المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المهمة الأولى - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١١

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول

- ‌ قصة الثورة الجزائرية

- ‌أ - المخاض العسير

- ‌ب - البداية الشاقة:

- ‌ج - التوازن الاستراتيجي (1956 - 1960)

- ‌د - من التوازن إلى الهجوم الاستراتيجي:

- ‌ لاكوست - والثورة المضادة للثورة

- ‌ شاب - على خطى (نافار)

- ‌ ذريعة (أوروبيي) الجزائر

- ‌آ - الأقليات الأوروية في الجزائر:

- ‌ب - رسالة من جبهة التحرير الوطني إلى الفرنسيين:

- ‌ج - رسالة جبهة التحرير الوطني إلى اليهود:

- ‌ ثورة الجزائر تنتقل إلى فرنسا

- ‌أ - تقرير الصحافة عن الحرب في فرنسا:

- ‌ب - قصة المعركة في كتابة الثوار

- ‌ مع المجاهدين في معاقلهم

- ‌ مع قائد من المجاهدين

- ‌الفصل الثاني

- ‌ ولادة سرية ومصرعها

- ‌ ضباب الفجر

- ‌ المهمة الأولى

- ‌ معارك (تيفرين) في (جبل منصور)

- ‌ معركة جبل (منور)

- ‌ المقاومة في (بوهندس)

- ‌ معركة (الأوراس)

- ‌ معركة في الجنوب

- ‌ إعدام (فروجي)

- ‌قراءات

- ‌ الاضراب التاريخي للطلاب

- ‌ تعليمات وأوامر إدارية

- ‌ بيان الحكومة المؤقتة للجمهوريةالجزائرية إلى الشعب الجزائري

- ‌ أمر يومي من قيادة الأركان العامة

- ‌(محتوى الكتاب)

الفصل: ‌ المهمة الأولى

3 -

‌ المهمة الأولى

(*)

تقع قرية (بورقيقة) الصغيرة على بعد (90) كيلو مترا من العاصمة (الجزائر) وإلى الغرب منها. وكان يعيش فيها (في شهر شباط - فبراير - سنة 1958) مواطنوها الذين كان من بينهم أربعة شبان تتراوح أعمارهم بين السابعة عشرة، والثلاثين عاما وكان هؤلاء - شأنهم شأن بقية سكان القرى - يعملون في زراعة الحقول وتربية المواشي. وكان يظهر للوهلة الأولى، أن الحياة في هذه القرية هادئة، وخالية من كل إثارة، باستثناء ما كان يحدث بين فترة وأخرى من مرور عربات نقل الجند الكبيرة للقوات الافرنسية، وهي تتسلق الدروب الضيقة، والممرات الملتوية المتعرجة، في طريقها إلى الجبال المجاورة: هذا في النهار، أما في الليل، فكان الصراخ والعويل هو مما يعكر صفو سكونه ويمزق هدوءه.

وفي الحقيقة، فقد كانت صرخات النساء وصيحاتهن تتردد في

(*) الموضوع بقلم الكاتب الجزائري (مروان شايب) وهو مدرس في (بليد). يتعرض هنا لقصة الانضمام إلى صفوف الثورة، وأسلوب العمل تحت عنوان (الشرط: LA CONDITION) والمرجع:

RECITS DE FEU(SNED)S N . ELMOUDJAHED .ALGER .1977 . P P . 64 - 69.

ص: 121

كل ليلة. وهي تنطلق من الدواوير (النواحي) المجاورة والقريبة.

وفي الصباح المبكر، تسير الهمسات والوشوشات من بيت إلى بيت لتنقل ما حدث: فهنا تم اعتقال (قدور) عند منتصف الليل، وهناك، تعرض (صلاح) للضرب والتعذيب، أمام زوجته الباكية وأطفاله المنتحبين، ثم اعتقلوه. وفي وسط هذا المناخ، قرر الشبان الأربعة الانضمام إلى المجاهدين، والسير على طريق الثورة. فهل كان حب المغامرة الذي يلازم هذه المرحلة من عمر الشباب هو الحافز الأقوى الذي دفعهم لاتخاذ قرارهم؟ أم هو حب الحرية والتعطش إليها كان حافزهم الأقوى؟

لقد كان الفلاحون في حقولهم يتهامسون بصوت خافت عن إمكانية الاتصال بالمجاهدين الذين ينتشرون في الجبال القريبة جدا. وعلى هذا تم تكليف (أحمد بوفان) بإجراء الاتصال مع الثوار، إذ كان يقطن في دوار منعزل، وكان عمه من مجاهدي جيش التحرير الوطني.

انتظر الشبان الأربعة طوال عشرة أيام، وكانت فترة انتظارهم كئيبة ومديدة. وأخيرا، أقبل اليوم العظيم، فقد أعلمهم (بوفان) أنه تم تحديد مكان الالتقاء - عند النهر الذي كان يحمل اسم، جيرمين -. واستعد الشبان الأربعة لهذا اللقاء، وهم حمدي - أكبرهم سنا، وأحمد مصراوي، وتومي، وأنا - مروان شايب -. وعلمنا أن اللقاء سيتم مع الموجه السياسي (سي جلالي) الذي كان سيقابلنا في كرم زيتون (سيدي بودروه) وذلك في الساعة (2300) تقريبا.

لقد جاء خبر اللقاء ليترك الشبان الأربعة في حالة من الدهشة والذهول، إذ أنهم سيتعرفون على واحد من هؤلاء المجاهدين

ص: 122

الأسطوريين، وسيكون باستطاعتهم التحدث إليه، ومصافحته، إنه شيء لا يكاد يصدق.

ولما كان الموعد في اليوم الثالث من رمضان، فقد تساءل الشبان عما يجب عليهم عمله: الاستمرار في الصيام أم الإفطار؟ غير أنه ما من أحد منهم تجرأ على اتخاذ القرار بانتهاك حرمة الشهر الفضيل. وأخيرا طرق الموضوع أكبرهم سنا (حمدي) وقال لهم: (تعرفون يا إخوتي أن الطريق شاق وطويل، وستكون مثقلين بما نحمله من المتاع، ولا بد لنا من الإفطار حتى نسد رمقنا بشيء من الطعام والماء). وعاد الجميع إلى منزل (حمدي) ودخلوه واحدا بعد الآخر، بفواصل زمنية، حتى لا يثير دخولهم انتباه أحد من الجوار. وكانت هناك مائدة في غرفة من الغرف، عليها الخبز والسردين وعلبة جبن. ونظر بعضهم إلى بعض بظرات الفزع قبل أن يفطروا. وعند أول لقمة شعر كل واحد منهم بغصة في حلقه، وتضخمت اللقمة حتى كادت تستعصي على البلع. وكانت عقارب الساعة تقترب من الخامسة مساء (1700) عندما استعد الشبان الأربعة للخروج. ففي هذه الساعة تقفر الشوارع من السابلة، وعتمة الغروب تكاد تكون مظلمة، وانطلق الشبان واحدا بعد الآخر - من المنزل -. وسلكوا طريق المدينة الذي سيصل بهم إلى الجبل الواقع على بعد سبعة كيلومترات تقريبا. ولدى مرورهم بأحد منازل المدينة، وصلتهم ضحكات عائلة جلس أفرادها إلى طاولة الطعام؛ وأثار ذلك في قلوبهم شيئا من المشاعر المتناقضة - إذ كان سكان منازل المدينة من الأوروبيين -.

باتت الظلمة قاتمة، وهناك، على البعد موعدنا، حيث كتلة الجبل القاتمة، والتي يقع على منحدرها كرم أشجار الزيتون

.

ص: 123

والتصق كل واحد منا بإخوانه، ونحن نتقدم بخطوات نشطة (والخوف يمسك بقلوبنا). ووصلنا إلى مكان الموعد - تحت الأشجار - وبوغتنا مباغتة لم نكن نتوقعها، فما من أحد ينتظر وصولنا! وكان لزاما أن (يكونوا) هنا. ولم نتمكن من إيجاد تفسير لهذا الحظ العاثر. وكان لا بد من اتخاذ قرار عاجل: ذلك أننا إذا بقينا هنا، فقد نقع في قبضة (الحركيين) الذين يقودهم (مراد) والذين اشتهروا في كل مكان بقوتهم ووحشيتهم. وسرعان ما تسلق كل واحد منا شجرة من الأشجار، ومكثنا ننتظر، ومرت نصف ساعة ونحن على ذلك، عندما ارتسم على خط الذرى، وبصورة مباغتة، هياكل متحركة تحمل بواريدها. وبلغ منا الخوف غايته فهل هؤلاء من المجاهدين الجنود أم هم من الحركيين - الأعداء -؟ وهل يجب أن ننزل إليهم من مخابئنا، أم يجب البقاء على الأشجار؟ .. ماذا نفعل؟ وكان لا بد من اتخاذ قرار فوري. فقفزت من على غصن شجرتي. وطلبت إلى الآخرين بألا يتحركوا عن أماكنهم. واتجهت نحو تلك الهياكل، وتوقفت على بعد خمسين مترا منها، وصحت بصوت قوي:

- من أنتم؟

- تونس، وأنت؟

- القمر!

كانت تلك هي كلمات التعارف المتفق عليها. وقفز قلبي من موضعه. وسمع إخواني الكلمات المتبادلة، فقفزوا على الأرض، وأحيط بنا من كل جانب. وطلب إلينا الجنود المجاهدون إعطاءهم معلومات عن أهلهم وأصدقائهم، وتناقشنا، وضحكنا، وأكلنا الكعك. وأعطانا (سي جلالي) قنبلتين يدويتين ومسدسا. وكلفنا

ص: 124

بإلقاء قنبلة في (مقهى باريس) وهذه هي المهمة الأولى التي لا بد من تنفيذها - كاختبار - وذلك قبل الانضمام إلى قوات جيش التحرير الوطني.

رجعنا على طريق القرية، وكان المطر ينهمر كالسيل، فالتصقت ثيابنا بأجسادنا، وأخذت أقدامنا تغوص في الوحل. وكان الناس لا يزالون نياما. فالساعة لم تتجاوز بعد الرابعة صباحا. وخشيا أن تصادفنا دورية عسكرية افرنسية، فقررنا التوقف، بانتظار صعود شمس النهار، ولجأنا إلى شجرة زيتون كبيرة، نحتمي بها. وأخذ (تومي) على عاتقه القيام بالنوبة الأولى من الحراسة، فصعد إلى الشجرة، بينما جلسنا نحن الثلاثة عند أسفل جذعها. ننتظر موعدنا مع اليوم الجديد، وننظر إلى المطر المنهمر كالطوفان، والبرد يخترق أجسادنا بقوة. وفجأة انبعثت ضجة قوية، وهوى جسم ثقيل على أقدامنا. إنه جسم (تومي) الذي استسلم للنوم وهو على غصن الشجرة، فسقط على الأرض. ومن ذهول المباغتة، وانفجرنا ضاحكين، وأجسادنا تهتز لفرط انفعالنا، حتى أن (تومي) ذاته لم

يتمكن من منع نفسه عن مشاركتنا ضحكنا، بالرغم من سقطته الأليمة. وعلى كل حال، فقد أشرقت شمس النهار، وأمكن لنا الوصول إلى منزل (حمدي) بجهد كبير. فكان أول عمل هو قيام (حمدي) بإخفاء القنابل في مدخنة الموقد. وجاء يوم تنفيذ العملية (يوم - ي) وتقرر إلقاء القنبلة في لحظة الإفطار - أي مع أذان المغرب - ففي هذه اللحظة يقفر الشارع من المارة المسلمين. ولجأنا إلى القرعة حتى لا نختصم على تنفيذ العملية، فجاءت القرعة على (بوفان) لإلقاء القنبلة. وكان على (حمدي)

ص: 125

و (تومي) تأمين الحماية له. أما أنا، فقد تم تكليفي بالبقاء على مقربة من المكان لمراقبة ما يحدث، ورصد ردود الفعل، والحصول على بعض المواد التموينية، والالتحاق في اليوم التالي بالدوار الماكي -.

وضع (بوفان) على رأسه قبعة تخفي نصف وجهه (بيريه).

ووضع القنبلة اليدوية في جيبه، وأمضى طوال النهار وهو يسير جيئة وذهابا من أمام المقهى، حتى يدرس بصورة دقيقة طريقة تنفيذه لمهمته، وطريق انسحابه بعد ذلك. وفي الساعة (1700) تماما. سار بحزم نحو الباب الذي تحميه شبكة القضبان الحديدية، وانتزع مسمار الأمان من القنبلة، وقذف بها إلى الداخل، وبوغت من في المقهى مباغتة كاملة. وتدحرجت القنبلة حتى وصلت إلى أسفل طاولة لعب (البلياردو). الأمر الذي أنقذ رواد المقهى ودوى الانفجار قويا. وتطايرت الطاولة مزقا في الهواء، وأصيب الخباز - ابن راح - ببعض الجراح. وأفاد (بوفان) من فترة الرعب التي أحدثها الانفجار، فاندفع بسرعة نحو الساحة، حيث كان ينتظره (حمدي) وهو يحمل مسدسه (الموزر). وجرت الأمور كما هو مخطط لها، وكما كان متوقعا فقد اندفع العسكريون الافرنسيون في اتجاه الآثار الخداعية، وأخذوا في اعتقال الأشخاص ممن قادهم حظهم العاثر للوقوع في قبضة رجال الجيش! وبقيت أنا وحدي في القرية؛ أستمع إلى الناس وهم يتناقلون الخبر - خبر الانفجار - بسرعة كسرعة البرق، وأصيب المستوطنون الافرسيون بالذعر، فدفعوا رجال الدرك (الجندرمة) للانتقام من العرب المسلمين، وذبحهم.

***

ص: 126

عندما رجعت إلى المنزل، وجدت أمام بابه سيارة عسكرية خفيفة (جيب). وتجمد الدم في عروقي. فكيف وصلوا إلى هنا؟

وتابعت طريقي، فاتجهت مباشرة إلى مزرعة (سوفتون) حيث يمكن لي القيام بالاتصالات. واختبأت في المزرعة لمدة ثلاثة أيام. ثم جاءت الليلة التالية، وارتفع فيها ضجيج عربات نقل الجند الكبيرة (الكميونات) فملأت الساحة؛ وانتشر رجال الدرك في كل مكان. وحاولت الهرب عبر غيضة من شجيرات الورد الشائكة، الأمر الذي أعاقني عن رؤية الرجل المتوقف هنا للحراسة، وقد أخذ هذا في مطاردتي، وأطلق رصاصة أخطأتني. غير أنني أصبت بالذعر، فلم أعد أعرف إلى أين أتجه، ولا أين أسير، وتم اعتقالي. ونقلت ليلا إلى ثكنة الدرك، وبدأ التحقيق على الفور. ولشد ما كانت دهشتي عندما أطلعني رقيب الدرك - المحقق - على ملف سجلت فيه كافة اجتماعاتنا ولقاءاتنا:(كل شيء - ما عدا شيئا واحدا لم يضمه الملف بالتأكيد، وهو - من الذي قام بتنفيذ عملية إلقاء القنبلة في المقهى؟ وما هو دوري فيها؟) ولما كنت أعرف بأن عقوبة - العدوان على الأماكن العامة - هي العقوبة القصوى، فقد قررت الالتزام بالصمت، مهما كلفني ذلك من مشاق. وأمسك إثنان من رجال الدرك بذراعي، وأثبتاهما خلف ظهري، ووجه الرقيب لكمة قوية بجمع يده إلى بطني، ثم استمر في توجيه ضرباته، وهو يقول لي (أقسم لك، أنك ستنتهي بالاعتراف بكل شيء!) ترى كم استمرت نوبة التعذيب هذه؟ إني لست أدري! غير أنني أذكر ما قاله لي في النهاية: (بما أنك مستمر في عنادك، فسنرسلك إلى مزرعة سانت جان)! وكانت مزرعة (سانت جان) تبعد مسافة عشرة كيلومترات عن (بورقيقة) وقد اشتهرت بغرفها المجهزة للتعذيب،

ص: 127

وما تحتويه من وسائل التشويه. وتوقفت سيارة خفيفة (جيب) مباغتة أمام مركز الدرك. وقفز رجل (حركي) من داخل السيارة، وفتح الباب، وقال:(أين هو هذا القذر - يا حضرة الرقيب -. لا تزعجوا أنفسكم بأمره، إننا سنحمله على الغناء!) واستدار هذا - الحركي - نحوي، ووجه إلى سيلا من السباب والشتائم - باللغة العربية.

قيدوني في العربة الخفيفة (الجيب) بالرغم من إحاطتي باثنين من رجال الدرك. ووصلنا إلى المزرعة مع هبوط ظلام الليل. فدفعوني إلى غرفة كان أول ما لاحظته فيها وجود بركة من الدم، وشعرت بشعر رأسي وهو ينتصب واقفا لهول هذا المنظر، لقد سبقني إذن موقوف آخر إلى هذه الغرفة! وأصدر إلي (الحركي) أمرا بخلع كل ثيابي. وتم تثبيت القيود والأغلال على رسغي يدي وقدمي، بالإضافة إلى سلسلة ضخمة كانت تصل بين القيود المثبتة على الجدار، فلم يعد باستطاعتي القيام بأي حركة، أما رأسي فترك معلقا على مسند يشبه (البالوعة) في أعلاها صنبور ماء.

وقال لي رقيب: (قد يكون من الأفضل لك، أن تقول لي من قذف القنبلة، قبل أن نبدأ عملنا!) وأجبته: (أنكم تخطئون بحقي يا حضرة الرقيب. إنني لم أكن مع الزمرة التي ذكرتم أنها ألقت القنبلة، ولا أعرف شيئا عن أمرها. كل ما أعرفه أن هناك قنبلة قد انفجرت) وقال الرقيب: (حسنا أيها القذر؛ سنرى صحة قولك خلال لحظة واحدة، هيا يا عمر!) وأقبل الحركي - عمر - فوضع كتلة من الخيش في فمي، وفتح الحنفية حتى آخرها، وتدفق الماء فملأ فمي، وحاولت التنفس، غير أنني لم أتمكن من ذلك، وانقضت ثوان قليلة عندما سمعت بصورة مشوشة الكلمات التالية:(من ألقى القنبلة؟). وبقيت صامتا. فتكررت عملية التعذيب

ص: 128

بالماء مرات متتالية، وإعادة السؤال ذاته، والتزام الصمت من جانبي باستمرار. ولما أدركوا أن هذه الوسيلة لن تصل بهم الى ما يريدون. قرروا تغيير الأسلوب. وقال لي الرقيب:(قف أيها الخنزير، ستذوق الآن طعم الحلوى التي سنقدمها لك!).

وكان صوت الرقب يصلني وأنا في شبه إغماءة، إذ كان بطني المنتفخ بالماء يؤلمني، وكانت لدي رغبة بالتقيؤ، غير أنني لم أتمكن من ذلك. وكان الماء ينضح من كل مسام جلدي. وتم تثبيت أطراف السلك الكهربائي على رسغي، وفي فتحتي أنفي، وانتابني ألم مرعب وأنا أتلقى الصدمة الأولى من الشحنة الكهربائية، وسالت دموعي غزيرة على غير إرادة مني

وكان لزاما علي الصمود قليلا في هذه اللحظة، وإلا فإنهم سيسمرون في تعذيبي طوال الليل؛ إنني أعرف طريقتهم؛ تعريض المشتبه به لصدمة عنيفة منذ اللحظات الأولى لتعذيبه حتى يتم تدميره: هكذا كان يقول لنا (سي جلالي) ويكررها على مسامعنا باستمرار. وقال لي الرقيب: - هل تعرف المغربي؟ ذلك الذي يعمل رئيسا للإمداد والتموين في (بورقيقة)؟

وتظاهرت أنني: لا أسمع شيئا، ولا أرى شيئا، ولا أشعر بشيء. وأمام عنادي، قذفوا بي أرضا، وقدماي ويداي مثبتة بالقيود، وأقبل الحركي ليلهب جسدي بسوطه وهو يقول في:(هل تعترف أم لا؟) ودخل جندي ومعه كلب ضخم (بول دوغ). وتحفز الكلب للقفز على ضحيته، ثم قفز علي عندما أعطيت له الشارة بذلك، وشعرت بعظام رسغي تنسحق تحت فكيه، وانتابني ألم جنوني، وسيطر علي الغضب لعجزي عن المقاومة، وحاولت الدفاع عن نفسي، غير أنني لم أتمكن من ذلك، وأمسكني أحد

ص: 129

رجال الدرك، وثبتني، حتى يتمكن الكلب من الهش في جسمي، بكامل حريته، ومن غير إزعاج. واستمرت اللعبة الجهنمية بوحشية تعجز الكلمات عن وصفها. وبدأ الدم يسيل من رسغي، ومن جراح قدمي حيث نهشني الكلب بأسنانه. ولم يعد يهمني شيء، وانتظرت الموت بفرحة كبيرة

وأخيرا، انتهت مرحلة تعذيبي لهذه الليلة، ووصلت آلامي إلى نهايتها. ورأى الرقيب بأن جلسة التعذيب قد استمرت من غير الوصول إلى النتيجة التي يرغبها. فأوقفني وقال لي:(ما عليك إلا الانتظار، غدا سنستأنف محادثتنا، وصدقني بأنك ستبوح بأسماء رفاقك الثوار - الفلاقة - واحدا بعد الآخر).

بذلت جهدا كبيرا حتى أستطيع البقاء واقفا على قدمي، ومضيت أسحب قدماي سحبا وأنا أسير عبر الساحة لأصل إلى زنزانتي. وبات باستطاعتي العيش مع آلامي بصمت، في وسط هذا السجن، ومع ظلمة الليل الحالكة. وقيدوني واقفا وأنا مثبت إلى الجدار. كان أنفي يؤلمني ألما لا يوصف، وكنت أشعر بعطش شديد، وإلى درجة لا تصدق، بالرغم من كل الماء الذي أرغموني على شربه وخلال اجتيازي للساحة. ناداني شاب اسمه (افرنسي) وقال لي:(خذ حذرك، لن نقفل عليك باب زنزانتك بالمفتاح، فلا تحاول الهرب، إذ أن رصاصنا سيصرعك على الفور).

أمضيت الليل واقفا، وأنا مقيد إلى حلق مثبت بالجدار. وكانت رسغاي المنتفختان تؤلماني أشد الألم وأقساه. ولشد ما كانت فرحتي عندما أقبل هذا العسكري ذاته في منتصف الليل، وعمل على فك قيودي، وإرخائها قليلا.

ص: 130

استأنف الجلادون تعذيبي في الصباح المبكر، ولكن بقسوة تزيد كثيرا على ما عرفته: الماء، والكهرباء، والجلد بالسياط. وحدث شيء لا يمكن تصديقه لقد رفض الكلب الضخم - البول - ذوغ - رفضا قاطعا الانقضاض علي، بالرغم من كل الجهود التي بذلها العسكريون لدفعه نحوي. ويظهر أنه عقد معاهدة صداقة مع الثوار - الفلاقة. وإلا فلماذا امتنع الكلب عن عضي والنهش بلحمي؟ سر غريب! كنت أشعر بالجوع والعطش: وأصدر عميل - حركي - الأمر إلي بالخروج لتناول الطعام في الساحة، حيث كان يتناول الكلب طعامه - وهو نوع من الحساء - في طبق عميق. وقال لي (بما أنك والكلب من عائلة واحدة، فما عليك إلا أن تشاركه طعامه!). ودفعني برفسة من قدمه أوقعتني أرضا. ومددت يدي نحو الطبق، ونبح الكلب نباحا يصم الآذان، ففزعت وسحبت يدي بسرعة.

وعاد الحركي يقول: (أتأكل أم لا؟) وعدت قبسطت يدي المرتجفة من الخوف. وفي هذه المرة، انقضى الكلب الضخم - البول دوغ - فأمسك رصغي بين فكيه، وحاولت استخدام كل قوتي لانتزاع يدي والتخلص منه. وسال الدم غزيرا على يدي. وانفجرت ضحكات الجند من ورائي. ويظهر أن منظري كان كافيا للترفيه عنهم وتسليتهم - فأعادوني إلى زنزانتي - وبقيت في هذا الجحيم طوال ثلاثة عشر يوما. وجاء رقيب الدرك الذي استقبلني في بداية الأمر، فحملني في عربة خفيفة (جيب) إلى معسكر (شينو) في (بليده). وهناك، وجدت بقية الأخوة، وهم على حال مثل حالي.

أطلق الافرنسيون سراحنا في شهر كانون الأول - ديسمبر -

ص: 131

1960.

وفرضوا علينا الذهاب في كل يوم إلى (ثكنة الدرك) من أجل التوقيع على (سجل الحضور).

أمكن لي إعادة الاتصال مع (سي جلالي). واستطعت بعد شهر واحد الانضمام إلى قوة جيش التحرير الوطني في الولاية الرابعة وقد التقيت هناك - كما كنت أتوقع - الإخوة (تومي) و (أحمد بوفان). أما (حمدي) فكان قد استشهد على ساحة الشرف. واستمر الصراع.

ص: 132