الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 -
معركة (الأوراس)
(*)
استمرت معركة الأوراس لمدة ثلاثة أشهر، من منتصف شهر آذار - مارس - وحتى شهر حزيران - يونيو - 1959. ويعرف كل مجاهد من قدامى المجاهدين أن ذرى الأوراس كانت تعتبر من المناطق المحررة، والتي كانت الدوريات التابعة لجيش التحرير الوطني، وكذلك القوافل العابرة لهذا الجيش، تجد فيها كل ما هو ضروري للتوقف والاستراحة. واستمر ذلك حتى جاء اليوم الذي قرر فيه ضابط طموح (برتبة عقيد) الاستيلاء عليها. وقد صرح هذا الضابط في بداية سنة 1959، أنه على استعداد لتسليم الأوراس بكل من فيها، إلى فرنسا، بشرط واحد هو: أن تترك له حرية العمل العسكري لإدارة العمليات بطريقته، مع ما يتبع ذلك من مضاعفة للقوات التي سيتم زجها في العمليات.
توافرت معلومات لقيادة جيش التحرير الوطني - في بداية شهر آذار - مارس - 1959، أن حكومة (باريس) منحت العقيد (شارل)
(*) للكاتب الجزائري (مازاري بن يوسف) وهو مجاهد قديم. وقد اعتمد في بحثه على تقارير ثلاثة من الضباط الذين اشركوا في المعركة. والمرجع:
RECITS DE FEU (SNED) S.N. EL MOUDJAHED،ALGER،1977 P P. 119 - 123.
صلاحيات مطلقة لإدارة الحرب في الأوراس. وأن هناك قوات دعم قد تم سحبها من كل أنحاء الجزائر، لتنفيذ العمليات، علاوة على تلك التي كانت متمركزة عند سفوح الأوراس، أو على مقربة منه. ومضت أيام قليلة، وأقبل منتصف شهر آذار - مارس - وأصبح باستطاعة العقيد (شارل) أن يزج بثقل قواته للهجوم على الأوراس. وقد يكون من المؤسف حقا عدم توافر معلومات دقيقة عن حجم هذه القوات، وعلى كل حال، فقد قدرت في حينه بقوة (20) ألفا، وأحيانا ارتفعت إلى (30) ألفا. وزادت على ذلك في بعض التقديرات خلال مراحل معينة. إذ كانت قوات الدعم تتدفق باستمرار طوال المعركة المديدة. ويكفي هنا القول بأن الأوراس لم تكن مقر قيادة عسكرية لجيش التحرير الوطني - فقط - أو مجرد مركز لإمداد قوات جيش التحرير الوطني فحسب، وإنما كانت أيضا القاعدة الصلبة الوحيدة لقوات جيش تحرير الوطني في الشمال الغربي من الجزائر. ويصبح من السهل على هذا الأساس التأكيد بأن حجم القوات الإفرنسية لم تكن أقل أبدا من التقديرات التي سبق ذكرها.
كان العقيد (سي محمد بونعمة) هو القائد المسؤول عن العمليات في الأوراس. وكان الأوراسيون يعتبرونه أبا لهم. وينظرون إليه بتقدير واحترام كبيرين، نظرا لما كان يتوافر له من الفضائل وأبرزها عبقريته الكبرى في المجال الاستراتيجي. وقد عمل العقيد (سي محمد بو نعمة) على تقويم قوات العدو، مع مقارنتها بما يتوافر له من القوات، ووصل إلى نتيجة وهي أنه وقوات الحرس التابعة له يجابهون موقفا عسيرا ; وأنه من المحال عليه الصمود بصورة عملية لأكثر من أيام قليلة - لا تتجاوز الأسبوعين في أفضل الظروف -. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار ما كان يتوافر لقوات
جيش التحرير من مميزات، أهمها سيطرتها على المواقع الاستراتيجية الرائعة في ذرى الأوراس المنيعة، والتي تضم إليها عشرات الكهوف والمغاور التي كانت معاقل حصينة للثوار المجاهدين. ولهذا قرر استنفار كافة كتائب جيش التحرير الوطني القريبة منه (والموجودة في الولاية الرابعة) بالإضافة إلى تلك المجاورة له (في الولاية الخامسة).
مضى يومان فقط، ووصلت إلى الأوراس ثماني كتائب من قوات جيش التحرير الوطني. وبالرغم من ذلك، فقد بقيت المقامرة في دخول المعركة كبيرة، وكانت الثقة في كسبها غير مؤكدة. لا سيما وأنها كانت بالنسبة للعقيد (شارل) مصيرية. ولهذا فإنه كان مستعدا لزج كل شيء من أجل كسب كل شيء. وكان لديه آلاف الجنود الاستعماريين الذين حقنهم بالمواد الطبية التي تفقدهم أحاسيسهم، وأغرقهم بالمشروبات الروحية القوية، فباتوا كتلا متحركة - ومحرومة من المشاعر والأحاسيس الإنسانية. وعرف المجاهدون ذلك، غير أن هذا الأمر لم يكن يخيفهم، لأنهم كانوا يعتمدون على قوة المواقع التي يمسك بها جيش التحرير الوطني والتي تمكنهم من مجابهة هجمات القوات الأرضية بكل ثقة وارتياح غير أن ما كان يخيفهم بحق هو هجمات القوات الجوية الإفرنسية.
لم تكن الكتائب الثماني التي وصلت إلى الأوراس، أكثر من مقدمة للدعم، فقد استمرت الإمدادات والنجدات في التدفق من (بليدا) و (تيارت) و (زكار). كتائب تتبعها كتائب. تتدفق من كل مكان، يدفعها تصميم عنيد على إنقاذ الأوراس أو الموت دونها.
كانت تلك الليلة هادئة؛ وكان هذا الهدوء الذي يسبق العاصفة
نذير شؤم: لم تطلق في الليل ولو طلقة واحدة، ولم تظهر حركة كبيرة أو صغيرة تعكر صفو الصمت المطبق. ولكن آلافا من الشعلات الصغرى كانت تندلع هنا وهناك في معسكرات العدو البعيدة عن مواقع المجاهدين بمسافة كيلومترات عديدة، وكانت لهذه المشاعل دلالاتها، إنها تشير بالتأكيد إلى أن الفجر سيكون موعد الهجوم، وليس الفجر ببعيد.
وصل إلى المجاهدين، وهم في مواقعهم، هدير يصم الآذان، وظلمة الفجر لا زالت قاتمة، فهل قامت القيامة ووصل العالم إلى نهايته؟ لقد ظهرت في السماء مئات الطائرات - من قاذفة ومطاردة - قادمة من جنوب - غرب الأوراس، فحجبت الأفق، ولم تمض أكثر من ثوان قليلة حتى حجبت سحب الطائرات السماء، ومنعت بواكير ضوء النهار من الوصول إلى الأرض لقد أظلمت الدنيا من حول المجاهدين الذين شاهدوا مئات وآلاف الأطنان من القنابل وهي تتساقط على رؤوسهم، واستمر هذا القصف الوحشي حتى منتصف النهار تقريبا. ومع الساعة الحادية عشرة (1100). بدأت القوات الاستعمارية زحفها وهي واثقة من النصر. لقد كانت هذه القوات تتقدم على شكل موجات متتالية، غير أنها موجات لن تلبث حتى تتكسر على صخرة قوات المجاهدين الصلبة الصامدة.
تكبدت قوات العدو خسائر فادحة جدا في هجومها الأول - عشرات القتلى - ولكن ما قيمة هذا العدد بالنسبة لتلك الموجات التي لا زالت تتابع تقدمها بالرغم مما ينزل بها من الخسائر. إنها موجات من الجنود الذين يتقدمون للإنتحار، إنهم جبناء حشوهم بالعقاقير حتى باتوا كالحمام الذي يندفع نحو بارودة الصياد - هذا إذا جاز تشبيههم بطيور الحمام الوديعة -. واستمر الصراع نوبا بين القوات
البرية والقوات الجوية، فكان كل تراجع للقوات الأرضية يعقبه قصف جوي كثيف، يتكبد المجاهدون فيه خسائر فادحة. وعلى هذا النحو انقضى النصف الثاني من شهر آذار - مارس -.
وأقبل شهر نيسان - إبريل - 1959. والطرفان المتصارعان يقفان عند النقطة التي بدأ منها الصراع. ومئات القتلى من الأعداء يقابلهم مئات الشهداء من المجاهدين. ولكن شيئا واضحا وأكيدا بات يبرز للوجود، وهو أنه ليس من السهل على الاستعماريين الاستيلاء على الأوراس، لا سيما وأن سيل الإمداد بالمجاهدين والذخائر والإسعافات الطبية، استمر في التدفق على مجاهدي الأوراس، من كل مكان.
أصبح موقف المجاهدين حرجا للغاية في شهر أيار - مايو - 1959، فقد ارتفع عدد الشهداء في صفوفهم إلى أكثر من خمسمائة شهيد واستمر المجاهدون في القتال من خنادقهم ومواقعهم الحصينة وهم يرددون:(آه! لو لم يكن هناك طيران. وإننا نعتقد أننا مدينون كثيرا لمواقعنا الاستراتيجية، إذ لولاها لما بقي واحد منا على قيد الحياة). وقد أصبحت الأرض من حول المجاهدين مغطاة بالمحطومات، حتى لم يعد يظهر منها إلا حديد الطائرات التي تم إسقاطها، والآليات التي تم تدميرها. هذا بالإضافة إلى الجثث التي لم يتمكن العدو من إخلائها فباتت تغطي سطح الأرض منذ أسابيع عديدة. وأخذت هذه الجثث النتنة في إفساد رائحة الجو الذي دنسته من قبل طائرات العدو، وما تحمله من أسلحة الإبادة.
مضى شهران على هذه المعارك الطاحنة، وفي نهاية شهر أيار - مايو - قرر العقيد الافرنسي (شارل) وضع حد حاسم لهذا القتال المتواصل. فقذف بكل قواته ضد قوات جيش التحرير الوطني في
الأوراس كلها. وبات من المحال على المجاهدين البقاء في خنادقهم، إذ ظهر لهم أنه من الأفضل إيقاف هجمات العدو بهجمات مضادة، وبصورة جبهية في العراء. فكان يحدث في بعض الأحيان قتال الالتحام - جسما لجسم - بطرائق مثيرة ورهيبة. واستخدم الفدائيون المجاهدون أساليب تعبوية - تكتيكية - مبتكرة، إذ كانوا يبتعدون بزمر صغيرة عن كتلة القوات الرئيسية، ويسمحون لقوات العدو بتطويقهم وهي تعتقد أنها ستحصل، أو بإمكانها الحصول، على عدد من الأسرى. وعندها يقع جند العدو في الكمين، وتنطلق رشات الرصاص من كل الأسلحة الخفيفة، وعلى مسافات قريبة جدا فكان قتال الالتحام جسما لجسم هو وسيلة المجاهدين الوحيدة، لإضعاف قدرة العدو العددية، واستنزاف موارده البشرية: لقد كان الهدف بالاستمرار هو الإفادة من كل موقف لقتل أكبر عدد من قوات العدوان الاستعمارية.
كانت الأيام الأخيرة من أقسى الأيام وأصعبها. وكثيرا ما تساءل الجميع: لمن يكون النصر؟ وهل سيكون للعقيد (شارل) ورجاله المجرمين السفاكين للدماء؟ أم للعقيد (سي محمد بونعمة) ورجاله المجاهدين الصابرين - من الفدائيين - الذين هجروا أرضهم والعمل فيها، وتنكروا للرفش والمعول فحملوا البواريد للعمل في جيش التحرير الوطني من أجل الدفاع عن الوطن.
تقدم تجربة الحياة شواهد كثيرة على قدرته تعالى في تنظيم الكون، بحيث لا بد للخير في النهاية من أن ينتصر على الشر، ولكن ماذا تستطيع العدالة فعله في قضيتنا هذه للنصر على مئات الطائرات (القاذفة منها والمقاتلة) وعلى المدافع الحديثة جدا.
لقد كنا نحن المجاهدين نمثل في المعركة (العدالة) و (الحق). ونحن الذين سنحصل على النصر، بالرغم من ضعفنا في التسلح بالمقارنة مع ما يمتلكه العدو. ذلك أننا نقاتل من أجل الدفاع عن قضية تستحق أن نموت من أجلها. وكان هذا الاعتقاد راسخا في أعماق نفوسا، في حين لم يكن لدى الجنود الاستعماريين مثل هذا الاعتقاد أو القناعة. ومن هنا فقد كنا على استعداد لمجابهة مدافع العدو، حتى لو لم يبق لدينا إلا الحجارة. وقد أدرك العقيد (شارل) ذلك، ولكن بعد فوات الأوان. ولو أدرك ذلك من قبل، وعرفه، لما دفع قواته الاستعمارية إلى الانتحار، حيث سقط من قوتها ما يزيد على ستين بالمائه، فوق ذرى الأوراس الشماء. ولم يقيد لهم بعد ذلك أن يروا نور الشمس أبدا.
أجل، عرف العقيد (شارل) ذلك متأخرا، ومتأخرا جدا. ولكنه قبل أن يصل إلى هذه المعرفة الثابتة، حاول أن يقوم بهجوم أخير، مدفوعا إلى ذلك بأنانيته الفردية بالدرجة الأولى، فزج بكل
جنده المأجورين الذين أخذوا في التدفق على الأوراس من كل الجهات، وبوسائط متفوقة جدا على تلك التي يمتلكها المجاهدون، واستمرت مدافعهم في قصف متواصل بهدف إضعاف مؤخرات المجاهدين وإعاقتهم عن كل تحرك. وتدخل الطيران بقوة فأعاق المجاهدين عن مجابهة القوات البرية الاستعمارية بكل قوتهم ووسائطهم - المتواضعة على كل حال -.
تميز خلال هذه الفترة - بصورة خاصة - مجاهدو (تيارت) الذين كانوا أفضل تسليحا بالأسلحة الثقيلة من سواهم من المهجاهدين وأمكن لهم تكبيد العدو خسائر فادحة في الطيران، غير أنهم لم ينجحوا في دفعه نهائيا، أو منعه من متابعة الطيران فوق المنطقة.
وعاد السؤال المطروح: هل هي نهاية الأوراس بكل من عليها من مواطنين ومجاهدين؟ لم يكن هناك من يستطيع الإجابة على مثل هذا السؤال بصورة موضوعية، والقضية هنا ليست قضية آمال أو تمنيات. غير أن المجاهدين كانت لهم طريقتهم الخاصة في التفكير، إذ أنهم لم يكونوا يفكرون إلا في قضية واحدة، وهي: الموت في المعركة ولا شيء غير ذلك، وكانت آمالهم وتمنياتهم محددة بطلب أولى الحسنيين (الشهادة)، أما قضية النصر فتبقى مرتبطة بإرادة الله.
والشواهد على ذلك كثيرة، يكفي هنا الإشارة إلى حادثة واحدة تبرز هذه الحقيقة التي كانت العامل الوحيد لما تميز به المجاهدون من روح معنوية عالية.
كان العقيد (سي محمد بو نعمة) في مقدمة الصفوف دائما، وعلى خطوط النار الأولى باستمرار. وفي يوم أصابه تمزق في أربطة القدم (لي أو التواء في الرسغ) بينما كان يعمل على مساعدة مجموعة من المغاوير الذين وقعوا في مأزق حرج نتيجة التقدم العنيف لقوات الاستعماريين. ووقع العقيد (بو نعمة) أرضا، ثم تحامل على نفسه ونهض، إلى أن وجد لنفسه ملجأ أمينا خلف إحدى الصخور التي تضمن له وقاية أفضل من الرصاصات الطائشة. وفجأة ظهر مجاهد لا يعرف أحد من أين أتى، ولا كيف تقدم، ولم يكن هذا المجاهد يعرف العقيد معرفة شخصية، غير أنه لاحظ طريقته في التحرك، فثارت الشبهة في نفسه، وأخذ في مطاردته، حتى إذا ما أمكنت له الفرصة المناسبة، انقض عليه، وجرده من سلاحه، وظنه هاربا من قوات العدو، ولهذا فانه لم يترك له الفرصة للكلام، ووجه اليه فوهة رشيشه القصير. وابتسم العقيد ابتسامة زادت من توتر
أعصاب المجاهد الشاب، فكاد يطلق نيران سلاحه ويضغط على الزناد، عندما سمع صوت أحد جرحى المجاهدين وهو يقول له (احذر! قف! إنه العقيد). وخلال ذلك لم تفارق الابتسامة شفتي العقيد، وهو ينظر إلى المجاهد الشاب بإعجاب، وقال له بلهجة أخوية:(إنني أعرف الآن سبب فشل الاستعماريين في القضاء علينا). وصدرت عنه ضحكة طويلة رددت الصخور أصداءها. فكانت ضحكته تحديا للاستعماريين ولفرنسا كلها. وهي ضحكة أكدت أنه ما من سبب يدعو النصر ليكون فرنسيا، إلا إذا أمكن للقوات الافرنسية أسر العقيد (بو نعمة) ورجاله، وأخذهم أحياء لتقديمهم هدية إلى فرنسا. وقد كان من المحال على فرنسا بلوغ ذلك.
أخذت مسيرة الأحداث - على مسرح العمليات - في التحول عبر المنعطف الحاسم، وظهر للعقيد (شارل) أنه بات في موقف لا يحسد عليه، فأخذ اليأس يهيمن عليه، بالرغم مما كان يملكه من تفوق في ميزان القوى - أو حتى بما بقي له من فضلات ميزان القوى - وبالرغم أيضا من دعمه بأحدث الأسلحة المتطورة، وأشد الوسائط القتالية الفتاكة.
طور جيش التحرير الوطني في هذه الفترة أساليبه القتالية - التكتيكية - فلم تعد قواته في الاوراس - تقف عند حدود ضد العدو، أو القيام بالهجوم المضاد، ما بين فترة وأخرى. وقد عرفت هذه القوات من خلال تجاربها مع العدو، أن قواته الاستعمارية تجيب على كل هجوم بهجوم مضاد أكثر قوة وعنفا. وكان ذلك يسمح للمغاوير المجاهدين بتدمير قسم من قوات العدو، وإنقاص قوته العددية. ولكن ذلك لم يعد كافيا. ولهذا، فقد لجأ المجاهدون
لأسلوب الهجمات الخداعية المرتبطة بتنظيم الكمائن، فكانوا يقومون بهجومهم، ثم يتراجعرن، تاركين عددا من المقاتلين في مؤخرتهم، حيث يتظاهر هؤلاء بأنهم قتلى، أو أنهم يتمركزون بمواقع مموهة. وسرعان ما ينطلق العدو بهجومه المضاد، غير منتبه وهو يتحرك بسرعة إلى أسر عشرات المجاهدين المغاوير المنتشرين حوله. وتستمر الكتلة الرئيسية من المجاهدين في انسحابها بينما تتابع القوات الاستعمارية مطاردتها الحاسمة، مركزة كل جهذها لملاحظة هؤلاء الذين يتحركون أمامها. ويجد المقاتلون الاستعماريون فجأة أنهم وقعوا في كمين (فخ) محكم. ومن السهل بعد ذلك توقع ما يحدث بعد ذلك.
مضت الأشهر الثلاثة على هذا الصراع المرير، وهو الصراع الذي لم يشترك فيه العقيد (شارل) ولو بمعركة واحدة، ولم يصل فيه أبدا إلى قمة الأوراس، ولو لمرة واحدة. وإذا ما أمكن له الوصول مع قواته إلى بعض المرتفعات والذرى، فإنه ما وصلها إلا لينسحب منها بسرعة أكبر من سرعة تحركه إليها، مخلفا وراءه الجثث المتراكمة والممددة على الأرض - إلى الأبد -.
لم يتمكن الاستعماريون من البقاء في الأوراس، فكانت في ذلك هزيمتهم. ولم تكن هناك ضرورة لأن تصدر قيادتهم أوامرها بالانسحاب. ففي نهاية شهر حزيران - يونيو - 1959 لم يعد هناك أي وجود للاستعماريين هناك.
وضاع العقيد (شارل) ولم يعد له أي ذكر. وبقيت الأوراس منطقة محررة من مناطق جيش التحرير الوطني، وبقيت محررة حتى اسقلال الجزائر كلها وتحريرها تحريرا تاما. وكم كان الثمن فادحا؟ لقد غابت عن ساحة الصراع ثلاثة أفواج تقريبا (أو ما يعادل 1400
مجاهد). ولقد استشهد هؤلاء الألف والأربعمائة من المجاهدين البررة، لا دفاعا عن الأوراس وحدها، وإنما من أجل أن تتحرر الجزائر كلها وتصل إلى سيادتها واستقلالها.
وتلك هي القصة الحقيقية لمعركة الأوراس.
المجاهدون يتفقدون أرض الكمين