الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
شاب - على خطى (نافار)
(*)
نشرت صحيفة صدى الجزائر (ليكودالجي) الاستعمارية المعروفة، في عددها الصادر يوم 17 نيسان - أفريل - 1959 عنوانا ضخما بالأحرف الغليظة في الصفحة الأولى:(الجنرال ديغول يهنىء القادة العسكريين وفرقهم على عملياتهم الأخيرة في ولاية وهران). وكتبت تحت هذا العنوان ما يلي (وجه الجنرال ديغول إلى الجنرال (شال) الرسالة التالية: إن العمليات العسكرية الأخيرة التي جرت في وهران تحت إشرافكم، قد سارت سيرا حسنا، ونفذت تنفيذا رائعا، وأرجو أن تبلغوا - الجنرال غامبيز - وبقية القادة والفرق الموجودة تحت قيادته ابتهاجي بعملهم. أما فيما يخص التطورات القادمة لبرنامجكم الذي سطرتموه لتحقيق التهدئة، فأرجو أن تتأكدوا من ثقني الكاملة بكم).
ثم أوردت صحيفة (ليكودالجي) ما قاله المسيو (ديلوفري) للجنرال (شال) وهو يسلمه رسالة التهنئة التي حمله إياها الجنرال - ديغول -: (إنني أسلم لكم بابتهاج عظيم رسالة رئيس الجمهورية وأقدم تهاني لكم ولجميع القوات العسكرية بالجزائر التي تمكنت
(*) مجلة (المجاهد) الجزائرية 1/ 5/ 1959 والبحث تحت عنوان (برنامج شال دليل على العجز لا على القوة).
بفضل نشاطها خلال هذين الشهرين من اجتياز مرحلة جديدة على طريق التهدئة). وبعد هذا أدلى الجنرال (شال) إلى صحيفة إسبانية بتصريح، أعقبه بتصريح ثان إلى صحيفة - لوموند - الفرنسية أكد فيه:(بأن الانتصار العسكري على الثورة هو أمر ممكن. وأنه آخد بزمام الموقف).
ليس المجال هنا هو مجال التعرض بالتحليل للأسباب والعوامل التي حملت - الجنرال ديغول - على توجيه تهانيه إلى الجنرال شال والقادة العسكريين الفرنسيين بالجزائر - مغتنما من أجل ذلك كل مناسبة وأحيانا من غير مناسبة -. والمهم في الأمر - بالنسبة للثورة - هو تقديم البرهان على أن برنامج شال الجديد، لن ينجح، ولا يمكن له أن ينجح في القضاء على الثورة الجزائرية، كما لم تنجح جميع البرامج التي سطرها الفرنسيون منذ بداية الثورة في سنة 1954.
…
إن القيادة الفرنسية - في الحقيقة - رغم انتصاراتها المزعومة التي تزخر بها بلاغاتها في كل يوم، ورغم تظاهرها بأن البرنامج الجديد سيقودها حتما إلى الانتصار العسكري، لم تعرف أي طريق تسلك للقضاء على فرق جيش التحرير الوطني، فقد جربت القيادة العسكرية الفرنسية مجموعة من الطرائق والأساليب، ووضعت جملة برامج، فشلت كلها أمام تصميم جيش التحرير الوطني وإرادته الصلبة.
لقد عمد العسكريون الفرنسيون في بداية الأمر إلى سلوك الطريقة التقليدية المعهودة في الحروب، وهي محاولة القضاء على العدو بقتله أو بأسره. لكن هذه الطريقة فشلت. وظن الفرنسيون
أول ما لمسوا فشلهم أن المسألة هي مسألة زيادة في عدد الجنود والعتاد، فتواردت الإمدادات الضخمة والأجهزة الحربية العصرية على الجزائر، طوال أربع سنوات، ولكن من غير فائدة ولا جدوى. وقد اعترفت مجلة (الدفاع الوطني الفرنسي) في عدد لها:(بأن البارود لم يكن كافيا للقضاء على جيش التحرير الوطني). وبعد هذا الفشل، توهم بعض قادة الجيش وأجهزته (إطاراته) أن الفشل يرجع فقط إلى أسلوب الحرب لا إلى طبيعتها، والذي عزز هذا الشعور عند أولئك الضباط هو تجربتهم في الهند الصينية: فقد شاهدوا هناك كيف انهزم الجيش الفرنسي هزيمة نكراء، لكنهم عوض أن يستخلصوا العبرة من تلك الهزيمة، وعوض أن يفهموا أن هزيمتهم كانت أمرا حتميا يقتضيه التطور الطبيعي للشعوب، ويفرضه منطق الأشياء وطبيعتها، وعوض أن يبنوا على أساس هذا الفهم سلوكهم في الجزائر عوض ذلك كله، توهموا أن انتصار شعب الهند الصينية، إنما يرجع إلى أساليب الحرب الثورية. والدعاية النفسية التي طبقها (هوشي مينه) بعد أن اقتبسها من (ماوتسي تونغ). وبنوا على هذا الوهم أنهم لو طبقوا بدورهم ذلك الأسلوب، لكانوا قد نجحوا في الهند الصينية. وأن تطبيقه في الجزائر سيمكنهم من الانتصار على الثورة. وكان أصحاب هذه النظرية هم الذين مهدوا فيما بعد لانقلاب 23 - أيار - مايو - وهم الذين نظموا مظاهرات التآخي، وعمليات رفع الحجاب، وهم الذين تزعموا دعوة دمج الجزائر بفرنسا الخ ....
وظنوا أن هذه السلسلة فن العمليات (النفسية) هي التي ستقضي على الثورة، وتمكنهم من الانتصار بالجزائر، إلا أن عدم تصور العسكريين الفرنسيين لمجموع العوامل التي أدت الى انتصار
(ماوتسي تونغ) و (هوشي مينه) من جهة. وفصلهم بين الهدف الذي عمل له (ماوتسي تونغ) وبين الأسلوب الذي استعمله لتحقيق ذلك الهدف من جهة أخرى. وجهلهم بطبيعة وضرورات التيار التحرري الذي غمر البلدان المستعمرة، وجهلهم بعقلية الشعب الجزائري من جهة ثالثة، إن كل هذا جعل مخيلة العسكريين الفرنسيين تتفتق عن أساليب مضحكة قد تصلح لكل شيء، إلا أن تكون ذات فائدة لأهدافهم الاستعمارية ودعايتهم. وقد يكون من المناسب التعرض لبعض عينات (نماذج) تلك الأساليب النفسية التي يتوهم أصحابها من العسكريين الفرنسيين بأنها هي التي تقودهم إلى النصر.
…
كان هناك ضابط كبير يشغل منصبا هاما في مكتب الحرب النفسية، يفتخر بأنه وفق أثناء انتخابات تشرين الثاني - نوفمبر - 1958 إلى إيجاد طريقة رائعة لدعوة الجزائريين إلى الانتخابات وترغيبهم في المساهمة فيها وهي نشر لافتات فيها صورة فلاح وحمار وصندوق الانتخاب، وقد كتب تحت الصورة (أنت تصوت وحمارك لا يصوت). وفي المحتشدات، من بين الأساليب التي يستعملها ضباط الحرب النفسية لجعل الجرائريين يؤمنون بأنهم فرنسيون، أنهم يأمرون الموقوفين الجزائريين بأن يستديروا على شكل حلقة، ويدورون - كالأطفال - وهم يرددون:(إني فرنسي! إني فرنسي!) لمدة ساعات طويلة.
ومن هذين المثالين، وغيرهما من عديد الأمثلة، يتبين أن الفرنسيين أخذوا أساليب الحرب النفسية، لكن هذه الأساليب صارت بين أيديهم أساليب فارغة جوفاء، ليس فيها أي محتوى
سياسي يجذب إليها الجماهير الجزائرية ويستميلها. إن الجماهير تستجيب لقياداتها الثورية لأنها تعمل معها من أجل التحرر من الاستعمار الكريه، ولأنها تسير على طريق الحرية والاستقلال. فكيف يطمع الافرنسيون أن يجتذبوا إليهم الجزائريين بدعوتهم إلى الادماج و (التفرنس). وهو بالضبط ما ثاروا لمحاربته.
لقد أدى فشل المخططات الفرنسية إلى ظهور اختلاف حاد بين القادة العسكريين بشأن أنجح الوسائل للقضاء على الثورة الجزائرية فهناك أنصار مدرسة (الحرب التقليدية) التي يتزعمها (بيجار). وهناك أنصار مدرسة (الحرب النفسية) وفي مقدمتهم (لاشو روا). وبين هذين الجناحين يجري خلاف عنيف، وتبادل للانتقادات والاتهامات، الأمر الذي زاد من ارتباك القيادة الافرنسية. وجاء الجنرال (شال) فوضع برنامجه على أساس (الحرب التقليدية، وحاول أن يعزز ذلك بقادة اكفاء لهم شهرتهم وخبراتهم (مثل بيجار). ونظم وحدات خاصة مهمتها مطاردة قوات جيش التحرير في الجبال. وتبع ذلك بالضرورة، اختفاء الحديث عن أساليب (الحرب النفسية) في الولاية العامة - الجزائر - وكثر الحديث عن (تطوير وسائل الحرب التقليدية ومخططاتها) غير أن هذا الحديث لم يتجنب توجيه النقد لبرنامح (شال) منذ بداية ظهوره، وقد يكون من الضروري التعرض لبعض ما قاله العسكريون الفرنسيون أنفسهم بهذا الشأن، مما أكد فشل (برنامج شال) حتى من قبل أن يبدأ تطبيقه.
لقد قال عقيد افرنسي - في قسنطينة - ما يلي: (إن المسألة بسيطة، فنحن نسير بمعدل أربعة كيلومترات في الساعة، والجزائريون يسيرون بمعدل سبعة كيلومترات في الساعة، فكيف يمكن أن نلحق بهم إن دامت الحال على هذا؟). وقال - بيجار -:
(يوجد في الجيش الفرنسي من الجنرالات أكثر من اللازم، مع أن المعارك تربح في الميدان لا في مكاتب القادة - الجنرالات - ثم إن كثرة السيارات والدبابات تعرقل الجيش عن خفة الحركة وتعوقه عن سرعة التنقل).
ويؤكد ضابط آخر: (من بين أربعمائة ألف جندي، يوجد ثمانون ألفا مخصصون لحراسة السيارات العسكرية) وهذا عقيد آخر - كولونيل - يصرخ يائسا: (ما فائدة الطائرات والدبابات في محاربة مقاومين مدربين على حرب العصابات، ويختفون في الحراج ووراء الصخور في الجبال؟ هذا مع العلم أن الطيران الفرنسي يقوم في كل يوم بثلاثمائة عملية). وإلى هذا يجب أن يضاف بأن معدل عمر الضباط الفرنسيين برتبة نقيب - كابتن - هو (42) سنة، وهو عمر لا يسمح لصاحبه بأن يجري في الجبال، في حين أن أغلب إطارات جيش التحرير الوطني من الشباب الناشط.
هذه بعض العوامل التي تبرهن - وبرهنت فيما بعد - على أن الجيش الفرنسي عاجز عن أن يواجه جيش التحرير مواجهة منتصرة، وهي عوامل لا تستطيع قوات فرنسا إزالتها لأنها تحمل في مضمونها الأصالة الثورية التي تضرب جذورها في أعماق المجتمع الجزائري لأكثر من عشرات الذين كما لا تستطيع فرنسا تقليدها، حتى لو أمكن للحكومة الفرنسية تغيير هذ االواقع ودعم قواتها بإطارات (كادرات) من الشباب، إذ أن تنفيذ مثل هذا الإجراء يتطلب سنوات كثيرة. هذا مع ملاحظة أن حرب الجزائر قد جعلت الإطارات الفرنسية ناقصة جدا، وما تزال في كل يوم تزيد في فداحة هذا النقص، وهذا كله يدل دلالة قاطعة على أن برنامج شال - لن يكون مصيره أحسن من مصير البرامج السابقة
أما الجنرال (شال) فيكفي تذكيره، بأن (الجنرال نافار) كان هو الآخر قد أعد برنامجا عسكريا، وكان هو الآخر مقتنعا بأنه: سيقضي على ثورة الهند الصينية (فييتنام فيما بعد) بوسائطه العسكرية، وأنه (ماسك بزمام الموقف). ولا حاجة إلى التذكير بنهاية نافار في الهند الصينية - حيث اقتحم عليه الثوار أمنع حصونه في (ديان - بيان - فو).
…
جاءت الأحداث بعد ذلك فأكدت صحة تحليل الثوار، وبرهنت على حتمية انتصار الثورة، وسقط (شال) ودهاقنة الاستعمار ومخططوه ومنفذوه ومستمروه. والقصة بعد ذلك وقبله ليست قضية نبوءة أو تكهن بقدر ما هي تحليل سليم لمسيرة تيار التاريخ الذي التقى في موعد التاريخ مع الثوار التاريخيين، فكان في ذلك انتصار (الحدث التاريخي). وكانت مسيرة الاستعمار مضادة للتاريخ وقد حاول الاستعماريون التشبث بالماضي وإيقاف عجلة الزمن، فسحقهم تيار التاريخ، وقذف بهم إلى ركام الماضي المهمل، والذي ليس له نصيب من الذكر في صنع التاريخ وتلك هي الحقيقة الخالدة التي يمكن التوقف عندها.