الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمن ذَلِك كتاب الْإِشَارَة إِلَى أدب الوزارة فِي السياسة
أما بعد حمد الله الَّذِي جلّ ملكه أَن يوازره الْوَزير، وَعز أمره أَن يدبره المدير، أَو يُؤَيّدهُ الظهير، والاستعانة بِهِ على الوظايف الَّتِي يضْطَر إِلَيْهَا، ويعتمد عَلَيْهَا فَهُوَ الْوَلِيّ النصير. وَالصَّلَاة على سيدنَا ومولانا مُحَمَّد، الَّذِي لَهُ الْقدر الرفيع وَالْفَخْر الْكَبِير. وَالرِّضَا عَن آله وعشيرته، فحبذا الْآل والعشير. فان من دَعَا إِلَى الله أَيهَا الْوَزير الصَّالح السعيد بعصمة يضفي عَلَيْك لباسها، وَعزة يصدق عَلَيْك قياسها، وَأَيَّام تروض لديك شامها، وَيدْفَع بيمن نقيبتك بأسها، فَإِنَّمَا دَعَا للدولة بتأييدها، وللملة بتمهيدها، وللمملكة بتجديدها، فقد ظهر من عنايته بك اختيارك، وَمن حسن أَثَره فِي نصرك وإيثارك، وَهُوَ الْكَفِيل لَك بالمزيد من آلائه، وموصول نعمائه، وَأَنِّي لما رَأَيْت برك دينا يجب عَليّ قَضَاؤُهُ، وَلَا يجمل بِي إلقاؤه، تخيرت لَك فِي الْهَدَايَا، مَا يمْلَأ الْيَد، ويصاحب الأمد، وينجب الْعقب وَالْولد، فَلم أجد أجدى من حَدِيث الْحِكْمَة الَّتِي من أوتيها، قدف أُوتِيَ خيرا كثيرا، وَمن أمل لرتبتها السامية، فقد أحل محلا كَبِيرا. والوصاة الَّتِي تنفعك، من حَيْثُ كنت وزيرا، وَالْمَوْعِظَة الَّتِي تفيدك تبنيها من الْغَفْلَة وتذكيرا، فاخترعت لَك وضعا غَرِيبا، وغرضا قَرِيبا، أَن لقِيت مَا جمح من أخلاقك، قَوْلك وألانه، وأنهج لَك الصَّوَاب وأبانه، جانحا إِلَى الِاخْتِصَار، عادلا إِلَى الْإِكْثَار، مَنْسُوبا إِلَى بعض الْحَيَوَان، على عَادَة الأول مِمَّن صنف فِي السياسة قبلي، أَو ذهب لما ذهبت إِلَيْهِ من فعلي [فَقلت وَبِاللَّهِ العون وَالْقُوَّة وَمِنْه يلْتَمس السَّعَادَة المرجوة] .
حكى من يُكَلف برعي الْآدَاب السوايم، ويعنى باستنزال الحكم الحوايم، ويقيد الْمعَانِي الساردة على أَلْسِنَة البهايم، أَن نمرا يكنى أَبَا فَرْوَة، وَيعرف
بالمرقط، كَأَنَّهُ بالنجوم منقط، شثن الْكَفَّيْنِ، بعيد مَا بعد الْعَينَيْنِ، كَأَن ذؤابة
…
. ذوابة كَوْكَب أوجد مِلَّة مركب، وَكَأن المجرة أورثته غديرها، والثريا نثرت عَلَيْهِ دنانيرها، عَظِيم الْوُثُوب والطفور، حَدِيد الناب والأطفور، جن نجد وغور، وكرة حور وكور، وجرم ثَوْر فِي مسلاح سنور، استوزره ملك الوحوش، وقلده تَدْبِير الْملك، وَعرض الجيوش، فَحل من ذَلِك الْأسد مَحل الرّوح من الْجَسَد، وَكَفاهُ مَا وَرَاء بَابه، ودافع الأعدا من جنابه، ووفر من جبايته، وأجرى رسوم عزه وإبايته، وأخلص الله عقيدة نصحه، وتبرأ من شين الْغِشّ وقبحه، حَتَّى عَمت الهيبة وخصت، وشرفته الْأَعْدَاء وغصت، وَعرفت الوحوش أقدارها، وألفت السياسة مدارها، وَأمنت السبل والمسالك، وَخَافَ الْمَمْلُوك سطوة الْمَالِك، وَحسنت الْأَخْبَار عَن سيرته، وَشهِدت بِالْعَدْلِ ألسن جيرته، لما أسن واستن، فَأنْكر من قوته مَا عرف، وقارب من مدى الْعُمر الطّرف، فَمَال مزاجه وانحرف، وكع عَن الملاذ وَانْصَرف، فَأصْبح مَتنه هزيلا، وجسمه ضئيلا [ونشاطه قَلِيلا، وَرَأى عبء الوزارة ثقيلا] إِن الْحق أقوم قيلا، دخل على الْأسد خلْوَة مشورته، وَصرح لَهُ عَن ضَرُورَته، وَأقَام لَهُ الْحق فِي صورته، وَقَالَ أَيهَا الْملك السعيد، عِشْت مَا بدا لَك، وحفظت ميزَان الطبايع عَلَيْك اعتدالك، ولازلت مرهوب السطا، بِعَين الخطا، فَإِنَّمَا فِي مهاد الدعة أَمن القطا، وَهن من عَبدك الْعظم، وَضعف الافتراس وساء الهضم، وَكَاد ينثر النّظم، وَبَان فِي آلَة خدمتك، الكلال، وَاسْتولى الْهم والاضمحلال وأربأ لملكك عَن تَقْصِير يجنيه ضعْفي، وَإِن عظم لفراق سدتك لهفي، فسوغنى التفرغ لمعادي، وَالنَّظَر فِي بعد طريقي وَقلة زادي، واستكف من يقوم بهمتك، ويبوء بعبء خدمتك، فَمَا على استحثاث الْأَجَل من قَرَار، وَمَا بعد العشية من عوار
(من عَاشَ أخلقت الْأَيَّام جدته
…
وخانه نقشاه السّمع وَالْبَصَر)
وَقد علم الله الَّذِي بِيَدِهِ النواصي، وَعلمه الْمُحِيط بالأداني والأقاصي، وستره قد شَمل الْمُطِيع والعاصي، أنني مَا خُنْت أَمَانَته بخون أمانتك، وَلَا آلَيْت جهدا فِي إغاثتك، وَلَا اقتحمت بِأَمْرك حدا من حُدُود ديانتك، وَلَا تَعَمّدت جلب ضرّ، وَلَا خلطت حُلْو النَّصِيحَة بمر، وَلَا استفسدت لَك قلب حر، وَلَا استأثرت لَك بِمَال، وَلَا كنت يَوْمًا لضدك بميال، وَلَا تلقيت مهمك بإهمال، وَلَا ضَاقَ لي عَن خلقك ذرع احْتِمَال، وَلَا أعملت فِي غير رضاك وطاعتك حَرَكَة يَمِين وَلَا شمال، فَقَالَ لَهُ الْأسد، أَيهَا الْوَزير الصَّالح حسن جزاؤك، كَمَا وضح للحق اعتزازك، وَلَحِقت بالعوالم الشَّرِيفَة مقوماتك المفضلة وأخلاقك. قلت صَوَابا واستوجبت منا وَمن المعبود ثَوابًا، وَلَو كَانَ شَيْء فِي وسع ملكنا جبره، لبذلنا لَك الْعَزِيز، وَهَان علينا أمره، لَكِن التَّحْلِيل على عَالم التَّرْكِيب محتوم، والمصير مَعْلُوم، والفراق وانى الألقاب والرسوم.
(أسمع فقد أسمعك الصَّوْت
…
إِن لم تبادر فَهُوَ الْمَوْت)
(نل كلما شيت وعش نَاعِمًا
…
آخر هَذَا كُله الْمَوْت)
وَقد أمرنَا لولدك، ونقلنا الوزارة من يدك، ورجونا أَن لَا نعدم حسن مقصدك من ثِقَة نَفسك، وسليل جسدك. وَكَانَ النمر جرد [قد اسْتكْمل] ٍ الْوُقُوف، واتصف بالانقطاع على الْحِكْمَة والعكوف، مُخْتَار [الْأَمَانَة والفراسة] صَادِقَة فِيهِ أَحْكَام النجابة، ومخايل الفراسة، كلف بِالنّظرِ والدراسة، كريم الطَّبْع رحيب الذرع طيب الأَصْل، سامي الْفَرْع، لَا تورده المعضلات، وَلَا تواقف
فطنته المشكلات، وَلَا تجاذبه الشَّهَوَات، وَلَا تطرق كَمَاله الهفوات، حَان على الرّعية، دَفعته لشروط السياسة المرعية، قد أفرغ فِي قوالب الْكَمَال جوهره، وتطابق مخبره ومظهره، وتفتق عَن كَمَال العفاف، وَحسن الْأَوْصَاف زهره، فَاتخذ الْملك صنيعا تفض لَهُ الْأَطْرَاف، واستقدم الْأَشْرَاف، واستدعى قومه للْجِهَاد، وَطَوَائِف النساك والزهاد، واحتفل الْوَلِيمَة، وأفاض النعم العميمة، واستحضر النمر، وَقد تحلى بحلية متماسك، وبذل فَرْوَة الْوَزير بِعُرْوَة الناسك، فأعلن فِي الْمُجْتَمع بِرِضَاهُ عَن سيرته، واعترف بنصح جيبه وَفضل سَرِيرَته وأعلن بتسويغ أوبته، وَقرب القربان بَين يَدي تَوْبَته، وحفت بِهِ أَرْبَاب الدّيانَة ونساكها، وقومة الشَّرِيعَة الَّذين فِي أَيْديهم ملاكها، فَرَفَعُوهُ على رُءُوسهم وأكتادهم حَذْو معتادهم، وجهروا حوله بصحفهم المحفوظة، وأدعيتهم الملفوظة ونسكهم المجدودة المحظوظة، حَتَّى أَتَوا بِهِ هيكل الْعِبَادَة، وَمحل أصل النّسك والزهادة، وخدمة الْكَوَاكِب السَّادة، والمتشوقين إِلَى السَّعَادَة، والمنسلخين عَن كدرات سوء الْعَادة، وقصده وَلَده، يستفتح بدعاته الْعَمَل، ويستدلى بوصاياه الأمل. فَلَمَّا فرغ النمر من اسْتِقْبَال محرابه، وَقد تجرد من العلائق تجرد السَّيْف من قرَابه، جِيءَ الْوَلَد لَدَيْهِ، ثمَّ سجد بَين يَدَيْهِ، وَقَالَ بعد مَا أطرق، وطرفه من الرقة اغرورق، أَيهَا الْمولى الَّذِي قرنت بِحَق الْبَارِي حُقُوقه، فَمَا فِي المنعمين من يفوقه، أوضحت لعِلَّة إيجادي مذهبا، وَكنت لنَفْسي الْجِزْيَة باتصال الْعقل الْكُلِّي سَببا، ثمَّ [تغلبت وكفيت] وَعند تقاصر الطباع وفيت، ثمَّ داويت من مرض الْجَهْل وشفيت وحملت على أفضل الْعَادة، وأظفرت الْيَد بِعُرْوَة السَّعَادَة. وَأَنا إِلَى وصاتك الْيَوْم فَقير، ورأيي فِي جنب رَأْيك حقير، ودعاؤك لي ولي ونصير، وللحظك فِي تصرفاتي القاصرة ناقد وبصير، فَأقبل عَلَيْهِ بِوَجْه بيضه الشيب والنسك، وأخلاق تضوع من أنفاسه الْمسك، وَتَبَسم تَبَسم الذَّهَب
الإبريز خلصه السبك، وَقَالَ يَا وَلَدي الَّذِي رجوته لخلف شخصي، وتتميم نقصي، وَفضل الْحِكْمَة عَنى، وَستر الْجُزْء الأرضي مني، طالما ابتهلت إِلَى الله فِي سدادك، بعد تخير دُعَاء ولادك، واستدعيت حكماء الهياكل المقدسة لإرشادك، فَلَو اسْتغنى أحد عَن موعظة توقظ من نوم، أَو سداد رَأْي يعْصم من لوم، أَو استشعار مناصحة تجرثنا قوم، واستعراض تجربة تعلى من سوم، لَكُنْت بذلك خليقا، وَمن أسر الافتقار طليقا، لَكِن الْإِنْسَان لما نزيده ذُو فاقة، ومتصف بافتقار إِلَى غَيره وإضاقة، وَلَيْسَ لَهُ بالانفراد مَعَ كَونه مدنيا من طَاقَة، وَمَتى ظن بِنَفسِهِ غير ذَلِك فَهِيَ حَمَاقَة. وبحسب مَا يحاوله أَو يحاوره يكون افتقاره لمن يفاوضه أَو يشاوره. وَقد ندبت من الوزارة إِلَى منزلَة لَا تطمين بِمن نبذ طَاعَة الْحق وتقواه، وَرَضي عَن نَفسه وَاتبع هَوَاهُ، فان قهرت من الشهودة المردية عَدوك، وَبَلغت من مسكة الْهوى مرجوك، وألفت قرارك فِي ظلّ الْحِكْمَة وهدوك، تذلل لَك امتطاؤها وَتَهْنَأ لَك عطاؤها، وطاب فِيهَا خبرك، وَحسن عَلَيْهَا أثرك، وَالله يذرك، وَإِلَّا فلست بِأول من هوى، ورمد بعد مَا شوى، وَأَنا مُوصِيك وَالله يبعدك، من الخطل ويقصيك، وَيبين لَك قدر هَذِه الرُّتْبَة بَين الأقدار، ثمَّ جالت بعض شُرُوع الِاخْتِيَار ثمَّ خلص للوصاة بِحَسب الْإِمْكَان، فِي سِتَّة أَرْكَان، وأسل الْعَالم بفاقتي إِلَى سداد قَوْلك وفعلك، الْغنى عَن قدرتك وحولك، أَن يجمع لَك من مواهب توفيقه الَّتِي لَا تحصر بالعد وَلَا تنَال بالكد مَا يتكفل بِرِضَاهُ عَنْك، حَتَّى تحب مَا أحبه لَك، وَتكره ماكرهه مِنْك، وَأَن يخْتم مدتك المتناهية بِأَسْعَد مَا انْتَهَت إِلَيْهِ آمالك، وتطاول نَحوه سؤالك، فَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل.