الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 -
معركة في الجنوب
(*)
بلغت الثورة الجزائرية مرحلة متقدمة من تطورها في سنة 1957، وفي هذه المرحلة، وقف الاشتراكي رئيس وزراء فرنسا. غي موليه - ليوجه مواعظه ونصائحه إلى الثوار، وليطلب إليهم الأخذ بثلاثيته الشهيرة: وقف إطلاق النار، فالانتخابات، فالمفاوضات. وفي هذه المرحلة ذاتها أيضا، وقف اشتراكي آخر اشتهر بصفة (سفاح الجزائر) وهو (روبرت لاكوست) فأعلن (بأنه لم يبق إلا ربع ساعة فقط للقضاء على الثورة). والتقطت الصحافة الافرنسية، هذا الإعلان وأخذت في الترويج له. وعلى هذا الأساس، فقد رفضت الحكومة الافرنسية الرابعة التسليم للثوار الجزائريين بمطالبهم، وأخذت في وضع المشاريع لتقسيم الجزائر، وأمعنت في طريقها هذا، ففصلت إقليم الصحراء وعينت له وزيرا افرنسيا (هو ماكس الصغير).
وكان إقليم الصحراء هذا قد عرف منذ عام انتفاضة (التحرير)
(*) للكاتب الجزائري (عبد الحميد شيران) مجاهد قديم في جيش التحرير الوطني. واشترك في معركة الجنوب التي وقعت يوم 29 حزيران - يونيو - 1957 - والمرجع: RECITS DE FEU (SNED) S. N. EL MOUDMHED. ALGER. 1977 P.P.
وأخذ في التفاعل مع الأحداث التي كانت تجري فوق التراب الوطني للجزائر. وفي الحقيقة، فإن الجبهة الصحراوية، قد أخذت منذ نهاية شهر ايلول - سبتمبر - 1956 في تنظيم جبهة التحرير الوطني، وجيش التحرير الوطني. وتبع ذلك ظهور مجموعات من المجاهدين في عدد من النقاط الصحراوية، أو بصورة أكثر تحديدا فيما تم الاتفاق على تسميته بالمنطقة الثامنة من الولاية الخامسة، تحت قيادة (النقيب - الكابتن - لطفي) وهي المنطقة الممتدة من مرتفعات جبل (عمور) في إقليم (آفلو) وحتى (تندوف) على الحدود الجزائرية - المغربية. مرورا (بالبياض - سابقا غيريفيل) و (عين صفرا) و (بيشار) و (تيميمون).
شهدت السنة الممتدة من النصف الثاني لعام 1956 والنصف الأول من العام 1957 مجموعة من المعارك العنيفة والتي كانت مسارحها في (القعدة في كينح عبد الرحمن) من إقليم (آفلو) تحت قيادة (النقيب لطفي) حيث دار صراع دموي رهيب استمر سبعة أيام بلياليها، حتى نفدت ذخائر المجاهدين وموادهم التموينية واضطر المجاهدون مرغمين لأكل جذور الأشجار والأفاعي وكل ما يمكن أكله، وشرب ماء بولهم حتى يستطيعوا البقاء على قيد الحياة. ويمكن هنا الإشارة إلى أن قائد الطيران الافرنسي (كلوسترمان) قد اشترك في هذه المعارك، ونشر بعد عودته إلى فرنسا مقالا - في صحيفة الاكسبريس - تحت عنوان (نكبة آفلو) تعرض فيه إلى ما تتكبده القوات الإفرنسية من الخسائر على أيدي المجاهدين الجزائريين.
ترددت أصداء انتصار المجاهدين في هذه المعركة التي قادها
(النقيب لطفي)(*). بصورة قوية أثارت حماسة المجاهدين الذين خاضوا مجموعة من المعارك المماثلة، كان من أشهرها معركة (جبل مرقاد - غيريفيل) ومعركة (جبل مزيمير) و (معركة الجبل) و (درمل - عين صفراء) ومعركة (حمدان) ومعركة (ميزيب) ومعركة (عنتر) ومعركة (غيروز - بيشار). وإذا كان من العسير التعرض ، لكل هذه المعارك، فلا أقل من اختيار واحدة منها، ويمكن الأخذ بمعركة (غيروز - بيشار) نموذجا لها.
بواكير المعركة ومقدماتها:
أصبحت كلمات (الثورة) و (جبهة التحرير الوطني) و (جيش التحرير الوطني) و (الاستقلال الوطني) تتردد كالأنشودة الحلوة على كل شفة، فتهتز لها القلوب في كل منزل وفي كل بيت وكوخ على امتداد الصفحة الجغرافية للجزائر، ليس ذلك فحسب، بل إن هذه الكلمات أخذت في اقتحام معسكرات الأعداء، لتصل إلى قلوب أولئك الذين وقفوا إلى جانب الأعداء من الجزائريين - إن طوعا أو كرها - وحملوا السلاح لقتال مواطنيهم وأهلهم وإخوتهم في الدين. وأمام هذا الموقف، أخذت المنظمات الخاصة في جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني ببذل جهودهما الكثيفة - اعتبارا من مطلع سنة 1957 - بهدف الاتصال مع العناصر العسكرية الجزائرية التي تخدم في الوحدات المسماة من قبل الافرنسيين (بالوحدات الصحراوية - للجيش الإفرنسي) ومحاولة إقناعها بالانضمام إلى قوات جيش التحرير الوطني. ولم تلبث هذه الجهود حتى أينعت
(*) ترفع النقيب لطفي بعد ذلك الى رتبة عقيد - كولونيل - ومات ميتة بطولية في بداية سنة 1960 في منطقة بيشار - حيث حمل مكان استشهاده اسم (برج لطفي).
ثمارها، وأخذ هؤلاء الجزائريون بالفرار من معسكر العدو والالتحاق بالثورة - بصورة إفرادية - ثم تطورت العملية إلى فرار زمر صغرى، وأخيرا، أخذت فصائل بكاملها في الانضمام إلى قوات الثورة.
وكانت الظاهرة الأكثر خطورة بالنسبة للفرنسيين هي فرار العسكريين الجزائريين من معسكر الإفرنسيين والانضمام إلى جيش التحرير الوطني ومعهم كامل أسلحتهم وذخائرهم. وشعرت السلطة الافرنسية بثقل وطأة هذه العملية عندما قام فصيلان من الجنود الجزائريين بقتل ضباطهم الإفرنسيين، وانضما إلى قوات الثورة في شهر أيار - مايو - 1957 ومعهما كمية ضخمة من الأسلحة والذخائر. ورافق ذلك - بصورة طبيعية - تعاظم في هجمات الثوار المجاهدين على المراكز الافرنسية، وزرع الألغام على الطرق، ومعركة الخطوط الحديدية والأسياج الشائكة. الأمر الذي أثار هياج العدو الافرنسي الذي لم يعد باستطاعته ابتلاع هذه المجابهة، فوضع، مخططه لتنفيذ عملية بواسطة قواته المحمولة جوا وهدفها مطاردة الجزائريين الهاربين من المعسكرات الافرنسية: غير أن الفشل الذريع كان حليفا لهذه العملية، لأن الجنود الهاربين كانوا قد وصلوا إلى مسافات بعيدة عن قبضة العدو، واستقروا في مراكز حصينة ومأمونة.
عاد العدو لوضع مخطط جديد للعمليات على نطاق واسع، لا يقتصر هدفها على تصحيح الموقف بتأديب الهاربين، وإنما يتجاوز ذلك إلى محاولة الاستيلاء على مركز القيادة الاقليمي الذي قامت عناصره بتأمين جسور الاتصال التي عبرت عليها جموع الهاربين.
وكانت الخطوط الرئيسية للعملية تتلخص في تنسيق جهود القوات الافرنسية المتمركزة في (بيشار) و (عين صفرا) وبقية
مناطق الجزائر، وكذلك القوات الافرنسية المتمركزة في المغرب.
قامت طائرتا استطلاع من نموذج (ت - 6) بالتحليق فوق قواعد المجاهدين، وذلك قبل يومين اثنين من بدء تنفيذ العملية. وفي الوقت ذاته قامت منظمات الاستخبارات التابعة لجيش التحرير بإنذار قواتها عن وجود هيجان يجتاح معسكرات العدو. وهكذا افتضح أمر العملية، ولم تعد الاستعدادات لتنفيذها سرية. واتخذ المجاهدون استعداداتهم القتالية بصورة سرية، واحتلوا مواقعهم، بوسائطهم المتواضعة.
قامت القيادة الفرنسية بنقل ما يزيد على ألفي جندي بواسطة قطارين: القطار الأول انطلق من (بيشار) وانطلق القطار الثاني من (عين صفرا). والتقى القطاران في (الجحايفة) حيث تم نقل
القوات بعد ذلك إلى مسرح العمليات بواسطة الطائرات العمودية - الهيليكوبتر -. هذا علاوة على إرسال خمسين عربة نقل جند كبيرة محملة بالمقاتلين وأسلحتهم من القوات الاستعمارية المتمركزة في المغرب. وبالإضافة أيضا إلى سرب طائرات نفاثة، وطائرات نقل جند (جونكر) وطائرات عمودية
…
وجدير بالذكر أن جهاز الحرب هذا كان أكبر من قدرة فرنسا، ولهذا فقد كان يعتمد في تموينه ودعمه على قوات (حلف شمال الأطلسي). فما هي القوة التي كان يجب عليها التصدي لهذا الجهاز الضخم؟
كان لدى جيش التحرير الوطني الجزائري في المنطقة قوة لا تزيد على الفصيلين، يتلقيان دعما مناسبا من المواطنين - وبصورة خاصة من أفراد القبيلتين الكبيرتين اللتين تستقران في المنطقة وهما:
(قبيلة ولد جرير) و (قبيلة دوى منيح). ويضاف إليهما بعض الأفراد من (شامباس) و (ولد سيدي الشيخ) الذين كانوا ينفردون
بكفاءة قتالية جديرة بالتقدير: إنهم محاربون حقيقيون يتمتعون بخيال حربي متوارث، ولديهم رماة مهرة لا نظير لهم، وهم مسلحون بالبواريد الحربية المتنوعة مثل (الموسكوتون) و (ماس 36) و (ماس 49) و (موزر) ومعظمها مما غنمه المجاهدون من أسلحة العدو الاستعماري. وكان تموين هؤلاء المجاهدين بسيطا: بعض قرب الماء التي يتم إملاؤها من (حاسي أبو الأكحل) وحفنة من البلح (لا تتجاوز ربع كيلو غرام). وشريحة من اللحم وقطعة من الخبز أو الكعك المشوية على رمال الصحراء الساخنة.
كانت أكثر المشاكل خطورة مما جابهته عناصر جيش التحرير الوطني في هذه الفترة، مشكلة حماية مركز القيادة الإقليمية الذي بات الهدف الرئيسي لجهد العدو، مع ما يتبع هذا المركز من مصالح وخدمات، وأولها مصلحة الإمداد والتموين، ومصلحة الخدمات الصحية التي كانت تسهر على العناية بأكثر من سبعين جريحا ومريضا عاجزين عن حمل السلاح. علاوة على مشكلة بعض العملاء والخونة الذين كانوا محتجزين في هذه الفترة بانتظار تقديمهم إلى محكمة عسكرية، وبينهم على سبيل المثال:(مدني ولد غدايفه) و (الحبيب شاطري) وخونة افتضح أمرهم وحوكموا ونفذ فيهم حكم الإعدام بعدئذ. وكذلك (هـ. م) الشاب الذي لا يتجاوز السابعة عشرة عاما من عمره، حاول العدو استخدامه وكشفت استخبارات جيش التحرير الوطني أمره، وأخذت المحكمة العسكرية باعتبارها صغر سنه فلم تصدر حكمها عليه، وعفت عنه.
…
استطاع المجاهدون استباق المعركة، فقاموا بإخلاء الكهوف والمغاور والأودية، واحتلوا مواقعهم على النقاط ذات الأهمية
الإستراتيجية في الجبل. وقام كل مجاهد بحفر ملجأ له، وأعد موقعه القتالي على مهل، وغير متعجل، حتى يمكن له مجابهة كافة الاحتمالات. واحتل المجاهدون جميعا مواقعهم القتالية في ليلة المعركة، وأمضوا الليل في خنادقهم وملاجئهم.
أرسل المراقبون في وقت مبكر من الصباح إنذارا إلى المجاهدين يعلمونهم بتقدم أرتال من الآليات - المركبات - المتجهة من (بو عرفة) إلى (الفجيج) وهي تنتقل عبر مضيق (غروز - لاميز). وظهر واضحا أن هذه الأرتال كانت تنقل وحدات من الجيش الفرنسي الاستعماري المتمركز على تراب المغرب. واستنفرت القوات، واستعد المجاهدون جميعهم للمعركة بعد أن أدوا فرض صلاة الفجر، وابتهلوا إلى الله أن يثبت قلوبهم، ويمنحهم النصر الذي وعد به المجاهدين الصابرين.
ظهرت الخيوط الأولى لضوء النهار، وبينما كانت أنظار المجاهدين وأحاسيسهم مشدودة كلها لمتابعة تحرك الأرتال القادمة من المغرب، ارتفع هدير يصم الآذان صادر عن محركات الطائرات، مما أرغم المجاهدين على تحويل أنظارهم نحو السماء: فكان أول مشهد وقعت عليه أبصارهم ثلاث طائرات ضخمة - من قاذفات القنابل - نموذج (ب - 26) قامت بجولة سريعة فوق الإقليم، ثم أخذت بإرسال قنابلها وإطلاق نار مدافعها الرشاسة. متبعة في ذلك طريقتها التقليدية لتطهير الأودية والثنايا، والتمهيد لإنزال القوات المحمولة جوا التي كلفت الهبوط فوق المواقع لقصم ظهر الثوار - الفلاقة-.
مضت ساعة والقصف الكثيف لمواقع المجاهدين لم يتوقف أو ينقطع، حتى إذا ما أشارت عقارب الساعة إلى السابعه، ارتفع هدير
وضجيج لا يقل في شدته أو قوته عن الهدير السابق ارتعد له المجاهدون وأجفلوا، وإذ ذاك ظهر سرب من الطائرات المتنوعة النماذج والأشكال، جاءت كلها فحجبت السماء، وأخذت في التحليق فوق رؤوس المجاهدين. وهنا ظهرت بغتة موجة جديدة من الضجيج قادمة من الشرق، فوقف لقدومها شعر المجاهدين، وكانت هذه الموجة صادرة عن سرب الطائرات العمودية (الهيليكوبتر) والتي أخذت في نقل وحدات العدو التي تم نقلها بالقطارات من (بيشار) و (عين صفرا). وهي وحدات كانت تعمل تحت قيادة - الجنرالين -:(فانوكسين) و (كريفكور). واجبها الاتصال مع القوات القادمة من المغرب، وإحكام حلقة الحصار على المجاهدين، بطريقة التطويق والحصار المعروفة.
تحركت قيادة المجاهدين للعمل بسرعة من أجل مجابهة هذا الموقف، فقسمت وحداتها إلى مجموعات قتالية، وأعادت تنظيمها في إطار زمر صغرى، تعمل في إطار مجموعتين رئيسيتين: أولاهما بقيادة الأخ المجاهد (غاوطي) وهو محارب قديم اشترك في حرب الهند الصينية ولديه خبرات قتالية جيدة. وحددت مهمة هذه المجموعة بالاستيلاء على النقاط ذات الأهمية الاستراتيجية في مواجهة المحور الذي تتقدم عليه القوات الافرنسية الآتية من المغرب بينما أسندت قيادة المجموعة الثانية للأخ المجاهد (عبد الحميد شيران) ومهمتها التمركز - وظهر أفرادها إلى ظهر أفراد المجموعة الأولى - لمجابهة قوات العدو التي كانت تتقدم من اتجاه الشرق. ونظمت زمر للقيام بمهمة تأمين الاتصال - الارتباط - بين المجموعتين، وتنسيق التعاون فيما بينهما. وأسندت قيادة هذه الزمر إلى المجاهدين (الحاج دوغما) و (محمد بن زيان).
كان المجاهدون يعرفون تماما أن معركتهم مع عدوهم هي (معركة استنزاف) تعتمد في أساسها على تجنب الدخول مع قوات العدو في قتال جبهي - نظامي -. والتركيز على مبدأ المباغتة وما تحدثه من التأثير. وعلى هذا، فقد صدرت الأوامر إلى الرجال بعدم فتح النار على العدو قبل الظهيرة، وأن يتم فتح النار بصورة مباغتة وعندما تصل قوات العدو إلى مسافة قريبة جدا من المجاهدين حتى يكون بالمستطاع إنزال أكبر قدر من الخسائر في قوات العدو. وبذلك تتوافر الفرصة أيضا أمام المجاهدين حتى يقوموا بالانسحاب من مواقعهم ليلا، مستفيدين من ظلمته للوصول إلى نقطة التجمع. غير أنه وقع في هذه الفترة - وحوالي الساعة العاشرة صباحا - حدث غير متوقع قلب مخطط المجاهدين رأسا على عقب. إذ بينما كانت طائرتان (من نموذج ب - 26) تقصفان من غير هوادة المرتفعات والوديان بالقنابل والغازات الخانقة، ظهرت طائرتان (من نموذج الجونكر) وأخذتا في التحليق فوق رؤوس المجاهدين استعدادا لإنزال حمولتهما من رجال المظليين.
نفد صبر مهرة الرماة، فأطلقوا نيران أسلحتهم على طائرتي
(الجونكر) وأصابوا بالتأكيد مستودع الوقود في إحدى الطائرتين، فاندلعت فيها النيران وهي في السماء، وسقطت على مسافة غير بعيدة عن موقع المجاهدين بأكثر من مائة وخمسين مترا، وتمزقت بانفجار لم يبق على أحد من ركبها الطائر - على قيد الحياة - بمن فيهم
قائد الطائرة وملاحوها. وهنا عادت قيادة المجاهدين فأكدت أوامرها السابقة بعدم فتح النار إلا عند وصول قوات العدو إلى مسافة قريبة جدا من مواقع المجاهدين. ولكن حدث بصورة مباغتة أن هبطت طائرة عمودية (هيليكوبتر) محملة بالضباط القادة - الجنرالات - إلى
جوار طائرة (الجونكر) المحترقة والمدمرة. ويظهر أن هؤلاء قد أقبلوا لمعرفة سبب الكارثة. وأخذ قائد المجموعة المقابلة للشرق (المجاهد عبد الحميد شيران) في متابعة ما يجري أمامه، فقد كان الجنرالات - القادة - لا يبعدون عن موقعه بأكثر من مائة وخمسين مترا، وكان باستطاعته أن يميز بمنظاره رتب هؤلاء القادة والأوسمة والشارات التي تلتمع تحت الشمس وهي تزين صدورهم. ولم يتمكن من مقاومة الإغراء الماثل أمامه. وكان جنده يتحفزون مثله لقنص هذا الصيد الثمين، فأخذت الحماسة بالقائد (شيران) وأخذ في تلاوة الآية الكريمة على مسمع مجاهديه - وهي بعد البسملة -:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} - صدق الله العظيم) (*) ثم قال لمجاهديه: (ها هو اليوم الذي هجرتم من أجله كل ما هو عزيز عليكم طلبا لإحدى الحسنيين الشهادة أو النصر فلا تخافوا من كثرة عدد العدو ووفرة عتاده. اصبروا واثبتوا) وانتصب واقفا وصاح بملء صوته، وبكل قوته:(الله أكبر - والنصر لنا). وأصدر أمره بفتح النار، وتمت إبادة مجموعة الضباط القادة بلحظة واحدة فقط. وأعقب ذلك اشتباك عنيف استمر حتى الساعة الخامسة مساء
مرت ساعات كان الضجيح خلالها نوبا بين هدير طائرات (ت -
(*) سورة الأنفال - الجزء العاشر - الآيتان 65 و66.
6) والطائرات العمودية مرة، ثم هدير طائرات الجونكر وطائرات (ب - 26) مرة أخرى. وكان ذلك مختلطا بدوي انفجارات القنابل والصواريخ وأزيز الرصاص: وكانت كل نوبة من القصف يتبعها هجمات متتابعة من قوات العدو الأرضية لا تلبث حتى تتوقف مباشرة عندما تصطدم بنيران المجاهدين الغزيرة والدقيقة. وخلال ذلك كله، بقي العدو مستمرا في تضييق حلقة الحصار بين فكي قواته لرضع المجاهدين أمام واحد من خيارين لا ثالث لهما: فإما الاشتباك في صراع جسم لجسم، وإما محاولة قيام المجاهدين بخرق الحصار، مما يضع المجاهدين - في الحالين - أمام مأزق حرج، إذ باستطاعة العدو في الحالين استثمار تفوقه الساحق - عدديا - من أجل القضاء على المجاهدين. وعلى كل حال، فقد رفض المجاهدون الاشتباك مع العدو في قتال الالتحام - جسما لجسم - وقرروا القيام بانسحاب تدرجي، وعلى مراحل، وفقا للطريقة التقليدية في التناوب بين النار والحركة: وشرع العدو على الفور بتنظيم المطاردة، وأفاد المجاهدون من تأثير المباغتة، فأوقعوا في قوات العدو خسائر كبيرة
بدأت وحدة المجاهدين - المجابهة للمشرق - انسحابها بحادث مؤسف، إذ استطاعت إحدى الطائرات النفاثة تحديد موقع الرشاش الثقيل، فقصفته بصاروخ مزق رامي الرشاش (الشهيد بو عمامة) وأصابت عددا من المجاهدين بجراح مختلفة. ونظرا للمسافة القصيرة التي كانت تفصل بين المجاهدين وأعدائهم، فقد تركز جهد قائد الوحدة (شيران) على سحب الأسلحة والرشاشات الثقيلة بصورة خاصة حتى لا تقع في قبضة العدو. وكانت حلقة الحصار حول هذه المجموعة محكمة جدا. فأعطى قائد الوحدة أمره إلى
قائدي الفصيلتين (تاج) و (جلالي) بالتناوب فيما بينهما لإجراء قفزة جديدة على طريق الانسحاب. وتأبط قائد الوحدة رشاشه، وانحرف لتأمين الجرحى ووضعهم في ملجأ أمين يحميهم من الخطر. وأمكن تنظيم إخلائهم إلى الوادي عن طريق نقلهم واحدا بعد الآخر، وتغطية انسحابهم بالنيران.
وهنا حدثت معجزة حقيقية. معجزة أثارت الأمل في النفوس. ففي هذه الفترة كانت الوحدة المتمركزة في اتجاه الغرب - لمواجهة القوات القادمة من المغرب - قد تعرضت لمأزق صعب، وجابهت ضغطا قويا. فأصدر قائدها (غاوطي) أوامره بالانسحاب التدريجي - وبالتناوب - وعندما رأى العدو تحرك القوات المنتظم من جانبين متعاكسين - متضادين - اعتقد بأن المجاهدين يقومون بمناورة لتطويق قواته. واعتقد أيضا أن هذا التحرك - أو المناورة - هي جزء من خطة عامة للمجاهدين الذين افترض وجودهم في كل مكان. فأصدرت القيادة الافرنسية أوامرها إلى قواتها بالتراجع، حتى لا يباغتها الثوار (الفلاقة) بحركة تطويق على مؤخراتها. وهنا انفتحت ثغرة واسعة لم يكن يتوقعها المجاهدون، وأمكن لهم بذلك المرور مع جرحاهم وأسلحتهم الثقيلة وأعتدتهم، والانتقال إلى الجهة المقابلة من الوادي. حيث احتلوا هناك مواقع قتالية جديدة.
كان العدو يعتقد أن بإمكانه أخد المجاهدين أسرى بعد إحكام قبضته عليهم، وعندما وصلت قواته إلى الأماكن التي كانوا يحتلونها، لم تجد فيها أحدا. وكانت خيبة أمله كبيرة عندما عرف بأنهم قد انسحبوا بعيدا، وأصبحوا خارج مجال عمل أسلحته الآلية - الأوتوماتيكية - وذلك باحتلالهم المواقع المواجهة له على المنحدرات الجبلية. ولم يبق أمام جند العدو الذين أصيبوا بالإحباط، إلا أن
جنود جيش التحرير الوطني أمام حطام طائرة أسقطوها
يوجهوا شتائمهم وإهاناتهم المقذعة للمجاهدين الذين كان باستطاعتهم الرد بإهانات أقذع ولكن أقل فحشا لأنه ليس بإمكانهم مجاراتهم في مجال الفحش والرذيلة - ولو بكلمات الإهانة.
لم يعد للمجاهدين في مواقعهم الجديدة من شغل يشغلهم إلا اتقاء ضربات الطيران، والعمل لمجابهة إغارات الطائرات التي اشتدت وطأة هجماتها وهي تلقي قنابلها المحرقة وقنابل النابالم. غير أن أحدا من المجاهدين لم يصب بأذى - بفضل الله ورعايته - وكان لا بد من احتمال وطأة القتال حتى الليل. ولكن هنا حدثت المعجزة الثانية - وكانت معجزة حقيقية أيضا.
فقد هبت عاصفة رعدية يندر هبوبها في مثل هذا الفصل من السنة. وأظلمت سماء الصحراء. فاضطرت حشود العدو للانسحاب، وهي في حالة من الفوضى الشاملة والاضطراب المثير. ولم يدع المجاهدين هذه الفرصة تفوتهم، فأطلقوا على العدو بعض الرمايات التي زادت من فوضاه واضطرابه.
تجمعت قوة المجاهدين مع هبوط الظلام، وغادرت مواقعها متجهة إلى قبيلة (مرانيات) التي كانت تضرب خيامها على مسافة غير بعيدة. فوجد المجاهدون عندها ما أنساهم شقاء نهارهم. لقد كانت القبيلة كلها في عيد، فاستقبلت المجاهدين بالاهازيج والهتاف والترحيب والغناء على قرع الطبول وصيحات الفرح. وكانت الموائد قد أعدت مسبقا على شرف المجاهدين، فهل كانت القبيلة واثقة مسبقا من حتمية انتصار المجاهدين؟. مهما كان عليه الأمر، فقد أكدت هذه التظاهرة العفوية ما يتمتع به الإنسان المسلم من تعاطف كبير مع مجاهديه ; وما عرف عنه من الأريحية وكرم الضيافة.
وعاش المجاهدون لحظات لا تنسى، تحوط بهم كل ظواهر العناية الممكنة والرعاية التي لا يمكن تصورها أو تصويرها. واستراح المجاهدون في إغفاءة قصيرة، ثم استأنفوا تحركهم نحو (جبل المعيز) بهدف أخذ قسط من الراحة، لتضميد الجراح، وإخلاء الجرحى والمرضى، وتفقد الأسلحة، والاستعداد لمعارك جديدة، إذ كان كل واحد من المجاهدين يعرف عن قناعة ثابتة، بأن طريق الجهاد لا زال طويلا وشاقا. ويتطلب كثيرا من الجهد حتى يتم بلوغ الهدف.
كانت نتيجة المعارك في هذا اليوم التاريخي، كالتالي:
خسر العدو طائرة جونكر مع كل ركبها الطائر (120 - 150 قتيلا) وبقي حطامها متناثرا فوق أرض (وادي الثعابين) حتى هذا اليوم. بالإضافة إلى الضباط الذين تمت إبادتهم في بداية الاشتباك. وخسر العدو في معاركه عشرات القتلى والجرحى، بدلالة أن الطائرات العمودية (الهيليكوبتر) التي أنزلت المظليين في الصباح، قد اضطرت للعودة والعمل جيئة وذهابا طوال النهار لإخلاء القتلى والجرحى.
ومقابل ذلك، فقد استشهد رامي الرشاش الثقيل (بو عمامة) بالإضافة إلى استشهاد مجاهد كان مريضا ورفض الانسحاب مع إخوانه الجرحى. علاوة على عشرة جرحى كانت جراحهم خفيفة. ذلك هو وجيز المعركة التي وقعت يوم 29 حزيران - جوان - 1957 والمعروفة باسم (معركة الصحراء) أو (معركة الجنوب).