الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
ولادة سرية ومصرعها
(*)
كانت كتائب جيش التحرير الوطني، كثيرا ما تتعرض للموت والإبادة، فطريق الجهاد شاق عسير، والعدو خصم شديد الضراوة، قوي البأس. غير أنه ما كانت كتيبة تموت إلا لتبعث من جديد. فالمتطوعون أكثر من قدرة جيش التحرير على استيعابهم، فكان لا بد من اللجوء إلى الاختيار والانتقاء. وظهرت الصعوبة في انتقاء المتطوعين وضمهم إلى تلك الكتائب لمنحها الحياة بصورة مستمرة وبات على المتطوع اجتياز اختبار عسير حتى يكتسب شرف الانضمام إلى جيش التحرير. وقصص هؤلاء المتطوعين أكثر من أن تعد أو تحصى، وهذه واحدة منها.
كنا أحد عشر مجاهدا يوم 24 - تشرين الثاني - نوفمبر - 1956 وكنا نقيم في (ولد حمود) على بعد (35) كيلو مترا من (تلمسان) ما بين (ترني) و (صبره). ويظهر أن القوات الإفرنسية اكتشفت وجودنا
(*) للكاتب الجزائري (محمد بوشاور) وهو مجاهد قديم، حكم عليه الافرنسيون بالموت غير أنه عاش بالرغم من إرادة أعدائه، ليكتب تجربة من التجارب التي عاشها، والمرجع:
RECITS DE FEU(SNED) S . N. EL MOUDJAHED . ALGER 1977 - P . P. 51 - 54،
فبدأت بمطاردتنا طوال ثلاثة أيام، ولما جاء اليوم الرابع، اتخذنا قرارنا بمغادرة الجبل، والهبوط إلى السهل، وشرعنا بتنفيذ القرار على الفور. فتجاوزنا الطريق العام (تلمسان - مغنيا) في الساعة الواحدة صباحا. وأمضينا الليل في (بني ميستير). وحوالي الساعة السادسة صباحا وصلتنا صرخات امرأة وهي ترسل نداء الاستغاثة، فأصابنا نوع من القلق، غير أن مضيفنا، صاحب البيت الذي قبل إيواءنا، طمأننا بقوله إن هذه المرأة هي قريبة له، أصابها مس من الجنون - لما عاينته من الأهوال التي لم تقدر على احتمالها -. وفي اليوم التالي، أخبرنا عامل الاتصال بأن كافة المسؤولين عن المنطقة الأولى قد اسشتهدوا، أو وقعوا في الأسر - وباتوا في قبضة العدو -. ولم يبق على قيد الحياة أحد ممن اشتركوا في عملية حي (شعبة اليهودي) الواقع على بعد عشرة كيلومترات من (تلمسان). وإذن، فقد انتهت المنطقة الأولى، وانتهينا نحن معها، وبتنا ونحن في عزلة تامة عن كل اتصال، ولم يعد هناك مسؤول نرجع إليه. وبقي علينا الاعتماد على أنفسنا وعلى ما بقي في قبضتنا من ذخيرة قليلة. وقررنا على الفور القيام بمحاولة لتأمين الاتصال مع الجنود المعزولين - مثلنا - وإعادة تنظيم شبكة الاتصالات مع خلايا الناحية (الدوار). فتوجهنا في الساعة الثامنة من مساء يوم (2 - كانون الأول - ديسمبر) نحو دوار يقع على بعد خمسة أو ستة كيلومترات من (ضايا). وأعد لنا رجال الدوار القهوة، وقبلوا استضافتنا لتلك الليلة. وفي الساعة السادسة صباحا، ذهبنا للاختباء في ملجأ يقع تحت الأرض (قبو). وقام الرجال في الساعة الثامنة بإخفاء كان أثر لنا عن طريق استخدام جرار (تراكتور) كما سدوا كافة الثقوب والفتحات، ومن هنا بدأت محنتنا، إذ لم تكد تأزف
الساعة (1600) حتى شعرنا بأنفاسنا تضيق حتى نكاد نختنق، وقررنا الخروج مفضلين الاشتباك في معركة مع العدو، والموت في القتال، من أن نموت مختنقين في قبو مظلم. وفي الساعة (1800) جاء رجال الدوار للبحث عنا وإخراجنا، وفي الساعة (2000) كنا نسير على طريق (تلمسان) وأمضينا الليل في مسير شاق، ولكن لم يحدث شيء بفضل الله وعونه، فوصلنا في الفجر إلى دوار (فحولة) سالمين. ولما لم يكن أهل هذا الدوار قد تعرفوا من قبل على (المجاهدين) أو اتصلوا بهم اتصالا مباشرا، فقد أظهروا فرحتهم لرؤيتنا، واستقبلونا كما لو كنا ملائكة هبطت عليهم من السماء. وأقمنا بينهم أسبوعا، عملنا خلاله على تنظيم الدوار (الناحية) وتم اختيار شاب تميز بنشاطه وحماسته وخلقه القويم، وذلك ليكون مسؤولا عن تأمين الإتصالات بالخلايا التي تم تنظيمها، فكان يجمع لنا المعلومات عن العدو. وأعلمنا بعد ستة أيام عن قيام المجاهدين بإحراق أربع مزارع للإفرنسيين وأعوانهم، تقع بين (لامور يسير) و (الجسر الأيسر). وكم كانت سعادتنا لا توصف ونحن نعلم بوجود إخوان لنا في المنطقة.
قام المسؤول عن الاتصال مع المجاهدين (السيد الفلاح) بمرافقتنا بناء على طلبنا، إلى دوار يبتعد عن تلك المزارع الأربع التي تم إحراقها في الليل. ووصلنا إلى (الزقاق) وهو دوار هادىء وجميل، لم يصل إليه الجنود الفرنسيون أبدا. وابتهجنا إذ عرفنا هناك بوجود زمرة أخرى من المجاهدين، هي زمرة زيتونة المسؤول عن العمل في المنطقة). وتقابلنا في المساء حيث أمضينا الليل في مناقشة زمرتينا وموقفهما بعد مركة (شعبة اليهودي) التي دمرت الكتلة الرئيسية من قوتنا في المنطقة.
وفي الصباح، جمعنا زمريتنا، وشكلنا الفصيل الأول الذي ضم (24) مجاهدا. وفي اليوم التالي، سلكنا طريق (اوزيدان) و (عين الحوت) حيث أمضينا شهرا في تطويع المجاهدين وتنظيمهم وتدريبهم بالإضافة إلى جمع الأسلحة والذخائر وصنع زجاجات (كوكتيل مولوتوف). ونجحنا في ضم (12) مجاهدا ممن هجروا (تلمسان) بسبب مطاردة الشرطة الفرنسية لهم. وأصبح تنظيم قوتنا يضم ثلاث جماعات تتكون من (35) مجاهدا. وكنا نقوم بالتدريب النظري في ملجأ تحت الأرض (قبو) يقع عند مدخل (وادي عين الحوت).
وانطلقنا للعمل بعد ذلك بشهر، فهاجمنا مراكز الشرطة الفرنسية، وأحرقنا المزارع، ودمرنا مجرى الماء الذي يصل إلى (بني بهدل) و (وهران). وتزايد عدد أفراد جماعاتنا باستمرار، بفضل انضمام الفارين من الجيش الفرنسي، والتحاق المدنيين ممن كانت تطاردهم الشرطة الفرنسية وتبحث عنهم فأصبحت قوتنا تضم (56) مجاهدا. وتشكلت بذلك سريتنا، وأخذت هيئة أركان الولاية بتجهيزنا وإرسال الثياب العسكرية وخوذ الرأس والأسلحة. وتم تعميد السرية في كانون الثاني - يناير - 1958 في قرية (الزقاق) حيث تمت تسمية (زيتونة) قائدا للسرية - برتبة رتيب أول ثم مساعد - كما تمت تسمية رقيبين لقيادة الفصائل، يعاونهم أربعة من العرفاء، مع تعيين (محمد بوشاور) ليعمل معاونا لقائد السرية. وتعيين (روستان) ممرضا للسرية.
وأصبح باستطاعة السرية تطوير عملياتها، والقيام بعدد أكبر من الإغارات والكمائن. وبات مسرح عمليات السرية يشمل (تلمسان) و (ضايا) و (الزفاف) و (بني الوزان) و (سيدي العبدلي) و (قصر
حنون) و (وغابة بن ديمريد). وقد تم اتخاذ (اوزيدان) قاعدة لعمليات السرية، ومركزا لاستراحتها، ومقرا للرعاية الطبية التي كان يشرف عليها (الطبيب غوار).
أعلمنا أحد المتطوعين الجدد في يوم من أيام رمضان (سنة 1958) بإعادة تنظيم المنطقة الأولى، وتعيين عناصر جديدة من القادة والموجهين. وأعلمنا أيضا بأن القائد المسؤول (النقيب سي جبور) سيأتي لزيارتنا وتفقد أمورا. وفرحنا لهذا التطور، فقررا القيام بإغارة على (تلمان) احتفالا بهذه المناسة. وتم تحديد يوم 27 رمضان المكرم موعدا لتنفيذ العملية. وكانت عملية ناجحة جاء (سي جبور) لزيارتنا بعد شهر رمضان المبارك. والتقطت السرية الصور التذكارية. وأقيم حفل استقبال بسيط في (غابة بن ديمريد) وعلمنا عندها بتفاصيل إعادة تنظيم المنطقة الأولى، وتقسيمها إلى قطاعات، وتكليف سريتنا بالعمل في حدود القطاع الرابع. وأصبح (زيتونة) هو قائد القطاع، وتم تعيين قائد جديد لقيادة السرية. ومضت فترة شهرين على ذلك، أمكن خلالها تنظيم أول فصيل في (الزقاق) - وذلك في حزيران - يونيو - 1958. ولم نكن نعرف ونحن نحتفل بولادة الفصيلة في (الزقاق) أن هذا المكان ذاته سيشهد عما قريب مصرع السرية في المعركة المعروفة (بمعركة الزقاق).
ذهب قائد سريتنا بمهمة إلى (قصر حنون) وكان علينا الالتحاق به غير أنه وصلنا أمر إنذاري في الساعة الرابعة صباحا عن تحرك رتل ضخم من الآليات والمركبات العسكرية للقوات الإفرنسية، على محرر (تلمسان) و (جسر الأيسر) و (رمشي). وهي قادمة من تلمسان بمهمة إجراء عملية مسح كبرى للمنطقة (تمشيطها).
وإذن، فقد وقعنا في شرك محكم. وأسرعنا إلى العمل، فقسمنا قوتنا إلى أربع مجموعات، وتفرقنا مبتعدين عن الناحية (الدوار). حتى إذا ما أزفت الساعة السادسة، وصلتنا أصوات الطلقات الأولى لتعلن عن أول اشتباك مكشوف تخوضه قوتنا في السهل، وفي وضح النهار. وانطلقت النيران الغزيرة من كل مكان.
وشاركت في المعركة كل أنواع الأسلحة؛ من عربات مدرعة ودبابات وطائرات عمودية (هيليكوبتر) وطائرات مقاتلة، حتى المدفعية ومدفعية الهاون التي كان لها دورها الكبير في المعركة. وانتشرت سحب الدخان الكثيف، لقد التهب الدوار بكامله. ولم يطل أمد المعركة بسبب عدم التكافؤ في القوى والوسائط، وأطبق الصمت على ميدان المعركة في الساعة (1000) وبعد اشتباك استمر ساعتين فقط. ونتج عن الاشتباك سقوط طائرة إفرنسية واحتراق دبابتين بالقنابل الحارقة (كوكتيل مولوتوف) علاوة على سقوط عدد من أفراد قوات العدو بين قتيل وجريح. وخسر مجاهدونا سبعة شهداء وعشرة جرحى.
لقد ساد الاعتقاد بأن المعركة قد انتهت، غير أن الطائرات عاودت هجومها في الساعة (1130) واستمرت أعمال القصف بالصواريخ وقنابل الغاز والمدافع الرشاشة لمدة ساعتين كاملتين. وفي الساعة (1300) لم يكن قد بقي على قيد الحياة من قوة السرية، سوى ثلاثة من المجاهدين. أما بقية أفرادها فكانوا قد استشهدوا في ميدان الشرف. أما الثلاثة الذين فاتهم شرف الشهادة فهم (الأخضر) و (مولود) و (محمد بوشاور) فتوجهوا إلى (ودسكيكة) واختفوا في غدير من الماء تغطيه أعواد القصب الكثيف. وكمنوا هناك حتى الساعة (2000) وهو الوقت الذي كان يصل فيه المدنيون
لنجدة الدوار، وتقديم المساعدة للمجاهدين. ووصل قائد القطاع (زيتونة). وشرع الجميع في حفر القبور لمواراة الشهداء ووداعهم، بعد معانقتهم واحدا بعد الآخر.
لقد ماتت السرية.
غير أنها لن تلبث حتى تعود للحياة مرة أخرى، بدم جديد ..
استراحة في الغابة. لقاء الشعب مع جيشه وقادته