الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب - قصة المعركة في كتابة الثوار
(*):
مضت أيام ثلاثة، والسيارات الثلاث التي وضعتها المنظمة السياسية - الإدارية لجبهة التحرير الوطني في إقليم (مارسيليا) هذه السيارات الثلاث متوقفة في ساحة (البورصة). لم أكن قد عاينت هذه السيارات أو رأيتها، وكنت أشعر بالقلق عندما تنتابني فكرة ألا تكون قوة دفع المحرك الميكانيكية كافية وصلبة، أو الأخطر من ذلك: ألا يكون المحرك عاملا وبحالة جيدة. وكنت أتأكد - ما بين فترة وأخرى - من الرقم الخاص بعمال المناجم الذي بحوزتي، والمسجل على البطاقة الرمادية - الميكانيك - للسيارة التي خصصت لي. وعلى كل حال، فالسيارتان الباقيتان قد غادرتا المرآب. وهذا يعني أن الأخوين اللذين سيستخدمانهما قد انطلاقا لتنفيذ المهام الموكولة إليهما في هذه الليلة. وكانت أوراق السيارة مطابقة تماما لأوصافها وأرقامها ولم تكن هناك مشكلة أو تعقيد في هذا الأمر.
كانت عقارب ساعتي تشير إلى الثامنة مساء (20). وامتطيت السيارة، ووضع مفتاح المحرك في مكانه (التماس) وأقلعت بالسيارة بعد قليل من التردد، وسرت بها بصورة بطيئة. ولم أكن في حاجة للسير بالسيارة أكثر من مئات الأمتار حتى أتكيف معها وأتعرف عليها، وعندئد اندفعت في طريق (ميليير) وهي مزرعة صغيرة استأجرناها، لنقيم فيها (مقر قيادة) مؤقت. وكانت هذه المزرعة مريحة، تصلح في غير هذه الظروف لقضاء الإجازات، والاستراحة، والصيد وإطلاق الخيال للأحلام الجميلة. وما هي إلا
(*) المرحع:. (RECITS DE FEU SNED S.N. EL MOUDJAHID. ALGER 1977 P.223 - 232 والكاتب هو (محمد حمدي) والبحث تحت عنوان: - موربيان تحترق: ET MOUREPIANE BRULA
ربع ساعة حتى وصلت مزرعة (ميليير) حيث شاهدت للوهلة الأولى سيارة سوداء تقف أمام المدخل. فأوقفت السيارة على بعد مسافة كافية، وإلى جوار الرصيف، ثم ترجلت منها، وتوجهت إلى المزرعة سيرا على الأقدام. وقد شاهدت في وسط الظلمة شبح رجل يجلس وراء مقود سيارته، وتملكني شعور بالخوف، غير أنني حاولت التظاهر بالهدوء، فتقدمت مباشرة نحو باب القضبان الحديدي الذي يحرس المدخل، ودفعته بقوة. وناداني صوت أعرفه وهو يقول لي (أهذا أنت يا عليوه؟) وأطلقت زفرة عميقة بددت فيها ما كنت أشعره من الخوف. ودعوت (عمار) إلى دخول المزرعة. وتبادلنا بعض الكلمات عن حرارة هذا اليوم القائظ من أيام شهر آب - أغسطس - ونحن نخترق الممر الذي يقودنا إلى الكوخ الصغير (الشاليه) حيث أقامت فيه طوال ثلاثة أيام زمرة الفدائيين التي ستقوم بتنفيذ عملية هذه الليلة.
كان باب المدخل يتصل مباشرة بالغرفة الرئيسية للمبنى. وهنا كان يجتمع سبعة من الفدائيين الشجعان حول (محمد أوزناني). وغمز لي (عمار) بعينه ففهمت من نظرته كل ما كان يريد قوله بشأن الحالة النفسية والروح المعنوية التي يتمتع بها هؤلاء المتطوعين الفدائيين. وفي الحقيقة، فإنه ما من أحد تنبه إلى دخولنا الحجرة، فقد كان انتباه الفدائيين السبعة مشدودا بكليته لدراسة الأجهزة المتفجرة التي صنعها وأعدها (محمد أوزناني) وذلك من أجل معرفة طريقة التعامل معها، واستخدامها، وأسلوب تفجيرها. وأرسلت سعالا انتزع الفدائيين من استغراقهم، فأداروا جميعهم برؤوسهم نحوي. وصدمتني نظراتهم الباردة، وتعبيرات وجوههم الساكنة، الهادئة. وأمكن لنا أن نستنتج من مواقفهم بأنهم لم ينتهوا بعد من
إعداد المواد المطلوبة لتنفيذ أعمالهم. غير أنه كان يكفي عد الأجهزة الموضوعة في الزاوية والتي انتهى (أوزناني) من تجهيزها لنعرف أنهم كانوا على وشك الانتهاء من عملهم، وأنهم في سبيلهم لتصنيع القنبلة الأخيرة. وكنت أجد صعوبة في إيجاد أية كلمة مناسبة للبدء بالحديث. فالتزمت بالصمت.
كنت أعيش منذ حين على هاجس الانفجارات وأعمال التدمير التي سنقوم بتنفيذها الآن. ولم تكن أفكاري تفسح المجال للعواطف الإنسانية. وكنت، وأنا في موقفي هذا أطمئن نفسي بأن الساعة التي تم تحديدها لإعداد العملية وتنفيذها، ستكون في وقت متأخر جدا، بحيث لن يكون هناك خطر كبير في تعريض حياة عدد من المخلوقات البشرية للكارثة وبهذه المناسبة، فقد كانت تعليمات قيادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية واضحة ودقيقة: اختيار أهداف في فرنسا وتدميرها على أن تكون هذه الأهداف عسكرية أو صناعية بحيث يؤدي تدميرها طبيعيا لإضعاف القدرة القتالية للعدو. وكان هذا العدو من وجهة نظر قيادة جبهة التحرير الوطني ومن وجهة نظر الشعب الجزائري ممثلا بهذه الأجهزة الصناعية الضخمة، والأجهزة العسكرية، والتي يجب تدميرها لأنها هي التي مكنت الاستعماريين الفرنسيين من إحكام قبضتهم على وطننا الجزائري منذ النصف الأول للقرن التاسع عشر. أما عمليات التصفيات الجسدية ضد الأشخاص والأفراد فإنها لم تقرر، ولم تنفذ، إلا في الحالات التي كان فيها هؤلاء الأفراد يشكلون خطرا حقيقيا على شعبنا الذي كان يخوض صراعه المرير من أجل تحرره الوطني واستقلاله. وكان الأمر يزداد دقة في فرنسا حيث كانت كتلة العمال الفرنسيين تتعاطف تعاطفا واضحا مع جبهة التحرير الوطني وأهدافها.
كانت مجموعتنا تشكل فرعا خاصا من فروع جبهة التحرير الوطني العاملة في فرنسا.
وكانت هذه الفروع هي (منظمات خاصة) واجبها العمل في فرنسا لتنفيذ كافة الأعمال والواجبات التي يضطلع بتنفيذها (جنود جيش التحرير الوطني الجزائري ومجاهديه) على ثرى الجزائر المجاهدة. وكانت (تنظيمات الوحدات الخاصة) وتكوينها، تتشابه مع تنظيمات جيش التحرير الوطني تشابها كبيرا، وكانت تحمل أيضا فصائل مجاهدي جيش التحرير الوطني، وأبرزها: الانضباط وروح التضحية. وهكذا كان (التنظيم الخاص) يشكل جيشا من المتطوعين الفدائيين الذين قبلوا التضحية بحياتهم عن رغبة ثابتة من أجل قضة وطنهم، والذين أخذوا في العيش بصورة سرية، وفي عزلة عن بقية فروع (التنظيم الخاص) التابعة لجبهة التحرير الوطني والعاملة في فرنسا. كان السكون المطبق يخيم على مزرعة (ميليير) في هذا المساء. ولما كان لا بد من الانتظار قليلا حتى نتسلم المتفجرات، فقد خرجت إلى فناء المزرعة، وتبعني (عمار) مباشرة، وسرنا معا من غير أن نتبادل الحديث ولو بكلمة واحدة، وقام بيننا جدار سميك من الصمت. لقد ناقشنا كل متطلبات التحضير والإعداد وطريقة التنفيذ مرات عديدة، حتى تحقق العملية نجاحها الكامل. غير أنه كانت هناك رغبة تدفعني للتفكير في إعداد التعليمات والتوصيات الأخيرة - وإعادتها - قبل الانطلاق للتنفيذ. وسرت مع (عمار) جنبا إلى جنب، حتى وصلنا إلى باب القضبان الحديدي الذي يحرس المدخل، وكان (عمار) يشابك يديه وراء ظهره، أما أنا فكنت أدس يداي في جيبي البنطال. واستدرنا على أعقابنا في وقت واحد، وكلانا سابح في صمته وتأملاته.
ثم
…
انطلقنا في وقت واحد، ونحن نتحدث في موضوع (المناورة التشتيتية) التي يجب أن تضطلع بتنفيذها زمرة الحماية حتى تضمن لنا العمل بحرية تامة، ومن غير خوف أو قلق. وقال لي (عمار) بأن عقارب الساعة قد أشارت إلى التاسعة مساة (21،00) وهذا هو الموعد المحدد لإشعال الحرائق في (غابات ايستريل). ولم أجبه بأية كلمة، غير أنني كنت أحاول إقناع نفسي بأن المغاوير - الكوماندو - هم الآن على وشك البدء بتنفيذ مهمتهم، وأن النجاح سيكون حليفهم، لا سيما وأن الحرارة اللاهبة في هذه الأيام القائظة. والجفاف الذي سيطر على (منطقة الميدي) في الفترة الأخيرة سيساعدهم كثيرا في تنفيذ المهمة. وانفرج الباب قليلا بقدر ما يسمح للفدائي (عبد القادر) بالخروج من الغرفة، وأعلمنا بأن (أوزناني) قد فرغ للتو من عمله. قال ذلك بلهجة طبيعية تماما، واستدار فورا، من غير انتظار، ليلحق بالآخرين.
وانتظرت قليلا حتى يتخذ (عمار) قراره، غير أنه لم يفعل شيئا، فدعوته عندها للدخول. وقد جرت العادة في مثل هذه الظروف الخطيرة والحرجة، أن يقول المسؤول بضع كلمات ليذكر المنفذين بهدف هذا الاجتماع، وأهميته، ويشجعهم على المضي في تنفيذ مهمتهم المقدسة والخطيرة، ويضع القطار على الخط الحديدي - كما يقولون -. وكان الرجال جميعهم على أهبة العمل، غير أنه ما من حركة صدرت عن أحدهم تنم عن التوتر أو العصبية. كان من طبيعتي الإقلال من الحديث، إذ كنت - كما يقولون - رجل عمل. وقد أرغمت على ممارسة دور (الموجه السياسي) فكنت أجد صعوبة كبرى في العثور على تعبيرات تتجاوز كلمات (إفعل هذا) أو (قم بتلك المهمة)، أو (تعال إلى هنا)، أو
(إذهب إلى هناك). وألقى علي (عمار) نظرة متسائلة - استفهامية - عما ساقوله أو أفعله. والوقت يمضي سراعا، وأنا لم أتمكن بعد من السيطرة على أفكاري - ومضت ثوان وذهني خاضع لحالة من الاضطراب والتشتت. وكان لا بد من مجابهة الموقف السلبي - الجامد - الذي وقفناه جميعا، فطلبت إلى (أوزناني) أن يقوم بمراجعة عامة للحركات الذي يجب تنفيذها لإكمال سير عمل الأجهزة المتفجرة (آلية التفجير) وذلك عندما سنطلق كل فدائي وحده لتنفيذ مهمته على الهدف المحدد له. وكانت هذه العملية بالنسبة لي (مناورة تأخيرية) تسمح لي بفسحة من الوقت لإعادة تنظيم أفكاري.
نفذ (محمد أوزناني) ما طلبته إليه بسرعة، وانصرف الفدائيون - بصمت كصمت المتعبدين في صلواتهم - وهم يتابعون بكل يقظتهم وانتباههم ما كان (أوزناني) يقوله من إيضاحات وتوجيهات وتحذيرات. ولما كان هؤلاء الفدائيون جميعا ممن نفذوا مهمات مختلفة، فإنه لم تكن بهم حاجة لمثل هذه البيانات التفصيلية من أجل وضع قنبلة فى مكان محدد. وعلى الرغم من ذلك، فقد أظهروا اهتماما كبيرا بما يتم تقديمه لهم من بيانات، ولعل مرجع ذلك إلى ما عرف عنهم من الانضباط الصارم في تنفيذ كل ما يطلب إليهم تنفيذه، أو لعله الحافز للتذكير بما هو معروف من معلومات.
دق جرس باب المدخل في هذه اللحظة، فذهبت بنفسي لفتحه. وعندئذ شاهدت عميلتنا المسؤولة عن تأمين الاتصالات (ناديا) التي وصلت لاهثة؛ لقد جاءت راكضة من الطريق العام إلى المزرعة، بعد أن أوصلتها شاحنة عامة (باص) إلى الموقف الكائن على الطريق العام. وأخذت (ناديا) في الحديث بكلمات متقطعة، فطلب إليها التزام الصمت حتى تستعيد أنفاسها ورافقتها إلى
الحجرة حيث طالعتها وجوه لم تكن قد تعرفت عليها من قبل. غير أنها لم تشعر بضيق أو حرج وهي تشهد مناخ القتال الذي كان مخيما على المزرعة. ثم أخذت في الحديث وهي تقتحم الموضوع مباشرة بشأن (المناورة التشتيتية) فذكرت بأن الحريق قد أندلع في (غابات ايستريل) من كل جهاتها. وأن عربات إطفاء الحريق قد انطلقت في هذه اللحظة عبر شوارع (مارسيليا) كلها وهي متجهة لإخماد الحريق الهائل.
ظهر لي بأن (أوزناني) قد مضى سريعا في شرحه وبياناته، أو لعلي لم أشعر بمضي الوقت إذ فقدت الإحساس بانقضائه. وقد جاءت الأخبار الجيدة التي حملتها معها (ناديا) فاستشارتني، وأهاجت انفعالاتي، وبت متفائلا، وحاولت نقل هذا الإحساس بالتفاؤل إلى إخوتي الفدائيين، فألقت بنكتة ساخرة انفجر لها الجميع ضاحكين. واغتنمت هذه اللحظة من المرح لأعلن بلهجة جادة، صارمة، بأن عملية (العاصمة) قد أخذت طريقها إلى التنفيذ. وأوضحت أن الاسم الاصطلاحي (لعملية العاصفة) يشمل كل العمليات التي سيتم تنفيذها في هذه الليلة، فوق الأرض الفرنسية، وفقا للتعليمات التي أصدرتها القيادة العامة لعمليات جبهة التحرير الوطني. وقلت لهم بأنهم لن يكونوا الوحيدين الذين سينفذون في هذه الساعة الأعمال التدميرية، بل إن هناك زمرا أخرى من الفدائيين التابعين (للمنظمة الخاصة) ينتشرون في كل أنحاء فرنسا، وهم يستعدون مثلنا للهجوم على الأهداف المعادية وتدميرها.
وعلى هذا فإن عملياتنا ليست منعزلة بعضها عن بعض. وغدا! سيستيقظ الشعب الفرنسي ليجد نفسه أنه بات مضطرا للعيش في
مناخ الحرب. غدا! سيردد الرأي العام العالمي، ويقول: بأن الشعب الجزائري قد نقل الحرب إلى قلب بلاد العدو. غدا! .. وخرج (عمار) وتبعته (ناديا) وقلت للفدائي (أوزناني) بأن ينطلق معهما، وأشرت إليه:(بأن - ناديا - سترشدك إلى مكان التقائنا في المدينة). وتملكني مباغتة شعور إنسان متهم يقف أمام قضاته أو حكامه، أو بالأحرى شعور محكوم أمام جلاديه. غير أنني تمالكت نفسي بسرعة، وأنا أردد في سري بأنها ليست اللحظة المناسبة الآن - للاستسلام لمثل هذا النوع من العواطف
…
فغدا! ستصدر الجزائر حكمها علينا جميعا. ولا يهمني أبدا أن أفكر بحقوقي وواجباتي. إن كل ما يهمني هو أن أنفذ واجبي، وأن أحمل الآخرين على تنفيذه.
وسلمت كل واحد من الفدائيين السبعة مبلغا من المال حتى يتدبر به أمره، ويضمن به الوصول إلى ملجأ أمين يختاره بنفسه، وذلك بعد الانتهاء من تنفيذ عمله. على أن يتم الاجتماع في اليوم التالي عند (كريبي). ثم وزعت الأسلحة، وأوصيت الفدائيين بعدم اللجوء إلى استخدامها، الا في حالة الضرورة القصوى.
وكانت تدابير الأمن والحيطة تفرض علينا إخفاء المتفجرات المصنعة في خزانات الحليب الصغرى (بيدونات) يتسع الواحد منها الى خمسة أو عشرة كيلوغرامات. وأخذ كل واحد من الفدائيين خزانا - بحسب مهمته المكلف بتنفيذها - وخرج أفراد زمرة - موريبيان - المكونة من (مصباح) و (كريبي) و (عبد القادر) قبل سواهم - وبعد خمس دقائق لحق بهم (حنش) و (ملياني) ومعهما حمولتهما من المتفجر ات المخصصة للعمل في (آيغلادس).
وغادرت المزرعة في آخر الجميع ومعي (مختار) و (قطوش). وانفصلت عنهما لدى الوصول إلى باب مدخل المزرعة، حيث كان
لزاما عليهما التوجه إلى (كاب - بينيد). ونظرت إليهما وهما يبتعدان وسط الظلمة وأنا أفكر بأنه من المحتمل ألا يكتب لي رؤيتهما مرة ثانية. وأصابتني رعدة وقشعريرة عندما راودتني هذه الفكرة. واتجهت إلى عربتي - سيارتي - ووضعت مفتاح التماس - كونتاك - في موضعه. وانطلقت بالعربة مسافة لا تتجاوز ثلاثمائة متر أو حتى أربعمائة متر، وهنا وقع عطل مباغت قبل أن أصل إلى الطريق العام. ولم أحاول معرفة سبب العطل أو أجرب إصلاحه. فوضعت العربة إلى جانب الطريق، وتابعت طريقي سيرا على الأقدام حتى وصلت الطريق العام - الرئيسي -. وهنا، وأثناء سيري، عاودني الشعور بثقل الحرارة الخارجية، فالمناخ لم يعتدل في الليل عما كان عليه أمر القيظ الشديد في النهار، بل إن ما حدث هو القيض تماما، فقد شعرت بالحرارة تتزايد وطأة، وبالمناخ يتزايد ثقلا، وكان ذلك أمرا طبيعيا بعد أن أخذ نطاق النيران يحيط بمدينة (مرسيليا) من كل اتجاه.
مضت ربع ساعة وأنا أركض خببا، وأشارت عقارب الساعة إلى الحادية عشرة ليلا (23،00) ولا زالت حافلات النقل العامة (الباصات) التي تصل إلى الضواحي مستمرة في عملها الآن. وجلست على قارعة الطريق وأنا أنتظر وصول الحافلة بصبر نافذ، مستغرقا في تفكيري بعملية (موريبيان). ولا أدري بدقة السبب الذي حملني على الاهتمام بتدمير هذا المستودع الضخم من مستودعات الوقود، أكثر من كل العمليات الأخرى التي سيتم تنفيذها في هذه الليلة.
لقد استأثر هذا الهدف بأكبر قسط من اهتمامي، واستحوذ على أكبر قدر من وقني، خلال مرحلة التحضير للعملية، فعملت على
دراسة المنشآت وأجهزتها بصورة تفصيلية ودقيقة. غير أن تفكيري الآن قد امتد إلى أفق العمليات الأخرى في: (بير) و (لافيرا) و (اليس) و (بوردو) و (ليون) و (بيربينيان) و (تولوز) و (كاب - بينيد) و (ليزا يغلادس)
…
وهنا وصلت حافلة نقل (أوتوكار) متوجهة إلى (مارسيليا). فقفزت من مكاني، وأشرت إليها ملوحا بكلتا يدي. فتوقفت، وتسلقت درجتي الباب، واشتريت بطاقة الرحلة. وكان هناك أربعة من الركاب قد احتلوا المقاعد الأولى من الحافلة، فتطلعوا إلي جميعا بنظرات فضولية، غريبة، فتعمدت أن أتجاهل نظراتهم. وتوجهت للجلوس على مقعد بعيد الى الخلف منهم، بحيث أضعهم باستمرار تحت مراقبتي. ولقد تمكنت حتى الآن من الاضطلاع بدوري بجدية تامة، مما عزز قناعتي وثقتي: بكل ما قمت بتنفيذه.
ولكن ها أنا وقد أخذت أشك بكل من حولي، فأقف موقف الحذر من ركاب الحافلة، وأراقب كل حركة من حركاتهم. إنني أشعر بالقلق، بل إن هذا القلق قد وصل إلى حد الخوف، ووصل بي الأمر في لحظة من اللحظات إلى حد بروز رغبة للتقدم من سائق الحافلة والطلب إليه برجاء أن يتوقف حتى أغادر المركبة. غير أنني سرعان ما استعدت في ذهني ذكريات المخاطر التي سبق لي أن تعرضت لها، والمجازفات التي اقتحمتها، والعقبات التي أمكن لي التغلب عليها وتجاوزها
…
دخلنا المدينة، في هذه الساعة المتأخرة من الليل، ولم أكن أفكر بأنني سأجد الشوارع مكتظة بحشود الناس في مثل هذا الوقت. ويظهر أن معظم هؤلاء قد فروا من مساكنهم الخانقة. بحثا عن نسمات من الهواء العليل المنعش. وكانت المقاهي عند الميناء
القديم حافلة بروادها. وهنا اخترت النزول من الحافلة. كان هواء الريف قد اعتصرني، فشعرت بالجوع، وأخذت في البحث على مكان لي في المقهى. لقد كان اقتحام هذا المكان مغامرة حقيقية، فالناس يتدافعون في هذه المقاهي والمطاعم التي تنتشر على امتداد جبهة البحر. ثم ما حاجتي لاقتحام هذا المكان وكل ما أحتاجه هو قطعة من الجبن وقطعتان أو ثلاث قطع من (البسكويت) وقدح من الحليب البارد، وهذا متوافر في منزلي الذي لم يعد بعيدا؟
…
كانت (ناديا) تنتظرني أمام المبنى، وكانت مباغتة لي أن أجدها واقفة في انتظاري، وقالت لي بأن عربتهم - مركبتهم - قد توقفت بسبب نفاد الوقود. وأن (عمارا) قد أرسلها لتصل بسرعة وتعلمني بجلية الأمر. وضحكت، فذهلت (ناديا) لهذا الضحك - في وقت غير مناسب - وإذ ذاك أعلمتها بأن عربتي قد توقفت بدورها، وأنني اضطررت إلى تركها على قارعة الطريق، عند نقطة لا تبعد كثيرا عن المزرعة، وصعدنا إلى شقتي، وعقارب الساعة لم تصل بعد إلى منتصف الليل.
أعددت لنفسي بعض الشرائح (ساندويتشات) وقدحا من الحليب، وكذلك فعلت (ناديا). وفتحت باب الشرفة، وخرجت إليها. وكان القمر قد ارتفع عاليا في قبة السماء. وأرسل أشعته لترسم لوحات رائعة الجمال فوق سطح البحر الذي يمتد منبسطا أمامي حتى الأفق وفي هذه اللحظة، قرع جرس الباب. وفتحت (ناديا) الباب، فدخلت عميلتنا الثانية المسؤولة بدورها عن الاتصالات (واسمها حليمة). وكان وجهها يضج بابتسامة عريضة، تفضح ما كان يعتمل في نفسها من سعادة غامرة. وكانت ملامح وجهها، ومزاجها المرح يعبران أصدق تعبير عما تشعره من الرضى
عن الذات. وكان ذلك يعني أن الأمور تسير - في الجهة الأخرى - على خير ما يرام. وانطلقت (حليمة) لتعلمنا بأن جميع الفدائيين قد غادروا مراكزهم، واتجهوا لتنفيذ واجباتهم المحددة لهم. وتابعت
حديثها في ذكر تفاصيل لم تكن تهمني، إذ لم تكن بي رغبة لا للحديث ولا للاصغاء. فابتلعت ما تبقى من الحليب في الكوب، وخرجت من المنزل متعجلا، تاركا فيه الحرية للفتاتين حتى تتبادلا الحديث كما تشاءان مضيت متسكعا في الأزقة والطرقات، مستلما إلى حيث تقودني قدماي. كانت (مرسيليا) تذكرني في بعض أماكنها ببلدتي (عنابة). وفكرت بأمر هذه المدينة التي يجب لها أن تنام نوما قلقا، مضطربا. فهناك تبدأ الليالي مبكرة، وتنتهي متأخرة. ثم إن الليالي وفترات النهار تتعاقب هناك مختلطة بعضها ببعض بسبب ما يعانيه أهل المدينة (عنابة) من الضغوط والإرهاب والظلم. هناك يوجد أناس أيضا، ولكن لا توجد حياة.
…
الناس هنا، من حولي، يعيشون في يسر، من غير قلق ولا هموم أو مخاوف. وشعرت بالغيرة وأحاسيس العنف تجتاحني: فلتحترق (موريبيان، وبير، وبوردو، وليون، وبيربينيان، وتولوز) إنها ليست أفضل أبدا من عشرات القرى التي أحرقتها قنابل النابالم وأزالتها من عالم الوجود. ولتدمر (مرسيليا)! إنها لا تساوي أبدا حياة مئات الآلاف من ضحايا الاستعمار الفرنسي. وهذه الحرية التي تزيل كل الهموم والمخاوف، هذه الحرية التي تغلف حياة الآخرين وتحيط بها، هي الحرية التي حرم منها الشعب
الجزائري منذ أكثر من قرن. ومن هنا، فإنه يجب على الشعب الفرنسي، سواء شاء أو أبى، أن يدرك ذلك، وسيدركه غدا عندما تعلن له صحافته، وبالعناوين العريضة، توسع أعمال الإرهاب وانتقالها إلى فرنسا. وعندئذ سيعيش كل فرنسي على هاجس احتمال وقوعه ضحية الصراع التحرري التي يخوضه الجزائر وعندئذ أيضا سيضطرب مناخ الحرية الذي يعيشه كل فرنسي وسيشعر كل فرنسي بالمعاناة التي يعيشها أقرانه في الجزائر.
لقد مضت بي هذه الأفكار والتأملات إلى اتجاه لا أريده ولا أرغب في السير إليه، إنني أحب منطقة (الميناء القديم) وكنت أريد التوجه إليها، غير أني وصلت إلى الاتجاه المعاكس تماما من المدينة، وهو المكان المقابل للبحر والبعيد عنه واستدرت على عقبي، وعدت من حيث أتيت لقد كانت الحرارة اللاهبة تخنق الأنفاس. وانتابتني رغبة في خلع حذائي والسير وأنا عاري القدمين. وأخيرا، قررت التوقف عن التسكع وقد وصلت في سيري إلى أمام المبنى الذي أسكن فيه. فلماذا لا أدخل إلى المنزل وأنام على سريري؟ ولكن هل سأتمكن من النوم؟ إن هناك شيئا في داخلي أكثر قوة مما أصابني من التعب هو الذي يدفعني إلى البقاء خارج المنزل. ودقت ساعة محطة القطار معلنة الثانية صباحا. ولما لم يبق إلا ساعة من الزمن حتى يبرز الحدث العظيم، فقد شجعني ذلك على الانتظار، والمضي في التسكع.
بدأت منطقة (الميناء القديم) في الإقفار من روادها. وأخذت المقاهي في إسدال ستائرها وإقفال أبوابها تباعا. وكان هناك زوجان يجلسان على الأرض، يستمعان إلى المذياع الصغير - الترانزيستور- ويتناقشان بحدة في موضوع الحرائق التي اندلعت في المساء. ويظهر
أن كل وحدات المطافىء في الأقليم قد تحركت للصراع ضد النيران المندلعة في الغابات. ومضيت في تسكعي جيئة وذهابا، وكنت أبطىء الخطى عندما أصل إلى جوار أحد التجمعات حتى أسترق السمع إلى ما يدور بين أفرادها من أحاديث وتعليقات على ما كان يذيعه المذياع المحلي (محطة البث الداخلية). وكنت أشعر بالبهجة والعادة وأنا أتابع انفعالاتهم وهياجهم لما حدث، وتصورت ما سيدور في رؤوسهم بعد هنيهة عندما .. ووصلت حتى نهاية الشارع وأنا أسحب قدماي سحبا، ثم رجعت على (وقع الخطى ذاتها. وهنا رأيت الزوجين اللذين كانا جالسين أرضا وهما يقفان ويستعدان للمضي نحو منزلهما. وهنا دوى انفجار مرعب بلغت قوته حدا أشعرنا أنه وقع إلى جوارنا تماما. وشعرت بأنفاسي وقد توقفت، ورفعت رأسي فشاهدت على البعد وهجا متصاعدا كأنه البركان لقد ارتفعت ألسنة اللهيب عاليا، لقد مرت (مور يبيان) وكانت عقارب ساعتي تشير إلى الثالثة وعشر دقائق صباحا (10، 3) لقد حانت ساعة النوم، لا سيما وقد أصبحت في حاجة ملحة للاستراحة والنوم.
…
دخلت شقتي محاولا قدر استطاعتي ألا أثير شيئا من الضجيج. كانت (حليمة) و (ناديا) تنامان في غرفة النوم ذات الباب الموصد، فتمددت على أريكة (ديوان) في الردهة وأنا أرتدي كامل ثيابي، ورحت في نوم عميق لم أستيقظ منه إلا بعد ساعات، حيث أيقظني (عمار) من سبات خيل إلي أنه استمر عدة ليال متتالية وكانت نظرات (عمار) الباردة لا تشير إلى أي شيء. واستدعيت (ناديا) حتى أكلفها الذهاب وشراء بعض الصحف الصباحية. غير أن (عمار)
سرعان ما أعلمني بأن صحافة الصباح لم تحمل على صفحاتها أي نبأ هام يتعلق بالعملية. واكتفيت بهذا الوجيز من الأخبار، وأرسلت (ناديا) لإعداد شيء من الطعام. وبعد الإفطار، تعجلت بمغادرة الشقة حتى أرى على الطبيعة نتائج العملية التي نفذت في الليل.
كان الشارع يضيق بسابلته وعابريه، خلافا لما هو معهود، حيث كان المارة يتحلقون، وأجهزة الالتقاط الإذاعية - الترانزيسور - تتأرجح على سواعدهم. لم يكن سلوك الناس عاديا هذا اليوم أو طبيعيا: فالضيق والقلق يرتسم على تصرفاتهم وتعابيرهم، بعضهم حزين، وبعضهم متصلب مشدود الأعصاب بقسوة، وجميعهم في هياج. اشتريت صحيفة على كل حال، ونبأ صغير يبرز على الصفحة الأولى يصور ما حدث عند آخر دقيقة قبل صدور الصحيفة وإلى جواره صور العارضات الجميلات لأزياء فصل الشتاء سنة (1958 - 1959). وهي تمثل آخر صرعات الثياب (المودة). ولم يكن في الصحيفة ما يجيب بصورة كافية على التساؤلات التي كان يتناقلها أهل مرسيليا) في موضوع الحرائق والانفجارات التي هزت المدينة ولهذا لم يكن هناك من يعرف ما حدث بدقة، فتوجه اهتمام الناس إلى أجهزة الالتقاط الصغيرة (الترايزيستور). غير أن محطات البث - الإذاعة - لم تكن تذيع غير النداءات التي كانت تطلب إلى السكان الالتزام (بالهدوء) ما بين فترة وأخرى، مع التزام الصمت التام تجاه ما حدث، ولم يكن ذلك كافيا لإرواء تعطش الأهلين لمعرفة الحقيقة. بل إن الأمر على النقيض من ذلك، فقد واجه رجل الشارع ما هو أسوأ، إذ باتت رياح الرعب هي المهيمنة على المدينة وسكانها.
كانت ملامح وجهي وتكويني تتشابه مع الأوروبيين، وكانت أوراق
إثبات شخصيتي المزورة (الهوية) تحمل اسم (ديدييه - جان - لويس) وكان ذلك يسهل مروري من نقاط المراقبة التي أقامها رجمال الشرطة ، ولم أكن أشعر بالخوف أو القلق من الاشتراك مع الجمهور في مناقشة رجال الشرطة بشأن ما حدث. وكان هؤلاء يعترضون كل شخص أسمر اللون تحمل ملامحه طابع الإنسان العربي في الشمال الافريقي، ويطلبون أوراق إثبات الشخصية لاعتقال كل (مسلم فرنسي؟). وقد رأيتهم بعيني وهم يعتقلون إخواني الجزاريين، ويعاملونهم بقوة وهم يدفعونهم لركوب الشاحنات الكبيرة (سيارات النقل العسكرية). وقلت في نفسي: لا بأس، فكلما زاد الضغط والظلم، كلما زادت جبهة التحرير الوطني قوة، وتعاظمت قدرة وعددا.
كان هناك حشد كبير من الناس الذين تجمعوا عند موقف حافلات النقل في (كانوبيير) وصعدت أول حافلة (باص) تتجه نحو الغرب. وكان الطريق إلى الميناء مغلقا بنطاق من رجال الشرطة، الذين حولوا خط سير الحافلات نحو الشمال - الغربي. ونزلت عند أول موقف. وتوغلت في الشارع الذي ينتهي بساحة تطل على الميناء. واختلطت بالجموع التي كانت تتدافع بالمناكب لرؤية ما كان يحدث في الجهة المقابلة. وعلمت أنه حدثت انفجارات جديدة في هذا الصباح. وعلى كل حال، فقد كانت ألسنة اللهيب تتصاعد عاليا لأكثر من مائتي متر أو حتى ثلاثمائة متر، حتى أنها كانت تظهر واضحة من على بعد كيلومترات عديدة. وقد تم إخلاء المساكن المحيطة بالمنطقة كلها، وأرغم عشرات الآلاف من سكان مرسيليا على الجلاء عن المنطقة المعرضة لخطر الانفجارات. وأوقفت كافة المعامل القريبة من المنطقة إنتاجها، وصرفت عمالها.
وحظر المرور من شوارع الساحل ضمن دائرة تزيد على أربعمائة متر.
استمرت الحرائق في (موريبيان) طوال عشرة أيام، وذلك على الرغم من كل الوسائط الضخمة التي تم حشدها للحد من الخسائر، والسيطرة على الحريق.
صدرت صحف المساء وهي تحمل على صفحاتها الأولى، وبالعناوين البارزة، أنباء الهجوم الذي شنته جبهة التحرير الوطني الجزائري في فرنسا. وتحت هذه العناوين كانت تندرج التعليقات اللاذعة التي تختلف في شدتها وقسوتها تبعا لما تمثله تلك الصحافة من اتجاهات. فكان في جملة العناوين المثيرة - على سبيل المثال (الليلة الحمراء) أو (الكارثة الوطنية). ومضت التعليقات وهي تعالج (الحدث) وفقا لمنطلقاتها (الايديولوجية) أو وجهات نظرها السياسية. وحتى الصحافة اليسارية - الشيوعية - لم تحاول المحافظة على الحد الأدنى من التعاطف مع (الحركة الوطنية الجزائرية)، فوصفت أحداث يوم 25 آب - أغسطس - 1958 بأنها (ضرب من اليأس).
أصدرت جبهة التحرير الوطني الجزائري في مساء ذلك اليوم بيانا، أوردت فيه الأهداف التي يخوض من أجلها الشعب الجزائري صراعه، منذ أربعة أعوام.