المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ضباب الفجر - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١١

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول

- ‌ قصة الثورة الجزائرية

- ‌أ - المخاض العسير

- ‌ب - البداية الشاقة:

- ‌ج - التوازن الاستراتيجي (1956 - 1960)

- ‌د - من التوازن إلى الهجوم الاستراتيجي:

- ‌ لاكوست - والثورة المضادة للثورة

- ‌ شاب - على خطى (نافار)

- ‌ ذريعة (أوروبيي) الجزائر

- ‌آ - الأقليات الأوروية في الجزائر:

- ‌ب - رسالة من جبهة التحرير الوطني إلى الفرنسيين:

- ‌ج - رسالة جبهة التحرير الوطني إلى اليهود:

- ‌ ثورة الجزائر تنتقل إلى فرنسا

- ‌أ - تقرير الصحافة عن الحرب في فرنسا:

- ‌ب - قصة المعركة في كتابة الثوار

- ‌ مع المجاهدين في معاقلهم

- ‌ مع قائد من المجاهدين

- ‌الفصل الثاني

- ‌ ولادة سرية ومصرعها

- ‌ ضباب الفجر

- ‌ المهمة الأولى

- ‌ معارك (تيفرين) في (جبل منصور)

- ‌ معركة جبل (منور)

- ‌ المقاومة في (بوهندس)

- ‌ معركة (الأوراس)

- ‌ معركة في الجنوب

- ‌ إعدام (فروجي)

- ‌قراءات

- ‌ الاضراب التاريخي للطلاب

- ‌ تعليمات وأوامر إدارية

- ‌ بيان الحكومة المؤقتة للجمهوريةالجزائرية إلى الشعب الجزائري

- ‌ أمر يومي من قيادة الأركان العامة

- ‌(محتوى الكتاب)

الفصل: ‌ ضباب الفجر

2 -

‌ ضباب الفجر

(*)

أقبل الشتاء قاسيا على بلاد القبائل، وبدأ المطر يتدفق بغزارة، ومن غير توقف أو انقطاع، منذ ساعات الفجر المبكر، ففاضت السواقي الكثيرة بما تحمله، واجتاحتها السيول التي فاضت مسرعة لتجتاح الطريق، وتصدم السدود بصوت هادر يصم الآذان، هذا فيما كان صخب المياه يتردد قويا وهو يتساقط كالشلال ليغمر الحقول ويكنسها، حتى لم يعد يظهر منها إلا تلك التلال المسودة التي تفصل فيما بين حقول السهل الفسيح. وباتت هذه التلال مطوقة بدوامات طينية مما حمله السيل الجارف وقذف به نحو النهر ليزيد من فيضانه. وكانت الأشجار العارية تنتصب قائمة، بلونها البني، فوق الأرض المغمورة بالمياه. فتشكل رسما نموذجيا للطبيعة الجامدة جمود الموت. حتى أنه ما من طائر وجد في نفسه الجرأة للطيران، واقتحام العاصفة، من أجل البحث عن ملجأ أكثر أمنا، بالرغم من المخاوف التي تكون قد انتابته من برودة الهواء الجليدي، ومن الضباب

(*) للكاتب الجزائري (طاهر جاويد) طالب في كلية العلوم، ومن قدامى المجاهدين. والمرجع RECITS DE FEU (SNED) S.N. MOUDJAHED . ALGER ، 1977 .P . P 55 - 63

ص: 106

المحيط به. وكانت ريح عاصفة تجتاح السهل المقفر، غير حاملة ولو لورقة ميتة واحدة من أوراق الأشجار. لقد عجزت الريح عن التقاط ورقة تعزف عليها لحن الشتاء، فلم يكن هناك إلا الأغصان العارية التي تنتصب كالأذرع السود ترفع أصابعها نحو السماء، أو هي كالهياكل المشوهة الممزقة. فهنا وهناك، تظهر جذوع الأشجار المبتورة. وإلى جانبها القذائف الصدئة، تذكر كل من يمر بها أنه يعبر منطقة حربية. ولعل يد الطبيعة لم تكن كافية وحدها لتشويه هذا المنظر الطبيعي - الشتوي - فجاءت يد الانسان لتزيد في قسوتها على قسوة الطبيعة، ولتبرز معالم التشوه في الحياة الميتة. وفي هذه المرة حمل الإنسان بنفسه قدرة التشويه بقذف قنابله المدمرة.

ارتسم شبح أسود، كان يسير على الطريق الرئيسي الواصل من (بورت - غويدون) إلى (غيط شفة) على بعد كيلومتر واحد من وادي (سيدي خليفة) وذلك في الساعة الواحدة من بعد الظهر. ولم يكن ذلك الشبح سوى خيال رجل يسير متمهلا وهو يصارع الريح، غير مهتم بأمر السيول المتدفقة من السماء والتي كانت تتمزق على ثيابه الملتصقة بجسده. ولم تكن الثياب في حقيقتها أكثر من ملابس خلقة تنم عن بؤس صاحبها. وكانت المياه التي تسيل متصلة فوق أرض الطريق، تمر عبر الحذاء الممزق المهتريء، تدخل إليه وتخرج منه، مع كل خطوة يخطوها الرجل الشاب، وهو يتقدم على الطريق المقفر. وكان الرجل الشاب، يلبس بنطالا من نسيج أزرق اللون، يلتصق بصورة ضيقة على ساقيه، مع سترة سوداء مهترئة عند مرفقيها (جاكيت). أما الوجه الذي لم يعرف الحلاقة منذ مدة على ما يظهر، فإنه لم يكن هناك ما يحميه من لسعات المطر القاسية. المحيط به. وكانت ريح عاصفة تجتاح السهل المقفر، غير حاملة ولو لورقة ميتة واحدة من أوراق الأشجار. لقد عجزت الريح عن التقاط ورقة تعزف عليها لحن الشتاء، فلم يكن هناك إلا الأغصان العارية التي تنتصب كالأذرع السود ترفع أصابعها نحو السماء، أو هي كالهياكل المشوهة الممزقة. فهنا وهناك، تظهر جذوع الأشجار المبتورة. وإلى جانبها القذائف الصدئة، تذكر كل من يمر بها أنه يعبر منطقة حربية. ولعل يد الطبيعة لم تكن كافية وحدها لتشويه هذا المنظر الطبيعي - الشتوي - فجاءت يد الانسان لتزيد في قسوتها على قسوة الطبيعة، ولتبرز معالم التشوه في الحياة الميتة. وفي هذه المرة حمل الإنسان بنفسه قدرة التشويه بقذف قنابله المدمرة.

ارتسم شبح أسود، كان يسير على الطريق الرئيسي الواصل من (بورت - غويدون) إلى (غيط شفة) على بعد كيلومتر واحد من وادي (سيدي خليفة) وذلك في الساعة الواحدة من بعد الظهر. ولم يكن ذلك الشبح سوى خيال رجل يسير متمهلا وهو يصارع الريح، غير مهتم بأمر السيول المتدفقة من السماء والتي كانت تتمزق على ثيابه الملتصقة بجسده. ولم تكن الثياب في حقيقتها أكثر من ملابس خلقة تنم عن بؤس صاحبها. وكانت المياه التي تسيل متصلة فوق أرض الطريق، تمر عبر الحذاء الممزق المهتريء، تدخل إليه وتخرج منه، مع كل خطوة يخطوها الرجل الشاب، وهو يتقدم على الطريق المقفر. وكان الرجل الشاب، يلبس بنطالا من نسيج أزرق اللون، يلتصق بصورة ضيقة على ساقيه، مع سترة سوداء مهترئة عند مرفقيها (جاكيت). أما الوجه الذي لم يعرف الحلاقة منذ مدة على ما يظهر، فإنه لم يكن هناك ما يحميه من لسعات المطر القاسية.

ص: 107

وبالرغم من ذلك كله، فقد تابع - الرجل الشاب - سيره باستمرار، وبخطوات هادئة متزنة؛ وكان كل ما يفعله عندما تشتد المطر قوة وعنفا، هو أن يضم إليه أطراف سترته، ويثبتها بالشد عليها بمرفقيه.

كانت هناك بعض الشجيرات دائمة الخضرة، تقف بأغصانها المرنة الضعيفة، ثم تنحني وتنهض على التتابع، وتترنح يمنة ويسرة، حتى كأنها ترقص على نغمات الريح العاصفة. وأثناء ذلك، كانت سيول الأمطار المتدفقة بقوة، قد حملت معها المزيد من الكتل الطينية، وقذفت بها على أرض الطريق. مما زاد من عناء المسير ومشقته، فلم يصل - الفتى الشاب إلى وادي (سيدي خليفة) إلا وقد استنزفت قوته، فمضى يستريح تحت أغصان شجرة زيتون هرمة، وأمله هو أن تتيح له هذه الاستراحة القصيرة فرصة لاستعادة أنفاسه، واستعادة بعض ما فقده من قوته، استعدادا للحظة اللقاء الذي سينسيه ما تعرض له من معاناة، وما احتمله جسده من سياط العدو اللاهبة.

نظر الرجل الشاب فيما حوله بعين حذرة، وهو يستعيد صور هذه المشاهد الطبيعية، فأنكرها، حتى كأنه لم يشاهدها منذ وقت بعيد، أو حتى كأنه لم يرها من قبل أبدا. وفي الحقيقة، فإن هذا - الرجل الشاب - لم يطأ بقدميه أرض منطقته، ومسقط رأسه، منذ أربعة أعوام. لقد تم اعتقاله في كانون الأول - ديسمبر - 1954 ومعه خمسة رجال من قريته (ولكحو) بالإضافة إلى عدد من شبان القرى المجاورة. وأعدم الافرنسيون شابين من المعتقلين في اليوم التالي لاعتقالهما (في معسكر غيط شفة). بينما تم إلقاء الآخرين في معتقل (بورت غويدون).

ص: 108

بقايا قنابل النابالم

ص: 109

أما الرجل الشاب (واسمه سليمان عرودكي) فقد تم نقله بعد سنة من اعتقاله إلى سجن (تيزي - اوزو) ليقضي فيه ثلاث سنوات أخرى. وفي النهاية، قرروا إطلاق سراحه، فنقلوه صباح هذا اليوم مع قافلة عسكرية إلى (بورت - غويدون) وأنزلوه هناك، وبقي عليه أن يسير على قدميه، تحت هذه الأمطار الغزيرة، حتى يصل إلى قريته (ولكحو).

خلال هذه الفترة، أخذت سيول الأمطار في التخفيف من حدة هبوطها الجامح، وها هي الآن قطرات المياه تتساقط بحبات صغيرة، أشبه ما تكون بالرذاذ، محدثة موجات خفيفة تتلاطم على جنبات الحاجزين القائمين على طرفي الطريق. ونهض (سليمان) وقد التصقت ثيابه بجسمه، واستأنف سيره على طريق الوادي الذي تضخم تحت بصره بطريقة عجيبة. وبقيت المياه الطينية تتدفق بهدير صاخب وهي تتكسر على أقواس الجسر المعدني، الذي ما كاد (سليمان) يعبره حتى سار على الطريق الرئيسي الذي يصل إلى قريته. وأحنى رأسه مطرقا وهو يتأمل بنظرة مشفقة أصابع قدميه الحمراء وقد برزت من فتحات حذائه المطاطي الممزق، المهترىء. غير أنه لم يلبث أن رفع رأسه بصورة آلية، وركز نظره على كوخ مجاور كانت تفوح منه رائحة الشواء المدخن.

وشعر (سليمان) بغتة بحاجة مسلحة للدفء، واهتز جسده كله إذ اجتاحته رعدة طويلة. وقال في نفسه:(إنهم، لا بد، يطهون الطعام هناك!) ثم انتقل بنظره إلى سحب الدخان المتصاعدة من مداخن المنازل وشعر عندها بتقلص حاد في معدته، وتذكر أنه جائع، فهو لم يطعم شيئا هذا النهار، غير أن اقترابه من قريته صرف عنه الشعور بالجوع ليحل محله شعور بالهيجان، وأخذ وجيب قلبه

ص: 110

يتردد في أذنيه بدقات متسارعة. فزاد من نشاط خطوه، وتركز نظره على المعسكر القائم فوق القمة، والذي كان لا بد من المرور فيه، قبل التوجه إلى القرية.

عادت الأمطار إلى التدفق بمثل معدلها السابق. وأسرع (سليمان) في سيره مدفوعا بحافزين: أولهما - المطر المنهمر، وثانيهما - الشوق للقاء الأهل. وعلى هذا فما أن غادر الثكنة العسكرية - المعسكر - وابتعد مائة خطوة، حتى انبسطت القرية أمام بصره بوضوح تام.

وقف (سليمان) ذاهلا، وقد فغر فاه لهول ما يرى، فلشد ما تغيرت قريته التي كان يعرفها، وبات لزاما عليه بذل جهد كبير لقراءة ملامح المشهد الذي يقابله. لقد تحولت معظم المنازل التي كان (سليمان) يتوقع رؤيتها، وأصبحت كومة من الأنقاض، أو اختفت بصورة تامة من ظهر الوجود، لتترك في مكانها أشرطة أرضية ضيقة، كما برزت منازل أخرى، معظمها من التوتياء، قامت على مقربة من أنقاض المنازل القديمة، أو فوق الأماكن التي كانت بيوتا وزالت. وقادته قدماه غريزيا إلى حيث مسقط رأسه ومرتع صباه، فلم يجد إلا كومة من الأنقاض. وجمد في مكانه، ووقف برهة طويلة ينظر بعين غاضبة إلى هذه الحجارة التي طالما سحرته، ولم يعد يشعر بالأمطار المنسابة على وجهه.

غير أن صوت رجل كهل انتزعه من شروده، وهو يخاطبه بقوله:(ألست أنت ابن سليمان ايدير؟!) وأقبل الكهل على معانقة (سليمان) من غير أن ينتظر الإجابة على سؤاله - ثم قال له: (حمدا لله على عودتك سالما - إنك تجهل يقينا السكن الجديد لأهلك! هيا

ص: 111

اتبعني وسأرشدك إليه). سار (سليمان) عشرات الخطوات، وقف بعدها أمام كوخ خشبي، وابتعد الرجل الكهل، ووقف (سليمان) برهة تحت المطر، أقدم بعدها على دفع الباب المهتز دفعا يسيرا، وبرفق. كانت أمه جالسة بالقرب من الموقد، وما أن سمعت صرير الباب حتى استدارت، وندت عنها صرخة اختلط فيها الذعر بالفرح. إنه حلم وقد تحول إلى حقيقة، فها هو ابنها يقف أمامها. أما (سليمان) فقد وقف برهة، زائغ النظرات، باسط الذراعين، ثم لم يلبث أن طرح عنه ثوب الجمود وهو يرى أمه تسير مندفعة نحوه لتعانقه وهي تجهش بالبكاء، وتدمدم بكلمات الشكر لله. وفي الوقت ذاته، كان والد سليمان وأخته يندفعان نحوه، وعانقه الثلاثة في وقت واحد. وجلس (سليمان) بعد هذا اللقاء العاطفي المثير يتأمل والديه.

كانت والدته شديدة الشحوب، وقد أحاطت بعينيها هالة زرقاء. وفزع (سليمان) وهو يرى وجه أمه على مثل هذا الشحوب الذي يحاكي شحوب وجوه الموتى. وسألها:(ما بك يا أماه؟ هل تشكين مرضا؟) وانتزعت المرأة العجوز ابتسامة في محاولة منها لتطمئن من قلق ابنها غير أن هذه الابتسامة لم تلبث أن ماتت على شفتيها وهي تهمس بكلمات لم تصل سمع ابنها الذي أخد يتجول بنظره دوريا وهو يتأمل وجوه أبيه وأخته وأمه.

وها هو يثبت نظرته على وجه والده الذي لم يبق منه إلا جلد يلتصق بالعظم. أما أخته فقد تركها وليس لها من العمر إلا ثلاثة عشر عاما، وها هي أمامه الآن وقد نضجت وأصبحت صبية حلوة، غير أنه لم يكن يستر جسدها الغض أكثر من خرق بالية وأثمال عتيقة. وشعر (سليمان) بألم يعتصر كيانه، وضيق شديد في صدره، وهو يرى

ص: 112

بؤس الحياة من خلال رؤيته لثياب أخته، ونسي أن ثيابه لم تكن أفضل من ثياب أخته.

ومضى (سليمان) في صمت عميق. كما لو كان ينتظر أحدا، وأخيرا عيل صبره، فسأل أمه:(وأين هو أخي - عقلي -؟). وتبدلت ملامح الأم بغتة، فارتسمت إمارات الذعر على وجهها، وتقلص فمها، وأجهشت بالبكاء، ولحقت بها ابنتها فشاركتها بكاءها ونحيبها. وشعر (سليمان) وكأن خنجرا حادا يمزق صدره، وأحس بعبء ثقيل وقد سقط فوقه وسحق جسده، وتطلع ببصره إلى الوجوه حوله، متسائلا، مستعطفا، ملحا على إجابة لم يجدها إلا على شفتي أبيه، اللتين ارتجفتا وهما تنطقان صوتا مخنوقا:

(أجل! استشهد! لقد قتلوه!).

وانتاب (سليمان) إحساس بالضياع، ووجد نفسه ذاهلا، وسقط رأسه بين يديه عاد المطر إلى تدفقه الصاخب، وأخذت قطرات من المياه بالتسلل عبر ثقوب السقف. وهبت ريح عاصفة مزمجرة وهي تصدم الأغصان، لتنساب بعد ذلك على شكل نسمات حلوة رقيقة، انتعشت لها نفوس من في الكوخ، وكأنها الصوت الوحيد الذي أراد أن يشارك في ذكرى البائس (عقلي) بعزف تعبيرات حزينة شجية.

كان مصباح البترول (الفانوس) يرسل أشعة متراقصة ضعيفة، ترتسم على الجدران في أشكال أشباح ميتة. ونظرا لشدة البرد، فقد التف أفراد العائلة حول نار الموقد، بينما كانت ريح الإعصار في الخارج تعزف باستمرار (اللحن الحزين). وهيمن الصمت الجنائزي على الجميع. لم تكن بهم حاجة للحديث، إذ كان كل واحد منهم يعرف ما يفكر به الآخرون. وتركز المنزل جميعه، وبمن

ص: 113

فيه على ذكرى الراحل الذي لا زال قبره رطبا نديا، وجاءت الأمطار الآن لترويه. ولعل روح (عقلي) كانت ترفرف في تلك اللحظة فوق المنزل المهتز، وخرق (سليمان) جدار الصمت، وهو يقول بلهجة حازمة:(أبتاه! أريد أن أخرج أنا أيضا).

كان الأب يعرف يقينا ما تعنيه كلمة (الخروج). ولكن، وعلى الرغم من ذلك، فقد جاءت هذه الجملة بمثابة ضربة مباغتة أذهلته، ونظر في وجه ابنه مستوضحا متسائلا، ولم يتركه (سليمان) في حيرته، فعاد يلفظ كلماته بلهجة أكثر تصميما، وأكثر ثباتا، وهو يقول:(نعم! سأخرج لألتحق بالثوار - الماكي -).

كانت الأم منطوية على ذاتها وهي أقرب ما تكون إلى الموقد، فانتفضت من غفوتها، وكأن صاعقة نزلت على رأسها لدى سماع الكلمات التي لفظها ابنها (الثوار - الماكي). فهل أراد لها الله أن تفجع بإبنها هذا أيضا، والذي سيلقى ذات المصير الذي نزل بإبنها الآخر؟ لا! إنها لن تسمح بأن يأخذوا منها هذا! كلا، إنها لن تسمح له بالخروج. هل يجب عليها أن تجاهد وحدها ضد هذا العالم؟ غير أن هذا الهيجان لم يلبث أن تلاشى بغتة - كما ظهر -. فلماذا تعترض سبيل ابنها وتمنعه من الخروج؟ قد يكون الخطر الذي يتهدد القرية، ويجتاحها باستمرار، أكبر من ذلك الخطر الذي يتعرض له الثوار. وعند هذه الفكرة، تركت رأسها يسقط بين يديها، وعادت إلى غفوتها، وما لبثت أن راحت في نوم عميق. وتبعها ابنها (سليمان) الذي ما لبث طويلا حتى راح غارقا في نوم عميق. غير أن حلما مفزعا هز كيانه:(لقد رأى فيما يراه النائم، بأنه يسير في غابة كبيرة - إنها الغابة التي عرفها جيدا منذ أيام مراهقته - يرعى فيها الماعز، عندما ظهر له أخوه (عقلي) بغتة وهو يقترب

ص: 114

منه، بوجه أصفر، وبصدر تنزف منه الدماء. ورأى (سليمان) بأنه أسرع إلى إخيه يسأله عما به بإلحاح. غير أن هذا لم ينظر إليه، وبقي صامتا كعادته، وهو ينظر إلى الأفق البعيد. واحتفظ بصمته متجاهلا إلحاح أخيه وتوسلاته. وبغتة حرك شفتيه لينطق بكلمة، غير أنه لم يقلها، وترك جسده يتهاوى على قدمي أخيه (سليمان). وعند هذه النهاية، استيقظ سليمان من نومه، وقفز من مضجعه) نظر (سليمان) فيما حوله، فرأى أن مصباح البترول (الفانوس) لا يزال يرسل أشعته ورأى على ضوء المصباح أن أباه هو الوحيد الذي لا زال يقاوم النعاس، فقال لابنه بصوته الجبلي الخشن وهو يراه ينهض مذعورا:(هل انتابك هاجس؟ كابوس؟).

تردد (سليمان) قليلا قبل أن يجيب، ثم قال بصوت متعب - كلا -! غير أن صوته اكتسب بغتة لهجة التصميم والحزم. وهو يقول: سأخرج. ثم تابع حديثه، من غير أن يتوقف لسماع كلمات والده، فقال:

(من المحال الاستمرار في مثل هذه الحياة: احتقار في النهار، وخجل في الليل، وتوقع الموت في كل دقيقة، والوقوف موقف العجز ونحن نرى جند الافرنسيين ينتزعون منا زوجاتنا وأخواتنا. ما هذا العيش كأنصاف الرجال؟ وما هذه الحياة التي سيزهقها الافرنسيون إن عاجلا أو آجلا. يجب أن يعيش الانسان حياة السجن حتى يعرف قدر ما يعانيه شعبنا من صنوف الاذلال والاهانات والتحقير والحرمان والضرب والتعذيب والتشويه. هناك، عندما يطلب المرء أن يشرب، يضعون رأسه في طبق يطفح بالبولة

تعذيب .. وتشويه وحشي.

ص: 115

لقد تعرفت في بداية فترة اعتقالي على شاب صغير، يفيض رجولة وشجاعة، شعره كستنائي، لا تفارق الابتسامة العذبة وجهه بالرغم من كل ما كان يتعرض له من آلام التعذيب. وفي يوم، أخذه الافرنسيون، وأشبعوه ضربا طوال فترة الصباح، وليس بإمكان أحد أن يعرف كيف تحول هذا الشاب الوديع إلى إنسان شرير يكره العالم كله اعتبارا من تلك اللحظة

وعاد الافرنسيون فأخذوه مرة أخرى بعد أسبوع لتعذيبه من جديد، واقتلعوا في هذه المرة إحدى عينيه، وقطعوا له نصف أذنه. وفي الغد سمعناه يضحك ويغني وهو في زنزانته بصوت فقد كل الصفات الانسانية. لقد جن المسكين وفقد عقله. وهناك المئات، والآلاف، من أبناء الجزائر الذين يتعرضون لهذا المصير ذاته.

وفي السنة الماضية أراد رجلان - كنت قد تعرفت عليهما -الهرب من السجن، فعملا على حفر دهليز - نفق - من زنزانتهما، واستمرا في الحفر طويلا خلال الليل، أما في النهار فكانا يضعان التراب الذي يستخرجانه تحت الدف الخشبي الذي يستخدمانه فراشا لهما، ويموهان الفتحة بغطاء أيضا. وفي يوم، ظنا أنهما قد أوغلا في الحفر إلى درجة كافية. فدخلا الدهليز - النفق - الذي كان ينتهي لسوء الحظ بفتحة ضيقة (بالوعة). وظن الجميع أنهما تمكنا من الهرب. ولكن لم تمض سوى أيام قليلة، حتى انتشرت في السجن رائحة نتنة لا يمكن احتمالها. وأسرع حرس السجن لتوسيع الدهليز الذي حفره الرجلان بأيديهما، حتى إذا ما وصلوا إليهما، وجدوهما مختنقين، وقد أخذت جثتاهما بالتفسخ والتعفن

).

توقف (سليمان) عن متابعة حديثه، وارتجف صوته، وانحدرت دموعه سخية على وجنتيه. ولم يعرف والده بماذا يحدثه،

ص: 116

وقد بلغ منه التأثر غايته. وحرك فكيه كما لو كان يرغب في الحديث، غير أن الكلمات خانته، وأخيرا تمكن من النطق فقال لابنه:(أرى بأن أفضل ما يمكن عمله الآن هو أن تحاول العودة للنوم. إن ضوء الفجر سيبزغ عما قريب، وعليك أن تستريح).

تمدد (سليمان) على الأرض، بعد أن التحف الغطاء. وعاوده الحلم المزعج من جديد. غير أنه رأى نفسه في هذه المرة وهو في السجن، وفي موقف لم يتمكن من فهمه. لقد رأى نفسه وقد خان

إخوانه المعتقلين المجاهدين، وارتبط بالافرنسيين الذين قذفوا به في زنزانة مظلمة، بالرغم من خيانته لقومه. وانصرف عنه إخوانه المعتقلون وهم يشيرون إليه بايماءات الاحتقار، ويتوعدونه بالانتقام. أو ينظرون إليه بعيون غاضبة ملؤها التهديد. ووقع (سليمان) تحت هاجس الرعب، فحاول أن يشرح لهم الذرائع التي دفعته لاتخاذ موقفه. ولكن ما من أحد حاول الاستماع إليه، أو الاهتمام بذرائعه. فاقترب عندها، في ذلة، وعلى مهل من الشاب المجنون - والذي قص حكايته قبل قليل على والده - ووضع يده على كتفه في محاولة للتقرب منه والتحبب إليه. يا لحسن الحظ، لقد وجد أخيرا من يسمعه أو ربما يفهمه. وشرع في الاستعداد للتحدث إليه. غير أنه استيقظ من حلمه - في هذه اللحظة - على صياح ديك من المنزل المجاور. لقد طلع النهار، وتسللت إلى الكوخ بعض أشعة الشمس التي بددت ظلمته. كان أفراد العائلة قد استيقظوا جميعا. وكانوا يتحركون بصمت في محاولة منهم لعدم إيقاظ (سليمان) وتركه نائما حتى يستريح من عناء ما بذله من الجهد في اليوم السابق

غير أن صياح الديك أفسد كل شيء، وشرب (سليمان) قدحا من القهوة، وخرج إلى القرية، وكانت الأمطار

ص: 117

التي استمرت في تدفقها طوال الليل، قد توقفت الآن. وجاءت أشعة الشمس الضعيفة لتغمر ذرى الجبال.

لم يصادف (سليمان) خلال جولته في القرية إلا ثلاثة من الشبان، وقلة من الكهول يظهر أنهم هربوا بدورهم من الحياة، فلجأوا إلى فناء الجامع (صحن المسجد) يعتصمون به. أما بقية الشبان، فكانوا إما قد أصبحوا مجاهدين في صفوف الثوار، أو قتلوا برصاص الافرنسيين: المنازل مدمرة مهدمة، ومجموعة من الأطفال البؤساء يتعثرون بين الأنقاض، ليؤكدوا أنه لا زال للحياة وجود على أرض هذه القرية. وعاد لسليمان شعوره بالعجز، هذا العجز الذي لازمه مرة وهو في السجن، ويلازمه الآن مرة أخرى وهو إلى جوار والديه وأخته. ومضى صامتا على طريق العودة إلى منزله. ومرت ساعات النهار. ونام (سليمان) بعد أن تناول طعام العشاء المتواضع.

استيقظ (سليمان) من نومه في منتصف الليل، وهو يشعر بإرهماق مزعج. لقد كانت قطرات العرق البارد تتصبب غزيرة من جبهته، وارتجف كما لو كان مصابا بالحمى غير أنه لم يلبث طويلا، حتى عاد واستغرق في نوم عميق. وعندما أفاق، كانت الظلمة المحيطة بالمنزل قد تبددت. فرأى والده جالسا في مواجهته، وهو يتأمله بعينيه الكليلتين. فشعر (سليمان) بالضيق لقد كان يفضل مغادرة المنزل، من غير أن يراه أحد. وها هو والده يقترب منه، ويمسك بيديه وهو يقول له:

(إذن! فقد اتخذت قرارك! وهل ستخرج اليوم؟).

وسيطرت على (سليمان) رغبة مباغتة للبكاء، فانحنى على

ص: 118

رأس أبيه، غير أنه عاد فتجلد فورا، وتحامل على نفسه: إنها ليست اللحظة المناسبة للانفعال وتفجر العاطفة. ووقف، وبقفزة واحدة وصل إلى الباب. كانت الأم لا تزال نائمة، ولم تشعر بخروج إبنها. أفاد (سليمان) من بقايا عتمة الفجر لاجتياز سياج الأسلاك الشائكة الذي أقامه الافرنسيون لتطويق القرية وعزلها. وما هي إلا فترة قصيرة حتى كان في الغابة. وكان وصوله إليها، ووجوده فيها، كافيان لإثارة كل مشاعر البهجة في نفسه.

ثارت في نفس (سليمان) مجموعة من العواطف والانفعالات التي لا يمكن وصفها. وانتابته موجة من الحماسة الدافقة، فأخذت دقات قلبه في التسارع. وتوقف عن السير حتى يفسح لأفكاره الفرصة للانطلاق، فكانت كل حركة في هذا الصمت الرائع كافية لإفساد خلوته مع نفسه، وقطع تسلسل أفكاره. إنه يشعر بقوة جديدة تهز كيانه، قوة كلها رغبة في العمل. إنه يدرك تماما بأنه أصبح رجلا. وها هي نظراته التي يمتزج فيها الغضب والتحدي بالتقزز والنفور، وهي تتجه إلى الثكنة العسكرية التي لا زالت نائمة. وفي وسطها الظلام الحالك.

كان شعوره بالفرحة يتعاظم بصورة نسبية مع تعاظم أفكاره، حتى بلغت البهجة درجة من القوة بات من الصعب عليه البقاء ساكنا، فانطلق يثير الصخب في الغابة الصامتة، يركض تارة، ويتمهل في مشيه مرة أخرى، ويرسل صوته عاليا ليستمع إلى صداه. لقد شعر أنه يستمتع بحريته إلى أبعد الحدود. وملأ رئتيه بهواء الجبال النقي المنعش، فالهواء هنا يعبق بشذي (الراتنج) ورائحة الشجيرات دائمة الخضرة. ومر في خاطره طيف سجن (تيزي - أوزو) كومضة البرق. فأغمض جفنيه، وأخفى عينيه، وكأنهما تعبتا

ص: 119

من مجرد الذكرى التي جاءت لتفسد عليه متعة الحرية. وانتابه دوار في رأسه، فتركه يستند إلى يديه. واستراح قليلا. وعندما نهض من جديد، كانت نظراته تحمل بريقا جديدا، وشعر بتيار الحياة يحيط به، ويحمله إلى آفاق لا نهاية لها. إنها آفاق تعبق بكل شذى الغابة.

فهنا الحرية، وهنا الانتقام.

الانتقام لأخيه، والانتقام للمعتقلين في سجن (تيزي - أوزو). وارتفعت الشمس فوق ذرى الجبال الشماء، مرسلة الدفء إلى الأرض، وهي تسبح في زرقة السماء الصافية.

هنا، الشمس، والنور، والحياة.

لقد تبدد (ضباب الفجر) ووصل إلى نهايته.

لم يستمتع (سليمان) بهذه الحرية أكثر من يوم واحد، ففي اليوم التالي شعر برصاصات تمزق صدره آثناء أول اشتباك له مع العدو.

وحمله الافرنسيون إلى القرية، ووضعوه في فناء المسجد - الجامع - وقد أحاطت بجثته غلالة أرجوانية قانية تحميه من الخضوع للأعداء. وتكفيه مؤونة الانتقام القريب. وهناك، في جوف كوخ حمل تجاوزا اسم - منزل - انطلقت صرخة حادة طويلة، إنها صرخة انطلقت من قلب خرج عن موضعه وقد انغرست فيه الأظافر. لقد كان ذلك القلب هو قلب امرأة، أم، أصابها الجنون.

ص: 120