الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 -
مع المجاهدين في معاقلهم
(*)
مضت سنوات الخوف على الثورة، وأصبحت القواعد المحررة حصونا منيعة للثوار، تجتذب إليها الباحثين ورجال الصحافة والأحرار من كل العالم. لقد أذهلت (فصائل الثوار الجزائريين) كل المفكرين والأحرار - لا سيما في العالم العربي - الاسلامي، وكانت بطولات ثوار الأوراس والقبائل مصدرا لإطلاق كل الخيالات الفروسية التي اندثرت منذ القرون الوسطى، أي منذ تراجع نفوذ المسلمين وتغلبت عليه (الحضارة الغربية) ثم جاءت الثورة العملاقة لتبعث فضائل الفروسية من مرقدها. وأقبلت وفود الباحثين والفضوليين وهي تحاول استطلاع أبعاد هذه الظاهرة المثيرة. وقد يكون من الصعب حصر كافة التحقيقات والأبحاث التي تعرضت لمختلف الجوانب التي حفلت بها حياة الثورة. وقد يكون من المناسب هنا التعرض لواحد منها، وفقا لما أورده مراسل عسكري عربي:
(*) المرجع: صحيفة (المنار) الدمشقية. العدد (1839) ص 8 - صباح السبت 16 رمضان - 1377 م المصادف 5 نيسان (أبريل) 1958 وكذلك العدد (1840) ص 4 - صباح الاثنين 18 رمضان 1377 هـ - المصادف 7 نيسان (ابريل) 1958
.
لقد شهدت محاكمة الأسرى الفرنسيين الأربعة، وحصلت على خطابات بخط يدهم. رأيت المعاملة الكريمة التي عاملهم بها جيش التحرير في الوقت الذي تعذب فيه فرنسا المجاهدين الجزائريين وتشردهم. إنه درس في الإنسانية من أبطال جيش التحرير، درس في الأخلاق والشرف لفرنسا وللعالم الغربي الاستعماري، في الوقت الذي كان فيه زبانية فرنسا يحطمون أضلاع المجاهدة (جميلة) وأخواتها، وفي هذا الوقت، حيث يتساقط عدد من جنود فرنسا بين يدي الأبطال الجزائريين. فما الذي حدث للأسرى الفرنسيين في أيدي جيش التحرير؟ والذين اعتبرناهم أسرى مع أنهم قتلة في مذبحة، وسفاحون بلا شرف؟ أبدلوا ثيابهم الممزقة بثياب جديدة، وكانوا يرتجفون - كالفئران المذعورة، لشعورهم بأشباح ضحاياهم الجزائريين تحيط بهم. لم يصدق الأسرى الفرنسيون ما تراه عيونهم، وهم يجدون مقاعد لجلوسهم في مكان ما من الجزائر. لم يحطم أحد ضلوعهم، ولم يبصق أحد في وجوههم، ولم يفقأ أحد عيونهم، ولم يكوهم أحد بالنار، ولم يقتلع أحد أظافرهم. كل الذي حدث هو أنهم قوبلوا بإنسانية. وقدم لهم
الطعام والكاء، وحوكموا في محكمة عسكرية جزائرية منظمة. وأكثر من هذا إن ضابطا جزائريا من أعضاء المحكمة شاهد أحد الأسرى أمامه وهو يرتجف من البرد، فنهض من مكانه، وخلع معطفه، وذهب بنفسه إلى الأسير الفرنسي وألبسه إياه. هل شهد أحد مثل هذه الإنسانية؟ ومع من؟ مع الفرنسيين الذين ينتهكون كل المحرمات، ولا يتورعون عن تعذيب النساء والشيوخ والأطفال.
واستمرت المحاكمة.
القضاة من ضباط جيش التحرير الوطني الجزائري، وأمامهم
جلس أربعة من الأسرى الفرنسيين، والتهمة الموجهة إليهم هي قتل الأبرياء من أهل الجزائر، واستخدام أساليب وحشية في تعذيب المواطنين الجزائريين، وتدمير البيوت وسفك الدماء بلا سبب ولا دافع إلا التنكيل والارهاب. وقبل أن تبدأ المحاكمة، سأل الضابط الجزائري الذي يرأس المحكمة، الأسرى عن طلباتهم، فطلب بعضهم قهوة، وبعضهم لفافات تبغ (سكائر). فأجيبت طلباتهم فورا وأمر الضابط الجزائري بتغيير ثيابهم الممزقة بثياب جديدة من ملابس جيش التحرير الوطني، وكان حذاء أحد الأسرى الفرنسيين باليا بشكل واضح، فأعطوه بدلا منه حذاء جديدا. وأكثر من هذا، ففي أثناء الطريق، لم يقو (جاكوب) وهو أحد الأسرى الأربعة على السير في الطريق الصاعد إلى واحد من الجبال المرتفعة، فساعده جنديان من جيش التحرير حتى كادا أن يحملاه حملا لمعاونته.
أقبل الرائد - الكومندان - (سي موسى) على الأسرى الأربعة يسألهم عن نوع الطعام الذي يفضلونه، فردوا عليه في صوت واحد، وهم لا يصدقون أنفسهم:(أي شيء تسمحون به!). وعاد بعض المجاهدين من جيش التحرير وهم يحملون معهم (خبز - عيش - فينو، ولحم مقلي، وجبنة نستله، وبرتقال) فاختطفها الأسرى، وجلسوا يأكلون بشراهة، وينظر بعضهم إلى بعض، وإلى الطعام، وإلى المجاهدين المحيطين بهم، وهم لا يصدقون أنهم أحياء، وأن هذه المعاملة قد صدرت عن الجزائريين الذين تسومهم فرنسا سوء العذاب. وبعد أن انتهى الأسرى من طعامهم، ودخنوا لفافات التبغ (السكائر) التي قدمت لهم، دعوا إلى فناء واسع، وضعت في وسطه طاولة، وحولها كراسي لأعضاء المحكمة العسكرية ولهم. وبوغت الأسرى الفرنسيون بدعوة قائد المعسكر
لهم بالجلوس. وكانت مباغتتهم أكبر، عندما أخذ رئيس المحكمة يوجه إليهم الأسئلة بطريقة مؤدبة، وبكلمات مهذبة غير نابية، وكانت إجاباتهم تسجل كما هي - بدقة وأمانة وأمام عيونهم.
كان الأسرى طوال الوقت يتبادلون النظرات المتسائلة عن هذه المعاملة الإنسانية، حتى أن واحدا منهم سأل رئيس المحكمة: هل ستتركونا أحياء ولن تقتلونا؟ فرد الضابط الجزائري: (إن ذبح الأسرى وتعذيبهم وتشويه أجسادهم مهمة نتنازل عنها لجيش فرنسا!) فرد عليه أحد الأسرى: (لقد أفهمونا في الجيش الفرنسي أن أي أسير يقع في أيدي الجزائريين سيذبح فورا).
وبعد انتهاء التحقيق تحدث الأسرى:
* - قال الأسير (فيالاروف - جان) في ألم والدموع تملأ عينيه (أتمنى أن تنتهي الحرب في أقرب فرصة. فأنا متزوج ولي طفل صغير وأم عجوز. وقد مضت ثلاث سنوات لم أزهم خلالها إلا مرة واحدة).
* - واعترف الأسير (مورالي فالو) بأنه لم يصدق أنه سيعيش، لأن الحصار كان من كل جانب، وكان الهجوم عنيفا، والنيران مركزة ودقيقة التصويب. ورأى قائده وزملاءه وهم يتساقطون من حوله، والنار تحيط به من كل جانب، فلم يشعر إلا ويداه مرفوعتان في الهواء - إشارة التسليم - وكان مما قاله:(عندما أسرت، كان طيف خطيبتي التي عاهدتها على الزواج منذ عامين، يلوح، أمامي، لقد اتفقنا على إتمام الزواج في أول إجازة أعود فيها إلى بلادي ..).
* - أما الأسير (ريليا - هني) فقال: (أنا لم أسمع إلا صوت ضابط جزائري، وهو يأمرنا بالاستسلام، وشعرت بأنني لا أقوى
على مقاومة اللهجة الحازمة لهذا الصوت فألقيت سلاحي، واستسلمت).
* - وأبدى الأسير (جاكوب - جان) دهشته الشديدة من حسن المعاملة التي لقوها من مجاهدي جيش التحرير. وقال لقد خجلنا من أنفسنا ونحن الذين نسمي أنفسنا جيشا نظاميا، ومع هذا فلا نتورع عن تعذيب الأهالي، والتنكيل بهم. لقد علمنا الجزائريون بطريقة معاملتهم هذه، درسا كبيرا في الأخلاق.
…
ويرافق (المراسل العسكري العربي) وحدات جيش التحرير الوطني، فيقول:
شهدت بيوت الجزائريين وهي تنساب نسفا بالقنابل الفرنسية، وشهدت أرتال اللاجئين الجزائريين الذين طردوا من دورهم وأرضهم. شهدت الزوجة العجوز وطفلتها جالستين تبكيان في حزن وصمت إلى جوار جثة الزوج الذي قتله الفرنسيون أمامهما وتحت بصرهما. شهدت الأسرى الفرنسيين يقعون مذعورين في قبضة مجاهدي جيش التحرير شهدت الشعب يخوض معركة (تحرير ورأيت قوات العدوان وهي تندحر في حالة من الرعب، رغم ما يتوافر لها من دعم الدبابات والطائرات والقوات الضخمة
…
إنك إذا دخلت الجزائر مع قوات جيش التحرير، فلن تستخدم في تحركاتك إلا قدميك مهما كانت المسافة بعيدة، وستصعد عشرات الجبال وتهبط منها، وكل هذا طوال الليل حتى لا يكشف العدو مكان وجودك. ولن تستطيع أن تشعل لفافة تبغ واحدة (سيكارة) وإلا دفعت حياتك ثمنا لها. إن أعصاب الفرنسيين متوترة باستمرار، وهم: طلقون النار على أي محصدر للصوت أو الضوء ينم عن وجود حركة ما
…
بدأنا الرحلة من على الحدود، وانضممت إلى إحدى كتائب جيش التحرير، وارتديت ثيابهم العسكرية. ولم يمر الأمر بسهولة، ذلك أن ثلاثة من قادة كتائب جيش التحرير، رفضوا أن يسمحوا لأحد بالدخول معهم إلى قلب الجزائر، حرصا منهم على حياته - وتدخل القائد (سي عماره)، وأخيرا! وافق قائد إحدى الكتائب أن يصحبني معه، غير أنه حذرني بقوله: إن طريقنا خطر جدا، وسنمر بأخطر منطقة في الجزائر كلها إنها قد تكلفك حياتك وأجبته:(حياتي ليست أفضل من حياتك!).
بدأنا سيرنا في الساعة الخامسة مساء، حيث بدأت ظلمة الليل، وصعدنا جبالا، وهبطنا أودية، لم يحاول أحد خلال ذلك كله أن ينطق ولو بكلمة واحدة، أو يحدث صوتا، حتى انقضى معظم الليل، ونال منا التعب مبلغا لا يوصف حتى شعرنا بأننا فقدنا أقدامنا، وأن عظامنا تكاد تخرج عن مواضعها. وهنا صدر الأمر إلينا بالتوقف في غابة كثيفة، تأتي بعدها منطقة مكشوفة يتطلب السير فيها وقتا طويلا ولذا كان لا بد من إرجاء السير حتى أول الليلة التالية. كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية والنصف صباحا. وانتشر المجاهدون يفترشون الثرى ويلتحفون السماء، بالرغم من قسوة البرد وشدته. ولما كنا قد خضنا خلال مسيرنا عشرات السواقي والقنوات، وابتلت ثيابنا حتى نصف أجسامنا، فقد أخدت هذه الثياب في التجلد. وبدأت أرتجف من البرد، وخلعت حذائي لأفرغ ما به من الماء وأجففه، وباغتني أحد المجاهدين بقوله:(ماذا تصنع يا سيد؟ هل سيكون لديك متسع من الوقت للبس حذائك إذا فاجأنا العدو بالهجوم؟ لا تخلعه مهما كانت الأسباب!) وحذرني من القيام بأية حركة لأن معسكرات الإفرنسيين
تحيط بنا. قال هذا، وأسند ظهره إلى جذع شجرة، واحتضن بندقيته، وراح في إغفاءة عميقة. أما أنا، فقد جفاني النوم من شدة التوتر والبرد. وكان حولي مجاهدو جيش التحرير، وقد نام معظمهم، وحولهم الحراسة متنبهة يقظة. وعندما طلع الصباح، أخذ المجاهدون يستيقظون تباعا. وكان أول ما يفعله كل واحد منهم، هو أن يتفقد سلاحه، وينظفه، ثم يخفيه بين الأشجار. وتلفت حولي، فلم أجد إلا غابة كثيفة، وقد انتشر فيها مجاهدو جيش التحرير. ومضى وقت طويل، حضر بعده عدد من الجزائريين المقيمين في القرية القريبة منا، وهم يحملون (الكسرة) واللحوم والشاي الساخن.
كيف عرفوا بوجودنا؟ وكيف أمكن لهم التسلل إلى مركزنا وهم يحملون الطعام لإخوانهم المجاهدين؟ إن هذا يحدث في كل مكان من أرض الجزائر. أبطال جيش التحرير يجاهدون، والشعب الأعزل يضطلع بأعباء تأمين الإمداد والتموين، وإعداد المسكن والعلاج، وتحذير المجاهدين وإنذارهم من كل خطر يتهددهم، وتقديم المعلومات لهم عن قوات العدو، وعن الوحدات الصديقية إن وجدت.
قضينا النهار كله في الغابة، وقد تخللته فترات من التوجيه والتدريب وإعطاء بعض المعلومات، ونام البعض استعدادا لاستئناف الرحلة الشاقة في الليل. وقبل الغروب بقليل، حضرت بعض نساء القرية تتقدمهن سيدة عجوز قتل ابنها منذ سنتين في إحدى معارك جيش التحرير، وهن يحملن الطعام (من اللحم) وقبل أن يفرغ المجاهدون من طعامهم، تردد صوت الضابط المسؤول عن المجموعة، وهو يقول:
(أتقعد؟ أتقعد؟) وفي ثانية واحدة، انتظم المجاهدون صفا واحدا. وقال لهم الضابط:
(سنهاجم الليلة معسكر الهميس، وسندقه بالهاونات والمدافع الرشاشة).
كنت أعتقد أن هذا المعسكر قريب منا، ولكننا سرنا وسط الجبال أكثر من ساعتين. وتوقفنا عندما تقدم منا أحد جنود الاستطلاع - الكشافين - ليعلمنا بأنه لم يبق بيننا وبين المعسكر أكثر من مائتي متر. وصعدنا فوق ربوة مرتفعة، ونظر القائد (سي بن علالة) إلى الأفق، وأشار بيده إلى حيث ينبعث نور ضعيف، وقال:(هذا هو معسكر الهميس، إن أبطال جيش التحرير يعرفون كل شبر من أرض بلادهم، ويميزونه سواء بالليل أو النهار). واقتربنا بحذر من كل ناحية. وتمركزت مدافع الهاون في مرابض تم انتقاؤها بعناية ومهارة. ونصب المجاهدون مدافعهم الرشاشة، وانتشر الباقون خلف الصخور والأشجار. وران صمت رهيب.
لقد أحاط المجاهدون بالمعسكر الفرنسي إحاطة محكمة وفجأة، أضاءت السماء بطلقة إشارة حمراء اللون. وأعقبتها مباشرة انفجارات قنابل مدافع الهاون وأزيز آلاف الطلقات، وغمرت النيران معسكر الأعداء. ويظهر أن المباغتة كانت كاملة، فلم يصدر عن العدو أي رد فعل منظم، ولم يرتفع في المعسكر إلا صوت العويل والصراخ والصخب - واشتعلت النار في أركان المعسكر، ومضت فترة سبع دقائق، ولم يرد الفرنيسون بشيء، كما هي عادتهم التي بات يعرفها المجاهدون جيدا. كما باتوا يعرفون أن الفرنسيين المذعورين في الليل، ينتقمون لرعبهم وفزعهم من المدنيين العزل في النهار.
أمر القائد بعودة المهاجمين بسرعة، وحرك الجنود مدافعهم وصناديق ذخيرتهم الفارغة، وانسحبوا سالمين، لم يصب أحد منهم بأذى. لأن من عادة الفرنسيين ألا يحاربوا إلا في وضح النهار، وتحت حماية طائراتهم ودباباتهم.
تجمع المجاهدون، وأخذوا في اقتحام الغابة القريبة، ومضى ربع ساعة عندما أخذت المدفعية الفرنسية في ممارسة دورها، حيث أخذت في إطلاق قذائفها أكثر من نصف ساعة، على غير هدى، وفي كل اتجاه.
أقبل المراقبون في صباح اليوم التالي وهم يحملون للمجاهدين نتائج إغارتهم: تدمير مهجع نوم الجنود تدميرا كاملا. وتدمير جزء من مخزن التموين، وقتل (13) جنديا، وإصابة (18) جنديا آخرين بجراح مختلفة، نقلوا على أثرها إلى المستشفى المركزي.
لم يعد الارهاب يرعب الجزائريين الأحرار