، وَلم يقصر عَن طَعَام نظيف، واحتفال مضيف. وَركب لوداعنا فِي مركب لجب، غير محجز وَلَا محتجب، وَسَأَلَ عَن الطية، ومناخ المطية، قُلْنَا الْمنزل الْأَثِير، من حلَّة أبي كثير، فَهُوَ محركات الرحلة، وأوضح مَذَاهِب تِلْكَ النحلة،
فَوكل بلحظنا عينه، وَقسم المرحلة بَيْننَا وَبَينه، وأنزلنا مرحلة مهْدي بن مُوسَى، وَقد امتدت إِلَيْهَا أنامل البوسي، فانتبذنا عَن جوارها، وأصحرنا عَن قورة دوارها، وَلم يجد صاحبنا فِيهَا مرغبا لجوده الَّذِي بذله، وَلَا قبولا لقراه الَّذِي عجله، واجتنبناه اجتنابا أخجله، وبتنا فِي وقاية ضفى جناحها، إِلَى، إِلَى أَن اشتعل فِي نجمه اللَّيْل صباحها، فركضنا تَحت رواق ضباب سَاتِر، ورذاذة متناثر، لم تزل الشَّمْس ترشقه، والرياح تستكشفه، حَتَّى تقشع، وَبَان الْأَهْل من البلقع، فتعرفنا فِي بعض طريقنا، أَن أَبَا مثوانا، وَحَام قرانا، يجمع بَيْننَا وَبَينه الطَّرِيق، ويلتقي الْفَرِيق بالفريق، لمجمع بَين الْعَرَب مَعْقُود، وَرَأى مشهود، فَقُلْنَا تَعْجِيل اجْتِمَاع، وحظ إبصار بعد حَظّ إسماع، ومزيد استكثار بِأبي كثير واستمتاع، وعَلى بريد تراءت الْخَيل تسل الأباطح بأعرافها وَتَأْخُذ الإجراء بأطرافها، وخالفت بَيْننَا بنيات الطَّرِيق باشتباهها. فنزلنا بِبَعْض الْجِهَات على مياهها، وخاطبته بِمَا نَصه:
(مبارك مَا قدمت سُفْيَان رَغْبَة
…
وَلَا خوف تَقْصِير وَلَا سوء سيرة)
(وَمَا نظرة مني إِلَيْك أعدهَا
…
سوى منَّة لله فِي
…
كَثِيرَة)
(وَإِن كَانَ مَا لاقيت قبلك الجما
…
فَأَنت على التَّحْقِيق شمس منيرة)
(وَرب صَلَاة قدم النَّفْل قبلهَا
…
وتشرب من قبل الثَّرِيد حريرة)
ثمَّ كَانَ النُّزُول بالزاوية قبر زِمَام وَأبي ذمام، ورعى اهتمام دشار وَجَدْنَاهُ، وَالْحَمْد لله محتويا على صِحَة، محجوبا عَن خطوب حواليه ملحة، رحب بِنَا أَهله، واسهل إِلَيْنَا رحبه وسهله، واقتدى فِينَا بِمذهب الشَّيْخ، فتاه وكهله، وَلما اصبح بكرنا محلته الآهلة، وَذكرنَا، وَالشَّيْء يذكر بضده بأَهْله، ونظرنا إِلَى خيام وحلل، وجديد وطلل، ومبارك ومعاطن، ومسكن يعرف بأصالة قاطن
تيط أقوران، وَمَا أَدْرَاك مَا تيط، حَيْثُ الجناب الغبيط الْبشر والبسيط، وَالْبَحْر الْمُحِيط، تَفَجَّرَتْ بهَا للزلازل عين كَمَا سَالَ لجين، أَو صقل صفحة السَّيْف قين، وتسنم ذرْوَة الْبيُوت مِنْهَا قصر مشيد، أثلع مِنْهُ جيد، وأغرى بِهِ تحكيم وتنجيد، ودارت الْبيُوت، كَمَا نسج العنكبوت، واتجهت إِلَيْهِ الطّرق والسموت، ونجح بإزائه السُّوق، وَبَان من فجر ساكنها البسوق. وَقلت:
(نزلنَا حلَّة الْخَلْط الْكِرَام
…
بأخت الرُّكْن والبلد الْحَرَام)
(وَمن يَك من ضيوف أبي كَبِير
…
غَنِي بالفعال عَن الْكَلَام)
(وَإِن بيوته لَكمَا سمعنَا
…
بيُوت الْخَيل وَالنعَم الجسام)
(تظللها الفوارس بالعوالي
…
وتفرشها الولائد بِالطَّعَامِ)
إِلَى غير هَذَا من الشّعْر، وَينظر فِي مَوْضِعه.
وَمن ذَلِك مَا صدر عني من المقامات فِي هَذَا الْغَرَض
حدث من ينظم فرائد الْأَخْبَار فِي سلك قصصه، ويدوس حبات الطّرق بأخمصه، ويطارد شوارد الْكَلَام، حَتَّى يصبح من قنصه، قَالَ: بَيْنَمَا أَنا فِي بعض الطّرق، وَقد وصلت الهاجرة، وتبرجت الْمَفَازَة الْفَاجِرَة، وَسورَة القيظ تكَاد تميز من الغيظ، وَشهر ناجر، قد أَخذ بالحناجر، وَالشَّمْس قد ركبت سَنَام خطّ الزَّوَال، ومدرجة الصِّبَا قد ضنت النوال، وصمتت عَن السُّؤَال، وَقد تشاجرت الجنادب، وَاخْتلفت لقيانها الولائم والمآدب، وَتَبَاعَدَتْ من الفضا الْأُخَر والمناكب، ومدت نَسِيج الْآل العناكب، والطية تطفف فِي الْمسير، والمطية قد سميت الذرع والتكسير، والظل مرامه من العسير، وَالْمَاء بِمَنْزِلَة الإكسير، إِذْ رفعت لي على الْبعد سرحه فِي فريدة عَن اللَّذَّات، والوشائج المولدات، فَهِيَ فِي الْمُجْمل
علم، وللركائب ركن مستلم، نستامه كَأَنَّهَا فِي جلد اليباب شامة، فملت إِلَى سمتها وانحرفت، وثنيت الْعَنَان نَحْوهَا وصرفت، فَمَا كَانَ إِلَّا فوَاق حرف، لَا بل ارتداد طرف حَتَّى عشيت مِنْهَا عقيلة فلاة، وخدر سعلاة، ذَات عَمُود سَام، وطنب يكتنف ببني حام وسام، ظللت من الأَرْض حجرا مدحوا، ومهرقا من حُرُوف الْمهْر ممحوا، ودمثا سهلا، ورحبا وَأهلا، وشيخا وكهلا، وعلما وجهلا، يَتَخَلَّل سَمَّاهَا الخضراء شهبان أهلة، وَتثبت بأهدابها أَسْنَان وأعنة، وتموج فِي ظلها إنس وجنة، كَأَنَّمَا ضربت الصَّخْرَة الصما بعصاها، فأطاعها العذب الْفُرَات وَمَا عصاها، وانساب بَين يَديهَا ثعبان تراع لَهُ وهاد وكثبان ينشب حصاه عَن حَصى تغلط الْعَارِف من الصيارف، وتوهم الأملياء انتهاب عقودها، لَا تَسْتَطِيع الْجَوَارِح مصابرة خصره وَلَا يماثله الشهد بمجاج معتصره، فحييت الْجمع بِأَحْسَن تحياته، واتحفت الرّوح من ذَلِك العذب البرود تحياته، وتلوت كَذَلِك، يحيى الله الْمَوْتَى ويريكم آيَاته، وَقلت حياك الله من خميلة، وفاتنة جميلَة، وتمثلت بقول ابْن قَاضِي مَيْلَة:
(وقانا وقدة الرمضاء روض
…
وَقَاه فضاعف الظل العميم)
(فصرنا نَحوه فحنا علينا
…
حنو الوالدات على الْيَتِيم)
(يُرَاعى الشَّمْس أَنا قابلتنا
…
فيحجبها وَيَأْذَن للنسيم)
(وَسَقَانَا على ظمإ زلالا
…
ألذ من الشَّرَاب مَعَ الْكَرِيم)
(تردع حَصَاة حَالية الغواني
…
فتلمس جَانب العقد النظيم)
وَكَانَ فِي جملَة من اغتنم المقيل، واستنصر على عَدو الظمإ ذَلِك العضب الصَّقِيل، وألم بِالنَّوْمِ الْخَفِيف على الرحل الثقيل، لايث عمَّة على همة، ومستظهر بوفر وَذمَّة، ورعى أذمة، قد عَبث الوخط مِنْهُ بلمة، بَين يَدَيْهِ عتاق قَود، وَعبيد
تحسبهم أيقاظا وهم رقود، فاشرأب عِنْد سَماع إنشادي كَمَا يشرئب للريم، وهزت حميا الْأَدَب مِنْهُ عطف كريم، وَصَاح بِصَوْت جهير، يَنْبَنِي عَن منصب شهير، من هَذَا الطارق، وَمَتى أومض هَذَا البارق، وَإِنِّي لأنس مخيلة غير مخيلة، وَأنْظر إِلَى مَظَنَّة غير ذَات ظنة، ليدن مني جوارك، ويرع إِن شِئْت حوارك، ويتفتح نوارك، وتتألق أنوارك، وَلم يزل يحاجي ويسمل، ويرعى فَلَا يهمل، فَلَمَّا دَنَوْت من مهاده، وركضت فِي رَبًّا الحَدِيث ووهاده، وأصبت من زَاد طَرِيقه، وانخرطت فِي فريقه، وأطهر بني بِأَحَادِيث الغريبة وتشريقه، سفر مِنْهُ الِاخْتِيَار عَن نجار هاشمي، وكرم حاتمي، وَدَار فاسي، ومنصب رياسي، وأصل عراقي، وَفرع بَين، نَفِيس ونفيسه راقي. وَلما انخفض قرن الغزالة، ولان طبع الهوا من بعد الجزالة، وَلم يبْق من عمر الْيَوْم إِلَّا الْقَلِيل، ورقية النسيم تَتَرَدَّد على الْأَصِيل العليل، وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ، ويسلك مَسْلَك أمسه، وَالْمغْرب يبتلع قرصة شمسه، قمنا نقضي الدّين، ونقلد رقيم العذار كل أسيل الْخَدين، كريم الجدين، ونشيد المناطق على جميل كل ماضي الحدين، ونغتنم ثَانِي الأبردين، فَرفعت الرّحال من فَوق الظُّهُور، وسرنا بِنَصّ السّير على الْمَذْهَب الْمَشْهُور، وَتَركنَا البنيات إِلَى جادة الْجُمْهُور - وَقلت أَيهَا الرفيق الْبر الصَّحَابَة الْأَغَر السحابة، إِن الشقة بعيدَة، وَالْمَشَقَّة مبدية معيدة، وَلَا يستعان على المراحل إِذا اشتطت واستطالت، وليالي السرى إِذا قمطت وطالت، إِلَّا بتناوب الْأَخْبَار المنقولة، والآداب المهذبة المعقولة، فَقَالَ أثر الكامن، وأزجر الميامن، وابغ الْفلك الثَّامِن، واطلب غَرِيم الغرائب وَأَنا الضَّامِن: قلت افسح لي مجَال غرضك واشرح لي معنى جوهرك وعرضك، وطية سفرك وعودك بظفرك. فَقَالَ أَنا كَالشَّمْسِ أجوب هَذِه الْمنَازل مرّة فِي كل سنة، وأحصى كل سَيِّئَة وحسنة، وأطوى الغلاة، وأبهرج الْوُلَاة، فهم يرقبون تِلْكَ النّوبَة، ويتوقعون الأوبة، ويستعدون لخُرُوج الدَّابَّة الَّتِي
تكلمهم بالإقلاع وَالتَّوْبَة، فأسعط الأنوف، وأنتزع حَتَّى الشنوف، وَأحكم لساني فِيمَن ينساني، وأجود بِظِل ينساني، من بسر إنساني، وأداول بَين إساءتي، وإحساني وأتصدى للهدية الودية، وآنف من الْعَطِيَّة غير البطية. وأوسع الْبَخِيل هجرا، وأقرط من كرم نجرا، ووضح فجرا، قَالَ لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا:
(يَا أهل بَيت رَسُول الله حبكم
…
فرض من الله فِي الْقُرْآن أنزلهُ)
(يكفيكم من عَظِيم الْفَخر أَنكُمْ
…
من لم يصل عَلَيْكُم لَا صَلَاة لَهُ)
فَلَا أَزَال أطلق عنان الصولة فِي جو الجولة، مستظهرا بوسيلة الْبَيْت ومنشور الدولة، فأسلق الخامل فِي مرقة النبية، وَأحكم للشبيه بِحكم الشبيه، وَلَا أقبل عذر الْبَغي، وَلَو شغلته جَنَازَة أَبِيه، أهجم هجوم السَّيْل بالنيل، وَأجر على الْبيُوت فضول الذيل، وأتقلب تقلب الْفلك بَين الاسْتقَامَة والميل، وأزن كل بضَاعَة فأبخس فِي الْوَزْن أَو أطففه فِي الْكَيْل، وأغرر غرَّة الصَّباح بغزر الْخَيل، وَلَو على حَيّ عَامر بن طفيل، وأرحل عَن الْحلَّة وَقد همدت بعد ارتجاجها وسكنت قساطل عجاجها، وَصحت أذين دجاجها، وفليت عَن الخزين روس مجاجها، وأعود والصرة لَا يجْتَمع مغلاقها، والبدرة لَا يقلها معلاقها، والعياب يصعب مَعهَا الإياب، وتبرز من خلال أستارها الثِّيَاب، وَالْخَيْل تموج فِي الأرسان، وتختال فِي السُّرُوج المحلاة والجلال الحسان، قلت لعمري لقد اتَّسع نطاق الْكَلَام، وَطَالَ مدى التِّلَاوَة بَين الْإِمَامَة وَالسَّلَام، فَأَعْرض لي الْقَوْم عرضا، وصف لي الْمَوَارِد غمرا وبرضا، وميز الهمم سما وأرضا، وأخبط الْعضَاة بعصاك حَتَّى ترْضى، فقهقه قهقهة الشقشاق، وتأوه تأوه العشاق، وَكَأَنَّهَا كَانَت حَاجَة فِي نَفسه قَضَاهَا، وعزيمة يتجاذبها الكسل أمضاها، فسام نصاله وانتضاها، وَقَالَ خذهم بالكلاليب، وأجنبهم بِحجر الجلاليب، وعث عيث الغزالة وشبيب،
فِي كل غرفَة وسبيب، وابدأ بِمن تُرِيدُ، وَأرْسل شهَاب فكرك خلف كل شَيْطَان مُرِيد، وَمن غَابَ عَنْك فخيل الْبَرِيد. قلت الحضرة وجملتها، والمزرعة الْعُظْمَى ونباتها، وافتتح المراسم بِمُحَمد بن الْقَاسِم. فَقَالَ شيخ موقر والمنصب مَا لم يصنه مخظر، مُدع على رتب الْخدمَة، قديم الاصطناع وَالنعْمَة، مؤتمن على الْحساب، منتسب إِلَى الْأَمَانَة أتم الانتساب، نبيه الْعقار والاكتساب، مكرم لِذَوي الأحساب، قلت، ففلان، قَالَ فَارس زِمَام، ومتمسك بذمام، ومصل خلف إِمَام، يناقش ويدقق، ويعاود ويحقق، وَهُوَ عَن الصبوح يرفق، فغريمه مُتْعب مهمى عسر وصعب، واستوعب: كعصفورة فِي كف طِفْل يسومها ترود حِيَاض الْمَوْت، والطفل يلْعَب، وعَلى الرُّتْبَة الشماء، والخلق اللطيفة كَالْمَاءِ. فبينه وَبَين رَيْحَانَة الكرما، وشهاب الظلما، مَا بَين الْحُرُوف والأسما، لَا بل الأَرْض والسما:
(وَقد يُسمى سما كل مُرْتَفع
…
وَإِنَّمَا الْفضل حَيْثُ الشَّمْس وَالْقَمَر)
قلت: قَالَ خدوم، وقاضي سدوم، مَوْجُود مَعْدُوم، يخيل بِالنَّبلِ، ويحيد عَن السبل، ويخلط أَرضًا وسما، ومسميات وَأَسْمَاء، وَنَارًا وَمَا، ويحسبه الظمآن مَا. قلت، قَالَ شختور يسبح، وَفصل يذبح، وتاجر فِي كل نفس يربح: انسحب عَلَيْهِ الْقبُول من لدن صباه، وَصَاح بِهِ الجو فلباه، شَأْنه الدَّهْر غمز وإيثاره، ونداوة وَبشَارَة، محظوظ مجدود، وَعقد حرصه مشدود، وَهُوَ فِي الْكَفَاءَة مَعْدُود، قلت، فَقَالَ، فارة، وَقَضَاء وَكَفَّارَة، وَبَقِيَّة مِمَّا ترك آل مُوسَى وَآل هرون تَحت غفاره، بعوضة فِي الْأَذَان، تغني عَن الاستيذان، ويطرق حَتَّى بهنات الْإِقَامَة وَالْأَذَان، قَادر على تلفيق الثُّبُوت، وَحمل الْيَهُود على نِسْيَان
السبوت، يرى الْحِكْمَة خبيئة جيبه، ويشتغل بعيوب النَّاس عَن عَيبه، قلت: قَالَ أُلُوف ودود، أنوف عَن الْخبث والمكيدة صدود، مَحْسُوب من الأسرياء مَعْدُود كثير [الشنشنة] والأريحية، مبذول الْمُشَاركَة شَائِع التَّحِيَّة، بَادِي النبل والطرب، ينظم الأبيات، ويوضح من الْفضل الْغرَر والشيات.
(عَلَيْك بكاتب لبق ذكي
…
أديب فِي شمائله حرارة)
(تُشِير لَهُ بلحظك من بعيد
…
فيفهم طرفه عَنْك الْإِشَارَة)
قلت، فالوالي ابْن الربيب، فَشد خيشومه، واستدفع بيمن الله شومة، ثمَّ قَالَ الرَّوْض وَالْأنف، تحْتَاج إِلَى الكنف. إعلم أَنِّي على طول تجريبي، وتشريقي وتغريبي، لم أعثر لَهُ على شَبيه، فلعنة الله عَلَيْهِ وعَلى أَبِيه، الْجَهْل والرعونة، والطلعة الملعونة، والحيا المسلوب، وَالصَّبْر الْمَهْزُوم عِنْد الشَّهَوَات المغلوب، والخيانة الَّتِي يعرفهَا الْوُجُود، وَالْيَد الَّتِي فِي غير الْخَنَا لَا تجود، نَار الجباية، الَّتِي تَأْكُل فِي اللحظة الْوَاحِدَة جبالها، وخنجر الْأَمَانَة الَّتِي يقد جبالها المارق على النكال وَالْعِقَاب، المخل بِالْأَلْقَابِ، الخامل الْبَيْت والهمة، الْكثير الذَّم، الْقَلِيل الذِّمَّة، وَالله در أبي مُحَمَّد العلكوم، ذِي الْعَارِض المركوم، حَيْثُ يَقُول:
(لأبي الْفضل ابْن الربيب خِصَال
…
شهِدت بالوفا وَالْفضل فِيهِ)
(سَاقِط الأَصْل عاهر الْفرج مذ
…
كَانَ سَفِيه قد بذ سَفِيه)
(ذِي محيا من الْحيَاء عديم
…
وَقفا مختل وشكل كريه)
(سلحفاة قد عَمت وأجران
…
فِي رِدَاء موشع يلويه)
(مُجمل السرج مِنْهُ ذُو رجيع
…
يعرف النَّاس ذوقه من فِيهِ)
(حجر الله جوده وندا كفيه
…
إِلَّا عَن أسود يشفيه)
(فَهُوَ لَا يستكفه من بلَاء
…
ومجابي الْبِلَاد لَا تكفيه)
(قلت للنَّاس وَالسُّؤَال شفا
…
وَهُوَ قدما شَأْن النَّبِيل النبيه)
(لم يدعى بِابْن الربيب فَقَالُوا
…
كَانَ يَزْنِي بِأُمِّهِ ابْن أَبِيه)
(أبعد الله ذَلِك الْوَجْه من
…
كل مقَام بر وَقدر نبيه)
(وَكَأَنِّي بِهِ وَقد بشرت مِنْهُ
…
يَد الذل غلظة التنويه)
(تترع الْعِزّ مِنْهُ سخطَة رب
…
لم يدنه يَوْمًا يرضيه)
(وأهالت مِنْهُ السِّيَاط كثيبا
…
واكمت رمله ريَاح التيه)
(ورست مِنْهُ فِي الأداهم رجل
…
ودعتها نضارة الترفيه)
(كَانَ عارا على الْوُجُود وَمن
…
يبْلى بِعَارٍ كَيفَ لَا يخفيه)
(عَادَة الله كلما اعتز بَاغ
…
بضلال فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ)
قلت، ففلان، فَقَالَ شعلة من ضرام، ودمل من أورام، وَلَا بُد لكل شَيْء من انصرام.
سعيد الدّين خير من أَبِيه، وَطرح الْكَلْب خير من سعيد.
قلت، ففلان. قَالَ صَاحب هدي وسمت، وَطَرِيقَة غير ذِي عوج وَلَا أمت، واشتمال من الطَّهَارَة والتفات، متقلد من مَحل ولَايَته فِي جنَّات ألفاف، مَعَ مهيب عدل وإنصاف، معتدل الْجُود، وَاضع إِيَّاه فِي ضرورات الْوُجُود، كثير الضَّيْف، مطعم فِي الشتا والصيف، أَمن جَاره من الحيف، يرْعَى الْوَسِيلَة، فَلَا ينساها، ويصل مغدى الصنيعة بممساها، فَإِذا ذكرت الْخِيَار فاذكره فِيهَا، أَو حسب الْولَايَة بِهِ فخرا ويكفيها: لَا يسمع الهجر فِي مجالسه، وَلَا تضم الْخَنَا سقائفه.
قلت، وَهُوَ لعمري سَلس القياد، وحقيبة جباد، فَلم يفه ببنت شفه، لَا أدرى أم أَنفه.
قلت، فمشربه، قَالَ أنهد، وَفِي غير الْكفَّار لَا تجهد، وَدعنَا من الحضيض الأوهد، فَالْأَمْر أزهد، وَلَا تعد إِلَى مثلهَا، وَالله يشْهد. قلت، مُقيم رسم، وممتاز من الشُّهْرَة بوسم، وَرجل عَاقل، وجال صفحات الْبر وصاقل، ومتماسك عَن الْغَايَة متثاقل، لَا بفصاحة سحبان، وَلَا بعي بَاقِل، يروقك لقاؤه، ويعجبك خوانه وسقاإه (؟) ، ويثنى على صلته أصدقاؤه. قلت فأخوه، قَالَ درة بَيتهمْ، وغرة كميتهم، ومصباح زيتهم، منزلَة منزع جفان، ومحط ضيفان، يركب المطية، ويمهد الأريكة ي الوطية، وَيتبع بالعذر أثر الْعَطِيَّة غير البطية، ويجدد الْعَمَل بِالْعِصَابَةِ البرمكية، وأخبارهم المحكية. قلت، قَالَ كَوْكَب سحر، وكريم قرى وَنحر، وأبهت وسحر، ماشيت من تَرْتِيب وَتَقْدِير، خليق بِالْبرِّ جدير، وَروض وغدير، وخورنق وسدير، هذب الْأَدَب خُدَّامه، وأطاب الاحتفال خبزه وإدامه، إِلَى عطا يحْسب الأمل، ويثقل النَّاقة والجمل، عضه الدَّهْر فَمَا عض من طباعه، واستأثر بِمَالِه ورباعه، وَتَركه فريسة بَين سباعه، فَمَا حط من همته، وَلَا قصر من طباعه:
…
وطالما أصلى الْيَاقُوت جمر غضا، ثمَّ انطفأ الْجَمْر، والياقوت ياقوت.
قلت، قَالَ، أَمِين وَذخر ثمين، وشمال للنصيحة وَيَمِين، إِلَى صدر سليم، وتعويض وَتَسْلِيم، وسرو عميم، ومرعى للفضل حميم، يقنع بالمصاصة، ويؤثر على الْخَصَاصَة، ويحافظ على القلامة والقصاصة. قلت، قَالَ بر وَفِي [يذوب حَيَاء، ويتهالك إبلاغا فِي الْبر وإعياء] . قلت، قَالَ لفظ بِلَا معنى، وَشَجر بِلَا مجنى، مروته سقيمة، وسراوته عقيمة، مَدين الحرمان لَهُ خدين، لَا يحمد قراه، وَلَا يمسك البلالة ثراه، وَإِن تسمع بالمعيدي لَا أَن ترَاهُ. قلت، قَالَ، حمول للكلفة كثير الألفة حمَار قَلِيل العلفة وطيه، وَهُوَ قعُود ذَلُول ومطية. قلت
فَقَالَ سُورَة الْفضل والكمال، وَصُورَة الْحَلَال وَالْجمال، وَسيف الجباية وَالْمَال. وَحج العفاة وكعبة الآمال، العف الْإِزَار، ذُو الْمَوَاهِب الغزار. مَا شيت من حَيا ووقار، واهتضام للعرض الْأَدْنَى واحتقار، يهب الجزيل، وَيكرم النزيل، وَيحكم التَّنْزِيل، أقسم لَو سبق الزَّمن زَمَانه، وانتظم فِي سلك العقد المتقادم حمانه، لما كَانَ لكعب من علو كَعْب، وَلَا ساعد ابْن سعدي ذكر، وَلَا أعمل فِي مدح هرم بن سِنَان فكر، ولطوى حَاتِم طي وَلم تَأْخُذهُ يَد النشر إِلَى الْحَشْر، وَلَا أعملت فِي أخباره يَد الإضراب والبشر، فَهُوَ الْعَامِل الْعَالم، والعادل الَّذِي تكف بِهِ الْمَظَالِم، وَالْبَحْر الَّذِي من دونه بلالة والكفاية مَا سواهَا علالة.
(مدحت الورى قبله كَاذِبًا
…
وَمَا صدق الْفجْر حَتَّى كذب)
إِن طرقت منزله هش ورحب، وتبسط جالبا للأنس وتسحب، وَحكم كَمَاله، وَألقى قبل الوسادة مَاله، فَهُوَ حَسَنَة الدولة الغرا، وطراز حلتها الشيرا: وحديثها الْمَنْقُول، وصفيحها المصقول، وَللَّه در الَّذِي يَقُول:
(سلني عَن النّدب وَإِلَى الْوُلَاة
…
فَإِنِّي على مدحه قَادر)
(مخدرة فِي سَبِيل الحيا وَيَوْم
…
الوغى أَسد خادر)
وَلما بلغ إِلَى هَذَا الْحَد، كَأَنَّمَا كَانَ الحَدِيث ثوبا على جَسَد المرحلة مقدودا، وعددا مَعَ لياليها المحسوبة معدودا، أَتَى للسير مِنْهُ الْقَوَاعِد والبروق، وانتهب عمر اللَّيْل إِلَى الشروق، وَكَانَ آخِره بِبَاب المحروق، وَجعل كل وَجهه إِلَى ذره، وَعَاد إِلَى مركزه عقب مَدَاره، وعلق بقلبي كَلَامه، فاستقر فِي احتزانه، وَأَنا أزن الْقَوْم بميزانه، وَالله يتغمد مَا يُوَافقهُ العَبْد من هفوة لِسَانه، ويغطى الْإِسَاءَة بإحسانه.