الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(واكتم حَدِيثك جاهدا
…
شمت الْمُحدث أَو تحسر)
(وَالنَّاس آنِية الزّجاج
…
إِذا عثرت بِهِ تكسر)
(لَا تعدم التَّقْوَى فَمن عدم
…
التقى فِي النَّاس أعْسر)
(وَإِذا امرء خسر الْإِلَه
…
فَلَيْسَ شَيْء مِنْهُ أخسر)
[ثمَّ ضرب جنب الْحمار، وَاخْتَلَطَ فِي الغمار، وَتَرَكَنِي اتقرى الْآثَار، وكل نظم فَإلَى انتثار] .
وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي السياسة وَكَانَ إملاؤها فِي لَيْلَة وَاحِدَة
حدث من امتاز بِاعْتِبَار الْأَخْبَار، وَحَازَ دَرَجَة الاشتهار، بِنَقْل حوادث اللَّيْل وَالنَّهَار، وولج بَين الكمائم والأزهار، وتلطف لخجل الْورْد من تَبَسم البهار.
قَالَ، سهر الرشيد لَيْلَة، وَقد مَال فِي هجر النَّبِيذ مَيْلَة، وَجهد ندماؤه فِي جلب رَاحَته، وإلمام النّوم بساحته، فشحت عهادهم، وَلم يغن اجتهادهم. فَقَالَ، اذْهَبُوا إِلَى طرق سَمَّاهَا ورسمها، وَأُمَّهَات قسمهَا، فَمن عثرتم عَلَيْهِ من طَارق ليل، أَو غثاء سيل، أَو ساحب ذيل، فبلغوه، والأمنة سوغوه، واستدعوه، وَلَا تَدعُوهُ. فطاروا عجالا، وَتَفَرَّقُوا ركبانا ورجالا، فَلم يكن إِلَّا ارتداد طرف، أَو فوَاق حرف، وَأتوا بِالْغَنِيمَةِ الَّتِي اكتسحوها، والبضاعة الَّتِي ربحوها، يتوسطهم الْأَشْعَث الأغبر، واللج الَّذِي لَا يعير، شيخ طَوِيل الْقَامَة، ظَاهر الاسْتقَامَة، سبلته مشمطة، وعَلى أَنفه من الْقبْح مطة، وَعَلِيهِ ثوب مرقوع، لطير الْخرق عَلَيْهِ وُقُوع، يهينم بِذكر مسموع، وينبي عَن وَقت مَجْمُوع. فَلَمَّا مثل سلم، وَمَا نبس بعْدهَا وَلَا تكلم. فَأَشَارَ إِلَيْهِ فَقعدَ، بعد أَن انشمر وابتعد، وَجلسَ، فَمَا اسْترق النّظر وَلَا اختلس، إِنَّمَا حَرَكَة فكره، معقودة بزمام ذكره، ولحظات اعْتِبَاره، فِي تفاصيل أخباره. فَابْتَدَرَهُ الرشيد سَائِلًا، وانحرف إِلَيْهِ مائلا، وَقَالَ مِمَّن الرجل، فَقَالَ فَارسي الأَصْل، أعجمي الْجِنْس، عَرَبِيّ الْفَصْل. قَالَ بلدك، وَأهْلك وولدك. قَالَ أما الْوَلَد، فولد الدِّيوَان، وَأما الْبَلَد، فمدينة الإيوان. قَالَ النحلة وَمَا أعملت إِلَيْهِ الرحلة، قَالَ [أما الرحلة فالاعتبار، وَأما النحلة فالأمور الْكِبَار] قَالَ، فنك، الَّذِي اشْتَمَل علية دنك، فَقَالَ، الْحِكْمَة فني الَّذِي جعلته أثيرا، وأضجعت مِنْهُ فراشا وثيرا، وَسُبْحَان الَّذِي يَقُول. وَمن يُؤْت الْحِكْمَة، فقد أُوتِيَ خيرا كثيرا، وَمَا سوى ذَلِك فتبيع، ولي فِيهِ مصطاف وتربيع. قَالَ فتعاضد جذل الرشيد وتوفر، وكأنما غشى وَجهه قِطْعَة
من الصُّبْح إِذا أَسْفر، وَقَالَ، مَا رَأَيْت كالليلة أجمع لأمل شارد، وأنعم بمؤانسة وَارِد. يَا هَذَا إِنِّي سَائِلك، وَلنْ تخيب بعد وسائلك، فَأَخْبرنِي بِمَا عنْدك فِي هَذَا الْأَمر الَّذِي بلينا بِحمْل أعبائه، ومنينا بمراوضة آبَائِهِ. فَقَالَ هَذَا الْأَمر قلادة ثَقيلَة، وَمن خطة الْعَجز مستقيلة، ومفتقرة لسعة الذرع، وربط السياسة المدنية بِالشَّرْعِ، يُفْسِدهَا الْحلم فِي غير مَحَله، [وَيكون ذَرِيعَة إِلَى حلّه] ويصلحها مُقَابلَة الشكل بشكله:
(وَمن لم يكن سبعا آكلا
…
تداعت سِبَاع إِلَى أكله)
فَقَالَ الْملك، أجملت ففصل، وبريت فنصل، [وكلت فأوصل] وانثر الْحبّ لمن يحوصل، واقسم السياسة فنونا، وَاجعَل لكل لقب قانونا، وابدأ بالرعية، وشروطها المرعية. فَقَالَ: رعيتك ودائع الله قبلك، ومرآة الْعدْل الَّذِي عَلَيْهِ جبلك، وَلَا تصل إِلَى ضبطهم [إِلَّا بإعانته] الَّتِي وهب لَك. وَأفضل مَا استدعيت بِهِ عونك فيهم، وكفايته الَّتِي تكفيهم، تَقْوِيم نَفسك عِنْد قصد تقويمهم، ورضاك بالسهر لتنويمهم، [وحراسة كهلهم ورضيعهم، والترفع عَن تضيعهم] ، وَأخذ كل طبقَة بِمَا عَلَيْهَا، وَمَالهَا، أخذا يحوط مَالهَا، ويحفظ عَلَيْهَا كمالها، وبقصر عَن غير الْوَاجِب آمالها، حَتَّى تستشعر عَلَيْهَا رأفتك وحنانك، وتعرف أوساطها فِي [النصب امتنانك] وتحذر سفلتها سنانك، وحظر على كل طبقَة مِنْهَا، أَن تتعدى طورها، أَو تخَالف دورها، أَو تجَاوز بِأَمْر طَاعَتك فورها. وسد فِيهَا سبل الذريعة، واقصر جَمِيعهَا على خدمَة الْملك بِمُوجب الشَّرِيعَة،
وامنع أغنياءها من البطر والبطالة، وَالنَّظَر فِي شُبُهَات الدّين بالتمشدق والإطالة، وَليقل فِيمَا شجر بَين السّلف كَلَامهَا، وترفض مَا ينبز بِهِ أعلامها، فَإِن ذَلِك يسْقط الْحُقُوق، ويرتب العقوق. وامنعهم من فحش الْحِرْص والشره، وتعاهدهم بالمواعظ الَّتِي تجلوا البصائر من الموه، واحملهم من الِاجْتِهَاد فِي الْعِمَارَة على أحسن الْمذَاهب، وانههم عَن التحاسد على الْمَوَاهِب، ورضهم على الْإِنْفَاق بِقدر الْحَال، والتعزى عَن الْفَائِت، فَرده من الْمحَال. وحذر الْبُخْل على أهل الْيَسَار، والسخاء على أولى الْإِعْسَار. وخذهم من الشَّرِيعَة بالواضح الظَّاهِر، وامنعهم من تَأْوِيلهَا منع القاهر. وَلَا تطلق لَهُم التجمع على من أَنْكَرُوا أمره فِي نواديهم، وكف عَنْهُم أكف تعديهم. وَلَا تبح لَهُم تَغْيِير مَا كرهوه بِأَيْدِيهِم. ولتكن غايتهم فِيمَا تَوَجَّهت إِلَيْهِ إبايتهم، وَنَكَصت عَن الْمُوَافقَة عَلَيْهِ رايتهم، انهاؤه إِلَى من وكلته بمصالحهم من ثقاتك، المحافظين على أوقاتك. وَقدم مِنْهُم من أمنت عَلَيْهِم مكره، وحمدت على الْإِنْصَاف شكره، وَمن كثر حياؤه مَعَ التأنيب، وقابل الهفوة باستقالة الْمُنِيب، وَمن لَا يتخطى عنْدك مَحَله الَّذِي حلّه، فَرُبمَا عمد إِلَى المبرم فَحله. وَحسن النِّيَّة لَهُم بِجهْد الِاسْتِطَاعَة، واغتفر المكاره فِي جنب حسن الطَّاعَة. وَإِن ثار جرادهم وَاخْتلف فِي طَاعَتك مُرَادهم، فتحصن لثورتهم، واثبت لفورتهم فَإِذا سَأَلُوا وسلوا، وَتَفَرَّقُوا وانسلوا، فاحتقر كثرتهم، وَلَا تقل عثرتهم] واجعلهم لما بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم نكالا، وَلَا تتْرك لَهُم على حلمك اتكالا.
ثمَّ قَالَ: والوزير الصَّالح أفضل عددك، وأوصل مددك [فَهُوَ الَّذِي] يصونك عَن الابتذال، ومباشرة الأنذال، ويثب لَك على الفرصة، وينوب فِي تجرع الغصة، واستجلاء الْقِصَّة، ويستحضر مَا نَسِيته من أمورك، ويغلب فِيهِ الرَّأْي بموافقة مأمورك، وَلَا يَسعهُ مَا تمكنك الْمُسَامحَة فِيهِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيه. وَاحْذَرْ مصادمة تياره، والتجوز فِي اخْتِيَاره، وَقدم استخارة الله فِي إيثاره، وارسل عُيُون الملاحظة فِي آثاره، وَليكن مَعْرُوف الْإِخْلَاص لدولتك، مَعْقُود الرضاء وَالْغَضَب برضاك وصولتك، زاهدا عَمَّا فِي يَديك، مؤثرا كل مَا يزلف لديك، بعيد الهمة، رَاعيا للأذمة، كَامِل الْآلَة محيطا بالإيالة، رحب الصَّدْر، رفيع الْقدر، مَعْرُوف الْبَيْت، نبيه الْحَيّ وَالْمَيِّت، مؤثرا للعدل والإصلاح، دربا بِحمْل السِّلَاح، ذَا خبْرَة بدخل المملكة وخرجها، وظهرها وسرجها، صَحِيح العقد، متحرزا من النَّقْد، جادا عِنْد لهوك، متيقظا فِي حَال سهوك، يلين عِنْد غضبك، ويصل الإسهاب بمقتضبك، قلقا من شكره دُونك وحمده، ناسبا لَك الْأَصَالَة بعمده. وَإِن أعيا عَلَيْك وجود أَكثر هَذِه الْخلال، وَسبق إِلَى نقيضها شَيْء من الاختلال، فاطلب مِنْهُ سُكُون النَّفس وهدوئها، وَأَن لَا يرى مِنْك رُتْبَة إِلَّا رأى قدره دونهَا. وتقوى الله تفضل شرف الانتساب، وَهِي للفضائل فذلكة الْحساب، وساو فِي حفظ غيبه بَين قربه ونأيه، وَاجعَل حَظه من نِعْمَتك موازيا لحظك من حسن رَأْيه، واجتنب مِنْهُم من يرى فِي نَفسه إِلَى الْملك سَبِيلا، أَو يَقُود من عيصه للاستظهار عَلَيْك قبيلا، أَو من كاثر مَالك مَاله، أَو من تقدم لعدوك اسْتِعْمَاله، أَو من سمت لسواك آماله، أَو من يعظم عَلَيْهِ إِعْرَاض
وَجهك، ويهمه نادرة نهجك، أَو من يداخل غير أحبابك، أَو من ينافس أحدا ببابك.
(وَأما الْجند) فاصرف التَّقْوِيم مِنْهُم للمقاتلة والمكايدة المخاتلة، وَاسْتَوْفِ عَلَيْهِم شَرَائِط الْخدمَة، وخذهم بالثبات للصدمة، ووف مَا أوجبت لَهُم من الجراية وَالنعْمَة، وتعاهدهم عِنْد الْغناء بالعلف والطعمة، وَلَا تكرم مِنْهُم إِلَّا من أكْرمه غناؤه، وطاب فِي الذب عَن ملتك ثَنَاؤُهُ، وَدلّ عَلَيْهِم النبهاء من خيارهم، واجتهد فِي صرفهم عَن الافتنان بأهلهم وديارهم، وَلَا توطئهم الدعة مهادا، وَقَدَّمَهُمْ على حفظك وبعوثك مَتى أردْت جهادا، وَلَا تلن لَهُم فِي الإغماض عَن حسن طَاعَتك قيادا، وعودهم حسن الْمُوَاسَاة بِأَنْفسِهِم اعتيادا، وَلَا تسمح لأحد مِنْهُم فِي إغفال شَيْء من سلَاح استظهاره، أَو عدَّة اشتهاره، وَليكن مَا فضل عَن شبعهم وريهم مصروفا إِلَى سِلَاحهمْ، وزيهم، والتزيد فِي مراكبهم وغلمانهم، من غير اعْتِبَار لأثمانهم، وامنعهم من المستغلات والمتاجر، وَمَا يتكسب مِنْهُ غير المشاجر، وَليكن من الْغَزْو اكتسابهم، وعَلى الْمَغَانِم حسابهم، كالجوارح الَّتِي تفْسد باعتيادها، أَن تطعم من غير اصطيادها. وَاعْلَم أَنَّهَا لَا تبذل نفوسها من عَالم الْإِنْسَان، إِلَّا لمن يملك قلوبها بِالْإِحْسَانِ، وَفضل اللِّسَان، وَيملك حركاتها بالتقويم، ورتبها بالميزان القويم، وَمن تثق بإشفاقها على أَوْلَادهَا، وتشتري رضَا الله
بصبرها على طَاعَته وجلادها. فَإِذا استشعرت لَهَا هَذِه الْخلال، تقدمتك إِلَى مَوَاقِف التّلف، مطيعة دواعي الكلف، واثقة مِنْك بِحسن الْخلف، واستبق إِلَى تمييزهم استباقا، وطبقهم طباقا، أَعْلَاهَا من تَأَمَّلت مِنْهُ فِي الْمُحَاربَة عَنْك إحظارا، وأبعدهم فِي مرضاتك مطارا، واضبطهم لما تَحت يدك من رجالك حزما ووقارا، واستهانة بالعظايم واحتقارا، وَأَحْسَنهمْ لمن تقلده أَمرك من الرّعية جوارا، إِذا أَجدت اخْتِيَارا، وأشدهم على مماطلة من مارسه من الْخَوَارِج عَلَيْك اصطبارا، وَمن بلَى فِي الذب عَنْك إحلاء وإمرارا، ولحقه الضّر فِي معارك الدفاع عَنْك مرَارًا. وَبعده من كَانَت محبته لَك أَكثر من نجدته، وموقع رَأْيه أصدق من موقع صعدته، وَبعده من حسن انقياده لأمرائك وإحماده لآرائك، وَمن جعل نَفسه من الْأَمر حَيْثُ جعلته، وَكَانَ صبره على مَا عراه أَكثر من اعتداده بِمَا فعله. [وَاحْذَرْ مِنْهُم من كَانَ عِنْد نَفسه أكبر من موقعه فِي الِانْتِفَاع، وَلم يستح من التزيد بأضعاف مَا بذله من الدفاع، وشكى البخس] فِيمَا تعذر عَلَيْهِ من فوائدك، وقاس بَين عوائد عَدوك وعوائدك، وتوعد بانتقاله عَنْك وارتحاله، وَأظْهر الْكَرَاهِيَة لحاله.
(وَأما الْعمَّال) فانهم يبينون عَن مذهبك، وحالهم فِي الْغَالِب شَدِيدَة الشّبَه بك، فعرفهم فِي أمانتك السَّعَادَة، وألزمهم فِي رعيتك الْعَادة، وأنزلهم من كرامتك بِحَسب مَنَازِلهمْ فِي والإتصاف بِالْعَدْلِ، وأحله من الحفاية،
بِنِسْبَة مَرَاتِبهمْ من الْأَمَانَة والكفاية، وقفهم عِنْد تَقْلِيد الأرجاء مَوَاقِف الْخَوْف والرجاء، وَقرر فِي نُفُوسهم أَن أعظم مَا بِهِ إِلَيْك تقربُوا، وَفِيه تدربوا، وَفِي سَبيله أعجموا وأعربوا، إِقَامَة حق، ودحض بَاطِل، حَتَّى لَا يشكو غَرِيم مطل ماطل، وَهُوَ آثر لديك من كل ربَاب هاطل. وكفهم من الرزق الْمُوَافق عَن التصدي لدني الْمرَافِق. واصطنع مِنْهُم من تيسرت كلفته، وقويت للرعايا ألفته، وَمن زَاد على تأميله صبره، وأربى على خَبره خَبره، وَكَانَت رغبته فِي حسن الذّكر، تشف على غَيرهَا من بَنَات الْفِكر. واجتنب مِنْهُم من غلب عَلَيْهِ التخرق فِي الْإِنْفَاق، وَعدم الإشفاق، والتنافس فِي الِاكْتِسَاب، وَسَهل عَلَيْهِ سوء الْحساب، وَكَانَت ذريعته المصانعة بالنفاية، دون التَّقَصِّي والكفاية، وَمن كَانَ منشؤه خاملا، ولأعباء الدناءة حَامِلا، وابغ من يكون الِاعْتِذَار فِي أَعماله، أوضح من الِاعْتِذَار فِي أَقْوَاله، وَلَا يفتننك من قلدته اجتلاب الْحَظ المطمع، [والتنفق بالسعي المسمع] وَمُخَالفَة السّنَن المرعية [واتباعه رضاك بسخط الرّعية] ، فانه قد غشك من حَيْثُ بلك ورشك، وَجعل من يَمِينك فِي شمالك، حَاضر مَالك. وَلَا تضمن عَاملا مَال عمله، وَحل بَينه فِيهِ وَبَين أمله، فانك تميت رسومك بمحياه، وتخرجه من خدمتك فِيهِ إِلَّا أَن تملكه إِيَّاه. وَلَا تجمع لَهُ فِي الْأَعْمَال، فَيسْقط استظهارك بِبَلَد على بلد، والاحتجاج على وَالِد بِولد، واحرص على أَن تكون فِي الْولَايَة غَرِيبا، ومتنقله مِنْك قَرِيبا، ورهينة لَا يزَال مَعهَا مريبا،
وَلَا تقبل مصالحته على شَيْء اختانه، وَاو برغيبة فتانه، فتتقبل المصانعة فِي أمانتك، وَتَكون مشاركا فِي خِيَانَتك، وَلَا [تطل مُدَّة] الْعَمَل، وتعاهد كشف الْأُمُور مِمَّن يرْعَى الهمل، ويبلغ الأمل.
(وَأما الْوَلَد) فاحسن آدابهم، وَاجعَل الْخَيْر دأبهم، وخف عَلَيْهِم من إشفاقك وحنانك، أَكثر من غلظة جنانك، واكتم، عَنْهُم ميلك، وأفض عَلَيْهِم جودك ونيلك، وَلَا تستغرق بالكلف بهم يَوْمك وَلَا ليلك، وأثبهم على حسن الْجَواب [وَسبق إِلَيْهِم] خوف الْجَزَاء على رَجَاء الثَّوَاب، وعلمهم الصَّبْر على الضرائر، والمهلة عِنْد استخفاف الجرائر، [وَخذ لَهُم] بِحسن السرائر، وحبب إِلَيْهِم مراس الْأُمُور الصعبة المراس، وحصن الاصطناع والاغتراس والاستكثار من أولى الْمَرَاتِب والعلوم، والسياسات والحلوم، وَالْمقَام الْمَعْلُوم، وَكره إِلَيْهِم مجالسة الملهين، ومصاحبة الساهين، وجاهد أهواءهم عَن عُقُولهمْ، وَاحْذَرْ الْكَذِب على مقولهم، ورشحهم إِذا أنست مِنْهُم رشدا أَو هَديا، وأرضعهم من المؤازرة والمشاورة ثديا، لتمرنهم على الاعتياد، وتحملهم على الازدياد، ورضهم رياضة الْجِيَاد، وَاحْذَرْ عَلَيْهِم الشَّهَوَات فَهِيَ داؤهم، وأعدؤك فِي الْحَقِيقَة وأعداؤهم. وتدارك الْخلق الذميمة كلما نجمت، [واقذعها إِذا هجمت] ،
قبل أَن يظْهر تضعيفها، وَيُقَوِّي ضعيفها، فان أعجزتك قي صغرهم الْحِيَل، عظم الْميل.
(إِن الغصون إِذا قومتها اعتدلت
…
وَلنْ تلين إِذا قومتها الْخشب)
وَإِذا قدرُوا على التَّدْبِير، وتشوفوا للمحل الْكَبِير، فَلَا توطنهم فِي مَكَانك [جهد إمكانك] ، وفرقهم [فِي بلدانك] ، تَفْرِيق عبدانك. واستعملهم فِي بعوث جهادك، والنيابة عَنْك فِي سَبِيل اجتهادك، فان حضرتك تشغلهم بالتحاسد، والتباري والتفاسد. وَانْظُر إِلَيْهِم بأعين الثِّقَات، فان عين الثِّقَة، تبصر مَالا تبصر عين الْمحبَّة والمقة.
(وَأما الخدم) فَإِنَّهُم بِمَنْزِلَة الْجَوَارِح الَّتِي تفرق بهَا وَتجمع، وتبصر وَتسمع، فرضهم بِالصّدقِ وَالْأَمَانَة، وصنهم صون الجفانة، وخذهم بِحسن الانقياد، إِلَى مَا آثَرته، والتقليل مِمَّا استكثرته. وَاحْذَرْ مِنْهُم من قويت شهواته، وَضَاقَتْ عَن هَوَاهُ لهواته، فان الشَّهَوَات تنازعك فِي استرقاقه، وتشاركك فِي اسْتِحْقَاقه. وَخَيرهمْ من ستر ذَلِك عَلَيْك بلطف الْحِيلَة، وآداب للْفَسَاد مخيلة، وأشرب قُلُوبهم أَن الْحق فِي كل مَا حاولته واستنزلته، وَأَن الْبَاطِل فِي كل مَا جانبته واعتزلته، وَأَن من تصفح مِنْهُم أمورك فقد أذْنب، وباين الْأَدَب وتجنب. وَأعْطِ من أكددته، وأضقت مِنْهُم ملكه وشددته، رَوْحَة يشْتَغل فِيهَا
بِمَا يُغْنِيه، على حسب صعوبة مَا يعانيه، تغبطهم فِيهَا بمسارحهم، وتجم كليلة جوارحهم. ولتكن عطاياك فيهم بالمقدار الَّذِي لَا يبطر أعلامهم، وَلَا يؤسف [الأصاغر فَيفْسد] أحلامهم، وَلَا ترم محسنهم بالغاية من إحسانك واترك لمزيدهم فضلَة من رفدك وَلِسَانك، وحذر عَلَيْهِم مخالفتك وَلَو فِي صلاحك بِحَدّ سِلَاحك، وامنعهم من التواثب والتشاجر، وَلَا تحمد لَهُم شيم التقاطع والتهاجر، واستخلص مِنْهُم لسرك من قلت فِي الإفشاء ذنُوبه، وَكَانَ أصبرهم على مَا ينوبه، ولودائعك من كَانَت رغبته فِي وَظِيفَة لسَانك، أَكثر من رغبته فِي إحسانك، وَضَبطه لما تقلده من وديعتك، أحب إِلَيْهِ من حسن صنيعك. وللسفارة عَنْك من حلا الصدْق فِي فَمه، وآثره وَلَو بإخطار دَمه، وَاسْتوْفى لَك وَعَلَيْك فهم مَا تحمله، وعني بِلَفْظِهِ حَتَّى لَا يهمله، [وَلمن تودعه أَعدَاء] دولتك، من كَانَ مَقْصُور الأمل، قَلِيل القَوْل صَادِق الْعَمَل، وَمن كَانَت قسوته زَائِدَة على رَحمته، وعظمه فِي مرضاتك آثر من شحمته، ورأيه فِي الحذر سديد، وتحرزه من الْحِيَل شَدِيد، ولخدمتك فِي ليلك ونهارك من لانت طباعه، وامتد فِي حسن السجية بَاعه، وآمن كَيده وغدره، وَسلم من الحقد صَدره، وَرَأى المطامع فَمَا طمع، واستثقل إِعَادَة مَا سمع، وَكَانَ بريا من الملال، والبشر عَلَيْهِ أغلب الْخلال. وَلَا تؤنسهم مِنْك بقبيح فعل وَلَا قَول، وَلَا تؤسهم من طول، وَمكن فِي نُفُوسهم أَن أقوى شفعائهم، وَأقرب إِلَى الْإِجَابَة من دُعَائِهِمْ، إِصَابَة الْغَرَض فِيمَا بِهِ وكلوا، وَعَلِيهِ شكلوا، فانك لَا تعدم بهم انتفاعا، وَلَا يعدمون لديك ارتفاعا.
(وَأما الْحرم) فهم مغارس الْوَلَد، ورياحين الْخلد، وراحة الْقلب الَّذِي أجهدته الأفكار، وَالنَّفس الَّتِي تقسمها الإحماد إِلَى المساعي وَالْإِنْكَار، فاطلب مِنْهُنَّ من غلب عَلَيْهِنَّ من حسن الشيم، المترفعة عَن الْقيم، مَا لَا يسوءك فِي خلدك، أَن يكون فِي ولدك، وَاحْذَرْ أَن تجْعَل لفكر بشر دون بصر إلَيْهِنَّ سَبِيلا، وانصب دون ذَلِك عذَابا وبيلا، وارعهن من النِّسَاء الْعَجز من فاقت فِي الدّيانَة وَالْأَمَانَة سَبيله، وقويت غيرته ونبله، وخذهن بسلامة النيات، والشيم السنيات، وَحسن الاسترسال، والخلق السلسال. وحظر عَلَيْهِنَّ التغامز والتغاير، والتنافس والتخاير، وآس بَينهُنَّ فِي الْأَغْرَاض، والتصامم عَن الْأَعْرَاض، والمحاباة بِالْإِعْرَاضِ. وأقلل من مخالطتهن، فَهُوَ أبقى لهمتك، وأسبل لحرمتك، ولتكن عشرتك لَهُنَّ عِنْد الكلال والملال، وضيق الِاحْتِمَال، بِكَثْرَة الْأَعْمَال، وَعند الْغَضَب وَالنَّوْم، والفراغ من نصب الْيَوْم. وَاجعَل مَبِيتك بَينهُنَّ تنم بركاتك، وتستقر حركاتك، وأفصل من ولدت مِنْهُنَّ إِلَى مسكن يختبر فِيهِ استقلالها، وَيعْتَبر بالتفرد خلالها، وَلَا تطلق لحُرْمَة شَفَاعَة وَلَا تدبيرا، وَلَا تنط، بهَا من الْأَمر صَغِيرا وَلَا كَبِيرا، وَاحْذَرْ أَن يظْهر على خدمهن فِي خروجهن عَن الْقُصُور وبروزهن من أجمة الْأسد الهصور، زِيّ مفارع، ولاطيب للأنوف مسارع، وأخصص بذلك من طعن فِي السن، ويئس من الْإِنْس
وَالْجِنّ، وَمن توفر النُّزُوع إِلَى الْخيرَات قبله، وَقصر عَن جمال الصُّورَة ووسم بالبله.
ثمَّ لما بلغ إِلَى هَذَا الْحَد، حمى وطيس استجفاره، وَختم حزبه باستغفاره، [ثمَّ صمت مَلِيًّا] واستعاد كلَاما أوليا، ثمَّ قَالَ: وَاعْلَم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، سدد الله سهمك لأغراض خِلَافَته، وعصمك من الزَّمَان وآفته، أَنَّك فِي مجْلِس الْفَصْل، ومباشرة الْفَرْع من ملكك وَالْأَصْل، فِي طَائِفَة من عز الله، تذب عَنْك حماتها، وتدافع عَن حوزتك كماتها، فاحذر أَن يعدل بك غضبك، عَن عدل تزرى مِنْهُ ببضاعة، أَو يهجم بك رضاك على إِضَاعَة، ولتكن قدرتك وَقفا على الاتصاف بِالْعَدْلِ والإنصاف، واحكم بِالسَّوِيَّةِ، واجنح بتدبيرك إِلَى حسن الروية، وخف أَن تقعد بك أناتك عَن حزم تعين، أَو تستفزك العجلة فِي أَمر لم يتَبَيَّن. وأطع الْحجَّة مَا تَوَجَّهت عَلَيْك، وَلَا تحفل بهَا إِذا كَانَت إِلَيْك، فانقيادك أليها أحسن من ظفرك، وَالْحق أجدى من نفرك، وَلَا تردن النَّصِيحَة فِي وَجه، وَلَا تقَابل عَلَيْهَا بنجه، فتمنها إِذا استدعيتها، وتحجب عَنْك إِذا استوعيتها، وَلَا تستدعها من غير أَهلهَا، فيشغبك أولو الْأَغْرَاض بجهلها. واحرص على أَن لَا يَنْقَضِي مجْلِس جلسته، أَو زمن اختلسته، إِلَّا وَقد أحرزت فَضِيلَة زَائِدَة، أَو وثقت مِنْهُ فِي معادك بفائدة، وَلَا يزهدنك فِي المَال كثرته، فتقل فِي نَفسك أثرته، وَقس الشَّاهِد بالغائب، وَاذْكُر وُقُوع مَا لَا يحْتَسب من النوائب، فَالْمَال المصون أمنع الْحُصُون. وَمن قل مَاله قصرت آماله وتهاون بِيَمِينِهِ شِمَاله، وَالْملك
إِذا فقد خزينه، أنحى على أهل الْجدّة الَّتِي تزينه وَعَاد على رَعيته بالإجحاف، وعَلى جبايته بالإلحاف، وساء مُعْتَاد عيشه، وَصغر فِي عُيُون جَيْشه، ومنوا عَلَيْهِ بنصره، وأنفوا من الِاقْتِصَار على قصره. وَفِي المَال قُوَّة سَمَاوِيَّة، تصرف النَّاس لصَاحبه، وتربط آمال أهل السِّلَاح بِهِ. وَالْمَال نعْمَة الله تَعَالَى، فَلَا تَجْعَلهُ ذَرِيعَة إِلَى خِلَافه، فتجمع بالشهوات بَين إتلافك وإتلافه، واستأنس بِحسن جوارها، واصرف فِي حُقُوق الله بعض أطوارها، فان فضل المَال عَن الْأَجَل فأجل، وَلم يضر مَا تلف مِنْهُ بَين يَدي الله عز وجل. وَمَا ينْفق فِي سَبِيل الشَّرِيعَة، وسد الذريعة، مأمول خَلفه، وَمَا سواهُ فمستيقن تلفه. واستخلص لحضور نواديك الغاصة، ومجالسك الْعَامَّة والخاصة، من يَلِيق بولوج عتبها، والعروج لرتبها. أما العامية فَمن عظم عِنْد النَّاس قدره، وانشرح بِالْعلمِ صَدره، أَو ظهر يسَاره، وَكَانَ لله إخباته وانكساره، وَمن كَانَ للفتيا منتصبا، وبتاج المشورة معتصبا. وَأما الخاصية فَمن رقت طباعه، وامتد فِيمَا يَلِيق بِتِلْكَ الْمجَالِس بَاعه، وَمن تبحر فِي سير الْحُكَمَاء، وأخلاق الكرماء، وَمن لَهُ فضل سَافر، وطبع للدنية منافر، ولديه من كل مَا تستتر بِهِ الْمُلُوك عَن الْعَوام حَظّ وافر. وصف ألبابهم بمحصول خيرك، وَسكن قُلُوبهم بيمن طيرك، وأغنهم مَا قدرت عَن غَيْرك ،
وَاعْلَم بِأَن مواقع الْعلمَاء من ملكك، مواقع المشاعل المتألقة، والمصابيح
الْمُتَعَلّقَة، وعَلى قدر تعاهدها تبذل من الضياء، وتجلو بنورها صور الْأَشْيَاء، وفرعها لتحبير مَا يزين مدتك، وَيحسن من بعد البلى جدتك. وبعناية الْأَوَاخِر، ذكرت الْأَوَائِل، وَإِذا محيت المفاخر خربَتْ الدول. وَاعْلَم أَن بَقَاء الذّكر مَشْرُوط بعمارة الْبلدَانِ، وتخليد الْآثَار الْبَاقِيَة فِي القاصي مِنْهَا والدان. فاحرص على مَا يُوضح فِي الدَّهْر سبلك، ويحوز المزية لَك على من قبلك، وَإِن خير الْمُلُوك من ينْطق بِالْحجَّةِ، وَهُوَ قَادر على الْقَهْر، ويبذل الْإِنْصَاف فِي السِّرّ والجهر، مَعَ التَّمَكُّن من المَال وَالظّهْر. ويسار الرّعية جمال للْملك وَشرف، وفاقتهم من ذَلِك طرف، فغلب أينق الْحَالين بمحلك، وأولاهما بظعنك وحلك. وَاعْلَم أَن كَرَامَة الْجور دَائِرَة، وكرامة الْعدْل مكاثرة، وَالْغَلَبَة بِالْخَيرِ سيادة، وبالشر هوادة.
وَاعْلَم أَن حسن الْقيام بالشريعة، يحسم عَنْك نكاية الْخَوَارِج، ويسمو بك إِلَى المعارج، فَإِنَّهَا تقصد أَنْوَاع الخدع، وتوري بتغيير الْبدع، واطلق على عَدوك أَيدي الأقوياء من الْأَكفاء، وألسنة اللفيف من الضُّعَفَاء، واستشعر عِنْد نكثه شعار الْوَفَاء، ولتكن ثقتك بِاللَّه أَكثر من [ثقتك بِقُوَّة] تجدها، وكتيبة تنجدها، فان الْإِخْلَاص يمنحك قوى لَا تكتسب، ويهديك مَعَ الْأَوْقَات نصرا
لَا يحْتَسب. وَالْتمس سلم من سالمك، بِنَفس مَا فِي يدك. وَفضل حَاصِل يَوْمك على منتظر غدك، فان أَبى وضحت محجتك، وَقَامَت عَلَيْهِ للنَّاس حجتك، فللنفوس على الباغين ميل، وَلها من جَانِبه نيل، واستمد كل يَوْم سيرة من يناويك، واجتهد أَن لَا يباريك فِي خير وَلَا يساويك، وأكذب بِالْخَيرِ مَا يشنعه من مساويك، وَلَا تقبل من الإطراء إِلَّا مَا كَانَ فِيك، فضل عَن إطالته، وجد يزري ببطالته وَلَا تلق المذنب بحميتك وسبك، وَذكر عِنْد حمية الْغَضَب ذنوبك إِلَى رَبك، وَلَا تنس أَن ذَنْب المذنب أجلسك مجْلِس الْفَصْل، وَجعل من قبضتك رياش النصل. وتشاغل فِي هدنة الْأَيَّام بالاستعداد، وَاعْلَم أَن التَّرَاخِي مُنْذر بالاشتداد. وَلَا تهمل عرض ديوانك، واختبار أعوانك، وتحصين معاقلك وقلاعك، وَعم إيالتك بِحسن اضطلاعك. وَلَا تشغل زمن الْهُدْنَة بلذاتك، فتجني فِي الشدَّة على ذاتك. لَا تطلق فِي دولتك أَلْسِنَة الكهانة والإرجاف، ومطاردة الآمال الْعِجَاف، فَإِنَّهُ يبْعَث سوء القَوْل، وَيفتح بَاب الغول، وحذر على المدرسين والمعلمين، وَالْعُلَمَاء والمتكلمين، حمل الأحدث على الشكوك الخالجة، والزلات الوالجة، فَإِنَّهُ يفْسد طباعهم، ويغري سباعهم، ويمد فِي مُخَالفَة الْملَّة باعهم. وسد سبل الشفاعات، فَإِنَّهَا تفْسد عَلَيْك حسن الِاخْتِيَار،
ونفوس الْخِيَار. وابذل فِي الأسرى من حسن مَلكتك، مَا يُرْضِي من ملكك رقابها، وقلدك ثَوَابهَا وعقابها. وتلق بَدْء نهارك بِذكر الله فِي ترفعك وابتذالك، وَاخْتِمْ الْيَوْم بِمثل ذَلِك. وَاعْلَم أَنَّك مَعَ كَثْرَة حجابك، وكثافة حجابك، بِمَنْزِلَة الظَّاهِر للعيون، المطالب بالديون، لشدَّة الْبَحْث عَن أمورك، وتعرف السِّرّ الْخَفي بَين آمُرك ومأمورك، فاعمل فِي سرك مَا لَا تستقبح أَن يكون ظَاهرا، وَلَا تأنف أَن تكون بِهِ مجاهرا، واحكم بريك فِي الله ونحتك وخف من فَوْقك يخفك من تَحْتك.
وَاعْلَم أَن عَدوك من أتباعك من تناسيت حسن قرضه، أَو زَادَت مؤونته على نصِيبه مِنْك وفرضه، فاصمت للحجج، وتوق اللجج، واسترب بالأمل، وَلَا يحملنك انتظام الْأُمُور على الاستهانة بِالْعَمَلِ. وَلَا تحقرن صَغِير الْفساد، فَيَأْخُذ فِي الاستئساد. واحبس الْأَلْسِنَة عَن التحالي باغتيابك، والتشبث بأذيال ثِيَابك، فان سوء الطَّاعَة، ينْتَقل من الْأَعْين الباصرة، [إِلَى الألسن القاصرة] ثمَّ إِلَى الْأَيْدِي المتناصرة. وَلَا تثق بِنَفْسِك فِي قتال عَدو ناوأك، حَتَّى تظفر بعدو غضبك وهواك، وَليكن خوفك من سوء تدبيرك، أَكثر من عَدوك السَّاعِي فِي تتبيرك. وَإِذا استنزلت ناجما، أَو أمنت ثائرا هاجما، فَلَا تقلده الْبَلَد الَّذِي فِيهِ نجم، وهما عَارضه فِيهِ وانسجم، يعظم عَلَيْك الْقدح فِي اختيارك، والغض من إيثارك، وَاحْترز من كَيده فِي حوزك ومأمك، فانك أكبر همه، وَلَيْسَ بأكبر همك، وجمل المملكة بتامين الفلوات وتسهيل الأقوات، وتجويد مَا يتعامل بِهِ من
الصّرْف فِي الْبياعَات وإجراء العوائد مَعَ الْأَيَّام والساعات، وَلَا تبخس عيار قيم البضاعات، ولتكن يدك عَن أَمْوَال النَّاس محجورة، وَفِي احترامها إِلَّا عَن الثَّلَاثَة مأجورة: مَال من عدا طوره وطور أَهله، وَتجَاوز فِي الملابس والزينة، وفضول الْمَدِينَة، يروم معارضتك بِحمْلِهِ، وَمن بَاطِن أعداك وَأمن اعتداك، وَمن أَسَاءَ جوَار رعيتك بإخساره، وبذل الإذاية فيهم بِيَمِينِهِ ويساره. وأضر مَا منيت بِهِ التعادي بَين عبدانك، أوفي بلد من بلدانك فسد فِيهِ الْبَاب، وآسأل عَن الْأَسْبَاب، وانقلهم بوساطة أولي الْأَلْبَاب، إِلَى حَالَة الأحباب، وَلَا تطوق الْأَعْلَام أطواق الْمنون، بهواجس الظنون فَهُوَ أَمر لَا يقف عِنْد حد، وَلَا يَنْتَهِي إِلَى عد، وَاجعَل ولدك فِي احتراسك، [وَصدق مراسك] ، حَتَّى لَا يطْمع فِي افتراسك.
ثمَّ لما رأى اللَّيْل قد كَاد ينتصف، وعموده يُرِيد أَن ينقصف، ومجال الْوَصَايَا أَكثر مِمَّا يصف، قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، بَحر السياسة زاخر، وَعمر التَّمَتُّع بناديك الْعَزِيز مستأخر، فَإِن أَذِنت فِي فن من فنون الْأنس يجذب بالمقاد، إِلَى رَاحَة الرقاد، وَيعتق النَّفس بقدرة ذِي الْجلَال، من ملكة الكلال، فَقَالَ، أما وَالله قد استحسنا مَا سردت، فشأنك وَمَا أردْت. فاستدعى عودا فأصلحه حَتَّى أَحْمَده، وَأبْعد فِي اخْتِيَاره أمده. ثمَّ حرك فَمه، وَأطَال الْحسن ثمه، ثمَّ تغنى بِصَوْت يَسْتَدْعِي الْإِنْصَات، ويصدع الْحَصَاة، ويستفز الْحَلِيم عَن وقاره، ويستوقف الطير، ورزق بنيه فِي منقاره، وَقَالَ:
(صَاح مَا أعطر الْقبُول بنمه
…
أتراها أَطَالَت البث ثمه)
(هِيَ دَار الْهوى منى النَّفس فِيهَا
…
أَبَد الدَّهْر والأماني جمه)
(إِن يكن مَا تأرج الجو مِنْهَا
…
واستفاد الشذا وَإِلَّا فممه)
(من بطرفي بنظرة ولأنفي
…
فِي رباها وَفِي ثراها بشمه)
(ذكر الْعَهْد فانتفضت كَأَنِّي
…
طرقتني من الملائك لمه)
(وَطن قد نضيت فِيهِ شبَابًا
…
لم تدنس مِنْهُ البرود مذمه)
(بنت عَنهُ وَالنَّفس من أجل من
…
خلفته فِي جَلَاله مغتمه)
(كَانَ حلما فويح من أمل
…
الدَّهْر وأعماه جَهله وأصمه)
(تَأمل الْعَيْش بعد أَن أخلق
…
الْجِسْم وبنيانه عسير المرمه)
(وغدت وفرة الشبيبة بالشيب
…
على رغم أنفها معتمه)
(فَلَقَد فَازَ مَالك جعل الله
…
إِلَى الله قَصده ومأمه)
(من يبت من غرور دنيا بهم
…
يلْدغ الْقلب أَكثر الله همه)
ثمَّ أحَال اللّحن إِلَى لون التنويم، فَأخذ كل فِي النعاس والتهويم، وَأطَال الجس فِي الثقيل، عاكفا عكوف الضاحي فِي المقيل، [فخاط عُيُون الْقَوْم بخيوط النّوم، وَعمر بهم المراقد، كَأَنَّمَا أدَار عَلَيْهِم الفراقد] ثمَّ انْصَرف، فَمَا علم بِهِ أحد وَلَا عرف. وَلما أَفَاق الرشيد جد فِي طلبه، فَلم يعلم بمنقلبه، فأسف للفراق، وَأمر بتخليد حكمه فِي بطُون الأوراق، فَهِيَ إِلَى الْيَوْم تروى وتنقل، وتجلى الْقُلُوب بهَا وتصقل. وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.