المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب بيان قدر رتبة الوزارة في الأقدار وبعض شروط الاختيار - ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب - جـ ٢

[لسان الدين بن الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌جُمْهُور الْأَغْرَاض السلطانيات

- ‌وَمن ذَلِك

- ‌كتب مخاطبات الرعايا والجهاتكتبت عَن السُّلْطَان أبي الْحجَّاج ابْن السُّلْطَان أبي الْوَلِيد ابْن نصر، رَحمَه الله تَعَالَى لأهل ألمرية، أعرف بِهَلَاك الطاغية ملك قشتالة، وإقلاع محلته عَن جبل الْفَتْح.من الْأَمِير عبد الله يُوسُف ابْن أَمِير الْمُسلمين أبي الْوَلِيد بن فرج

- ‌وَفِي هَذَا الْغَرَض أَيْضا

- ‌ظهاير الْأُمَرَاء والولاة

- ‌وخاطبت الْوَزير الْمَذْكُور على أثر الْفَتْح الَّذِي تكيف لَهُ

- ‌وَمن ذَلِك فِي مُخَاطبَة الْوَزير الْمَذْكُور وَأَنا سَاكن بسلا

- ‌وَمن ذَلِك مَا كتبت بِهِ إِلَى رَئِيس ديوَان الإنشاد الشريف شمس الدّين أبي عبد الله بن أبي ركب [أعزه الله تَعَالَى]

- ‌كتب الدعابات والفكاهات

- ‌وَمن ذَلِك فِي هَذَا الْغَرَض مِمَّا خاطبت بِهِ أَبَا إِسْحَاق ابْن الْحَاج على لِسَان قَاضِي الحضرة أبي الْحسنسَيِّدي، جعل الله أكوار العمائم تتضاءل لكور عمامتك، والنفوس الطامحة الهمم على اخْتِلَاف الْأُمَم، تقر بِوُجُوب إمامتك، وسر الْإِسْلَام باتصال سلامتك، وتبرأ الملا من

- ‌المقامات

- ‌من ذَلِك الْكتاب الْمُسَمّى بمعيار الِاخْتِيَار

- ‌الْمجْلس الثَّانِي

- ‌وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي السياسة وَكَانَ إملاؤها فِي لَيْلَة وَاحِدَة

- ‌وَمن ذَلِك كتاب الْإِشَارَة إِلَى أدب الوزارة فِي السياسة

- ‌بَاب بَيَان قدر رُتْبَة الوزارة فِي الأقدار وَبَعض شُرُوط الِاخْتِيَار

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الشريف أبي عبد الله ابْن الْحسن الحسني

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم ابْن الرئيس أبي زَكَرِيَّا العزفي

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله ابْن الشَّيْخ الْحَاجِب بتونس أبي الْحسن بن عَمْرو

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن الْحَاجِب بتونس أبي عبد الله بن العشاب

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف صَاحب الْقَلَم الْأَعْلَى بالمغرب أبي مُحَمَّد عبد الْمُهَيْمِن الْحَضْرَمِيّ

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْخَطِيب أبي عبد الله بن رشيد

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن هَانِيء السبتي

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي على الْحسن بن تذاررت

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف القَاضِي أبي الْحجَّاج الطرطوشي

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْكَاتِب أبي الْعَبَّاس بن شُعَيْب

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن عمرَان التّونسِيّ

- ‌وَفِي وصف أبي عبد الله بن عبد الْملك من أهل مراكش

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق الحسناني من أهل تونس

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله المكودي من أهل فاس

- ‌انْتهى مَا تمّ اخْتِيَاره من كتاب التَّاج الْمحلى فِي مساجلة الْقدح الْمُعَلَّى

- ‌ الأكليل الزَّاهِر فِيمَن فضل عِنْد نظم التَّاج من الْجَوَاهِر " فِي وصف الْخَطِيب أبي عبد الله الساحلي الحمالقى الولى، نفع الله بِهِ

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر الشاطبي

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْخَطِيب أبي على الْقرشِي

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف القَاضِي أبي عَمْرو بن مَنْظُور

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْخَطِيب أبي الطَّاهِر بن صَفْوَان المالقى

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الشَّيْخ أبي عبد الله الطرطوشي

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الفقية أبي عبد الله بن الْحَاج من أهل مالقة

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الشَّيْخ الْوَزير أبي عَليّ بن غفرون

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْوَزير الْكَاتِب أبي عبد الله بن عِيسَى

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْكَاتِب أبي بكر بن العريف

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف للشَّيْخ أبي عبد الله المتأهل

- ‌وَفِي وصف الشَّيْخ أبي عبد الله بن ورد

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الشَّيْخ أبي عبد الله الْعِرَاقِيّ الْوَادي آشيمَعْدُود فِي وقته من أدبائه، ومحسوب فِي أَعْيَان بَلَده وحسبايه، كَانَ رحمه الله من أهل الْعَدَالَة وَالْخَيْر، سايرا على مَنْهَج الاسْتقَامَة، أحسن السّير، وَله أدب لَا يقصر عَن السداد، وَإِن لم يكن بطلا، فَمِمَّنْ يكثر

- ‌معتر غير قَانِع، ومنتجع كل هشيم ويانع، نَشأ بِبَلَدِهِ مالقة، أبرع من أورد البراعة فِي نفس، وهز غصنها فِي رَوْضَة طرس، إِلَّا مَا كَانَ من سخافة عقله، وقعوده تَحت الْمثل أخبر تقله، لَا يرتبط إِلَى رُتْبَة، وَلَا ينتمي إِلَى عصبَة، وَلَا يتلبس بسمت، وَلَا يَسْتَقِيم من

- ‌أديب نَار فكره يتوقد، وأديب لَا يعْتَرض كَلَامه وَلَا ينْقد. أما الْهزْل فَهُوَ طَرِيقَته المثلى، ركض فِي ميدانها وجلى، وطلع فِي أفقها وتجلى، فَأصْبح علم أعلامها، وعابر أحلامها. إِن أَخذ بهَا فِي وصف الكاس، وَذكر الْورْد والآس، وألم بِالربيعِ وخصله، والحبيب

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الأديب أبي الْأصْبع عَزِيز بن مطرف

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الأديب أبي عبد الله بن فَضِيلَة

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم الورشيدي

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف القَاضِي أبي بكر بن مَنْظُور

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف القَاضِي أبي جَعْفَر بن برطال

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْفَقِيه أبي عَامر بن عبد الْعَظِيم

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عُثْمَان الغلق

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عُثْمَان بن أبي عُثْمَان

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْمقري أبي الْقَاسِم الجزالي

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْفَقِيه الصُّوفِي أبي جَعْفَر العاشق

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم الساحلي

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم عبد الله بن الطبيخ

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن قيس

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن السكاك الغرناطي

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْوَزير أبي جَعْفَر بن المراني

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْحَاج أبي عبد الله الشَّديد

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن الرعيني

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْفَقِيه الْخَيْر أبي عبد الله السكان الأندرشي

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْعدْل أبي عبد الله الْقطَّان

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْوَزير أبي عبد الله بن شلبطور

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْعدْل أبي عبد الله بن مُشْتَمل البلياني

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْمُؤلف

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن سَلمَة الْكَاتِب

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله الشريشي

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله اللؤلؤة

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن خَاتِمَة

- ‌وَفِي وصف أبي يحيى بن دَاوُد

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن أبي الْبَقَاء

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله الطشكري

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن مشرف

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر أَحْمد بن رضوَان بن عبد الْعَظِيم

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن هاني

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْكَاتِب أبي عَمْرو بن زَكَرِيَّا

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْحَاج أبي الْعَبَّاس القراق

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الْكَاتِب أبي الْحسن الملياني صَاحب الْعَلامَة بالمغرب:

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق بن سعد

- ‌وَله فِي وصف أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْحق

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الشريف أبي عبد الله العمراني

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن جَابر الكفيف

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الأديب أبي إِسْحَق بن الْحَاج

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف الأديب ابْن حزب الله

- ‌وَمن ذَلِك فِي وصف أحد الْفُضَلَاء

- ‌كتب الزواجر والعظات

- ‌فَمن ذَلِك فِي مُخَاطبَة ابْن مَرْزُوق

- ‌وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي هَذَا الْغَرَض بِمَا نَصه:

- ‌وَإِن شَاءَ قَالَ بعد الْخطْبَة

- ‌وَمن ذَلِك

- ‌وَمن ذَلِك مَا صدر عني فِي هَذَا الْغَرَض مِمَّا خاطبت بِهِ أحد الْفُضَلَاء

الفصل: ‌باب بيان قدر رتبة الوزارة في الأقدار وبعض شروط الاختيار

‌بَاب بَيَان قدر رُتْبَة الوزارة فِي الأقدار وَبَعض شُرُوط الِاخْتِيَار

اعْلَم يَا وَلَدي أَن هَذِه الرُّتْبَة لمن فهم وعقل، مُشْتَقَّة من الْوَزير، وَهُوَ الثّقل، لِأَنَّهَا تحمل من عبء الْملك وَثقله مَا تعجز الْجبَال عَن حمله، وَهِي الْآلَة الَّتِي بهَا يعْمل، وبحسب تباينها يتباين مِنْهَا الأنقص والأكمل، وَعَصَاهُ الَّتِي بهَا يهش، ويحتطب ويحش، ويلتقم ويمش، وَيجمع ويفش، ومخلبه الَّذِي بِهِ يزق الفرخ، ويحرس العش ومنجله الَّذِي يعرف بِهِ من يناصح وَمن يغش، ومرآته الَّتِي يرى بهَا محَاسِن وَجهه وعيوبه، وسَمعه الَّذِي يتَوَصَّل بحاسته لمعْرِفَة الْأَشْخَاص المحجوبة. وَإِذا فسد الْملك وَصلح الْوَزير، رُبمَا نَفَعت السياسة واستقام التَّدْبِير، وَصَلَاح الْأَمر بعكس هَذِه الْحَال مَحْسُوب من الْمحَال لِأَن الْوَاسِطَة الْقَرِيبَة، ونكتة السياسة الغريبة، وموقعه من الْملك موقع الْيَدَيْنِ من الْجَسَد، اللَّتَيْنِ فِي الْقَبْض والبسط عَلَيْهِمَا يعْتَمد وَقَالُوا الْملك طَبِيب والرعية مرضى، [والوزير تعرض عَلَيْهِ شكاياتهم عرضا] والنجاح مُرْتَبِط بسداد عقله، وَصِحَّة نَقله، فان اخْتَلَّ السفير بَطل التَّدْبِير. وَإِذا تقرر وجوب الْإِمَامَة ونصبها، وعقدها وعصبها، وَكَانَت ضرورتها إِلَى الوزارة هَذِه هِيَ، ومنزلتها هَذِه الصُّورَة، وَفِي الْوَاجِب شَرط، وَلَا يَسْتَقِيم لَهُ بغَيْرهَا ضبط، كَيفَ لَا يكون قدرهَا خطيرا، ومحلها أثيرا، وَقَول النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] الَّذِي اصطفاه برسالته وبكلامه، واختصه بخصيصتي الْكَرَامَة مَعَ كَونه مَعْصُوما بعصمة ربه، غَنِيا بدفاعه، متأنسا بِقُرْبِهِ، وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي هَارُون أخي، اشْدُد بِهِ أزري، وأشركه فِي أَمْرِي، دَلِيل على محلهَا من سد الْقَوَاعِد، وإجراء العوايد، وَإِقَامَة الشواهد،

ص: 340

واستدرار الفوايد، ومدافعة المكايد، إِلَى غير ذَلِك من الْآثَار المجلوة، والمحاسن المتلوة، والإشعار بِأَن المنصب منصب الْأُخوة.

فصل: وَاعْلَم أَن الْأَوَّلين من حكماء يونان فِي سالف الزَّمَان، كَانُوا يعْرفُونَ وصل هَذِه

...

ويجعلون تعظيمها من الشَّرَائِع وَالسّنَن، ويتحققون نجباءها فِي الْمَعَادِن الشَّرِيفَة، والبيوت العتيقة، والأحساب المنيفة، ويختبرون نصب الموالد فِي أَبنَاء أهل الترشيح، ويعنون فِيهَا بِالنّظرِ الصَّحِيح، فَمن قَامَت على صلوحه الشواهد، وَشهِدت بأهليته الموالد، عين فِي الأرزاق قسمه، وَأثبت عِنْد الثِّقَات اسْمه، ثمَّ يؤخذون بالتعليم والدراسة، ويتعاهدون بالآداب تعاهد الفراسة، ثمَّ يعرضون عِنْد الترعرع على أهل الفراسة، فَمَتَى تَأَكد القَوْل وَرجح، وَبَان فِي أحدهم الْفضل ووضح طرح ودرب ومرن وجرب، ثمَّ اسْتعْمل وَقرب.

فصل: وَكَانَ الوزرا يختارون من الْجَوَارِي للمباضعة، من ظهر مِنْهَا فضل التَّمْيِيز، وأخلصها الِاخْتِيَار خلوص الذَّهَب الإبريز، وَلَا يغشوهن فِي سكر مسْقط، وَلَا فَرح مفرط، وَلَا كسل مقْعد، وَلَا حزب مُفسد، وَلَا غضب مبرق موعد. وَإِذا هم بِطَلَب الْوَلَد، استفتى الكاهن فِي اخْتِيَار الْوَقْت الرامق، فَلَا يُطلق لَهُ ذَلِك إِلَّا فِي الْأَوْقَات المختارة، وَالنّصب الخليقة بِتِلْكَ الإنارة، وَبعده إصْلَاح الْقَمَر وَالشَّمْس، وَالْكَوَاكِب الْخمس، واستحضار الهيئات النابهة، والأشكال المتنافسة المتشابهة، وتقريب القرابين بَين يَدي الْآلهَة، ثمَّ يلقى الْجَارِيَة، وَكِلَاهُمَا يَقُول قولا مَنْقُولًا عَن الصُّحُف الموصوفة، والكتب المقدسة الْمَعْرُوفَة، مَعْنَاهُ يَا من قصرت الْأَلْبَاب عَن كنهه، وعنت الْوُجُوه لوجهه، قد

ص: 341

اجْتَمَعنَا على مزج مواد لَا نَعْرِف مَا تحدثه مِنْهَا، وَلَا مَا تظهره عَنْهَا وتلقينا، وتلقينا توفيقك من سعينا بِمِقْدَار المجهود، وَأَنت ملاذ الْوُجُوه، ومفيض السُّجُود، وَلَيْسَ تضرعنا لَك بِالْمَسْأَلَة، وابتهالنا فِي رحمتك المستنزلة تَنْبِيها لأقدارك الْمُصِيبَة للسداد، الْجَارِيَة بمصالح الْعباد، إِنَّمَا هُوَ بِحَسب مَا نحرز بِهِ فضل الرَّغْبَة إِلَيْك، وَالسُّؤَال لما لديك، وَنحن بِحسن اختيارك أوفق منا بارائنا، وقضاؤك السَّابِق من وَرَائِنَا، فلك الْحَمد على قضائك، وَالشُّكْر على نعمائك

فصل: وَكَانَ الْوَزير فيهم، يشْتَرط فِيهِ أَن يكون قديم النِّعْمَة، بعيد الهمة، مكين الرأفة وَالرَّحْمَة، كريم الْعَيْب، نقي الجيب، مُسَدّد السهْم، ثاقب الْفَهم، واثبا عِنْد الفرصة، واصفا للقصة، مريحا فِي الفصة، موفور الْأَمَانَة، أصيل الدّيانَة، قاهر للهوى، مستشعرا للتقوى، مشمرا عَن الساعد الْأَقْوَى، جليل الْقدر، رحيب الصَّدْر، مَشْهُور الْعِفَّة، معتدل الكفة، حذرا من النَّقْد، صَحِيح العقد، رَاعيا للهمل، نشطا للْعَمَل. واصلا للذمم، شاكرا للنعم، خَبِيرا بسر الْأُمَم، ذَا حنكة بالدخل والخرج، عفيف اللِّسَان والفرج، غير مغتاب وَلَا غيابة، وَلَا ملق وَلَا هيابة، مجتزئا بالبلاغ، مشتغلا عِنْد الْفَرَاغ، مؤثرا للصدق، صادعا بِالْحَقِّ، حَافِظًا للأسرار، مؤثرا للأبرار، مباينا بطبعه لخلق الأشرار، وَقد فاق قدر هَذِه الرُّتْبَة بَين الأقران، وَأعْطى وزانها، وَالْحَمْد لله، حَقه عِنْد الِاعْتِبَار.

وَنحن نذْكر بعد أَرْكَان الوصاة، ونفرغ لذكر حكمهَا المحصاة، وخصولها المستقضاة.

الرُّكْن الأول: وَهُوَ العقد الَّذِي عَلَيْهِ الْمعول، فِيمَا يستشعر الْوَزير بَينه وَبَين نَفسه، ويجعله هجيراه فِي يَوْمه وأمسه. وَاعْلَم أَن المملكة البشرية، الخليقة بالافتقار، الْحُرِّيَّة، لما كَانَ راعيها مركبا من أضداد مُتَغَايِرَة، وأركان متفاسدة

ص: 342

متضارة، ويجذبه كل مِنْهَا إِلَى طبعه أخذا برجاه، مدافعا بضبعه، لم يكمل حراسة مَا وكل إِلَيْهِ، وَلَا وفت بِضَم منتثرها آلَات حسه، فَاحْتَاجَ إِلَى وَزِير من جنسه، يَنُوب مهما غَابَ عَن شخصه، ويضطلع بتتميم نَقصه، ويتيقظ فِي سهره، ويجد عِنْد لهوه، فَيحْتَاج من اتّصف بِهَذِهِ الصّفة، إِلَى كَمَال فِي الْفضل، ورجاحة فِي الْمعرفَة، يعدل بهَا مَا عاصى الْملك من أُمُور ملكه ويوفي مَا عجز عَنهُ من نظم سلكه حَتَّى تبرز المملكة فِي أتم صورتهَا، وتبلغ الْكَمَال الْأَخير. بِمُقْتَضى ضرورتها، وتقوى الله عز وجل أول مَا قَدمته، ثمَّ تذليل بَيْتك لمن خدمته، ومقابلة ثقته بك، بِالْوَفَاءِ الذى سددت إِن التزمته، وَحمل الْخَاصَّة والعامة على حكم الشَّرْع، فَإِن لم تبن على ذَلِك، هدمته، وَأفضل مَا وهب لَك فِيمَا قلدته من قلادة، وعودته من عَادَة وسيادة، شُمُول الْأَمْن، وَعُمُوم الرِّضَا. وَظُهُور الْأَمَانَة والصدق فِي كل غَرَض مُقْتَضى، وَحسن النِّيَّة، وطهارة الطوبة، ورعاية الْإِحْسَان، وإفاضة الرأفة فِي عَالم الْإِنْسَان، وَزِيَادَة الْكِفَايَة بِحَسب الْإِمْكَان، وَاعْلَم أَن من لَا يضْبط نَفسه، وَهِي وَاحِدَة [لَا يضْبط] أَمر الْكثير من النَّاس على تبَاين الْأَغْرَاض، وتعدد الْأَجْنَاس، فاربأ بِنَفْسِك عَمَّا تجره الشَّهَوَات من النَّقْص، وازجرها عَن كلف الْحِرْص، وألن يجانبك لمن ظهر كَمَاله، وَقصرت بِهِ عَنهُ حَاله، وَاعْلَم أَن بَقَاء النعم على كتدك مقصرون ببقائها من يدك، وجريان الْأُمُور على مذهبك، بِحَسب استقامتها بسببك، وَقل أَن يتهنأ فِي هَذَا الْعَالم عمل عَار من الْمَلَامَة أَو سَالم من التجاوز كل السَّلامَة فَلْيَكُن خطأك فِي الْإِحْسَان للْإنْسَان، لَا فِي الْإِسَاءَة بِالْفِعْلِ وَاللِّسَان، فقليل الْخَيْر رُبمَا تمازقت ثَمَرَته، وَأَتَتْ أكلهَا ضعفين شجرته. وَإِذا هَمَمْت بِزَوَال نعْمَة عَن جَان، فاذكر كم تنَال تِلْكَ النِّعْمَة من مَكَان، وفيهَا من لم يسْتَوْجب عقَابا،

ص: 343

وَلَا كشف فِي شَرّ نقابا، وَقد قَالُوا، الْأَشْرَاف تعاقب بالبجران، وَلَا تعاقب بالحرمان وَرُبمَا قَالَت

... . . حراركن إِلَيْهَا وَلم تعلم، ثمَّ تأوه لفقد معروفها وتألم، فَاجْعَلْ هَذِه الذرائع مشفعا فِي بَقَائِهَا ودواعي لإجرائها، يتكفل لَك بارئك بإحراز السَّلامَة، وَرفع الْمَلَامَة، والمثوبة فِي الْقِيَامَة. وَاسْتعْمل التَّوَاضُع فِي هبوب رِيحك [وتجاف عَن الخسة والنجمة بتعريضك وتصريحكٍ] فَرُبمَا خشن جَوَاب لَا يغسل طبعه وَلَا يُوجد من يرقعه، وَلَا يُزِيلهُ عِقَاب قابله وَلَا يرفعهُ، سِيمَا فِيمَن اسْتحق الْمَوْت أَو يتقن الْفَوْت، واصبر على ذَوي الْفَاقَة [وَأهل الْإِضَافَة] ولتسل الْإِضَافَة بِجهْد الطَّاقَة، وَإِيَّاك والضجر، فَإِنَّهُ يكدر الصفو، وَيذْهب الْعَفو، ويبقي الفلتة الشنيعة، وَيفْسد الصنيعة. وَقد ركل أَبُو عباد الْوَزير رجلا بِرجلِهِ، فَرفع إِلَى الْخَلِيفَة من أَجله:

(قل للخليفة يَا ابْن عَم مُحَمَّد

إشكل وزيرك أَنه ركال)

(إشكله عَن ركل الرِّجَال وَإِن

ترد مَالا فَعِنْدَ وزيرك الْأَمْوَال)

وَتركهَا مثلا يذكر، وقلتة تنكر.

فصل: وَإِذا بَاشر عيوبا فتبع عيوبه دون فصوله وأبوابه دون فصوله، وَلَا تشتغل بفروعه المتشعبة عَن أُصُوله، ثمَّ اصمد بعد إِلَيْهَا، واعطف عَلَيْهَا، وَلَا تعن بتفضيله عَن جملَته، فيضيع سائره قبل أَنَاة الْوَقْت ومهلته، وَلَا ترفض عملا عَن وَقت يسرده وينصه، فَإِن لكل وَقت عملا يَخُصُّهُ، وَأَقل مَا يلْحق من ازدحام الْأَعْمَال، تطرق الْفساد إِلَيْهَا، والاحتلال عِنْد الاستحثاث إِلَيْهَا،

ص: 344

والاستعجال وضيق المجال، وتهيب الْعَمَل مطيل الزَّمَان، منب عَن ضيق الْجنان، وَلَا تركن فِي الِاسْتِخْدَام إِلَى شَفَاعَة غير نفاعة، مَا لم تكن شَفَاعَة الْكِفَايَة وَالْأَمَانَة وَالرِّعَايَة، وَاعْلَم بِأَن من ظهر حسن صبره، على انتظام أمره، حسن صبره على شدائده فِي حوادث الدَّهْر ومكائده، فالصبر قدر مُشْتَرك فِيمَن أَخذ وَترك، وَالنَّفس لَا تنفك من معترك، وَاعْلَم أَن الرَّاحَة عِنْد الْحَاجة إِلَى الْحَرَكَة، تهدى التَّعَب الضَّرُورِيّ لمن أَخذه فِيهَا وَتَركه، وَلَا تغفلن شَيْئا تقلدته، بعد مَا حسبته من وظائفك وعددته، فيظن بك من الْخُرُوج عَن طبعك الَّذِي جبلت عَلَيْهِ، بِمِقْدَار مَا خرج إِلَيْهِ، وَلَا تحتجب عَن النَّاس، يفشو بغضك، ويضعف من السياسة فرصك، وتكتمك النَّصِيحَة سماؤك وأرضك، وَللَّه در القايل:

(كم من فَتى تحمد أخلاقه

وتسكن الْأَحْرَار فِي ذمَّته)

(قد كثر الْحَاجِب أعداءه

وسلط الذَّم على نعْمَته)

وَلَا يعجبنك مَا يظنّ من مساويك، ولتكن معرفتك بِعَيْب نَفسك أوثق عنْدك من مدح أَبنَاء جنسك، وانقض عَن الْعَامَّة، وَمن يلابسها، وَامْتنع عَن التكبر بِمن يجانسها، فَفِي طباعها إهانة الملتبس بإشياعها، وتنقص من اتَّصل برعاعها. وَاعْلَم بِأَن إحسانك للْحرّ يحركه على المكافآت الْمُخْتَلفَة، وإحسانك إِلَى الوغد يحملهُ على معاودة الْمَسْأَلَة، وضع إحسانك وَلِسَانك حَيْثُ وضعهما الرَّأْي الصَّحِيح، وَالِاخْتِيَار الصَّرِيح. هَذِه أرشدك الله نقطة من يم، وقافة من جم، وحصاة من نثير، وَقَلِيل من كثير، والنبيل من قَاس الشَّيْء بنظيره، وَاسْتدلَّ على الْكثير بيسيره، وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل.

الرُّكْن الثَّانِي: فِيمَا يستشعره الْوَزير مَعَ الْملك، ليأمن عَادِية الْأَمر المرتبك. وَإِذا خدمت ملكا زَاد رَأْيك على رَأْيه، وَفضل سعيك فِي التَّدْبِير حسن سَعْيه، فإره الِاسْتِعَانَة بِمد يدك، واقصر من إشراف جيدك، واظهر التَّعَجُّب مِمَّا فضل عَلَيْك بِهِ، وسر من الحزم على مذْهبه، وَلَا تتبجح بتجاوز مَا لأهل طبقتك،

ص: 345

وَإِذا أنفقت عِنْده الْكِفَايَة، فاقصد فِي نَفَقَتك، فَإِنَّهُ لَا يحسن مِنْهُ موقع قَوْلك أَو عَمَلك، وَيرى أَن تعزرك بِهِ أَكثر من تحملك، فيشرع فِي كسرك ويثيره إِلَى قسرك. وَإِذا تعَارض عنْدك الْعَجز فِي مروتك وديانتك وكفايتك وأمانتك، فبزه الْكِفَايَة عِنْده عَمَّا يُشِير، وَارْضَ بِالنَّقْصِ فِي الْمَرْوَة لَا فِي الدّين فَهُوَ عَلَيْهِ أسهل، وَفرق مَا بَين الْحَالين لَا يجمل، وَإِيَّاك أَن يأنس بك فِيهَا إخلالا، أَو يرى مِنْك فِيهَا إهمالا، وَاحْذَرْ الْإِضْرَار لَدَيْهِ بِالنَّاسِ فِي سَبِيل النَّصِيحَة، أَو التوفير عَلَيْهِ كَمَا توفر الْعَامَّة على أَنْفسهَا الشحيحة، وابتغ لَهُ قُلُوب الْخلق بمسامحتهم فِيمَا قصروا فِيهِ عَن يسير الْحق، فَإنَّك تسترخص لَهُ بذلك تملك الْأَحْرَار، وتحسين الْآثَار، واترك لشئونه الْخَاصَّة شئونك، وحرك من أَحْسَنت إِلَيْهِ على شكره دُونك، ليقف على أَن سعيك لَهُ أَكثر من سعيك لنَفسك، فِي يَوْمك وَأمْسك وَلَا حَظّ لَك فِيمَا لَا تمسك، وَإِيَّاك أَن تحيا بِمثل تحيته أَو تلقى بِمثل مَا يلقى بِهِ عِنْد رُؤْيَته، أَو ترفع بِالسَّلَامِ عَلَيْك الْأَصْوَات، أَو يسْبق النَّاس بابك قبل بَاب الْملك بالغدوات فكم جلب ذَلِك من الْآفَات، وَغير من الصِّفَات. وَإِذا دعَاك إِلَى لهوه أَو شرابه وخصك بمزيد اقترابه فَلْيَكُن الإعظام على الالتذاذ غَالِبا، والفكر للحذر مراقبا، وَاجعَل التَّحَرُّز مِنْهُ فِي أَوْقَات انبساطه إِلَيْك وَاجِبا، وَلَا تستهز من ذَلِك بِمَا لَيْسَ يبين، وَإِيَّاك أَن تنم بك اسرة وَجه، أَو نظرة عين، واجتنب لِبَاس ثَوْبه وركوب مركبه، واستخدام جَمِيع مَا يتزين بِهِ، فَمن خدم السُّلْطَان لنباهة الذّكر، ولباس الْعِزَّة، لم يضرّهُ تَقْصِير الرياش، وَلَا تعود البزة، وَمن صَحبه للذة والترف، كَانَ سريع المنصرف، مسلوب الشّرف [فصل] وَإِذا خصك بمشورته، وَطلب رَأْيك لضرورته، فَلَا تخاطبه مُخَاطبَة المرشد لمن استهداه، وأره حَاجَتك لما أبداه. وَإِذا اعْترف بخطإ يواقعه فِي بعض أنظاره، أَو أعلن

ص: 346

يَوْمًا بِسوء اخْتِيَاره، فأجل فكرك فِي التمَاس عذره وتوجيه عاره، واحتل بفطنتك فِي رمه، وَاحْذَرْ أَن توافقه على ذمه، وذلل نيتك لكلامك. واصرف إِلَى ترك التجاوز جلّ اهتمامك، فَالْكَلَام إِذا طابق نِيَّة الْمُتَكَلّم حرك نِيَّة السَّامع، وَإِذا صدر عَن الْقلب، أَخذ من الْقلب بالمجامع. وَإِذا توجه إِلَيْك عَتبه لشُبْهَة فِي أَمرك عرضت أَو ظنة تعرضت، فَلَا تقبل رِضَاهُ عَنْك تمويها، مَا لم تقم حجتك فِيهَا، وَلَا تسام إِلَّا لَامة، وأره أَنَّك لَا تُؤثر الْحَيَاة دون بَرَاءَة الساحة حَتَّى ترْتَفع الظنة رَأْسا، وَلَا تخشى من تبعة الإحنة بَأْسا، وَيكون ذَلِك عِنْده شَاهدا بِفَضْلِك، وزايدا لَهُ فِي محلك، وَلنْ لَهُ إِذا غضب، وَاتَّقِ الكريهة دونه، إِن رهب، واصرف لحظك عَنهُ إِن أكل أَو شرب، وسد بَيْنك وَبَينه بَاب العتاب بالمشافهة أَو الْكتاب، وَلَا تخف من طَاعَة الْملك إِلَّا مَا وَافق من طَاعَة ربه، يضع الله تجلتك فِي ذَاته، وَاذْكُر قَول الْوَزير الْمُتَقَدّم، وَقد أمره الْملك الْمُسَلط بقتل رجل، وتلطف فَسبق لَهُ عَن ذَنبه بِمَا جر عَظِيم إِنْكَاره وقطيع عَتبه أَيهَا الْملك السعيد لَو كنت مالكي وَحدك، لأنفذت من غير مهلة أَمرك، وشرحت بالامتثال صدرك، وَلَكِنَّك تملك ظاهري وَحده، ولى من يملكهُ وَمَا بعده، وَإِذا انفذت عَهْدك، نكثت عَهده، وَإِذا خرجت من يدك، دخلت فِي يَده الَّتِي لَا تمنع، فَكيف أصنع وَله الْأَمر أجمع، وَأَنا لَك فِي طَاعَته من شِرَاك نعلك أطوع. فَبكى الْملك الْجَاهِل لصدق حجَّته وَحمل الرجلَيْن من لعفو على أوضح محجته. وَهَذَا الْقدر كَاف لأولي الْأَلْبَاب فِي هَذَا الْبَاب.

الرُّكْن الثَّالِث: فِيمَا يحذرهُ من تقدم الْملك عَلَيْهِ فِي الْأَمر الَّذِي أسْند إِلَيْهِ، وَجعل زمامه فِي يَدَيْهِ. وَاعْلَم أَن من [الْعَار] بارتياضك، وسداد أغراضك أَن يتقدمك الْملك بِخلق هِيَ أولى بك، وادخل فِي حِسَابك، من الصَّبْر على الملاهي،

ص: 347

والانقياد للأوامر الدِّينِيَّة والنواهي، وهجر الدعة فِي الضّيق وَالسعَة، وَشدَّة الْيَقَظَة، وَالذكر الَّذِي يعْنى بِهِ الْحفظَة من ذكر إقطاع، أَو مِقْدَار ارْتِفَاع، أواسم مرتزق، أَو حصر عمل مفترق، أَو التفكير فِي مصلحَة المملكة، فَإِنَّهُ إِن رَاض ذَلِك دُونك وعلكه، ونهجه مُنْفَردا وسلكه، وتميز فِيهِ بالملكة. وسامحك فِي التَّقْصِير والباع الْقصير، وسره سبقه إياك، وتقدمه عَلَيْك فِيمَا ولاك، فَهُوَ مِمَّا يحط لَدَيْهِ أَمرك، ويوهن قدرك، وَإِن كَانَ غَرَّك وَيرى أَنه لَا موازرك فِيمَا نابه، وَلَا كَافِي فِيمَا عرا بَابه، وأمل منايه، واجتهد أَن يراك شَدِيد الْحِرْص، آنِفا من النَّقْص، وَلَا يحس مِنْك فِي وظيفتك بتقصير، وَلَا يشْعر مِنْك فِيهِ بِرَأْي قصير.

فصل: وَاحْذَرْ أَن تسول لَك قدرَة الْإِمْكَان ودالة السُّلْطَان، الزِّيَادَة فِي الاستكثار من الضّيَاع وَالْعَقار، والجواهر النفيسة والأحجار، وَغير ذَلِك من الاحتجان والاحتكار، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ جلالة الْمحل ونباهة الْمِقْدَار، فيتقسم فكرك وشغلك، ويضيع سعيك وفضلك، ويحصيه عَلَيْك من يضمر لَك الافتراس، وَلَا يمكنك من كَيده الاحتراس، مِمَّن حروم حَظه، أَو وكس مَعْنَاهُ أَو لَفظه، ومتطلع إِلَى أوفى من وزانه، متسام إِلَى مَا وَرَاء إِمْكَانه، أقصرت بِهِ السياسة عَن شانه، فأضرم الْحَسَد ناره، وأذكى إوراه، وَأعظم صغيرك وأثاره، ويتشوف إِلَى مناهضتك من كَانَ عَنْهَا مقصرا، ويجهر من كَانَ مستترا، ويستدعي الارتياب مَا جلبه الْحَظ إِلَيْك، والاستظهار بِهِ عَلَيْك، وطمع الْحَاسِد فِيمَا لديك، واحرز مَعَ الْملك السلغة الَّتِي تقيك، وتوسدك مهاد الفضلة وتنميك، وترفع كلك، وتشمل أهلك، حَتَّى يعلم أَنَّك بِقَلِيل مَا يجريه لَك الْعدْل لَدَيْهِ، أغْنى مِنْهُ بالكثير فِي يَدَيْهِ، واجتنب الانهماك فِي الاستكثار من الْوَلَد والحشم أولى الْعدَد، والأذيال الَّتِي ثبتَتْ فِي أقطار الْبَلَد، فَإِن الْحَاسِد يراهم بذخا ونعمه، وَإِنَّمَا هم

ص: 348

مؤونة ونقمة، وداعية إِلَى اسْتِهْلَاك عتاد أَو تَدْبِير مُسْتَفَاد، وإثارة حساد لَهُم، ورد جاهك، وَعَلَيْك صَدره وَلَهُم نفع كدحك، وَعَلَيْك ضَرَره. والاقتصاد فِي أَمرك أدوم لسلامتك وَأَرْفَع لملامتك، واغض لطرف حاسدك، واصدق لفوائدك، وأروح لقلبك وأخلص فِيمَا بَيْنك وَبَين رَبك، وَفِيمَا عثرت عَلَيْهِ التجارب، ووضحت مِنْهُ الْمذَاهب، أَن المتقلل من الوزراء، طَوِيل عمره، ناجح أمره، مظفر بأعدائه وأضداده، قريب من الْحَال المرضية فِي معاده. ولتكن همتك مصروفة إِلَى اسْتِبْرَاء حَال المملكة واعتبارها، وَتَأمل أفكارها، وَمَا عَلَيْهِ كل جُزْء من أجزاءها، من سداد ثغورها ودفاع أعدائها، ونقصان ارتفاعها، واختلال أوضاعها، أَو تَدْبِير مصلحَة يبْقى لَك ذكرهَا وخبرها، وَيحسن بك أَثَرهَا. وخف مصَارِع الدَّالَّة، فَهِيَ أدوأ دائك، وأكبر أعدائك. وَاعْلَم أَن الاقتصاد مَعَ إِمْكَان التَّوسعَة، والتنزل مَعَ الرُّتْبَة المرتفعة، يُنبئ عَن قُوَّة رَأْيك، وَصِحَّة عزمك، واستقامة سعيك وَالرَّغْبَة فِي الترف، والميل إِلَى الشّرف، دَالَّة على غَلَبَة الْهوى على الشّرف، وَأجل مَا جملت بِهِ زَمَانك، وَرفعت شَأْنك، خدمَة الشَّرِيعَة، وإحياء رسومها، وقمع الْبدع، وَإِزَالَة شومها، يذع لَك الْحَمد ويتخلد لَك الْمجد. وتول ذَلِك مَتى أمكنك بِنَفْسِك، وَلَا تكله إِلَى غَيْرك من أَبنَاء جنسك، حَتَّى إِذا وفقت بِهِ على غميرة يجب تغييرها، وَيتَعَيَّن نكيرها فارفع إِلَى الْملك عينهَا، وقبح عِنْده شينها، ثمَّ حل بَينه وَبَينهَا، وَأظْهر للنَّاس أَن قلقه بهَا أهمك، أَكثر من قلقك، وخلقه لإنكارها مُتَقَدّمَة لخلقك، تهدي إِلَيْهِ بذلك مَا يزِيد فِي مكانتك ويغبط بأمانتك، وَيشْهد بمؤازرتك وإعانتك وحسبنا، الله وَنعم الْوَكِيل.

الرُّكْن الرَّابِع: فِي تصنيف أَخْلَاق الْمُلُوك، للسير بمقتضاها والسلوك. وَاعْلَم أَن للملوك أَخْلَاقًا، يفْطن الملاطف من خدامها إِلَى اسْتِعْمَالهَا، فيجعلها أسا

ص: 349

للسياسة وأحكامها، وَهِي أَن الْملك لَا يَخْلُو أَن يكون سخيا وباذلا، أَو ممسكا باخلا، وقويا على تَدْبيره أَو ضَعِيفا، يلقى المقادة إِلَى وزيره أَو سيا ظَنّه أَو من الاسترسال فِيهِ أَو حسن الْبشر عِنْد الافتراض، أَو منقبضا عَن الْأَعْرَاض. وَإِذا تركبت هَذِه الْخلال تركيبا طبيعيا، وترتبت ترتيبا وضعيا، وتقابل امتزاجها، بلغ إِلَى سِتَّة عشر ازدواجها، وَتَأْتِي للحكيم من الوزراء علاجها، وَرُبمَا انحرفت هَذِه الْخلق أَو توسطت، وَرُبمَا أفرطت، وعَلى هَذَا التَّرْتِيب ارتبطت، وَإِن كَانَ سخيا آثر درور الشُّكْر على توفير قوافل المَال، وكاف يحسن الذّكر فِي جَمِيع الْأَحْوَال وَإِن كَانَ بَخِيلًا، فبضد هَذِه الْحَال، وَإِن غلبت عَلَيْهِ قُوَّة التَّدْبِير، استدعاك إِلَى الْمُشَاركَة فِي سعيك، وأحرز بذلك عَلَيْك الْحجَّة فِي رعيك وَإِن غلب عَلَيْهِ الضعْف ركن إِلَى تدبيرك، وفوض إِلَيْك الْأَمر فِي قليلك وكثيرك، وخلاك ومالا يحمد من عواقب أمورك، وَإِن كَانَ حسن الظَّن تمكنت من إحكام تدبيرك لدولته، وَبَلغت مِنْهَا أقاصي مصْلحَته، وَإِن كَانَ سيء الظَّن، شغلك عَن الْإِخْلَاص بكلف الْخَلَاص، وبإحراز الْحجَّة عَلَيْهِ عَن التفرغ الْكثير مَا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَإِن كَانَ الْبشر عَلَيْهِ غَالِبا، كَانَ لنشاطك جالبا، فَاجْعَلْ هَذِه الْأَخْلَاق أصولا ورعيك لَهَا موصلوا، وَصَاحبه على خلقه وعقله، وانقل مِنْهَا بالتلطف مَا قدرت على نَقله، واعط صُورَة من تخدمة مَا ينافس تأليفها، وَيرْفَع تكليفها، وانفق مَا ينْفق عِنْدهَا وجار أخلاقه، واجتنب ضدها، يحسن أثرك، ويعظم شَأْنك، وَينفذ لَك سلطانك.

الرُّكْن الْخَامِس: فِي سيرته مَعَ من يتطلع لهضبته، ويحسده على رتبته، وَاعْلَم أَنه لَا يَخْلُو من حل محلك من علو الْقدر، وَعزة الْأَمر، عَن قرين يعانده،

ص: 350

لَا حَاسِد يكايده، أَو متطلع يمت إِلَى الْملك بقربى، أَو يمحل إثافه فِي اللطافة وأربى يتَوَهَّم أَن وسيلته تبلغه مَا يَتَطَاوَل إِلَيْهِ من منزلتك، وتلبسه لِبَاس تحلتك، أَو ذِي همة جامحة ولأعنان الشّرف طامحة، يرى أَن خطه منحوسا، وَأَن مثله لَا يكون مرءوسا، وَآخر ذَاك فِيهَا مفترا فِيمَا أثرت فِيهِ رضى من حكم يفضلك وَحسن الإبقا فِي المملكة يعدلك، وَاحْتمل المدافعة حسن موقعك، وجلالة محلك، فَظن تراخيك لإخلال فِي التَّدْبِير، وإساءة فِي التَّقْدِير، وَكلهمْ ينظر إِلَى الْملك من أَصْغَر جوانبه، وَيخْفى عَنهُ أَكثر مِمَّا يظْهر مذاهبه، ولطف الْمحل، والتقدم فِي الْعلم وَالْفضل، وان كَانَ يُغير من حل محلك، وناهض فضلك، لَيْسَ من الِاضْطِرَار أَن يكون لمنزلته أسبابا، وَلَا لطلبه أبوابا، وَالْحق أَن تجاهده الْجَمَاعَة، وتقمع مِنْهَا الطماعة بِالزِّيَادَةِ فِي فضائلك الذاتية، [والتحرز من مُلَابسَة الدنية] والمناصحة لمن خصك بالمزية وَلَا تكشف فِي المجادة وَجها، وَلَا تبد فيهم غيبَة وَلَا نجها، واكسر سُورَة حسدهم بإحسانك، وسوغهم الْمَعْرُوف من وَجهك وَلِسَانك واصطنع أضدادهم مِمَّن ضلع عَلَيْهِم وَمثل لديهم، تحرس مِنْهُم غيبك، وتدافع عيبك، وتجلو ريبك من غير أَن يحس مِنْك لهَذَا الْغَرَض بفاقة، وَلَا يشْعر بِإِضَافَة، فَإنَّك تنشر معايبهم المطوية، وترميهم من أشكالهم بالبلية، ثمَّ تتلقى بعد ذَلِك فوارطهم بِحسن الْإِقَالَة وتتغمد سقطاتهم بالجلالة، وتكر بكرم الْعَفو على سوآتهم السوالف، وتخليهم وَمَا بقلوبهم من الحسايف فَإِن تسلط الْجَاهِل [على نَفسه] قصر عَنهُ من عدل أَو أَخطَأ نيله من فضل، أعز على حرمانه من ظفر أعدائه، وَلَا تركن إِلَى من وترته، وَلَا إِلَى من حركت حسده وأثرته، وَخذ حاشيتك يتْرك التعالي، والتضامن لِذَوي الشّرف العالي والإقصار من المطامع وإدالتك فِي المسامع، ولتتخط الْعدْل فِي النَّاس إِلَى الْفضل، والبشر إِلَى الْبَذْل،

ص: 351

وَالْقَوْل الصَّالح إِلَى الْفِعْل، واختر من تصطنعه لخدمتك، وتنصبه مظْهرا لنعمتك بِنِسْبَة مَا شَرط فِي الِاخْتِيَار فِي رتبتك، فَإِن إِحْسَان الصنيعة يرد عَنْك، سوء القالة، وقبح الإدالة، ويصون عرضك من الإذالة

الرُّكْن السَّادِس: فِيمَا تساس بِهِ الْخَاصَّة والبطانة، وذوو الدَّالَّة والمكانة، وَاعْلَم أَن من الْخَاصَّة مربض لشدائد الدولة ومهماتها، ومتسم من ألقاب الْغِنَا بأكرم سماتها، فَهُوَ يرى لنَفسِهِ الْيَد وَالْيَوْم والغد، وَآخر مُتَعَلق بِقرَابَة من الْملك وَحرمه، أَو وَكيد ميل وَذمَّة، ولبست حظوظهم من الْملك على حسب قُوَّة أسبابهم، وَوزن مَا فِي حسابهم فَإِن أَطَعْت فهم الْملك، ظلمت المملكة، حَقّهَا، وَإِن عدلت خَالَفت مُوَافقَة الْملك، وباينت طرقها، وَالصَّوَاب التَّمَسُّك بالترتيب على الْإِطْلَاق، وَوضع النَّاس من المملكة مَوضِع الِاسْتِحْقَاق، وَاسْتِعْمَال إرضاء الْملك فِي تَفْصِيل من أَثَره بِحسن الْعَطِيَّة، وباين بَين أَصْنَاف الشفوف، وأنواع المزية، وَاعْلَم أَن ميل الْأَعْلَام إِلَى رفْعَة الْمنزلَة. أعظم مِنْهَا إِلَى الصِّلَة، وراع أَمر الْجَمَاعَة فتمم مَا وَقع بالمستحق من التَّقْصِير، بكرم المواعيد وإلغاء المعاذير، وَأصْلح قُلُوبهم للْملك بِكُل مَا يتكفل بجبر الكسير، واجذبها إِلَى طَاعَته بِحسن أوصافك، وَصِحَّة رَأْيك فِي الْقَلِيل وَالْكثير، وانحله فضايلك من غير شوب بَاطِن وَلَا تكدير، تصف لَك سريرة صَدره، ويأتمنك على جَمِيع أمره، وَاحْذَرْ انصباب الْقَوْم عَلَيْك، وإخلالها بمراكزها من دَاره، وانصرافها إِلَيْك، والتحامها بك وتمسكها [دون الْملك] بأسبابك، اعْتِمَادًا على نصْرَة جنابك، وقيامك بأمرها وَحسن منابك، وخف وَضعهَا إياك من قلوبها وعيونها، وكافة شئونها لَا يُؤثر الْملك رِضَاهُ وَلَا يحمد مُقْتَضَاهُ، فَرُبمَا زرع لَك فِي قلبه سوء الطوية، وَأثبت لَك الحقد وخبث النِّيَّة، وخبأ لَك وَأَنت لَا تعلم أعظم البلية، ولتمكن النُّفُوس أَن رضاك بِرِضَاهُ مَعْقُود، وَأَنَّك لَا تعْمل إِلَّا مَا رَآهُ، وَلَا تُؤثر إِلَّا

ص: 352

مَا ارْتَضَاهُ، وَأَن لَك مِنْهُ منزلَة محمودة، ودرجة معقودة، من زادك عَلَيْهَا ظلمك، وجلب ألمك، وَأَن فِي قبولك لَهَا وإيثارك، مَا يزري على فضل اختبارك، وعامل الْملك فِي وَلَده بِحِفْظ الْغَيْب، والسلامة من الريب، واحفظ لَهُ الرَّسْم واستبقه. وَاجعَل حَقهم دون حَقه. وَإِذا دَعَوْت لَهُم فاشرط السَّعَادَة بخدمته وطاعته. وَاجعَل رِضَاهُ من الْوَلَد رَأس بضاعته، وَاحْذَرْ من إهمال هَذَا الْعرض وإضاعته، وَإِيَّاك أَن تفضل ولدك وَلَده، وَلَا عدتك عدده، وَلَا تناقشه فِي شَيْء قَصده، وَلَا تظهر حاشيتك على حَاشِيَته، وَلَا تتشبه غاشيتك بغاشيته، وَلَا تنازعه تجلته، وَلَا تَفْخَر مَنْزِلَته، وَلَا تحل مَحَله من جَيْشه، وَلَا تغر عَلَيْهِ فِي نباهة بناية، وَفضل عيشه، وتفقد نَفسك، فَانْزِل عَن الرقى اخْتِيَارا قبل أَن ينزلك اضطرارا.

فصل: وَإِذا انصرفت إِلَيْك من إِحْدَى حرمه، رَغْبَة، أَو تأكدت فِي مُهِمّ قربه، أَو بدرت إِلَيْك شَفَاعَة أَو تَوَجَّهت فِي حَاجَة طَاعَة، فَلَا تسمع رسالتها، وَلَا تعْتَبر مقالتها، إِلَّا من لِسَان إِنْسَان مَوْصُوف عِنْد الْملك بِإِحْسَان، حَال من يقنه بمَكَان، وَاحْترز فِي محاورتها من فلتات اللِّسَان وهفواته، وراجع خطابها مُرَاجعَة الْأَخ إِلَى أكْرم إخواته، أَو الإبن الأبر أمهاته. وَلَا تصغ فِي مخاطبتها إِلَى خضوع كَلَام ورقة، تَحِيَّة وَسَلام، وانفر من ذَلِك نفرتك من السمُوم الوحية والمهالك الردية، واسدل دون الْوَلَد وَالْحرم جنَاح التقية، واكتم سره عَن أَبنَاء جنسك لَا بل عَن نَفسك وَاجعَل قَلْبك لَهُ قبرا، وأوسعه صِيَانة وصبرا فَإِن تزاحم عَلَيْك تزاحما تخَاف عَلَيْهِ معرة النسْيَان وإغفال ذكرهَا على الأحيان، فَاتخذ لَهَا رمزا يفردك بعلمها، وَلَا تبح لسواك شَيْئا من حكمهَا، وَلَا تغفل

ص: 353

مَعَ الأحيان مَا جرى بِهِ رسمك من عرض كتاب وَارِد، أَو خبر وَافد، أَو بريد قَاصد واستأمره فِيمَا جرت بِهِ العوايد، وَإِن خصت لَدَيْهِ منزلتك، ولطفت مِنْهُ، محلتك، فَلَا تتْرك أَن يمر ذَلِك على سَمعه، معتنيا لرعيه، وأذقه حلاوة الاستبداد بأَمْره وَنَهْيه، واترك لَهُ منفذا [يحْتَج لَهُ بَابه] عِنْد مغيبك، كَمَا تحببه الْعدْل من نصيبك ولازم سدته مَعَ الأحيان، وَإِيَّاك أَن تَجْتَمِع مَعَه على فرَاغ، فَيبقى الْملك مضيعا بِمِقْدَار ذَلِك الزَّمَان، وَإِذا انصرفت إِلَى منزلتك، فاختل بعمالك وكتابك، وَذَوي الرَّأْي والنصيحة من أَصْحَابك، على إحكام حَال الْملك الَّذِي ناطها بك، فَإِذا أمسيت، فاشغل طايفة من ليلك بمدارسة شَيْء من حكم الدّين، وأخبار الْفُضَلَاء المهتدين، واجل صدا نَفسك بالبراهين، ومجالسة الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ، وَاخْتِمْ سعيك بِبَعْض صحف النَّبِيين، وأدعية الْمُرْسلين والمتألهين لتختم يَوْمك بِالطَّهَارَةِ والعفة، والحلم والرأفة واعتدال الكفة، وليهون عَلَيْك النصب والوصب، والعمر المغتصب، إِنَّك مهتد بِهَدي رَبك الَّذِي يرعاك وينجح مسعاك، ويثيبك على مَا إِلَيْهِ دعَاك.

قَالَ فَلَمَّا استوفى النمر مقاله، وأحرز الشبل سُؤَاله، وَقرر حَاله، انْصَرف متجها إِلَى خدمته، وَصرف النمر إِلَى الْعِبَادَة وَجه همته، ثمَّ لحق بعد ذَلِك بجوار ربه وَرَحمته، وَقيد الحاكي مَا أفادته هَذِه المحاورة، لتلفى رسما يَقْتَضِي وحلما بِهِ يَهْتَدِي إِذا ذهب الْأَثر وَعَفا. وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل.

ص: 354

وَمن ذَلِك مَا صدر عني

فِي مفاخرة بَين مالقة وسلا مَا نَصه:

سَأَلتنِي عرفك الله عوارف السعد الْمُقِيم، وحملني وَإِيَّاك على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم، المفاضلة بَين مدينتي مالقة وسلا، صان الله من بهما من النسم، وحباهما من فَضله بأوفر الْقسم، بعد أَن رضيت بحكمي قَاضِيا، وبفضلي الخطة سَيْفا مَاضِيا، لاختصاصي بسكني البلدين، وتركي فيهمَا الْأَثر للعين على أَن التَّفْضِيل إِنَّمَا يَقع بَين مَا تشابه وتقارب، أَو تشاكل وتناسب وَإِلَّا فَمَتَى يَقع التَّفْضِيل بَين النَّاس والنسناس، وَالْملك والخناس، وقرد الْجبَال، وظبي الكناس

مالقة، أرفع قدرا، وَأشهر ذكرا، وَأجل شَأْنًا [واعز مَكَانا] وَأكْرم نَاسا، وَأبْعد التماسا، من أَن تفاخر أَو تطاول، أَو تعَارض أَو تصاول، أَو تراجع أَو تعادل، وَلَكِنِّي سأنتهى إِلَى غرضك، وَأبين ربع مغترضك، وأباين جوهرك وعرضك، فبقول الْأُمُور الَّتِي تتفاضل بهَا الْبلدَانِ، وتتفاخر مِنْهَا بِهِ الإخوان، وتعرفه حَتَّى الولائد والولدان، هِيَ المنعة والصنعة والبقعة والشنعة، والمساكن والحضارة، والعمارة والإثارة والنضارة

فإمَّا المنعة، فلمالقة حرسها الله فضل الِارْتفَاع، ومزية الِامْتِنَاع. أما مقبثها فاقتعدت الْجَبَل كرسيا، ورفعها الله مَكَانا عليا بعد، أَن ضوعفت أسوارها وأقوارها، وسما بسنام الْجَبَل الْمُبَارك منارها، وقرت أبراجها وصوعدت أدراجها، وحصنت أَبْوَابهَا، وَحسن جنابها، وَدَار ببلدها السُّور والجسور، وَالْخَنْدَق المحفور فقلهراتها مداين بذاتها، وأبوابها المغشاة بالصفايح شاهدة بمهارة بناتها، وهمم أمرائها وولاتها، كَأَنَّهَا لبست الصَّباح سربالا،

ص: 355

أَو غاصت فِي نهر الفلق بهاء وجمالا، أمنت من جِهَة الْبَحْر التقية، وأدار بهَا من جِهَة الْبر الحفير والسلوقية لَا تَجِد الْعين بهَا عَورَة تتقى، وَلَا ثلمًا مِنْهُ يرتقي، إِلَى الربضين، اللَّذين كل وَاحِد مِنْهُمَا مَدِينَة حافلة، وعقلية فِي حلى المحاسن رافلة، وسلا، كَمَا علمت، سور حقير وثور. إِلَى التنجيد والتشييد فَقير، إطام خاملة وللروم آملة، وقصبتها بِالْبَلَدِ مُتَّصِلَة [وَمن دَعْوَى الحصانة منتقلة] سورها مُفْرد، لَا سلوقية نقية، وبابها تقصد لَا سَاتِر تحميه وَالْمَاء بهَا مَعْدُوم وَلَيْسَ لَهُ جب مَعْلُوم، وَلَا بير بالعذوبة مَوْسُوم، وَفِي عهد قريب استباحتها الرّوم فِي الْيَوْم الشامس، وَلم ترد يَد لامس، من غير منجنيق نصب، وَلَا تَاج ملك عَلَيْهِ عصب، قلَّة سلَاح وَعدم فلاح، وخمول سور، واختلال أُمُور. وَقد سَقَطت دَعْوَى المنعة، فَلْتَرْجِعْ إِلَى قيم الصَّنْعَة فَنَقُول: [مالقة حرسها الله، طراز الديباج الْمَذْهَب، ومعدن صنايع الْجلد الْمُنْتَخب، وَمذهب الفخار المجلوب مِنْهَا إِلَى الأقطار، ومقصر الْمَتَاع المشدود، ومضرب الدست الْمَضْرُوب، وصنعا صنايع الثِّيَاب، ومحج التُّجَّار إِلَى الإياب لإفعام الْعباب، بِشَهَادَة الْحس، وَالْجِنّ وَالْإِنْس، وَلَا يُنكر طُلُوع الشَّمْس، وَأي صناعَة فِي سلا، يقْصد إِلَيْهَا ويعول عَلَيْهَا، أَو يطرف بهَا قطر بعيد أَو يتجمل بهَا فِي عيد، ومنذ سَقَطت مزية الصَّنْعَة، فلنرجع إِلَى مزية الْبقْعَة فَنَقُول، خص الله مالقة بِمَا افترق فِي سواهَا وَنشر بهَا المحاسن الَّتِي طواها، إِذْ جمعت بَين دمث الرمال، وخصب الْجبَال، وقارة الفلاحة الْمَخْصُوصَة بالاعتدال، وَالْبَحْر الْقَدِيم الصداع الميسرة مراسيه للحط والإقلاع، وَالصَّيْد العميم الِانْتِفَاع، جبالها لوز وتين، وسهلها قُصُور وبساتين، وبحرها حيتان مرتزقة فِي كل حِين ومزارعها المغلة عِنْد استبداد السنين وَكفى بفحص قافره صادع بالبرهان الْمُبين، وواديها الْكَبِير عذب فرات، وادواح مثحرات، وميدان ارتكاض بَين بَحر ورياض

ص: 356

وسلا، بلد الرِّجَال، ومراعي الْجمال بطيحة لَا تنجب السنابل، وَإِن عرفت الْمَطَر الوابل جرد الْخَارِج، وبحرها مكفوف بالقتب والمدارج، وواديها ملح المذاق، مستمد من الأجاج الزلاق، قَاطع بالرفاق من الْآفَاق، إِلَى بعد الْإِنْفَاق، وتوقع الإغراق، وشابلها مَقْصُور على فصل، وَكم الشَّوْكَة من شانصل، عديمة الْفَاكِهَة والمتنزهات النابهة، وَإِذ بَان مصل النفعة فلنلم بِذكر الشنعة، وَهُوَ مِمَّا يحْتَمل فِيهِ النزاع، وَلَا تُعْطى الْأَبْصَار وتطمس الأسماع، إِذْ مالقه دَار ملك فِي الرّوم، ومثوى المصاعب والقروم، تشهد بذلك كتب الْفَتْح الْمَعْلُوم، وَذَات ملك فِي الْإِسْلَام عديد الجيوش، خافق الْأَعْلَام، غَنِي بالشهرة عَن الْإِعْلَام سكنها مُلُوك الأدارسة الْكِرَام، والصناهجة الْأَعْلَام، ثمَّ بَنو نصر، أنصار الْإِسْلَام، وجيشها الْيَوْم مَشْهُور الْإِقْدَام، مُتَعَدد المين على مر الْأَيَّام وتجارها تعقد لِوَاء خافقا، وتقيم للْجِهَاد سوقا نافقا، وتركض الْخُيُول السانحة، وتعامل الله على الصَّفْقَة الرابحة، وكفاها أَنَّهَا أم للعدة من الثغور والحصون والمدن ذَات الْحمى المصون، وشجرة الْفُرُوع الْكَثِيرَة والغصون، وَمَا مِنْهَا إِلَّا معقل سَام، وبلد بِالْخَيْلِ وَالرجل مترام وغيد حام يحتوي بهَا ملك اذخ، ونسيق فِيهَا للسُّلْطَان فَخر باذخ، واين سلامن هَذِه المزية، والشنعة الْعلية، أَيْن الْجنُود والبنود والحصون تزور مِنْهَا الْوُفُود، وَإِن كَانَ بعض الْمُلُوك اتخذها دَارا واستطانها من أجل الأندلس قرارا، فَلَقَد تمّ وَمَا، أتم وَطَلَبه تمّ، ولنقل فِي الحضارة بِمُقْتَضى الشواهد المختارة، وَلَا كالحلي وَالطّيب، وَالْحلَل الديباجية والجلاليب، والبساتين ذَات المرأى العجيب، والقصور المبتناة بسفوح الْجبَال، والجنات الوارفة الظلال والبرك الناطقة بالعذب الزلَال، والملابس المختالة فِي أفنان الْجمال، والأعراس الدَّالَّة على سَعَة الْأَحْوَال، والشروات الْمقدرَة بالآلاف من الْأَمْوَال

وَأما سلا، فأحوال رقيقَة، وَثيَاب فِي غَالب الْأَمر خَلِيقَة، وذمم منحطة

ص: 357

فقيرة، وقيسارية حقيرة، وزيت مجلوب، وحلى غير مَعْرُوف وَلَا مَنْسُوب، تملأ مَسْجِدهَا الْفَذ الْعدَد والأكسية، وتعدم فِيهَا أَو تقل الطيالس والأردية، وتندر البغال، وَتشهد بالسجية البربرية الْأَصْوَات واللغات والأقوال وَالْأَفْعَال، وَأما الْعِمَارَة فَأَيْنَ يذهب رايدها، وعلام يعول شَاهدهَا، وَمَا دَار عَلَيْهِ السُّور متراكم متراكب، منسحبة مبانيه كَمَا تفعل العناكب، فناديقه كَثِيرَة، ومساجده أثيرة، وأرباضه حافلة، وَفِي حلل الدوح رافلة، وسككه غاصة وأسواقه بالدكاكين متراصة، أقسم لربض من أرباضها، أعمر من مَدِينَة سلا، وَأبْعد عَن وجود الخلا، وأملي مهما ذكر الملا، بلد منخرق مُنْقَطع مفترق، ثلثه مَقْبرَة خَالِيَة وَثلثه خرب بالية، وَبَعضه أخصاص وأقفاص ومعاطن وقلاص، وأواري بقر تحلب، ومعاطن سايمة تجلب. وَأما الْإِمَارَة فمالقة الْقدح الْمُعَلَّى والتاج الْمحلى، وَهِي على كل حَال بِالْفَضْلِ أولى، حَيْثُ مناهل الْمُخْتَص، وَالْخَارِج الأفيح الفحص، وسلا لَا تَأْكُل إِلَّا من غزرة حالب، لَا من فلاحة كاسب

ومالقة مجتزية بِنَفسِهَا فِي الْغَالِب، محتبسة من شرقها وغربها بِطَلَب الطَّالِب وَأما النضارة، فَمن ادّعى أَنه لَيْسَ فِي الأَرْض مَدِينَة أخطر مِنْهَا جنابا، وَلَا أغزر مِنْهَا غروسا وأعنابا، وَلَا أرج أزهارا، وَلَا أَضْوَأ أَنهَارًا، لم تكذب دَعْوَاهُ وَلَا أزرى بِهِ هَوَاهُ، انما هِيَ كلهَا روض، وجابية وحوض، بساتين قد رقمتها الْأَنْهَار وترنمت بهَا الأطيار.

وسلا بلد عديم الظلال، أجرد التلال، إِذا ذهب زمن الرّبيع، وَالْخصب المريع، صَار هشيما، وأضحى مَاؤُهَا حميما، وانقلب الْفَصْل عذَابا أَلِيمًا. أما المساكن فحسبك مَا بمالقة من قُصُور بيض، وَملك طَوِيل عريض، جنَّة السَّيِّد، وَمَا أدريك بهَا من جنَّة دانية القطوف، سامية السقوف، ظَاهِرَة المزية والشفوف، إِلَى

ص: 358

غَيرهَا مِمَّا يشذ عَن الْحصْر إِلَى هَذَا الْعَصْر، والجنات الَّتِي مَلَأت السهل والجبل، وتجاوزت الأمل، بِحَيْثُ لَا أَسد يمْنَع من الإضحار بالعشى والأسحار، وَلَا لص يسجن بِسَبَبِهِ فِي الديار. . وَأما سلا، وان كَانَ بهَا للْملك دور وقصور، وَلأَهل الْخدمَة بِنَا مَسْتُور، فَهُوَ قَلِيل، وَلَيْسَ لِلْجُمْهُورِ إِلَيْهِ سَبِيل. وَأما المساكن بمالقة بَين رَاض قيد الْحَيَاة، ومنتقل من جناتها إِلَى روضات الجنات، فأكبر بِهِ أَن يفاضل، أَو يُجَادِل فِيهِ أَو يناضل، وَلَا شَاهد، كالصلات الْبَاقِيَة المكتتبة والتواريخ المقررة الْمرتبَة، فاستشهد مغرب الْبَيَان وتاريخ ابْن حَيَّان، وتاريخ الزَّمَان، وَكتاب ابْن الفرضي وَابْن بشكوال وصلَة ابْن الزبير القَاضِي، وَمن اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الرِّجَال، وصلَة ابْن الْأَبَّار، وتاريخ ابْن عَسْكَر وَمَا فِيهِ من الْأَخْبَار، وبادر بالإماطة عَن وَجه الْإِحَاطَة، ترى الْأَعْلَام سامية، وأدواح الْفُضَلَاء نامية، وأفراد الرِّجَال، يضيق بهم رحب المجال، وسلا المسكينة لَا ترجو لعشرتها إِلَّا ابْن عشرتها، مُهْملَة الذّكر، والإشادة عاطلة من حلى تِلْكَ السِّيَادَة، وَإِن كَانَ بهَا أصل مجادة، وسالكي سَبِيل زِيَادَة، فكم بمالقة من ولي، وَذي مَكَان على، وَمن طنجالي وساحلي، وَهَذِه حجج لَا تدفع، ودلايل إنكارها لَا ينفع، فَمن شا فليوثر الْإِنْصَاف بالإنصاف، وَمن شا فليوثر الْخلاف وسجايا الأخلاف فَأَنا يعلم الله قد عدلت لما حكمت، وَدفعت لما ألمت، وَسكت عَن كثير، وجلب فضل أثير، إِذْ لم تخرج إِلَيْهِ ضَرُورَة الْفَخر، وَلَا دَاعِيَة الْقَهْر، وَلَو شيت لجليت من أَدِلَّة التَّفْضِيل، مَا لَا يدْفع فِي عقده، وَلَا سَبِيل نَقده، لَكِن الله أغْنى عَن ذَلِك، وَكفى بِهَذِهِ المسالك [بَيَانا للسالف] وفضلا بَين الْمَمْلُوك وَالْمَالِك، وَالله يَشْمَل الْجَمِيع بنعماه، ويتغمد الْحَيّ وَالْمَيِّت برحماه وَفضل الخطة أَن لمالقة المزية بجلالها وكمالها، وَحسن أشكالها [ووفور مَالهَا، وتهدل ظلالها،

ص: 359

وشهرة رجالها وطرق صنايعها وأعمالها، ولسلا الْفضل لَكِن] على أَمْثَالهَا ونظايرها من بِلَاد الْمغرب وأشكالها إِذْ لَا يُنكر فضل اعتدالها، وأمنها من الْفِتَن وأهوالها عِنْد زِلْزَالهَا، ومدفن الْمُلُوك الْكِرَام بجبالها، ومالقة قطر من الأقطار، ذَوَات الأقدار والأخطار، وَتَحْصِيل الأوطار، وسلا مصب الأمطار، ومرعى القطار، وبادية بِكُل اعْتِبَار، وَهنا تلقى عَصا التسيار، ونفض من عنان الْإِكْثَار وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل.

ص: 360

فَمن ذَلِك مَا صدر عني مِمَّا ثَبت فِي

" كتاب التَّاج الْمحلي ومساجلة الْقدح المعلي "

فِي وصف أبي جَعْفَر بن الزيات

علم الْأَعْلَام، وخاتمة شُيُوخ الْإِسْلَام، تجرد لِلْعِبَادَةِ فِي ريعان شبابه، ولازم جناب الله وَأكْثر الْوُقُوف بِبَابِهِ، وَلم تزل الفتوحات القدسية، تعرض عَلَيْهِ أذواقها، والمحبة الربانية تطلع إِلَيْهِ أشواقها، وتدير لَدَيْهِ دهاقها، حَتَّى قلع لِبَاس البدنيات الدنيات، وَنزع نطاقها، وَبث أَسبَاب هَذِه الأكوان ذَوَات الألوان وأزمع فراقها، فَأصْبح فَردا تُشِير إِلَيْهِ الْأَبْصَار، وتنال ببركته الأوطار، وتجدي لرويته الأقطار، ودعى إِلَى السفارة فِي صَلَاح الْمُسلمين فَأجَاب، وسعى فِي إخماد الْفِتْنَة، فانجلى لَيْلهَا وانجاب، وأعمل فِي مرضاة الله لإقتاب، وخاض الْعباب، وَكَانَ ببلش بَلَده منتج رايد، ومعدن فرايد، وفجر الله ينابيع الْحِكْمَة على لِسَانه، وَجعل زِمَام الفصاحة طوع إحسانه، دون النّظم فِي شَتَّى الْفُنُون، وجلى أبكار المعارف، فوقد المطارف للعيون، وَكَانَ يقْعد بمسجدها الْجَامِع فيدرس ويحلق، وينعرب ويخلق، فَيَأْتِي من الْإِعْرَاب بالأغراب، وَيتَكَلَّم فِي التَّفْسِير بِغَيْر الْيَسِير، ويلمع من التَّعْلِيل لَا بِالْقَلِيلِ، وَيُشِير إِلَى فريقه برموز طَرِيقه، وَلما نَادَى بِهِ مُنَادِي فِرَاقه، وغيب الدَّهْر نور إشراقه، بَكت عَلَيْهِ هَذِه الربوع دَمًا، وَأصْبح وجودهَا عدما، وَقد أثبت من آدابه وشعره مَا يشْهد بسعة صَدره، وَيدل على قدره.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن القيجاطي

أَخطب من صعد المنابر وارتقاها، وأفصح من هذب الْعبارَة وَأَلْقَاهَا، واستجادها وانتقاها، نجم ببادية الشرق، وتألق فِي أفقها تألق الْبَرْق، وَلم

ص: 361

تزل رتبته فِي ارْتِفَاع، وبدائعه نَار على بقاع حَتَّى استأثرت الحضرة بِهِ على مَا سواهَا، فأحرز فِيهَا الْغَايَة وحواها، وَنشر مطارف المعارف وَمَا طواها، فنفق للأدب سوقا، بسقت فروعها بسوقا، وقلد نحر الْعَصْر من عقوده درا منسوقا، ثمَّ تقدم خَطِيبًا بمسجدها الْجَامِع، فقرط بألفاظه الرائقة عاطلة المسامع، وأسال بمواعظه الْبَالِغَة دُرَر المدامع، وَهُوَ منجب الحلبة ومخرجها، وموقد الأذهان ومسرجها، خبا بوفاته للْعلم كوكبه الثاقب، ووريت بمواراته المفاخر والمناقب، وَله نظم تقطرت الْمجَالِس بجرياله وتعلقت المحاسن بأذياله، ونثر حسدت عُقُود الغانيات درره، وَغَارَتْ النُّجُوم الزهر لما اجتلت غرره،

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق بن العَاصِي

سَابق حلبة للْعلم وَالدّين، والمستولي على قصب السَّبق فِي تِلْكَ الميادين، أَتَت طريف مِنْهُ بطرفة رائقة، وَأغْرب مِنْهُ هَذَا الْمغرب بروض تحسد الرياض حدايقه، ورد على الحضرة، فَقَامَتْ لَهُ على رجل، وأفعمت لَهُ من المبرة كل سجل، فاتخذها دَارا، وملأ هالاتها أبدارا، وانتظم لأوّل حُلُوله فِي حلبة الْكتاب والعهد قشيب، وُفُود الْوَقْت لم يرعه للمقت مشيب، وَالرّبع آهل، وَالدَّار فِي الرفد ناهل، فتميز بخصائصه الْحسنى، وتأهل للمحل الْأَسْنَى، وَفد للجملة بعد فقد صدرها، وأفول بدرها، وحلول شمسها فِي رمسها، فخلف استاذها ابْن الزبير خير خلف، وأصمت لِسَان من أنْشد فِيهِ " إِنَّمَا الدُّنْيَا أَبُو دلف " وَصعد الْمِنْبَر، فَجلت الخطوب خطبه، وهز مِنْهُ الْجذع، فتساقطت رطبه، فأبكى الْعُيُون الجامدة، وأثار العزايم الخامدة، وَأخذ بقلوب الدهماء فاستمالها وَبلغ مِنْهُم الْغَايَة الَّتِي أَرَادَ ونالها، وَحمل نَفسه باخرة على الْجُود، والإتيان بالحاضر الْمَوْجُود، فَكَانَ للْفُقَرَاء شمالا وللمعتقين مِثَالا وللعصر زينا وجمالا.

ص: 362

وَمضى لسبيله رحمه الله، فقيدا أسَال الْغُرُوب، وهاج للأشجان الحروب، وَكَانَ لَهُ أدب أنيق الشارة، حسن الْإِشَارَة.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم بن جزي

مُجْتَهد عاكف، وَروض فنون جاده، من الْعلم كل واكف، أَقَامَ رسم مجده، وَرفع عمد بَيته فِي قبَّة الْعلم ونجده فَأصْبح صدر بَلَده، وأنجب خلفين كريمين من وَلَده، وَفرغ للْعلم من جَمِيع أَعماله، وتفيأ رياض دواوينه من عَن يَمِينه وشماله، وَاقْتصر على طلب كَمَاله مَعَ وفور ضيَاعه، ونمو مَاله، فدون الْكثير وصنف، وقرظ المسامع وشنف، وترقى إِلَى المكارم، وَهِي مَا هِيَ من جلالة للرتبة، وسمو الهضبة، ففرع سنامها، وَرفع أعلامها، وغصن شبابه ناضر، [وزمن فتايه حَاضر] فَوَقع عَلَيْهِ الِاتِّفَاق وانعقد على فَضله الْإِجْمَاع والإصفاق، وَلم يزل يسْلك طَرِيق الْمُجْتَهدين، فدون فِي الْفِقْه الدَّوَاوِين، وسفر فِي علم اللِّسَان عَن وُجُوه الْإِحْسَان، ورحل فِي علم التَّفْسِير إِلَى كل طية، وركض فِي أغراضه كل مَطِيَّة، حَتَّى أنسى الزَّمَخْشَرِيّ وَابْن عَطِيَّة، وَله من الْأَدَب حَظّ وافر، وَمذهب عَن الْحسن سَافر.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي البركات البلفيقي

وَاحِد الفئة، وَصدر من صُدُور هَذِه المئة، وَرجل هَذِه الْحَقِيقَة وَابْن رجالها، وَعلم هَذِه الطَّرِيقَة وَفَارِس مجالها، وتحفة الدَّهْر الَّتِي يقل لَهَا الكفا، وَبَقِيَّة السّلف الَّتِي يُقَال عِنْدهَا على آثَار من ذهب العفا، مَا شِئْت من شرف زاحم الثريا بمناكبه، ومجد خَفَقت بنود الْعلم فَوق مواكبه، وَحسب توارثه كَابر عَن كَابر، وأصالة تأصلت أدواحها بَين بطُون المحاريب وَظُهُور المنابر، ونشأة سحبت من العفاف ذيلا، وغضت الطّرف حَتَّى عَن الطيف لَيْلًا، وَمَعْرِفَة تساجل لجتها.

ص: 363

وَلَا تراجع حجتها، ونغمة فِي تِلَاوَة الْقُرْآن، يخر لَهَا النَّاس على الأذقان، وَلما أمعن فِي المعارف كل الإمعان، ومنهومان كَمَا قَالَ عليه السلام، لَا يشبعان، تشوف إِلَى الرحلة عَن بِلَاده، وزهد فِي طَرِيقه وتلاده، وَأخذ الحَدِيث عَن أَهله، وَذهب من الْعلم فِي خزنه وسهله، وَبلغ الْغَايَة، حَتَّى حط رَحْله ببجايه، وَبهَا علم الدّين وناصره، وَروض الْعلم الَّذِي أخصب جانيه وخاصره، ففاز بلقائه ونهل فِي سقايه، وَصرف فهمه الثاقب إِلَى إلقاية، واقتنى من كنوز رحْلَة مَالا يخَاف عَلَيْهِ النفاد، قدم على قراره مجده قدوم النسيم الْحِجَازِي من نجده، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ الأحداق واشرأبت إِلَى طلوعه الْأَعْنَاق، وَلم تزل بدائعه تتقلدها الصُّدُور، ومحاسنه تغار بهَا الشموس والبدور، والسعادة توافيه، والخطط الشَّرْعِيَّة تنافس فِيهِ، وخطبته الْآن خطابة قطره، وَهُوَ كفؤها وَابْن أكفائها، ومحيى رسومها بعد عفائها، فَتلقى رايتها بِيَمِينِهِ، واستحقها بسلفه وَعلمه وَدينه.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن خَمِيس

قريع بَيت صَلَاح وَعبادَة. ورضيع ثدي دين ومجادة، كَانَ بالخضراء بَلَده رحمه الله، صدر صدورها، وواسطة شذورها، وخطيب حفلها وَإِمَام فَرضهَا ونفلها، وباشر حصارها، وعانى على العصور إعصارها، وَله دُعَاء مستجاب وخواطر لَيْسَ بَينهَا وَبَين الْحق حجاب وبركة تظهر عَلَيْهِ سيماها، وديانته لَا تقرب الشُّبُهَات حماها وبلاغة لَا يشح ينبوعها، وَلَا تقفر من الْمعَانِي ربوعها، يَدْعُو الْفقر فيذعن عاصيها، وَينزل عصم الْمعَانِي من صياصيها، وَقضى رحمه الله فَتغير ذَلِك الْقطر لذهابه، وأظلم ذَلِك الْأُفق فول شهابة.

فِي وصف أبي زَكَرِيَّا ابْن السراج

حَامِل فنون جمة، وَصَاحب نفس بمعادها مهتمة، شمر فِي زمَان الشبيبة عَن

ص: 364

سَاقه واجتنى ثَمَرَة الْعلم من بَين أوراقه، وَجمع الْكثير من مختلفاته على بعد شامه من عراقه، حَتَّى اِنْفَسَحَ فِي الْمعرفَة مجاله وَشهِدت لَهُ بالإجادة شُيُوخه وَرِجَاله، وَهُوَ الْآن خطيب معقل الْجَبَل حرسها الله على طَريقَة عَرَبِيَّة، وحاله من الله قريبَة، ملازم لظل جِدَاره، منقبض فِي كن دَاره ذُو همة يحسدها النَّجْم على بعد مَدَاره، ورفعة مِقْدَاره. لَقيته وَالْحَال سقيمة، والمحلة بِظَاهِر جبل الْفَتْح مُقِيمَة، والعدو فِي الْعدوان مستبصر، والردى محلق، وحزب الْهدى مقصر، فَرَأَيْت رجلا بَادِي السكينَة وَالْوَقار، نَاظرا للدنيا بِعَين الاحتقار زاهدا فِي المَال وَالْعَقار، صَاحب دمعة مجيبة، ومجالسة عَجِيبَة، فَكَانَ لقاؤه فَائِدَة الرحلة الْعَظِيمَة العنا، وموجبا لَهَا حسن الثنا، وَله قسم من البلاغة وافر، وقسام فِي اللِّسَان سَافر.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن أبي خَالِد

سَابق لَا تدْرك غَايَته، وَبَطل لَا تحجم رايته، وبليغ تزرى بالإفصاح كنايته،، طلع بذلك الْأُفق وَنجم، وصاب عَارض بَيَانه وانسجم، وعجم من عود البلاغة مَا عجم، فأطاعته القوافي والأسجاع، وَأَدَّاهُ إِلَى روض الإجادة الانتجاع، وَلم يزل يشحذ قريحته الوقادة ويستدعيها، وَيسمع الحكم ويعيها حَتَّى توفرت فِي البراعة أقسامه، وطبق مفاصل الْخطاب حسامه، مطرز المهارق ووشاها، ونضج أسرار البلاغة وأفشاها، وأنى من الرسائل بالأبى السَّائِل، إِلَى الدّين الَّذِي لَا تغمز قناته، والخلق الَّذِي يرضى الله حلمه وأناته، وَهَذَا الْخَطِيب وَابْن عَمه فَارِسًا رهان، ومقدمتا برهَان، وعلما بَيَان، ورضيعا لبان، لَكِن النثر أغلب على لِسَانه، والخطابة أعرق فِي نِسْبَة إحسانه.

ص: 365

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي سعيد بن لب

سَابق ركض ملئ عنانه، وشارق طلع فِي أفق أَوَانه، أورى لَهُ زند الذكا اقتراحا، وأجال فِي كل فن قداحا، فَجلى فِي ميدان الإجادة وبرز، وطوف الْمجَالِس وطرز، فَإِن نقل أوضح الْعبارَة وصقل، وَإِن نظر وَبحث، نشر رمم المعارف وَبعث، وَإِن بَين وَعلم، أقره المنازع وَسلم، إِلَى خلق أطيب من الراح، وأصفى من المَاء القراح، وَله فِي فَرِيضَة الْأَدَب سهم، وَفِي معاناة الْمعَانِي تَحْقِيق لَا يدْخلهُ وهم، وَتقدم للخطابة بِبَعْض أرباض الحضرة، فوفى الرُّتْبَة حَقّهَا، وسلك من الدّيانَة طوقها

فِي وصف أبي يزِيد خَالِد بن أبي خَالِد

إِمَام بادية، وصادع بِذكر الله فِي كل رَائِحَة وغادية. أنس بالوحدة والانقطاع، وتعلل بِقَلِيل الْمَتَاع، وانقبض وتقشف وَقبل ثغر الْحَقِيقَة وترشف وَأكْرم بِهِ من مَجْمُوع خصل، وضارب [فِي صرف الْقبُول] بنصل إِلَى أَخْلَاق بَيِّنَة الْحَلَاوَة، ونغمة طيبَة عِنْد التِّلَاوَة، وأدب عطر الجربال، موشى الطّور والأذيال

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله الْيَتِيم

مَجْمُوع أدوات حسان من خطب ونغمة ولسان، أخلاقه روض تضوع نسماته، ونشره صبح تتألق قسماته وَلَا تخفى سماته، يقرطس أغراض الدعابة ويصميها ويفوق سِهَام الفكاهة إِلَى مراميها، فَكلما صدرت فِي عصره قصيدة هازلة، أَو أَبْيَات منحطة عَن الإجادة نازلة، خس أبياتها وذيلها، وَصرف مَعَانِيهَا وسيلها، وَتركهَا سمر الندمان وأضحوكة الزَّمَان، وَهُوَ الْآن، خطيب الْمَسْجِد الْأَعْلَى

ص: 366

من مالقة، متحل بوقار وسكينة، حَال من أَهلهَا بمكانة مكينة، لسُهُولَة جَانِبه، وإيضاح مقاصده فِي الْخَيْر ومذاهبه، واشتغل لأوّل مرّة بالتعليم والتكتيب، وَبلغ الْغَايَة فِي الْوَقار وَالتَّرْتِيب، والشباب لم ينصل خضابه وَلَا سلت للمشيب عصابه، وَنَفسه بالمحاسن كلفة صبة، وشأنه كُله هوى ومحبة.

فِي وصف أبي عبد الله الجزيري الْخياط

أديب على السّنَن سالك، وبليغ لزمام القَوْل مَالك، كَانَ رحمه الله خَطِيبًا بثغر وبره، تولى لله جبره، وَأعَاد إِلَى ملكة الْإِسْلَام أمره، على طَريقَة مثلى وسيرة فَضلهَا يُتْلَى. أَخذ فِي فنون، ومحاضر من الْأَدَب بعيون، وَكَانَ رصافي الانتحال والحرفة، وَكم بَين الراح المشوبة والصرفة. وَلم أظفر من نظمه على كثرته، وتألق أسرته، إِلَّا بِأَبْيَات نَسَبهَا إِلَيْهِ بعض أَصْحَابه المعتنين بِنَقْل أدبه.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله البدوي

خطيب طلق اللِّسَان، وأديب رحب الْإِحْسَان، تشرف بالرحلة الحجازية، وَلبس من حسن الحجازية، ثمَّ أسْرع بِبَلَدِهِ فحط القتادة والرحل، وَأَقْبل عَلَيْهِ إقبال الغمامة على الْمحل، فَعظم بِهِ الِاغْتِبَاط. وتوفر إِلَى تَقْدِيمه فِي الخطابة النشاط. وَلم تثن عَن الْغَرَض فِيهِ الدعابة والانبساط. وَهُوَ الْآن خطيب بهَا. يُحَرك الْجَامِع ويقرط المسامع. وَيُرْسل من الجفون المدافع. وَله فِي الْعَرَبيَّة حَظّ وافر. وَفِي الْآدَاب قسام سَافر.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن فركون

شيخ الْجَمَاعَة وقاضيها، ومنفذ الْأَحْكَام وممضيها، وشايم سيوفها المنتضاة ومنتضيها، كَانَ رحمه الله لجا لَا يساجل موجه، وفرندا لَا بتعاطي أوجه، تقدم بِذَاتِهِ وَنَفسه على أَبنَاء جنسه، وأربى فِي الْفضل يَوْمه على أمسه، فَهدر هدرة

ص: 367

البازل، وَتقدم فِي استنباط الْأَحْكَام وَمَعْرِفَة النَّوَازِل، إِلَى وقار تود رضوى رجاحته، وَصدر تحسد الأَرْض العريضة ساحته، ونادرة يدعوها فَلَا تتَوَقَّف، وتلقى عصاها فتتلقف. وَكَانَ لَهُ فِي الْأَدَب مُشَاركَة، وَفِي قريضة النّظم حِصَّة مباركة

فِي وصف أبي جَعْفَر بن أبي حَبل

فذ تثنى عَلَيْهِ الخناجر، وَصدر لَا يحصر فضايله حاصر، وقاض يريش سِهَام الْأَحْكَام ويبريها، ويزيل بنظره الشُّبْهَة الَّتِي تعتريها، ويطبق مفاصل الْفَصْل بذهنه الزلق النصل فيبريها، تولى الأقطار فازدانت، وتقلد الْأَحْكَام فلاحت المعدلة وَبَانَتْ، وَظَهَرت الْحُقُوق الشَّرْعِيَّة لأَهْلهَا حَيْثُ كَانَت. وَأما الْأَدَب فَكَانَ رحمه الله سَابق حلبة زَمَانه ومجلسها، ومتناول رايته ومتوليها وَإِن كَانَ لغير فن من الْأَدَب مصروفا، وبالعلوم الشَّرْعِيَّة مَعْرُوفا.

فِي وصف أبي بكر بن شبرين

خَاتِمَة الْمُحْسِنِينَ، وقدوة الفصحاء اللسنين. قريع بَيت ترحم النُّجُوم بكاهله، وَورد من الْمجد أعذب مناهله، مَلأ الْعُيُون هَديا وسمتا، وسلك من الْوَقار طَريقَة لَا ترى فِيهَا عوجا وَلَا أمتا، فَمَا شيت من فضل ذَات وبراعة أدوات. إِن خطّ نزل ابْن مقلة عَن دَرَجَته وانحط، وَإِن نظم ونثر تبِعت البلغاء ذَلِك الْأَثر، وَإِن تكلم نصت الحفل لاستماعه، وَشرع لدرره النفيسة صدف اسماعه، وَفد على الأندلس، عِنْد كائنة سبتة، وَقد طوحت النَّوَى برحاله، وظعن عَن ربعه لتوالي أمحاله، وَكَانَ مصرف الدولة ببلادها، والمستولى على طارفها وتلادها، ومعرس الْآدَاب ومقيلها، وقاعش العثرات ومقيلها، أَبُو عبد الله بن الْحَكِيم قدس الله هداه وَسَقَى منتداه، فاهتز لقدومه اهتزاز الصارم، وتلقاه تلقى الأكارم، وأنهض إِلَى الْغَايَة آماله [وَألقى لَهُ قبل الوسادة مَاله] ونظمه فِي سمط الْكتاب، وأسلاه عَن أَعمال

ص: 368

الأقتاد والأقتاب، وَلم يزل زمامه يتَأَكَّد فِي هَذِه الدول، ويربى لَهُ الْآتِيَة مِنْهَا على الأول، فتصرف فِي الْقَضَاء بجاتها، ونادته الْعِنَايَة هاك وهاتها، فجد وعهد حكامها الْعُدُول من سلفه وقضاتها، وَله الْأَدَب الَّذِي تحلت بقلايده اللبات والنحور، وَقصرت عَن جواهره النحور ، وَسمر من ذَلِك تضاعيف هَذَا الْمَجْمُوع مَا يشْهد بسعة درعه، ويخبر بكرم عنصره، وَطيب نبعه.

فِي وصف أبي الْقَاسِم الْخضر بن أبي الْعَافِيَة

فَارس ميدان الْبَيَان، وَلَيْسَ الْخَبَر كالعيان، وحامل لِوَاء الْإِحْسَان لأهل هَذَا اللِّسَان، دخل فِي حلل البدايع فسحب أذيالها، وشعشع أكواس العجايب، فأدار جريالها، واقتحم على الفحول أغيالها، وطمح إِلَى الْغَايَة الْبَعِيدَة فنالها، وتذوكرت المخترعات فَقَالَ أنالها، عكف واجتهد، وبرز إِلَى مقارعة المشكلات ونهد، فَعلم وَحصل، وَبلغ الْغَايَة وتوصل، وَتَوَلَّى الْقَضَاء، واضطلع بِأَحْكَام الشَّرْع، وبرع فِي معرفَة الأَصْل وَالْفرع، وتميز فِي الْمسَائِل بطول الباع وسعة الذِّرَاع، فَأصْبح صَدرا فِي مصره، وغرة فِي صفحة صَدره.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق بن جَابر الْوَادي آشى

فَحل هادر، وبليغ على الْكَلَام قَادر، اهتز لَهُ الْعَصْر على رجاحة أطواده، وَظهر لَهُ الْفضل على كَثْرَة حساده، وَلما أجلى فِي منصة الإبداع بَنَات فكره، وجاس عقايل الْحَيّ الْحَلَال ببكره، طُولِبَ بِإِثْبَات تِلْكَ الْبُنُوَّة، وَقيل هَذَا الْجمل، وَهَذِه الكوة، فخاصم حَتَّى أظهر الْحق، وتمم فَاسْتحقَّ، وذيل ووطى، وَتجَاوز الْغَايَة الْبَعِيدَة وتخطى، وَلم تزل بدائعه فِي اشتهار، وروضات آدابه ذَوَات أزهار، وَتصرف فِي الْكِتَابَة فَكَانَ صدر ناديها، وقلادة هاديها، وَولى خطة الْقَضَاء فِي هَذِه الْمدَّة، وَقد ناهز اكتهاله وَبلغ أشده فحسنت سيرته،

ص: 369

وأثنت عَلَيْهِ لكل عماله جيرته، وَله نفس إِلَى الْعلم مرتاحة، وخواطر تنْتج مِنْهُ كل ساحة، هام فِيهِ بِكُل مُسْتَحِيل وَجَائِز، وكلف حَتَّى بعلوم الْعَجَائِز. وشعره جزل الأسلوب، وعذب فِي الأفواه والقلوب.

فِي وصف أبي عبد الله بن غَالب الطريفي

طَوِيل القادمة والخافية، مُحكم لبِنَاء الْبَيْت وتأسيس القافية، صَاحب طبع معِين، وَآت من القصائد بحور عين. عكف على النّظم فِي جيله، عكوف الراهب على إنجيله، وَلم يزل يفوق إِلَى كل غَرَض سهامه، ويستسقى صيته وجهامه، ويهز ماضيه وكهامه، حَتَّى اشتهرت أبياته وحفظت بدايعه وروياته، وَتصرف فِي الْقَضَاء فاستقام أوده، وَانْطَلَقت يَده، وَكَانَ لَهُ وفادة على ملك هَذِه الدول فِي العصور الأول، نظم فِيهَا ومدح، وقدح من قريحته مَا قدح، وَتوفى بِبَلَدِهِ عَن سنّ عالية وزمانة مُتَوَالِيَة. وَلما شرع الْمُؤلف فِي تأليف هَذَا الْكتاب، بعث إِلَيْهِ بعض أهل بَلَده، مِمَّن عَنى بِحِفْظ الطروس. وإحيائها بعد الدُّرُوس بمهارق أكل الدَّهْر مِنْهَا مَا تجسم، وانتهبها الدَّهْر مَا شَاءَ وتقسم، فَأثْبت لَهُ مِنْهُ مَا ينظر فِي مَحَله إنْشَاء الله.

فِي وصف أبي الْقَاسِم الْمَعْرُوف بِابْن الجقالة

صدر فِي الْقُضَاة. وينبوع للخلال المرتضاة. وطابع لسيوف الْكَلم المنتضاة. نَشأ بِبَلَدِهِ رندة. حرسها الله. صدر سكانها. وفضيلة زمانها، وَعين أعيانها، وحامل لِوَاء بَيَانهَا. وَلم يزل يسْلك من الْفضل على السّنَن الْمَأْثُور. ويركض جِيَاد المنظوم والمنثور، فأغرب الغرب بآدابه، وَتعلق الْإِحْسَان بأهدابه. وَتَوَلَّى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فأجال قداحها، وَقرر مكروهها ومباحها، وَتَنَاول الْمسَائِل فأبان صباحها، حَتَّى [فاضت فِيهِ] السرائر، وعقدت على حبه الضمائر، وَطَابَتْ

ص: 370

فِيهِ الخواطر، وتضوع من ثنائه الْمسك العاطر، وَأَقْعَدَهُ لهَذَا الْعَهْد الْكبر، وحوم عَلَيْهِ الْأَجَل المنتظر، فتعطلت لضَعْفه تِلْكَ السُّوق، وَعدم لعدم بَيَانه الدّرّ المنسوق.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحجَّاج المنتشافري

حَسَنَة الدَّهْر الْكثير الْعُيُوب، وتوبة الزَّمَان الجم الذُّنُوب، ماشيت من بشر يتألق، وأدب تتفطر لَهُ السمات وتتخلق، وَنَفس كَرِيمَة الشَّمَائِل والضرائب، وقريحة يقذف بحرها بِمَاء الغرائب، إِلَى خشيَة لله تَعَالَى تحول بَين الْقُلُوب وقرارها، ومراقبة تثنى النُّفُوس عَن اغترارها، ولسان يبوح بإشراقه، وجفن يسخو بدرر آماقه، وحرص على لقا أهل الدّيانَة وَالْأَدب، ويحث عَمَّن يمت إِلَى الْعلم وَالْعِبَادَة بِسَبَب، سبق بقطرة الحلبة، وَنزع من الْأَدَب الهضبة، وَرفع الرَّايَة، وَبلغ الْغَايَة، فطارت قصائده كل المطار، وتغنى بهَا رَاكب الْفلك وحادي القطار، وتقلد خطة الْقَضَاء بِبَلَدِهِ وانتهت إِلَيْهِ رياسة الْأَحْكَام بَين أَهله وَولده، فوضحت الْمذَاهب بِفضل مذْهبه، وَحسن مقْصده، وَله شِيمَة فِي الْوَفَاء يعلم مِنْهَا الآس، ومؤانسة لَا تستطيعها الأكواس.

فِي وصف أبي مُحَمَّد عبد الْحق بن عَطِيَّة

فرع بَيت أصيل، وَصدر معرفَة وَتَحْصِيل، نَشأ على العفاف، وتبلغ بالكفاف، وَعمل على شاكلة من لَهُ من الأسلاف، إِلَى نفس يلابسها الْحيَاء وَالْوَقار، وأدب تنم عَنهُ أخلاقه كَمَا تنم تَحت الزجاجة الْعقار، وَخط تهيم بمرقومه الْأَبْصَار، وبلاغة هدابها الأختصار، ومحاضرة تتحلى بهَا اللَّيَالِي الْقصار تقدم بقطره إِلَى الخطابة والإمامة، أطهر من مَاء الغمامة، وَأطيب من بنت الكمامة، ففرع على حَدَاثَة السن أعوادها، وَبلغ آمادها، وَأصْبح من الصُّدُور فؤادها، وَمن الْعُيُون سوادها، وَلَا يُنكر العذب فِي ينبوعه، والنور فِي مشرق طلوعه، وَقد أثبت من أدبه مَا يعرب عَن مذْهبه.

ص: 371

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم الرعيني

قريع فضل ومجادة، وضارب فِي هَذَا الْأَدَب بِسَهْم إجادة، كَانَ أَبوهُ رحمه الله خطيب مالقة، وَصدر فضلائها، وواسطة علايها، وَنَشَأ هَذَا الْفَاضِل رحمه الله، سالكا فِي العفاف على مسلكه، ومنتقلا فِي دَرَجَات فلكه. تولى الْقَضَاء لأوّل أمره على حَدَاثَة سنه، وَجدّة عمره، ثمَّ دعى للكتابة، فتنقل للحضرة وتحول، وعزم على الْمقَام بهَا وعول، فأجال يراعته وَشهر براعته، وَلما غصه الاغتراب، وباين وَطنه كَمَا باين السَّيْف القراب، شاقه الْأَهْل والأتراب، وَالْمَاء وَالتُّرَاب، وحن إِلَى دوحة الَّذِي بِهِ تأود، وَكَبرت عَلَيْهِ الْخدمَة، وصعب على الْإِنْسَان مالم يعود، فَرغب فِي الِانْصِرَاف إِلَى بَلَده، وَاحْتِمَال أَهله وَولده، وَهُوَ الْيَوْم قَاضِي جهاتها الغربية، ومنفذ أَحْكَامهَا الشَّرْعِيَّة. وَله أدب وَخط وبحر من الْمعرفَة لَيْسَ لَهُ شط. وَقد أثبت من شعره مَا يشيد بِذكرِهِ.

فِي وصف أبي يزِيد خَالِد بن أبي خَالِد

فايز من الإبداع بِكُل مَطْلُوب، ومستهل أسماع وَقُلُوب، وفصيح بأدبه، وَفِي البداوة حسن غير مجلوب، قدح قريحته الوقادة، وراض صَعب الْكَلَام فَأعْطَاهُ المقادة، فتألق بذلك الْأُفق تألق الْبَرْق، وطلع بِتِلْكَ الْجِهَة الشرقية، وَلَا يُنكر النُّور على الشرق، فشرف فِي قومه، وَأصْبح فِيهِ أمسه منافسا ليومه، إِلَى بلاغة تتحلى بهَا صفحات المهارق، وعفاف حَتَّى عَن الخيال الطارق. ورحل فِي هَذَا الْعَهْد الْقَرِيب، وَقد أصبح يحسن ضرايبه عديم الضريب، فاقتحم فرضة، الْمجَاز، إِلَى مثابة الْحجاز، فَقضى وطره من تِلْكَ الْمشَاهد، وتبرك بلقاء من بهَا من عَالم أَو زاهد، وقفل وَقد دون رحلته سَفَره، وزهى بهَا زهو الجفن بفتحه، والخد بخضره، واجتاز بالبلاد الموحدية فدعته إِلَى خدمَة بَابهَا، وقلدته

ص: 372

رياسة كتابها، وأينع روضه وأثمر، وَحل بهَا لتها فأضاء وأبدر، فَلم يكن الأكلا وَحَتَّى جذب الشوق برسنه، وطار بِهِ الوجد إِلَى وَطنه، فأسرع اللحاق، وأتى على النُّور المحاق، وعَلى ذَلِك فقد ولى للحين ببلدته قضاءها، وتقلد إِنْفَاذ الْأَحْكَام وأمضاها. رحمه الله.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن عُبَيْدَة

مَجْمُوع أدوات، وَفَارِس قلم ودوات، وَشَيخ تقع الْعين مِنْهُ على صُورَة طريفه، وهيئة ظريفه، وقريع بَيت نبيه، وأصالة لَيْسَ لَهَا من شَبيه. وَله خطّ حسن وبلاغة ولسن، تصرف فِي الْقَضَاء، فَمَا ذوى لسيرته الحميدة نور، وَلَا نسب لَهُ حيف وَلَا جور

فِي وصف أبي زَكَرِيَّا القباعي

شَاعِر إِذا نظم أَجَاد، وان استسقى طبعه حاد، إِلَى ديانَة سابغة الأذيال، وأخلاق مُعتقة الجريال، ومعال ألطف من طيف الخيال. وَلم أَقف من كَلَامه إِلَّا على قصيدة، معيدة فِي الْإِحْسَان بعيدَة، يُخَاطب بهَا الْوَزير أَبَا بكر بن الْحَكِيم. رحمهمَا الله.

فِي وصف أبي جَعْفَر السياسي

حسن الْأَغْرَاض، يقي الْجَوْهَر من مُخَالطَة الْأَعْرَاض، ذُو أدب غض كزهر الرياض، وَمَعَان كمن فِيهَا الإبداع كمون السحر فِي الجفون للمراض، وَتقدم للْقَضَاء فِي تِلْكَ الْجِهَات، فَأَقَامَ رسمه، وأنفذ حكمه، بنزاهة مأثورة وَصِحَّة مشكورة.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن عبد الْحق

مَجْمُوع فَضَائِل، وَكَمَال لم يدع مقَالا لقَائِل، إِن ذكرت المعارف، فَهِيَ من جلابه أَو تليت سوره السِّرّ، وَكَانَ ذكره أم كِتَابه. قعد بِبَلَدِهِ يدرس الْعلم، ويحيل

ص: 373

قداحه، وَيُدبر أكواس الْبَيَان، ويشعشع راحه، فَأصْبح فِي دهره غرَّة، وبلبة عصره درة، إِلَى وقار تحسد الهضاب سكونه، وتهوى أَن تكونه، وإمتاع يحْسب كل سَائل، وَيُقِيم من المشكلات كل مائل، وأدب لَا تشح رهامه، وَلَا تتعدى الْغَرَض سهامه، صدر مفطمه فِي دوَل درسه، وإجناء ثَمَرَة الْعلم من غرسه، على جِهَة التَّعْلِيم والتدريب لمنتحلي الْبَيَان الْغَرِيب

فِي وصف الْحَكِيم المغربي أبي عُثْمَان بن ليون

مُجْتَهد مشمر منقبض متنمر، قصر على الْعلم أوقاته، وتبلغ بِالْقَلِيلِ فقاته، وَعَكَفَ على التَّقْيِيد والتدوين، واكتسب من الْأُمَّهَات كل ذخر ثمين وهلم جرا فقد اشْتهر بفوده صباح المشيب ونضا برده الزَّمن القشيب، وَمَا فتر عَن مُوَاصلَة اجْتِهَاده، وإيثار أرقه وسهاده. وَمَال إِلَى صناعَة الطِّبّ، فدون فِيهَا وشارك منتحليها، وَجعلهَا مَادَّة حَاله ومحط رحاله، وَله نظم حسن، وعارضة ولسن نظم بِهِ الْعُلُوم وَدون، وتقلب فِي شَتَّى المآخذ وتلونه، وبآخرة فَهُوَ رَوْضَة أنيقة، وخميلة وحديقة، وتقلب فِي شَتَّى المآخذ وتلون، وبآخرة فَهُوَ رَوْضَة أنيقة، وخميلة وحديقة، وضارب بِسَهْم فِي هدف كل طَرِيقه، وَقد أثبت من شعره يَسِيرا، جعلته للمحاسن إكسيرا.

وَمن ذَلِك فِي وصف الْمكتب أبي عبد الله بن أبي الْقَاسِم المالقى

مجود مرتل، وعابد متبتل، مشتغل بِمَا يعنيه، مثابر على مَا يزلفه من صَالح الْعَمَل ويدنيه، عكف على الْكتاب الْعَزِيز وشمر فِيهِ عَن قدم التبريز، وارتضاه الْوَزير ابْن الْحَكِيم إِمَامًا لصلاته، وَاعْتَمدهُ بجوايزه الجزيلة وَصلَاته. وَلم يزل يرفع بضبعه، حَتَّى عطف الدَّهْر بربعه، فَضَاعَ ضيَاع مِصْبَاح الصَّباح، ولعبت بِهِ الْأَيَّام كَمَا لعبت بالهشيم أَيدي الرِّيَاح، وتقلبت بِهِ أَيدي الزَّمَان وأحوجت الثَّمَانُونَ سَمعه إِلَى ترجمان، وَله أدب محتكم القوى، منيع الهضاب والصوى.

ص: 374

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن الصايغ من أهل المرية

بَحر معرفَة لَا يفِيض، وَصَاحب فنون يَأْخُذ فِيهَا وَيفِيض، نَشأ بِبَلَدِهِ مشمرا عَن ساعد اجْتِهَاده، وسايرا فِي قنن الْعلم ووهاده، ومواصلا لأرقه وسهاده، حَتَّى أينع روضه، وفهق جوضه وأضاءت سَرْجه وتعطر أرجه. وَلما اسْتكْمل من المعارف مَا اسْتكْمل، وَبلغ مَا أمل أَخذ فِي إراحة ذَاته، وشام فوارق لذاته، ثمَّ سَار فِي البطالة سير الجموح، وواصل الغبوق بالصبوح، حَتَّى قضى وطره، وسيم بطره وَركب الْفلك، وخاض اللجج الحلك، وَاسْتقر بِمصْر على النِّعْمَة العريضة، بعد قَضَاء الْفَرِيضَة، وَهُوَ الْآن بمدرستها الصالحية، عمرها الله بِذكر نبيه المكانة، مَعْرُوف فِي أهل الْعلم والديانة، وصدرت عَنهُ إِلَى هَذَا الْعَهْد قصيدة نبوية، تغنى بهَا الْحَادِي المطرب، وكلف بهَا المصعد والمصوب، تدل على انفساح طباعه وامتداد بَاعه.

فِي وصف أبي عبد الله بن الْحَاج البضيعة

مُسَدّد الْمَقَاصِد، آخِذا للمعاني بالمراصد، وَكَاتب شُرُوط لَا يساجل فِي مضمارها، صِحَة فُصُول، وتوقيع فروع على أصُول، وَكلما طلب بالنظم القريحة، وأعمل فكرته الصَّرِيحَة، أجابت ولبت، وتسنمت ريَاح بَيَانه وهبت، وحفظت الْعَامَّة من كَلَامه لقُرْبه من أفهامها، وانتصاب غَرَضه لسهامها،

فِي وصف أبي عبد الله بن عِصَام

منتم إِلَى حسب ومجد، وفارع من الْأَصَالَة كل نجد، وَإِن نوزع فِيهَا بخصام، كَفاهُ قَاضِي الْقُضَاة أَبُو أُميَّة بن عِصَام، وَخَلفه الَّذِي رَأس من بعده، وَاسْتوْفى بمرسية حِصَّة سعده حَتَّى أَتَاهُ الْأَجَل لوعده، وَكَانَ هَذَا الرجل عدلا من عدُول بَلَده، وذاهبا من الْفضل إِلَى أقْصَى أمده، لَوْلَا تهور كثر وأفرط، وطيش

ص: 375

تخبط فِي شركه وتورط، وَله أدب ضَعِيف المبنى، خَال من الْمَعْنى كَانَ يسهل عَلَيْهِ، وينثال بَين يَدَيْهِ

فِي وصف أبي جَعْفَر بن غَالب

ماطر جاد بالوابل السجم، وشاعر افْتتح بَيته إِلَى النَّجْم، وبليغ قاد الْكَلَام برسنه، وَأَيْقَظَ طرف البلاغة من وسنه، وطبق مفاصل فصل الْخطاب بلسنه، كَانَ وَابْن عَمه، رحمهمَا الله فرسي سباق، ومديري كأس اصطباح للأدب واغتباق، غير انه كَانَ أَشد انقباضا، وَأكْثر ازورارا عَن الْخدمَة وإعراضا، وَابْن عَمه القَاضِي أصح طباعا، وأفسح باعا، وَقد انتجع واسترفد، وَأصْلح بتعريضه وأفسد، حَسْبَمَا تضمنه كتابي الْمُسَمّى " بطرفة الْعَصْر فِي أَخْبَار بني نصر " وَقد أثبت من شعر أبي جَعْفَر هَذَا، مَا يشْهد بإجادته، وبنظمه فِي فرسَان الْكَلَام وقادته.

فِي وصف أبي الْحسن الرقاص

سَابق لَا يشق غباره، ودوح فنون لَا يغب جناه، وَلَا تذبل أزهاره، تتبع الغوامض بثاقب فهمه، وأصمى كل مشكلة بسهمه، فساوى حلبته وتقدمها، وزاول المعارف وخدمها، فترشف مِنْهَا كل رِيقه، وَلم يقْتَصر على طَرِيقه، وتفيأ كل حديقة من مجَاز وَحَقِيقَة، وَكلما أستمرطته صاب، أَو رميت بِهِ غَرضا أصَاب، حَتَّى تضوع نسيمه، وتحدث بِخَبَرِهِ رايد الْعلم ومسيمه، إِلَى نفس بعيدَة الهمم، لَطِيفَة الشَّمَائِل والشيم، وَقد ثَبت من أدبه، الَّذِي خاطبني بِهِ كل عطر النفحة، مشرق الصفحة،

فِي وصف أبي عبد الله النجار

متفنن مشارك، وآخذ فِي الْأَدَب غير تَارِك، برع فِي الْوَثِيقَة وأحكامها، وَنزل

ص: 376

فصولها على مقتضيات أَحْكَامهَا، إِلَى نفس جبلت على حسن الْأَخْلَاق، وشمائل أعذب من الضَّرْب فِي المذاق، وإيناس يسرى فِي الْأَرْوَاح سرا الراح، ومذاكرة أشهى من العذب القراح، وَهُوَ الْآن صدر فِي عدُول بَلَده، وسابق تقف الحلبة دون أمده

فِي وصف أبي عبد الله الوقشي الزبار

صَنِيع الْيَدَيْنِ، فايز من سِهَام الضَّرْب بالفريضة وَالدّين، إِذا زين الطروس، ونضر أصباغها، وَأحكم فِي قوالب السحر إفراغها، حسد قزَح تلوينها، وحقرت الرياض بساتينها، إِلَى خطّ يقف عِنْده الطّرف، وَلَا يتجاوزه الظّرْف، وأدب كالروض، راق مِنْهُ المجتلى، وتأرج الْعرف، وَنَفس أرق من نسيم الْفجْر، وأخلاق أعذب من الْوَصْل فِي عقب الهجر، وَقد أثبت من كَلَامه مَا يعذب موارده، وتروق شوارده

فِي وصف أبي جَعْفَر بن صَاحب الصَّلَاة

محسن لَا يُنَازع إحسانه، وبليغ لَا يساجل لِسَانه، وذكى. توقد نَار فهمه، ومجيد يُصِيب كل غَرَض بسهمه، فَمَا شِئْت من إِدْرَاك ناضية نصوله، وذكاء علت فروعه وَطَابَتْ أُصُوله، وظرف كالروض لما اعتدلت فصوله، وأدب سدت معاقده، فَلَا يطْمع فِيهِ ناقده، جالسته فِي بعض التوجهات إِلَى مالقة حرسها الله فَرَأَيْت روضا تعطر وتأرج، وَمر بِهِ نسيم دارين فتأرج. فَلَمَّا ظَفرت بجناه الطّيب، وَقَعَدت تَحت غمامه الصيب، تركت خَبره لعيانه، وخطبت نبذة من بَيَانه [فأنشدني مَا يذكر] .

فِي وصف أبي الْقَاسِم بن رضوَان

أديب أحسن ماشا، وَفتح قليب قلبه، فَمَلَأ الدَّلْو بل الرشا، وعانى على

ص: 377

حداثته الشّعْر والإنشا، وَله فِي بَلَده بَيت معمور بِفضل وَأَمَانَة، ومجد وديانة، وَنَشَأ هَذَا الْفَاضِل على أتم العفاف والصون، فَمَا مَال إِلَى فَسَاد بعد الْكَوْن، وَقد ثَبت من كَلَامه، ونفثات أقلامه، كل مُحكم الْعُقُود، زار بابنة العنقود.

فِي وصف أبي بكر بن مقَاتل نَابِغَة مالقية، وَخَالف مِمَّن ترك الأدبا وَبَقِيَّة، ومغربي الوطن أخلاقه مشرقية. اشْتهر بالإجادة بَين أَصْحَابه، وتألق تألق البارق خلال سحابه، حَتَّى اشْتهر إحسانه، وَمضى عِنْد الضريبة لِسَانه، ثمَّ أزمع الرحيل إِلَى الْمشرق، مَعَ اخضرار الْعود، وَسَوَاد المفرق، وَسَهْم الْقدر لَا يخطى، وَمن استحثه الْأَجَل لَا يبطى، وَلما توسطت السَّفِينَة اللجج، وقارعت التبج، هال عَلَيْهَا الْبَحْر، فَسَقَاهَا كأس الْحمام، وأولدها قبل التَّمام، وَكَانَ رحمه الله فِيمَن اشْتَمَلت عَلَيْهِ أعوادها، وانضم على نوره سوادها من الطّلبَة والأدباء، وَأَبْنَاء السراة والحسباء، أصبح كل مِنْهُم مُطيعًا لداعى الردى وسميعا، وأحيوا فُرَادَى وماتوا جَمِيعًا، فملأوا الْقُلُوب حزنا، وَأرْسلت العبرات عَلَيْهِم مزنا. وَكَانَ الْبَحْر لما طمس سبل خلاصهم وسدها، وأمال هضبة سفينتهم وهدها، غَار على دررهم النفيسة فاستردها. والفقية أَبُو بكر مَعَ إكثاره، وانقياد نظامه ونثاره، لم أظفر من أدبه إِلَّا باليسير التافه بعد وداعه وانصرافه.

فِي وصف الْمُؤَذّن أبي الْحجَّاج بن مَرْزُوق

خير استبق إِلَى دَاعِي الْفَلاح استباقا، وانتمى إِلَى الْقَوْم الَّذين هم فِي الْآخِرَة أطول أعناقا، وَإِن كَانُوا فِي الدُّنْيَا أضيق أرزاقا. مردد أذكار ومسبح

ص: 378

أسحار، وعامر مأذنة ومنار. كَانَ بِبَلَدِهِ رندة حرسها الله مُؤذنًا بجامعها. وموقتا بِأم صوامعها، ومعتبرا مِمَّن كَانَ بهَا من فضلاء السَّدَنَة، وَمِمَّنْ يَشْمَلهُ قَوْله " فَكَأَنَّمَا قرب بدنه " وَكَانَ لَهُ لِسَان مخيف، وَشعر سخيف، توشح بحليته، وَجعله وَسِيلَة كديته.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن بن الجياب

صدر الصُّدُور الجلة، وَعلم أَعْلَام هَذِه الْملَّة، وَشَيخ الْكِتَابَة وبانيها، وهاصر أفنان الْبَدَائِع وجانيها، اعتمدته الرياسة فنأى بهَا على حَبل ذراعه، واستعانت بِهِ السياسة فدارت أفلاكها على قطب من شباة يراعه، فتفيأ للعناية ظلا ظليلا، وتعاقبته الدول فَلم تربه بديلا، من ندب على علوه متواضع، وَحبر لثدي المعارف راضع، لَا تمر مذاكرة فِي فن إِلَّا وَله فِيهِ التبريز، وَلَا تعرض جَوَاهِر الْكَلَام على محاكاة الأفهام، إِلَّا وَكَلَامه الإبريز، حَتَّى أصبح الدَّهْر رَاوِي إحسانه، وناطقا بِلِسَانِهِ، وَغرب ذكره وشرق، وَتجَاوز الْبَحْر الْأَخْضَر، والخليج الْأَزْرَق، إِلَى نفس هذبت الْآدَاب شمائلها، وجادت الرياضة خمائلها، ومراقبة لرَبه، وانتشاق لروح الله من مهبه، وَدين لَا يعجم عوده، وَلَا تخلف وَعوده، وَكلما ظَهرت علينا معشر بنيه من شارة تجلى بهَا الْعين أَو إِشَارَة كَمَا سبك اللجين، فَهِيَ إِلَيْهِ منسوبة، وَفِي حَسَنَاته محسوبة، إِنَّمَا هِيَ أنفس راضها بآدابه وأعلقها بأهدابه، وهذب طباعها كَالشَّمْسِ تلقى على النُّجُوم شعاعها، والصور الجميلة تتْرك فِي الْأَجْسَام الصقيلة انطباعها، وماذا عَسى أَن أَقُول فِي إِمَام الْأَئِمَّة، وَنور الدياجى المدلهمة، وَقد أثبت من عُيُون قصائده وأدبه الَّذِي علق الْإِحْسَان فِي مصائده، كل وثيق المبنى، كريم المجنى، جَامع بَين حصافة اللَّفْظ ولطافة الْمَعْنى.

ص: 379

فِي وصف الْكَاتِب أبي عبد الله اللوشى

شَاعِر مفلق، وحسيب معرق، طبق مفاصل الْكَلَام بحسام لِسَانه، وقلد نجور الْمُلُوك مَا يرزى بجواهر السلوك من إحسانه، وَنَشَأ فِي حجر الدول النصرية، راضعا ثدي إنعامها، ومستظلا بسمائها، ومفضلا على مداحها، وحائزا الْمُعَلَّى من قداحها، ولسلفه بخدمتها الِاخْتِصَاص الْقَدِيم، والمزية والتقديم، والمتات الَّذِي كرم ذمامه، وَاسْتقر فِي يَد الرعى زمامه، ونطق بالشعر قبل أَن ينْطق بالشعر خَدّه، فَأتى مِنْهُ ببحر لَا يعرف الجزر مده، وَأما الطَّرِيقَة الهزلية، فَهُوَ فَارس مجالها، وَإِمَام رجالها، وَرب رويتها وارتحالها، وَله همة تبذ من يباريها، وأخلاق تفْتَقر إِلَى من يداريها، طُولِبَ فِيمَا فرط بالحضور مَعَ الْكتاب، وملازمة خدمَة الْبَاب، فَتنحّى على عَادَته، وتوعد بِإِسْقَاط مرتبته فَلم يرغب فِي إِعَادَته، بل كبر على الْخدمَة أَرْبعا وَسلم، وَلَا ارتمض لَهَا وَلَا تألم، وَعَكَفَ على إِقَامَة أوده بانتجاع غلَّة بِظَاهِر بَلَده، بَاشَرَهَا بِنَفسِهِ وَجعلهَا معنى رَاحَته وَمعنى حسه، واتخذها وقاية لما وَجهه إِلَى أَن يحل فِي رمسه، وَهُوَ من أهل الوفا وَحفظ الْعَهْد، والمشاركة فِي الرخَاء والجهد، والانقباض عَن هَذَا الْعرض والزهد، إِلَى حسب تطرزت الدفاتر بآثاره، وتضوع الحبر مسكا بأخبار أخباره، وَشعر بلغ فِي الإجادة الْغَايَة وَرفع للمحسنين الرَّايَة،

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي بكر بن الْحَكِيم

ماجد أَقَامَ رسم الْمجد بعد عفائه، وَأَيْقَظَ طرفه بعد إغفائه، مَحَله مَحل ضيفان، ومنزع جفان، ومنهل وَارِد، ومظنة ضال من الْعلَا وشارد، مثواه لَا يَخْلُو عَن قرى جزيل، لقاصد ونزيل، إِلَى غير ذَلِك من التحلي بحلية الْآدَاب، والمبادرة

ص: 380

إِلَى اكْتِسَاب المعلوات والانتداب. برز فِي حمل الحَدِيث وَرِوَايَته، واجتنى ثَمَرَة رحْلَة أَبِيه وَهُوَ فِي حجر دايته، وَدون الْآن الفهارس، وأحيى الْأَثر الدارس، وارتقى من الْبِدَايَة إِلَى الْمحل النبيه، وَاسْتحق رتبتها من مَحل أَبِيه، فأينع روضه وتأطر، وتأرج دوحه وتعطر. وَله شعر أنيق الْحِلْية، جَار فِي نمط الْعلية، وسيمر فِي أَثْنَائِهِ مَا يدل على قدره، وَيشْهد بسعة صَدره.

وَفِي وصف أبي جَعْفَر بن صَفْوَان المالقى

فَارس البلاغة الْمعلم، وَحجَّة الْأَدَب الَّتِي تسلم، والبطل الَّذِي لَا ترد شياة نَقده، وَلَا تحل مبرمات عقده، من جهبذ رَاض صعاب الْبَيَان وساسها، وميز أَنْوَاعهَا وأجناسها، وَأحكم ضروب الْعبارَة ونظم قياسها، إِلَى ذهن يَأْتِي الغوامض فتنبلج، ويقرع أَبْوَاب المعميات فيلج، وهمة يود فرقد السما وسهاها أَن تبلغ مُنْتَهَاهَا. أَخذ من الْفُنُون بِنَصِيب، وَرمى فِي أغراض التعاليم بِسَهْم مُصِيب، فركض فِي مجالها، ورحل إِلَى لِقَاء رجالها. ودعى لأوّل أمره للكتابة لما اشتهرت براعته، وأثمرت بالمعاني الغريبة يراعته، فَأجَاب وامتثل، وراش سِهَام بَيَانه ونثل، ثمَّ كرّ والدولة قد رجفت مِنْهَا الْقَوَاعِد، وأنجزت بإدالتها المواعد، فاصطنعته الدولة الإسماعيلية لجنابها، وقلدته سر كتابها، والهيجاء تَدور رحاها، والأمور لَا يتَبَيَّن منحاها، فَلَمَّا وضعت الْحَرْب أَوزَارهَا، وخفضت الْأُمُور أزارها، آثر الرُّجُوع إِلَى وَطنه، وأجرى هَوَاهُ فِي ذَلِك فضل رسنه، وضلت الْخدمَة عَنهُ فَمَا نشدها، وَقصر نَفسه على مَا يُقيم أودها، وَلم يثن بعد الْكر عنانه، وَلَا أعمل فِي خدمَة ملك بنانه، وكل مَا صدر عَنهُ من نظم تروق أسرته، وتتشوق إِلَيْهِ تيجان الْملك وأسرته، فالتصوف مجاله، وَفِي غَرَضه رويته وارتجاله.

ص: 381

وَفِي وصف أبي إِسْحَق بن زَكَرِيَّا

حَامِل لِوَاء الْخط، وَالْمُنْفَرد بِأَحْكَام الْمشق والقط، وَمن تفْتَقر إِلَى بنانه المخاطبات السلطانيات افتقار الْمَشْرُوط إِلَى الشَّرْط. شَدِيد التحفظ، مُقَدّر الْكَلَام حِين التَّلَفُّظ، عَظِيم البشاشة وَالْبر أَمِين على السِّرّ، إِلَى نفس مجبولة على الْخَيْر، وأخلاق حَسَنَة السِّيرَة، رفيعة السّير، وحياء كثف جلبابه، وسد فِي وَجه الدنية بَابه، وكلف بِالْعلمِ وأوضاعه، والتطلع على رقاعه، ويكفيه فضلا لَا تخبو آثاره، وَلَا يخفى مناره، مَا خلد من كَلَام شيخ الْجَمَاعَة، وَعلم الصِّنَاعَة، فقد أودعهُ بطُون الأوراق، وَجمعه بعد الِافْتِرَاق، وأطلع نوره بَادِي الْإِشْرَاق، وألبس الْأَيَّام بِهِ حللا أبهى من حلل صنعا الْعرَاق، وَالشعر وَإِن كَانَ قَلِيلا مَا يعْنى بإجادة صناعته، ومعاناة بضاعته، فحظه مِنْهُ لطيف الهبوب، حسن الأسلوب،

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق بن الْحَاج

طلع شهابا ثاقبا، وَأصْبح بِشعرِهِ للشعرى مصاقبا، فنجم فبرع، وتمم الْمعَانِي واخترع، وكلف بالآداب، وَهُوَ غُلَام يافع، وَله من الْحسن لكل قلب شَافِع، فأترع كأسه، ونضد ريحانه وأسه، وَنبهَ للصبوح من بعد الذكرى باسه. وَلم يزل دوحه يتأرج، وعقايل بدايعه تتبرج، حَتَّى دعى للكتابة، وترشح لتِلْك المثابة، فطرز المهارق برقوم أقلامه، وشنف المسامع بدرر كَلَامه، وأزمع للرحيل، لما خَافَ على بضائعه الضّيَاع، فَركب الْفلك وَشرع الشراع، فحج وزار، وَشد للطَّواف الْإِزَار، ثمَّ هفا إِلَى الْمغرب وحوم، وقفل قفول النسيم على الرَّوْض بعد مَا تلوم، فاستقر تَحت ظلال الدولة الموحدية، فحط بهَا على نَار الْقرى وَحمد عِنْدهَا صباح السرى، ثمَّ لم يلبث أَن تنقل وَوجد الْجَحِيم فعافه وتنقل، وَهُوَ الْآن فِي جملَة كتاب الْمغرب، حساما فِي البلاغة دامي المضرب.

ص: 382

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم بن قُطْبَة

سَابق ركض مجلى، وشارق طلع فتجلى، وفاضل تخلق من الْخلال البارعة بِمَا تحلى، أَتَى من أدواته بالعجايب، وَأصْبح صَدرا فِي الْكتاب وَسَهْما فِي الكتايب، وَكَانَ أَبوهُ رحمه الله، بِهَذِهِ الْبِلَاد قطب أفلاكها، وواسطة أسلاكها ومؤتمن أملاكها، وَصدر رجالها، وَولى ربات حجالها، فَصدق يقينه ومحافظته على أَرْكَان دينه، قد نثل بنيه سَهْما سَهْما، وخبرهم براعة وفهما، وألقاه بَينهم مَاضِيا شهما، فدمر مِنْهُ نجيبا، وَدعَاهُ إِلَى الْجِهَاد، فألفى مِنْهُ سميعا مجيبا، فصحب السَّرَايَا الْمُغيرَة، وَحضر من المواقع الْكَبِيرَة وَالصَّغِيرَة، وباشر الْحَرْب وبأسها، وَنَازع ذَلِك الشّرْب كأسها، وعَلى مصاحبة الْبعُوث وجوب السهول والوعوث فَمَا رفض البراعة للياتر، وَلَا ترك الدفاتر للزمان الفاتر. وَلم يزل يبهر بأدواته، وينتج البدايع بَين قلمه ودواته، فَإِن خطّ، فاخر ببراعة الْخط، إِلَى خلق سَلس المقادة، وَنَفس للمكارم منقادة، وأدب بديع الْمَقَاصِد، قَاعد للمعاني بالمراصد، واستأثرت بِهِ الْكِتَابَة الرفيعة السُّلْطَانِيَّة، فشعشع أكواسها وعاطاها، وَكَانَ من تِلْكَ القلادة الرفيعة وسطاها، وَله همة يحسدها فرقد الْأُفق وثرياه، وَكِتَابَة تنَازع الرَّوْض طيب رياه

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي بكر الْقرشِي

قريع مجد وَحسب، مُتَقَدم على تَأَخّر زَمَانه بِذَات ومنتسب، من دوحة الشّرف الَّذِي لَا يذوي نظيرها، ونبعة الدّيانَة الَّتِي لَا يغيض نميرها، إِذا ذكر الصالحون فحيها بعمر ووالده، وَأكْرم بطارفه وتالده، أصبح لمهبة الظّرْف ناسما، فَلَا تَلقاهُ إِلَّا ضَاحِكا باسما، إِلَى حلاوة الضرايب، والشمايل، وَالْأَدب المزري بأزهار الخمايل، فَمَا شيت من مداعبة تمتزج بالنفوس، ومحاورة تزري

ص: 383

بالكوؤس، وأدب عذب مذاقه، واعترف بِهِ فرسَان الْكَلَام وحذاقه، وَمَعَان جَاءَت من السهولة بِمَا تَقْتَضِيه أخلاقه، وعفاف ضفت أذياله، وظرف صفت جرياله،

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن جزى

فرع مجد سبق، وثاقب طلع فَجلى الغسق، وأديب فرع من الْأَدَب كل شَاهِق، وَحدث عَمَّا بَين عَاد وبنيه، وصدغاه فِي خدى غُلَام مراهق، فبذ أقرانه وأترابه، وأجال فِي ميدان الْفُنُون عرابه، فَأصْبح نادرة أَوَانه، وواسطة عقد أخوانه، فَهُوَ النبيه، الَّذِي قل لَهُ الشبيه، والوجيه الَّذِي قصر عَن لحاقه الْوَجِيه، إِذا ذكرت الغرائب قَالَ أَنا لَهَا، وَلَو تعلّقت الغوامض بِالثُّرَيَّا لنالها، إِلَى خلق أعذب من الضَّرْب وأشهى من بُلُوغ الأرب، ونبل لَا تطيش نباله عَن غَرَض، وذكا يكْشف كل مُشكل مهما عرض، وَله أدب تود الْعُقُول محَاسِن شذوره، وتقصر الصُّدُور عَن أعجازه وصدوره، وتتضاءل أهلة الْمعَانِي عِنْد طُلُوع بدوره.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي العلى بن سماك

كَاتب ماشق، وأديب لربح الْبَيَان ناشق، ذُو طبع سَائل، وكلف بالمسائل، فَلَا يفتر عَن تَقْيِيد وَنقل، وجلا للفوايد وصقل كتب مَعَ الحلبة فأحكم الْخط وأتقنه، وتلقى السجع وتلقنه، وَأنْشد الشّعْر فَأجرى بِغَيْر الخلا، وَجعل دلوه فِي الدلا، وَله بَيت معمور فِي الْقَدِيم بصدور قُضَاة، وسيوف للدّين منتضاة، وَلم يزل منتظما فِي السلك، ومرتسما فِي كِتَابَة الْملك إِلَى أَن عضه الدَّهْر بناب خطوبه، وقابله بعد البشاشة بقطوبه، فتأخرت فِي هَذِه الْأَيَّام جرايته، وَنَكَصت على الْعقب رايته، وَقد ثَبت من شعره مَا يشْهد بإجادته، وينظمه فِي فرسَان الْكَلَام وقادته.

ص: 384

وَمن ذَلِك فِي وصف مؤلف هَذَا الْمَجْمُوع مُحَمَّد بن عبد الله بن الْخَطِيب وَفقه الله

إِن خلطت العذب بالأجاج، ونظمت مخيلتي بَين دُرَر هَذَا التَّاج، فَلم أبغ تعريفا وَلَا تَنْبِيها، وَلَا اعتمدت أَن أقرظ نَفسِي وأذكيها، وَلَكِنِّي بأوت بنفسي عَن مُفَارقَة أَبنَاء جنسي، فزاحمتهم فِي أَبْوَاب هَذِه الْآدَاب، وقنعت باجتماع الشمل بهم وَلَو فِي الْكتاب، وَلما رَأَيْت حللهم الموشية الطرز، وحلاهم الْوَاضِحَة الشيات وَالْغرر، نافستهم مُنَافَسَة الْأَكفاء فِي حلَّة تزين مَنْكِبي، وَرَايَة تتقدم موكبي، فجلبت فضلا حلاني بِهِ رَئِيس الصِّنَاعَة وَإِمَام الْجَمَاعَة فِي بعض المنشورات السُّلْطَانِيَّة، ألبسني بِهِ الشّرف ضاني الأردان، وَتَرَكَنِي معلم ذَلِك الميدان وَهُوَ أظهر لَهُ أثر اعْتِقَاده الْجَمِيل فِيهِ، وَفتح لَهُ أَبْوَاب الْقبُول والتنويه، تشرع إِلَى الْعِزّ الْوَجِيه، وَالْقدر النبيه، ورعى لَهُ وسائله الَّتِي كرمت مَعَانِيهَا، وعذبت مجانيها، وتأسست على قَوَاعِد البلاغة مبانيها، فَعرف مَاله من الْأَصَالَة، حَتَّى تميز فِي أعيانها، وبراعة الْآدَاب الَّتِي أحرز خصل سباقها، وتلقى بِالْيَمِينِ راية فرسانها، وَلما اختصه بالتقريب والإيثار، وَاعْتَمدهُ بولايات ملكه الْكِبَار، وقربه فِي بِسَاط ملكه، حفاية وعناية، وأطلع من آيَات السَّعَادَة لَهُ آيَة، وابتداه بالخطط الَّتِي هِيَ لغيره غَايَة، رأى أَن يَسْتَعْمِلهُ فِيمَا هُوَ لَدَيْهِ أهم موقعا وأعز موضعا، وَأَن يجمع لَهُ بَين الكتابتين إنْشَاء وديوانا. ويطلع لَهُ وُجُوه الرِّعَايَة غرا حسانا. فحسبي مَا خلد لي بذلك من مجد، وقلدني من فَخر أشهر من نَار على نجد، وَأما شعري ونثري فقد أثبت مِنْهُ، بعد سُؤال الإغضا، وَالنَّظَر بِعَين الرِّضَا، تعلق بِالذكر، واحتجت بحجاب الضَّمِير من بَنَات الْفِكر

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن خَاتِمَة

ناظم دُرَر الْأَلْفَاظ، ومقلد جَوَاهِر الْكَلَام نحور الروَاة ولبات الْحفاظ،

ص: 385

ذُو الْأَدَب الَّتِي أضحت شوارده حلم النيام وَسمر الأيقاظ، وَكَمن فِي بَيَاض طرسه، وَسَوَاد نَفسه سحر اللحاظ، رفع بقطره راية هَذَا الشان على وفور حلبته، وَفرع قنة الْبَيَان على سمو هضبته، وَفَوق سَهْمه إِلَى نحر الْإِحْسَان، فأثبته فِي لبته، فَإِن أَطَالَ، ثار الْأَبْطَال، وكاثر المنسجم الهطال، وَإِن أوجز فَضَح وأعجز، فَمن نسيب تهيج بِهِ الأشواق، وتضيق عَن زفراته الأطواق، ودعابة تقلص ذيل الْوَقار، فتزرى بأكواس الْعقار. إِلَى انتماء للمعارف، وجنوح إِلَى ظلها الوارف، وَلم تزل فضائله بتك الْبَلدة تنفسح آمادها، حَتَّى تنافس فِيهِ قوادها، فاتخذوه كَاتب أسرارهم، وترجمان أخبارهم، وَقد ثَبت من مقطوعات شعره، ونفثات سحره، مَا يستفز السَّامع، ويقرط المسامع

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن بقى

مدير لأكواس الْبَيَان الْمُعْتق ولعوب بأطراف الْكَلَام المشقق انتحل لأوّل أمره الْهزْل من أصنافه فأبرز دُرَر مَعَانِيه من أصدافه وجنى ثَمَرَة الإبداع لحسين قطافه، ثمَّ تجَاوز إِلَى المعرب وتخطاه، فأدار كأسه وعاطاه، فَأصْبح لفنيه جَامعا، وَفِي فلكيه شهابا لامعا، وَله ذكا يطير شرره، وَإِدْرَاك تتبلج غرره، وذهن يكْشف الغوامض، ويسبق البارق الوامض، وعَلى ذلاقة لِسَانه، وانفساح أمد إحسانه، فشديد الضنانة بِشعرِهِ، مغال لسعره، أجَاب أحد الأحباء مِمَّن خطب ادبه واستدعاه للمراجعة وندبه.

وَمن ذَلِك وصف أبي عَليّ حسن بن عبد السَّلَام

فَارس براعة بارعة، ورث بديهة مسارعة لاك الْكَلَام وعلكه، وَاسْتحق الْإِحْسَان وَملكه، وأدار على قطب الإجادة فلكه، وساعده الدَّهْر فتحدى طَرِيق السرو وسلكه، وَلم يزل الْمِقْدَار يساعده، وَالتَّدْبِير ينوء بِهِ ساعده حَتَّى تحلت بِالثُّرَيَّا حَاله

ص: 386

وَعظم جاهه وَمَاله، وَلما تغلبت الْفِتْنَة بدولته، وعجمت عود صولته آثر الرحيل، وَفَارق ربعه الْمُحِيل، وَاسْتقر بِحَضْرَة تونس يروم الوجهة الحجازية وَقد تَبرأ من قَول الشَّاعِر:" وَمَا أَنا إِلَّا من غزيَّة " فَأَتَاهُ بهَا حمامة، وَانْقَضَت دون أمله أَيَّامه، وَله أدب غض الجنى، أنيق اللَّفْظ وَالْمعْنَى على قصر بَاعه، وَقلة انتجاعه.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن بن الصّباغ

اللسن الْعَارِف، والناقد لجواهر الْمعَانِي كَمَا تفعل بالسكة الصيارف، والأديب الْمجِيد، الَّذِي تحلى بِهِ للعصر النَّحْر والجيد، إِن أجال جِيَاد براعته، فَضَح فرسَان المهارق، وأخجل من بَيَاض طرسه، وَسَوَاد نَفسه الطرر تَحت المهارق. وَإِن جلى أبكار أفكاره، وأثار طير الْبَيَان من أوكاره، سلب الرَّحِيق المعدم فضل ابتكاره، إِلَى نفس لَا يفارقها ظرف، وهمة لَا يرْتَد إِلَيْهَا طرف وإباية لَهُ لَا يفل لَهَا غرب وَلَا جرف، وَفِي هَذِه الْأَيَّام دَعَاهُ شيخ الْغُزَاة إِلَى كِتَابَة سره، وَقَامَ بِوَاجِب بره، وَله أدب غض وزهر على مجتنبه مرفض.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق الطّراز

رَوْضَة أدب وظرف، كَمَا شِئْت من حسن وَعرف، أشرقت ذكا ذكائه، وتضوعت آدابه تضوع الرَّوْض غب سمائه، إِلَى حلاوة الْخَلَائق والضرائب، والشيم الْحَسَنَة والمعاني الغرايب، ترتاح إِلَى مُجَالَسَته المحاضر، ويرقب من أفنان فكاهته الزهر الناضر، فَمَا شيت من توقيع رفيع، وتندير بالإصابة جدير، ولطافة الشَّمَائِل فِي كثير من الْفَضَائِل، وَله نفس تطمح إِلَى بُلُوغ الْمعَانِي، وفكر يَحْدُو حلل الْبَدَائِع فِي الطّراز العالي، وأدب كالروض باكرته السحائب، وحملت أرجه الصِّبَا والجنائب وَقد أثبت من شعره كل عطر النسيم، سَافر الْمحيا الوسيم،

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن دَاوُد الْوَادي آشى

شيخ الْعمَّال المؤتمن على الجباية وَالْمَال، الْمُسْتَوْفى شُرُوط الْفضل على الْكَمَال،

ص: 387

تواضع رحمه الله على الْعُلُوّ، وَلبس شعار السّكُون والهدو، وبذل المجاملة للصديق والمسالمة لِلْعَدو، ولازم مجَالِس الْملك بِحَيْثُ يضر وينفع، ويحط وَيرْفَع، فَمَا شَاب بالإساءة إحسانا، وَلَا أعمل فِي غير الْمُشَاركَة لِسَانا إِلَى غير ذَلِك من الْأَدَب الْعطر النسيم، السافر عَن الْمحيا الوسيم، واشتهر بِالْوَفَاءِ اشتهار دارين بطيبها وأياد بخطيبها، فَكَانَ حَامِل رايته، ومحرز غَايَته، وَمضى لسبيله فقيدا عَم فَقده وَخص، وهاض أَجْنِحَة الْحَاجَات وقص، وَله أدب يُصِيب شاكلة الرمى بنباله، ونظم تضحى الْمعَانِي قنايص حباله،

وَمن ذَلِك وصف أبي عبد الله بن حسان

كَاتب إنْشَاء وديوان، وَصدر حفل وإيوان، وَفَارِس يراعة، وَروض أدب وبراعة، يملى الرسائل فَلَا يجِف مدادها، وينظم القصائد لَا يعييه امتدادها، ويحبر الرّقاع ويوشيها، ويصور الْمعَانِي وينشيها، ويدبج برود البدايع ويطرز حواشيها إِلَى خطّ تهيم الْأَلْفَاظ بالتماح سطوره وتغار الرياض بممطوره، وأبوة ومجاده، وَبَيت أمطره الْفضل وجاده، وأنجبت مِنْهُ أبوة صَاحب الأشغال رحمه الله خلفا سد مسده، وَتجَاوز فِي السرو مَا حَده، وَلم تزل الأسماع تخْطب بدايعه، وأسواق الأشواق تغلى بضايعه، حَتَّى أصبح فَردا فِي أترابه، وفذا فِي أغرابه، وَله نفس عذرية الشمايل، ولسان هام بزهر الرياض وظل الخمايل، وطبع إِلَى شيم الرصافة وَالْحسن مايل

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن مصادف الرندي

من شُيُوخ الطَّرِيقَة العملية ومنتحلي الصِّنَاعَة الأدبية

كَانَ رحمه الله مَجْمُوع ظرف، ومسرح كل طرف، من خطّ بارع، وأدب إِلَى دواعي الْإِجَابَة مسارع، وَلما صَار أَمر رنده، كلأها الله، عِنْد اشتعال الْحَرْب،

ص: 388

وتوالى الضَّرْب على ملك الْمغرب قَلّدهُ أَعمالهَا، وَجعل إِلَى نظره حالتها، ثمَّ تنقل إِلَى بعض الولايات ببر العدوة، وَبهَا قضى نحبه، وَفَارق صَحبه، بعد معاناة خطوب، ومباشرة صروف من الدَّهْر وضروب. وَله أدب طَابَ وتأرج، وَعطف على رسوم الإجادة وعرج، وَمَعَان تتجلى تجلى العذارى وتتبرج.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي إِسْحَق بن جَعْفَر

شيخ توقيعة نادرة، وفكاهة وَارِدَة وصادرة، ونظم أنيق الديباجة، لطيف الزجاجة، عطر النفخة، [عذب المجاجة] وظرف لَا يذوي دوحه، وأدب تأرج روحه، وَقضى رحمه الله، وَقد تخلف عقبا نجيبا، والقى من ابْنه أَبى جَعْفَر مستمعا للفضل مجيبا، حَاز فِي الْإِحْسَان طلقه، وحاسن فلقه، وَقد ثَبت من شعره مَا يقر بوقور مادته واستقامة جادته،

وَمن ذَلِك فِي وصف ابْنه أبي جَعْفَر

كَاتب حِسَاب، ومنتسب لأدب أَي انتساب، إِن فكر وروى، أنهل الخواطر وروى، وَإِن ابتدر وارتجل، أولد الْبَدَائِع وَانْتَحَلَ، وَله منطق يحاول الصعاب فيلينها، ويتناول الغوامض فيبينها، ويجلو كل سَاحِرَة الْأَلْبَاب تروق جبينها ويوسع المحاضرة إمتاعا ويمد فِيهَا خطوا وساعا، قَالَ الْمُؤلف وَقد حظيت من بَيَانه بِهَذَا الْمَجْمُوع، وَلم أَقف مِنْهُ عِنْد خَبره المسموع، لكني اجتزأت مِنْهُ باليسير، وقنعت بِمَا حضر، واكتفيت برايقة الْأَثِير، وأقمت قَلِيله مقَام الْكثير،

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْحسن الْبَرْبَرِي المالقي

شَاعِر ينْفق من سَعَة، وينطق وسط المجمعة، ومطبوع لَا يتَكَلَّف، ومجيد إِذا نَهَضَ البلغاء لَا يتَخَلَّف، عانى النّظم وزمنه كمثله غُلَام، ودهره تَحِيَّة وَسَلام،

ص: 389

ومدح وانتفع، وشفع شعره للملوك فشفع، وَلم يزل يتَصَرَّف فِي الْأَعْمَال، ويقابل بِالْإِحْسَانِ والإجمال، وَقد أثبت من شعره كل مُحكم العقد، شَدِيد الْوَطْأَة على النَّقْد.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم بن مقَاتل المالقي

من حسباء الطَّرِيقَة وصدورها، والمحاسن لترايبها العاطلة ونحورها. كَانَ رحمه الله هضبة وقار وسكينة، وَذَا مكانة فِي الْفضل مكينة. إِلَى صدر سلم ومجد صميم، وَخلق عَظِيم السهولة، وسمت خليق بسن الكهولة، ولسان مغرى بِالذكر، متقلب بَين الْحَمد وَالشُّكْر، وَإِلَى ذَلِك فَكَانَت لَهُ دعابة صائبة السهْم، ونادرة يتنافس فِيهَا أولو الْفَهم، ومجالسة طيبَة، وفكاهة غمامتها صيبة. وَاسْتعْمل فِي الولايات النفيسة، فحمدت سيرته، وَحسن أَثَره، وكرم خَبره وَخَبره، وأنجب عقبا جَارِيا على سنَنه، ومتخلفا من السرُور بأحسنه، وَكَانَ لَهُ أدب غض الجني، طيب اللَّفْظ وَالْمعْنَى، ومقطوعات حَسَنَة المقاطع، سافرة عَن الْحسن الساطع.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي زيد عبد الرَّحْمَن الينشتي

من شُيُوخ طَريقَة الْعَمَل، المتغلبين من أحوالها بَين الصحو والثمل، المتعلقين برسومها حِين اخْتَلَط المرعى بالهمل. وَهُوَ ناضم أرجاز، ومستعمل حَقِيقَة ومجاز نظم بهَا مُخْتَصر السِّيرَة فِي الْأَلْفَاظ الْيَسِيرَة، ونظم جُزْءا فِي الرجز والفال، فبذ بِهِ تِلْكَ الطَّرِيقَة بعد الإغفال.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر الْمَعْرُوف بالبغيل من أهل المرية

بَقِيَّة صَالِحَة، وغرة فِي الزَّمن البهيم وَاضِحَة، أرخ وَقيد وَأحكم بِنَا الْعبارَة وشيد، ورقم الرسائل الْبَدَائِع، وحقق بِبَلَدِهِ الْأَخْبَار وَكتب الوقائع. فمجالسته عَظِيمَة الإمتاع، ومحاضرته مقرطة الْأَذَان والأسماع. وَله شعر جزل، لَا ينتكب لمعانيه غزل، وَأَلْفَاظه صقيلة، وَمَعَان تتبرج تبرج العقيلة، وأغراض لَا تطيش

ص: 390

نبلها، وَلَا تطمس لاحب سبلها. وَقد أثبت مِنْهَا مَا يشْهد بإجاد ته وَيدل على كرم مجادته.

وَفِي وصف أبي جَعْفَر بن جَعْفَر من مالقة

أديب مجيد، وَبَطل فِي الْحساب نجيد، تقدم فِي الطَّرِيقَة العملية، وبرز وطور طروسها وطرز، وَنقد وأبرز، وعانى النّظم فأجاده، واستقى غمام الْأَدَب فجاده، وسبك الْأَلْفَاظ وخلصها، واستطرد الْمعَانِي واقتنصها، وَمَرَّتْ بِهِ النادرة فاغتنم فرصها. وَله أخلاف رفيعة، وَنَفس لكل عُذْري شَقِيقَة، وَقد أثبت من شعره مَا وَقع بيَدي، وارتسم فِي خلدي.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عَليّ حسن ابْن الْخَطِيب أبي الْحسن القيجاطي

حسنى الْمَذْهَب، وهائم بِكُل عذار موشى وخد مَذْهَب، نَشأ بَين يَدي أَبِيه رحمه الله، وحلقة درسه مكنس أرام، ومثار صبَابَة وعزم، ومطلع الشموس الْأَهِلّة من أَبنَاء الجلة، فركض فِي الكلف ملْء عنانه وَمكن الجفون السود من سويداء جنانه وعذب عِنْده تعذيبه حَتَّى اشْتهر غزله ونسيبه، وَلما نضب عود تِلْكَ الشبيبة، وصوخ نبت تِلْكَ الرياض العجيبة، تعلق بِالْخدمَةِ العملية، فانتظم فِي أَهلهَا، وَسَار فِي حزنها وسهلها، وَظَهَرت عَلَيْهِ تبعات عبر لَهَا اللجة، وَقطع الْحجَّة. وَاسْتقر ببجاية، فارتفد وارتفق، وَعرض شعره، فعلى سعره ونفق، ثمَّ ارتحل على هَذَا الْعَهْد إِلَى أم تِلْكَ المملكة، والقايمة بحسنات تِلْكَ الْبِلَاد مقَام الفذلكة، فاستند إِلَى بَابهَا، وارتسم فِي سلك كتابها،

وَقد أثبت من شعره المطبوع أَيَّام مقَامه بِهَذِهِ الربوع.

وَفِي وصف أبي مُحَمَّد المرابع من أهل بلش

طَوِيل القوادم والخوافي، كلف على كبر سنه بعقائل القوافي، شَاب فِي

ص: 391

الْأَدَب وشب، ونشق ريح الْبَيَان لما هَب، فجاور رَقِيقه وجزله، وأجاد جده وَأحكم هزله، فَإِن مدح صدح، وَإِن وصف أنصف، وَإِن عصف قصف، وَإِن أنشأ وَدون، وتقلب فِي أفانين البلاغة وتفنن، أفسد مَا شَاءَ وَكَون، فَهُوَ شيخ الطَّرِيقَة الأدبية وفتاها، وخطيب محافلها كلما أَتَاهَا، لَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من أغراضها غَرَض، وَلَا يضيع لَدَيْهِ مِنْهَا مفترض، وَلم تزل بروقه تتألق، ومعانيه بأذيال الْإِحْسَان تتَعَلَّق، حَتَّى برز فِي أبطال الْكَلَام وفرسانه، وذعرت الْقُلُوب لسطوة لِسَانه، وَأَلْقَتْ إِلَيْهِ الصِّنَاعَة زمامها، ووقفت عَلَيْهِ أَحْكَامهَا فشعشع قدامتها وَنبهَ ندامها، وَأرْسل رجومها. وَعبر الْبَحْر لهَذَا الْعَهْد منتجعا لشعرة ومنفقا فِي سود الكساد من سعده، فأبرق وأرعد، وحذر وتوعد، وَبلغ جهد إِمْكَانه فِي التَّعْرِيف بمكانه، فَمَا حرك وَلَا هز، وذل فِي طلب الرفد وَقد عز، وَمَا برح أَن رَجَعَ إِلَى وَطنه الَّذِي اعتاده رُجُوع الحَدِيث إِلَى قتاده، وَقد أثبت من نزعاته، وَبَعض مخترعاته، مَا يدل على سَعَة بَاعه، ونهضة ذراعه، وألمعت بِشَيْء من سَبَب رحلته واغترابه، وعود مرهفه إِلَى قرَابه.

وَفِي وصف أبي عبد الله المتأهل الْمَعْرُوف بعمامتي من أهل وَادي آش ناظم أَبْيَات، وموضح غرر وشيات، وَصَاحب توقيعات وإمارات ذَوَات إشارات، اشْتهر فِي بَلَده اشتهار الشيب فِي المفارق، وتألق بأفقه بألق البارق. وَكَانَ شَاعِرًا مكثارا، وجوادا لَا يخَاف عثارا. دخل على أَمِير بَلَده [المخلوع عَن ملكه بعد انتثار سلكه وَخُرُوج الحضرة عَن ملكه، واستقراره بوادي آش] مروع المَال متعللا بقصيات الآمال.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْمُؤلف رحمه الله

إِن طَال الْكَلَام، وجمحت الأقلام، كنت كَمَا قيل مادح نَفسه يُقْرِئك

ص: 392

السَّلَام، وَإِن أحجمت فَمَا أسديت فِي الثَّنَاء وَلَا أفحمت أضعت الْحُقُوق، وقاربت العقوق. هَذَا وَلَو زجرت طير البلاغة من أوكاره، وحييته بعيون الْكَلَام وأبكاره لما قضيت حَقه بعد، وَلَا قلت إِلَّا بِالَّذِي علمت سعد، فقد كَانَ ذمر حزم، وَرجل رَجَاء وعزم، كَانَ بِبَلَدِهِ قطبه الَّذِي عَلَيْهِ الْمدَار، وزعيمه الَّذِي لَهُ الْإِيرَاد والإصدار، وَله إِلَى الْمقَام الْعلي النصري وَسَائِل قربى، ومتات أناف وأربى. لما حل الْملك الْإِسْمَاعِيلِيّ بذلك الْقطر، ولاح بأفقه لياح هِلَال الْفطر، نزع إِلَى فريقه، وَجعل تِلْكَ الإيالة قرى طَرِيقه، وَصَحب ركابه إِلَى قرارة ملكه، ومحط فلكه، فقر بِهِ وَأَدْنَاهُ، وشيد لَهُ الْعِزّ وبناه. وَلم تزل سماؤه تجوده، وروضه يروضه جوده. واصطنعه خَلفه من بعدة إِلَى أَن دَعَاهُ الْأَجَل لوعده، فَفَقَدته بكاينة طريف جبر الله عثارها، وَعجل ثارها، حدث خطيب الْجَامِع الْأَعْظَم، وَهُوَ مَا هُوَ من وفور الْعقل، وَصِحَّة النَّقْل، قَالَ، مَرَرْت بأبيك بعد مَا تمت الكسرة وخذلت تِلْكَ الأسرة وَقد كبا بأخيك الطّرف، وَعرض عَلَيْهِ الْحمام الصّرْف، وَالشَّيْخ لم تزل قدمه، وَلَا راعه عَدمه، وَلما يئس من الْخَلَاص وطلابه صرفني، وَقَالَ أَنا أولى بِهِ فَقضى سعيدا شَهِيدا، لم يستفزه الهول وَلم يثنه، وَلَا ارتضى عَار الْفِرَار عَن ابْنه، وَكَانَت لَهُ فِي الْأَدَب فَرِيضَة، وَفِي النادرة العذبة، منادح عريضة، مَعَ قلَّة انتحاله، واشتغاله بِحَالهِ،

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي بكر البلوي من أهل ألمرية

محيى لرسوم المكارم، ذُو هزة للفضائل كهزة الصارم، كَانَ رحمه الله بِبَلَدِهِ فِي الْإِحْسَان منزلَة الْعين من جَسَد الْإِنْسَان، والنطق من اللِّسَان والبشاشة من الصُّور الحسان. إِن ضل السماح فبيته مَأْوَاه أَو أظل الضَّيْف فَهُوَ أَبُو مثواه.

ص: 393

إِلَى نفس آخذة بأقاصي الْكَمَال، وشمائل ألطف من أنفاس الصِّبَا وَالشمَال، وأدب انْتهى إِلَى الْقُلُوب من الآمال، قدم على الحضرة بِأول الدولة لأَدَاء حق الطَّاعَة والانتظام فِي الْجَمَاعَة،

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله بن السراج

طَبِيب ماهر، وَروض علم تفتحت فِيهِ للفنون أزاهر، درج من الشظف إِلَى السعَة، وتحلى بحلية الْعلم فرفعه، فَبلغ الْغَايَة الَّتِي لطف محلهَا، وَفَاء عَلَيْهِ ظلها، وتقلبت عَلَيْهِ الْأَيَّام فاعتورته صروفها، وتنكر عِنْده معروفها لما ذكرته فِي كتاب " طرفَة الْعَصْر فِي اختبار دوَل بني نصر "، ثمَّ تداركت صَلَاح حَاله ومتعته بِطيب الْقَرار بعد ارتحاله، فاستقرت دَاره، واستقام على قطب الْعِنَايَة مَدَاره، وَكَانَ رحمه الله كثير الدعابة، وَمَا شانه ذَلِك وَلَا عابه، وَله نظم ينخرط فِي سلك الانطباع، وتخبر بطول الباع.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي زَكَرِيَّا يحيى بن هُذَيْل التجِيبِي درة بَين النَّاس مغفلة، وخزانة على كل فَائِدَة مقفلة، وهدية من الدَّهْر الضنين لِبَنِيهِ محتفلة، أبرع من رتب التعاليم وَعلمهَا، وركض فِي الألواح قلمها، وأتقن من صور الْهَيْئَة وَمثلهَا، وَأسسَ قَوَاعِد الْبَرَاهِين وأثلها، وَأعرف من زاول شكاية، وَدفع عَن جَسَد نكاية إِلَى غير ذَلِك من الْمُشَاركَة فِي الْعُلُوم، والوصول من الْمَجْهُول إِلَى الْمَعْلُوم، والمحاضرة المستفزة للحلوم، والدعابة الَّتِي مَا خَالع الغدار فِيهَا بالملوم. فَمَا شيت من نفس عذبة الشيم، وأخلاق كالزهر من بعد الديم، ومحاضرة تتحف الْمجَالِس والمحاضر، ومذاكرة يروق النواظر زهرها الناضر، وَله أدب ذهب فِي الإجادة كل مَذْهَب وارتدى بن البلاغة بِكُل رِدَاء مَذْهَب، وَمَعَان تراودها الخواطر فتصد وتحييها النُّفُوس فَلَا ترد، وَالْأَدب

ص: 394

نقطة من حَوْضه، وزهرة من أزهار روضه، وسيمر فِي هَذَا الدِّيوَان مَا يبهر الْعُقُول ويحاسن بِرِوَايَة ورائق بهائه الفرند المصقول.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عَمْرو بن عباد من أهل رنده

صوفي مُحَقّق، ومريد عَن صبوح الْمحبَّة مرفق. كَانَ بِبَلَدِهِ رحمه الله عينا من أعيانها، وقريع بَيت من بيوتات إحسانها، شام للغرب بارقا، فَأصْبح لدنياه مفارقا، فنزح عَن بِلَاده، وَخرج عَن طريفه وتلاده، وشمر لمقارعة الْهوى وجلاده، وخاض بَحر تِلْكَ الْأَهْوَال حَتَّى صَار معدودا فِي أهل الاحوال، وَظَهَرت عَلَيْهِ سمات الحضرة، وسطعت لَهُ أنوار الْعِنَايَة الإلهية، وَلم يزل يعبر عَن وجده ويكنى بحاجره ونجده، حَتَّى حفظت أَقْوَاله، واشتهرت أَحْوَاله.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْوَلِيد بن هاني من أهل غرناطة

شَاعِر ينحت من طود، وماطر صاب من الْكَلَام بجود. عدل عَن اللَّفْظ الْقَرِيب إِلَى الحوشى الْغَرِيب، وَإِذا أجهد طبعه وَوصف حيه وربعه، وَكَيف ظعن الْقطَّان، وتغيرت الأوطان، قلت حجازيا فصيحا أَو تميميا شقّ للْبَيَان ريحًا أَو نجديا شكى بثا وتبريحا. نَشأ بِبَلَدِهِ غرناطة، مطلع نور حَسبه الباهر، وروضة بَيته الأنيق الأزاهر، فشاقى حلبة الطّلب، وفاز بالغلب، واجتهد وَعَكَفَ واستمطر وابل الْعلم لما وكف حَتَّى جلى من المشكلات كل حالك، وَاسْتظْهر موطأ مَالك. ثمَّ رمى السفار بعزمته، وخاض القفار بجرفه وحزمته، وَاسْتقر بعد اعتساف المجاهل، ومزاحمة المناهل، وخوض المرار، والبشام بحماة الشَّام، واتخذها دَارا، وارتضاها لفضله مدارا.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله النمري الكفيف من أهل مالقه

[ضَرِير زار نور بَصَره نور قلبه فاجتمعا، وكفيف سَارَتْ الْأَمْثَال بِذكرِهِ فَصدق مرأى مِنْهُ مستمعا] صَادِق اللهجة، سلك سَبِيل الْفضل، وانتهج نهجه،

ص: 395

أذهن من راو المشكلات وافترعها، وصادم الغوامض فصرعها، وَله فِي علم اللِّسَان [قدم راسخة] وَفِي أَحْكَام الْمعَانِي آيَة ناسخة، وَكَانَ معرى عصره، ووارث علمه الَّذِي يعجز عَن حصره، وَله فِي الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة ذوق، وَإِلَى تِلْكَ الْفُنُون شوق نسبته لسببه الألسن، واستقبح مِنْهُ مَا يحسن. ونظمه دون قدره، ومعانيه تكْثر عَن نفثات صَدره.

وَمن ذَلِك فِي وصف الأديب الْحَاج الرّحال أبي إِسْحَق الساحلي رحمه الله

جَوَاب الْآفَاق، ومحالف الرفاق، ومنفق سعر الشّعْر كل النِّفَاق، رفع بِبَلَدِهِ راية للأدب لَا تحجم وَأصْبح نَسِيج وَحده فِيمَا يسدى ويلحم، فَإِن نسب، جزى كل قلب بِمَا كسب، وَإِن مدح وقدح، من أنوار فتنته مَا قدح، حرك الجامد، ونظم نظم الجمان المحامد. وَإِن أبن أَو رثا، غبر فِي وُجُوه السوابق وحثا، وَلما أنف الكساد سوقه، وضياع حُقُوقه، أَخذ بالعزم، وَأدْخل على تعلاته عَامل الْجَزْم، وَلم يزل يسْقط على الدول سُقُوط الْغَيْث، ويحتل كناس الظبي وَغَابَ اللَّيْث، ويركض النجائب، وَيتبع الْعَجَائِب، حَتَّى استضاف بِمصْر الْكِرَام، وَشَاهد البرابي والأهرام، وَرمى بعزمته الشَّام، فاحتل ثغورها المحوطة، وَدخل دمشق وتفيأ الغوطة، ثمَّ عاجلها بالفراق، وَتوجه إِلَى الْعرَاق، فَحَيَّا بِالسَّلَامِ، مَدِينَة السَّلَام، وَأورد بالرافدين رواحله، وَرَأى الْيمن وسواحله ثمَّ عدل إِلَى الْحَقِيقَة عَن الْمجَاز، وَتوجه إِلَى مثابة الْحجاز، فاستلم الرُّكْن وَالْحجر، وزار الترب الْكَرِيم لما صدر، وتعرف بِجَمِيعِ الْوُفُود بِملك السود، فغمره بإرفاده، واستصحبه إِلَى بِلَاده، وَاسْتقر بِأول أقاليم الأَرْض، وأقصى مَا يعمر من هَذَا الْعرض، فَحل بهَا مَحل الْخمر فِي القار، والنور فِي سَواد الْأَبْصَار، وتقيد

ص: 396

بِالْإِحْسَانِ، وَإِن كَانَ غَرِيب الْوَجْه وَالْيَد وَاللِّسَان، وَقد أثبت من شعره مَا يشْهد بجلالة آدابه، وَتعلق الْإِحْسَان بأهدابه.

وَمن ذَلِك فِي وصف الْقَائِد أبي جَعْفَر أَحْمد بن خير

قَائِد مليح الشيبة، ممتزج المباسطة بالهيبة، يجمع بَين الدعابة وَالْوَقار، وَيُدبر من الفكاهة كؤوسا تزري بكؤوس الْعقار، وَله أَصَالَة قَامَت على الْعلم أَرْكَانهَا، واشتهر بحمص أَعَادَهَا الله مَكَانهَا، ووسائل إِلَى السّلف الْكَرِيم عظم ذمامها، وَثبتت أَحْكَامهَا، وحظوة ظفر مِنْهَا بالأمل، وارتضع أخلافها بَين القيادة وَالْعَمَل، تنَاول خطة الْمَدِينَة فأجراها، وراش نبل الْأَحْكَام وبراها، وَبشر أبشار ألى الْفساد وفراها، وَفرق حَتَّى بَين الجفون وكراها ، فكم عاشق انتجز للوصل ميعادا وارتقب للسعد إسعادا، وظفر بمثير غرامه، وموقد ضرامه فِي مجْلِس تجلت فِيهِ عروس الكاس، عَن فرش الْورْد والآس، وَعند سُجُود الإبريق، ومزج المدامة بالريق، وثب ابْن خير هَذَا وثوب اللَّيْث، وَسقط عَلَيْهِ سُقُوط الْغَيْث، فراع غزال ذَلِك الكناس، وَفرق بَين روح المدام وجسم الكاس، حَتَّى ذعرت الْقُلُوب لسطوته، وتشوفت الآذان إِلَى إحساس خطوته. كل ذَلِك بِعدْل ميزَان قَائِم، وجزالة، لَا يثنيها فِي الْحق لايم، وبسالة تشهد المواقع بمضايها، وتثنى عَلَيْهِ السيوف عِنْد انتضابها. واصطنعه هَذَا الْمقَام اليوسفي، أَعْلَاهُ الله، فارتضاه للأمانة الْعُظْمَى، وقلده حفظ أَبْوَاب معقله الأسمى، فاعطى الْقوس باريا، وقلد الخطة حساما واريا، وَهُوَ لطيف الْمحل لَدَيْهِ وحظى بَين يَدَيْهِ، يستظرف نادرته العذبة، ويبدي لَهُ الْقبُول والمحبة، وَله أدب عذب الْجَانِب سهل المذانب، لَا زَالَ ينفث بضربه ويستفز عِنْد نظمه عوائد طربه.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر بن غفرون من الْجند

نير مَا طلع حَتَّى أفل، وَمَا جد فِي حلل الْفضل رفل، ألطف النَّاس فِي معاشرة

ص: 397

الْأَكفاء، وَثَانِي السموأل ابْن عاديا فِي الْوَفَاء، إِلَى حلم لَا يضيق لَهُ صدر، وعهد لَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ لحماه نكث وَلَا غدر، وَنَفس عَظِيمَة النفاسة، وأخلاق مولعة بِذكر الحماسة. توجه مَعَ الْحصَّة إِلَى حراسة ثغر بيرة، وَقد اشتعلت نيرانه، وكلف جِيرَانه، وَكَانَت من الْمُسلمين جَوْلَة فِي بعض المواقف، ميز الله بهَا الْخَالِص من الزائف وَلم يرض صاحبنا رحمه الله عَار الْفِرَار أَمَام الْكفَّار، وَلم يزل يقدم إقدام الغضنفر، وَيُقِيم هامته مقَام المغفر، فَقضى سعيدا مقداما، وَشرب للحمام كأسا كَانَت لَهَا السَّعَادَة مداما، وَلم أظفر من كَلَامه إِلَّا بنزر، وَلَا حصلت من مده إِلَّا على جزر

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي جَعْفَر الروية من أهل بلش

ناظم للفقر الشاردة، ومقتنص الْمعَانِي الصادرة والواردة، وَصَاحب قريحة ملتهبة الْوقُود، وبديهة منتظمة الْعُقُود، إِلَى بَيت ينتمي إِلَى مجد، وأصالة أطيب من عرار نجد. نَشأ بِبَلَدِهِ بلش قرارة ميلاده، مُقْتَصرا على انتجاع تلاده، صان بذلك وَجهه عَن إِرَاقَة مَائه وهتك حجاب حيائه. وَلم أظفر من شعره على استرساله، وتدفق سلساله إِلَّا بقوله يهنى السُّلْطَان بِأحد أَوْلَاده

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي عبد الله الْعَبدَرِي المالقي

أديب نَار ذكائه يتوقد، وعارف لَا يعْتَرض كَلَامه وَلَا ينْقد. وَأما الْهزْل فَهُوَ طَرِيقَته المثلى الَّتِي ركض فِي ميدانها وجلى، وطلع فِي أفقها وتجلى فَأصْبح علم أعلامها، وعابر أحلامها، فَإِن أَخذ بهَا فِي وصف الكاس، وَذكر الْورْد والآس، وألم بِالربيعِ وفصله، والحبيب وَوَصله، وَالرَّوْض وطيبه، والغمام وتقطيبه، شقّ الْجُيُوب طَربا، وعَلى النُّفُوس أربا وَضَربا. وَإِن أشْفق

ص: 398

لاعتلال العشية فِي فرش الرّبيع الموشية، ثمَّ تعداها إِلَى وصف الصبوح، وأجهز على الزق الْمَجْرُوح، وَأَشَارَ إِلَى نغمات الْوَرق يرفلن فِي الْحلَل الزرق، وَقد اشتعلت فِي عنبر اللَّيْل نَار الْبَرْق، وطلعت بنود الصَّباح فِي شرفات الشرق سلب الْحَلِيم وقاره، وَذكر الخليع كأسه وعقاره، وحرك الأشواق بعد سكونها وأخرجها من وَكَونهَا، بِلِسَان يتزاحم على مورده الخيال، ويتدفق من حَافَّاته الْأَدَب السيال، وَبَيَان يُقيم أود الْمعَانِي، ويشيد مصانع اللَّفْظ محكمَة المباني، ويكسو حلل الْإِحْسَان جسوم المثالث والمثاني، إِلَى نادرة لمثلهَا يشار، ومحاضرة يجتني بهَا الشهد ويشار. وَقد اثْبتْ من شعره، وَإِن كَانَ لَا يتعاطاه إِلَّا قَلِيلا، وَلَا يُجَاوِزهُ إِلَّا تعليلا، أبياتا لَا تَخْلُو من مسحة جمال على صفحاتها، وَهبة طيب تنم فِي نفحاتها.

وَمن ذَلِك فِي وصف أبي الْقَاسِم الشريف الْحسنى

ماشيت من قدرَة وأيد، لَيْسَ من عَمْرو وَلَا زيد، أكْرم من عمر البلاغة مجالا [وَلعب بأطراف الْكَلَام المشقق روية وارتجالا] ، وأطوع من دَعَا أَبْيَات الْمعَانِي فَجَاءَت عجالا [وأبدع من أدَار أكواس الْبَيَان الْمُعْتق] ، وَأجل من أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّاعِر بقوله " وَخير الشّعْر أكْرمه رجَالًا " قدم على الحضرة هَذَا القَاضِي الشريف، وَقذف بدرته النفسية لَهَا الرِّيف، رَوْضَة أدب وظرف لما شيت من حسن وَعرف، يُدِير المحاضرة جريالا، ويسحب البديع الروايع أذيالا، ذَا نفس كَرِيمَة، وأخلاق كالروض غب انسكاب ديمه، وَقعد بمسجدها فدرس وَحلق، وسطع نوره فِي أفقها وتألق، واستأثرت بِهِ الْكِتَابَة السُّلْطَانِيَّة لأوّل وُرُوده، وسحبت

ص: 399