الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 -
معارك (تيفرين) في (جبل منصور)
(*)
وصلنا إلى قرية (تيفرين) في الساعة (2200) - العاشرة ليلا - من يوم (23 - تشرين الأول - اكتوبر - 57 19). وكانت هذه القرية تضم في هذا اليوم كتيبة من كتائب جيش التحرير الوطني الجزائري بقيادة الرقيب (سالم). بالإضافة إلى عدد كبير من المفارز المستقلة والفارين من وجه السلطة الفرنسية والمسبلين. وكانت هناك قرية (بني وحدان) الواقعة على بعد ثلاثة كيلومترات إلى الشمال من (تيفرين) حيث كانت تتمركز فيها كتيبة ثانية من كتائب جيش التحرير الوطني بقيادة الرقيب (العباسي). كما كانت هناك قرية (حمدة) الواقعة على بعد كيلومترين إلى الجنوب - الغربي من (بني وحدان) والتي كانت بدورها تضم كتيبة من كتائب جيش التحرير الوطني. وكانت هذه القرى الثلاث تحتل مساحة جغرافية تبعد عشرين كيلومترا من (بني منصور) وإلى الشرق منها، وهي تبعد في الوقت ذاته مسافة (6) إلى (7) كيلومترات إلى الغرب من (علي ايفيل) المربطة
(*) للكاتب الجزائري (علي سراج) وهو مجاهد قديم، وممن اشتركوا في المعارك التي اشترك في تسجيل أحداثها - والمرجع:
RECITS DE FEU(SNED) S. N. EL MODJAHED، ALGER، 1977.
P. P. 81 - 92.
إداريا بمركز قيادة (بو جليل) في (ضهرة أقبو) من ولاية (بجاية).
كان المجاهدون رجالا اشتهروا بفضائلهم: إيمان ديني عميق، وحب للوطن لا حدود له، واستعداد دائم للتضحية، وشجاعة لا نظير لها، واحتقار للخطر، وإقدام على اقتحامه؛ ولعل الإسلام لم يعرف مثل هؤلاء الرجال منذ أيام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا ما اتفق عليه، وعرفه، كل من عاش مع المجاهدين خلال أيام حرب التحرير.
انفجرت بعض قنابل المدفعية في الساعة (2200) وقد تساقطت في مقبرة (تيفرين). وتطايرت في الهواء ثم تناثرت في كل مكان كميات من الحجارة، وجذور الأشجار، مختلطة بقطع من الهياكل البشرية. وقال الرقيب:(إنها قنابل مدفعية من عيار - 105 مم - تطلقها بطاريات العدو المتربصة في معسكر الاستعماريين في ثكنة (علي ايفيل).
توجهت إلى المسجد (الجامع) الواقع في وسط القرية، ومعي (عزوز) رفيق دراستي في السابق، والذي كان يكبرني ثلاثة أعوام، ويعمل مسبلا - نصيرا - لقوات جيش التحرير وقلت وأنا أخاطب (عزوز):(لقد طلب إلي الجرحى تزويدهم بالكتب، لإملاء وقت فراغهم، ذلك لأنهم يعانون كثيرا من الملل والضجر خلال إقامتهم في المستوصف) ووعدني (عزوز) بأن يقدم لي كل ما لديه من
الكتب والمجلات. وفجأة، عاد القصف المدفعي العنيف ليقطع علينا حديثنا، فقفزنا خارجا لنستوضح جلية الأمر. وتبين لنا بأنه ما من قذيفة سقطت على المنازل، وما من أحد أصيب بضرر أو أذى. وكل ما حدث هو سقوط حوالي أربعين قنبلة في المقبرة، حفرت قبور المقبرة حتى الأعماق، وقال لي (عزوز): (يظهر أن الدور قد جاء
في هذه الليلة على الأموات!) وأجبته: (لعل الأفرنسيين قد أرادوا أن يعرف الأموات بدورهم ما يحدث على سطح الأرض). وسألني (عزوز): (ماذا يعني هذا القصف في اعتقادك؟).
وأجبته: (لعله خطأ فى الرمي!).
- (هل تريد القول بأنهم اكتشفوا شيئا آخر، فوجهوا نيرانهم إليه؟).
- (في رأي - إنه من غير الطبيعي، ومن غير المحتمل، أن يوجه الافرنسيون قنابلهم إلى المقبرة).
- (هذا يعني بأن قواتهم ستأتي غدا لملاقاتنا) قالها (عزوز) بنبرات ثابتة تنم عن ثقته بصحة استنتاجه. وقلت له: (هيا بنا إلى الملجأ لمعرفة ما إذا كانت قد وصلتهم معلومات جديدة).
صادفتنا خلال انتقالنا من المسجد - الجامع - إلى الملجأ، وخلال عبور الشارع الرئيسي للقرية، مجموعة من دوريات المجاهدين المتتالية، وكنا في كل مرة نضطر لتبادل كلمات التعارف.
كان بيت (المجاهدين) يقع عند مدخل القرية. وهو عبارة عن دار ذات جدران حجرية مرتفعة قليلا، مع سقف خشبي يغطيه القرميد، ويعود بناؤه إلى أقدم من مائة سنة. وكانت هذه الدار تتشابه مع بقية دور القرية، والتي تشبه بدورها دور القرى الأخرى المنتشرة في هذا الإقليم. ولدى الوصول إلى أمام باب الدار، اعترضنا الخفير بقوله:(من تكونان؟).
وأجابه (عزوز): الإسلام. ورد عليه الخفير: ديني.
كانت كلمات التعارف لهذه الليلة هي: (الإسلام - ديني).
عندما دخلنا الدار، وجدنا أن المجاهدين كانوا على وشك الخروج إلى جهة ما. وصافحت العريفين (إسماعيل) و (محمد
عرب) اللذين كنت أعرفهما معرفة جيدة، وقلت للعريف، (إسماعيل):
- (كنت أعتقد بأنكم ستقضون الليل معنا). وأجابني (إسماعيل) بقوله:
- (تعرف بأن البقاء أو الخروج في ظروف الحرب التي نعيشها غير مرتبط برغبتنا، وإنما هو مرتبط بالظروف - ولم يعد حتى الأموات - الآن - على ثقة بأنهم سيبقون في أماكنهم).
كان الاستعماريون مشغولين بالقتال العنيف الذي مضت عليه ثلاثة أيام في منطقة (عز اليقين). وقد أمكن لمجاهدي (تيفرين) في هذا اليوم إحصاء وعد أكثر من ستين طائرة مقاتلة حلقت فوق ميدان المعركة، واشتركت فيها. وقيل لي بأن قواتهم قد اشتبكت مع عدد من كتائب المجاهدين الذين وصلوا حديثا من تونس، والذين كان تدريبهم جيدا وتسليحهم جيدا.
هذا ما قلته للعريف (إسماعيل) والذي أجابني (أجل، هذا صحيح، ويفرض الموقف بصورة حتمية فتح المجال أمام معركة أخرى في أي مكان لتشتيت قوات الاستعماريين المشتبكين في (عز اليقين) وتخفيف الضغط الذي تلقيه القوات الاستعمارية بثقلها على المجاهدين هناك).
كان العريف (سالم) في هذه اللحظة يعقد اجتماعا مع العريف (عياشي) ومع قائد الكتيبة الثالثة. فتابعنا حديثنا. وكان العريف (إسماعيل) يحمل رشاشا خفيفا أمريكي الصنع (تومسون). وقلت له: (إنه سلاح رائع - هذا الرشاش) ثم تابعت مستوضحا وأنا أشير إلى سلاح كان يستريح أرضا مستندا إلى قائمتين - ساقين -
وقلت له: (وما اسم هذا السلاح؟) وأجابني (محمد عرب) بقوله: (هذا رشاش روسي - 30، وهو يعمل بمخزن أسطواني يتسع لخمسين طلقة. ويمكن بواسطته التعامل مع الطائرات المحلقة على ارتفاع منخفض). وقال (عزوز) متابعا الحديث: (إن التعامل مع الطائرات بات أمرا ضروريا، فلولا الدعم الجوي لما استطاع الاستعماريون الوصول إلى هذه الجبال). وكان (محمد عرب) يحمل رشاشا خفيفا إيطالي الصنع، من نموذج (بريتا). وقلت متسائلا:(وما هو الفارق المميز بين التومسون و - البريتا -؟).
وقال إسماعيل: (إنه كالفارق المميز بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا). وانفجر الجميع ضاحكين لهذه المقارنة. وقال (حسين) معلقا: (أما أنا، فأفضل قتال الافرنسيين بأسلحتهم الخاصة). وسألته: (وما هو نوع البارودة التي تحملها؟) فأجابني: (إنها بارودة - ماس 49 - 56 - أرسلها الاستعماريون إلى الجزائر لقتل الجزائريين. غير أن هذه البارودة انتقلت - مع غيرها من الأسلحة - إلى معسكرنا منذ شهور عديدة. ولكن قل لي: هل جئت للتعرف على أسلحة جيش التحرير الوطني؟، ويظهر لي من أسئلتك أنك جديد على هذه الأمور). وأجبته: (كلا يا أخي! فأنا أعيش مع المجاهدين منذ شهر شباط - فبراير - 1955، غير أنني لم أتعرف إلا على أولئك المسلحين ببواريد الصيد، وبعض المسدسات الرشاشة. وكم هو ممتع لنا أن نرى المجموعات الصغرى التي كانت مسلحة ببواريد الصيد وقد تحولت إلى كتائب مسلحة بالبواريد الحربية والأسلحة الحديثة. وهذا هو سبب طرحي أسئلة كثيرة عن أنواع الأسلحة الحربية. وبالمناسة، فهل تفضل أنت هذه البارودة على أي سلاح حربي آخر؟).
وقال لي: (إنها سلاح رائع، ثم إن هناك شعورا بالارتياح والرضى، وأنا أرمي الاستعماريين الفرنسيين واسقطهم بأسلحتهم وبرصاصهم. ولهذه البارودة بالذات ذكرى عزيزة جدا على نفسي، فلقد التقطتها من فوق جثة ضابط افرنسي، خلال الهجوم العام الذي جرى في 8 أيار - مايو 1957).
كان المجاهدون، خلال حرب التحرير الوطنية، ينظمون هجمات عامة ضد مواقع الأعداء وقواتهم في الذكرى السنوية لبعض الأحداث التاريخية الهامة في حياة الجزائر، مثل:(ذكرى 5 تموز - يوليو - 1930 - احتلال فرنسا للجزائر) و (8 أيار - مايو 1945 ذكرى المذبحة الرهيبة التي نفذها الافرسيون وذهب ضحيتها 45 ألف مواطن جزائري) و (الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني -
1954 -
ذكرى تفجير حرب التحرير) وكانت كتائب جيش التحرير الثلاث - هنا - قد أعادت تسلحها بأسلحة حديثة وصلتها من تونس. شأنها في ذلك شأن كل كتائب جيش التحرير. ونظرا لتنوع مصادر التسلح، فلم يكن من الغريب أن تجد في أيدي المجاهدين بواريد انكليزية، اصطلحوا على تسميتها (بالاعشاري). وبواريد أمريكية من نوع (غاراس) - وكذلك رشاشات (ف. م. بارت). بالإصافة إلى أسلحة ألمانية من نوع (الموزر) التي كان المجاهدون يستخدمونها على نطاق واسع، ويفضلونها على سواها. وكان لدى كل كتيبة من هذه الكتائب مدفع (هاون 60 مم)، كما كان لدى كل فصيلة رشاش خفيف (ف. م). ولنتذكر أن كل كتيبة من كتائب جيش التحرير كانت مكونة من (120) مجاهدا - أي ما يعادل سرية من سرايا تنظيمات الجيوش الأخرى -.
انتهى اجتماع قادة الكتائب الثلاث، وتوجه كل واحد منهم إلى
مركزه. واجتمع الرقيب (سالم) على الفور بمسبلي القرية في (تيفرين) ووجه إليهم نصائحه وتعليماته: (إجمعوا النساء والأطفال في مكان مأمون، وليكن منزلا قوي البنيان من المنازل الواقعة في وسط القرية. وأبلغوا الشبان والرجال ممن تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والخمسين سنة بأن يغادروا القطاع قبل الساعة الثانية فجرا. وخذوا معكم مواد تموينية كافية، واخرجوا معهم). وأعطيت هذه التعليمات ذاتها إلى القرويين في قريتي (بني ودان) و (حمدة).
علمنا بعد ذلك بأن منظمات الاستخبارات في جبهة التحرير الوطني، أرسلت إنذارا إلى قادة القوات في جيش التحرير الوطني، أعلمتهم فيه أن القوات الاستعمارية المتمركزة في (علي أيفيل) ستقوم بإحدى عملياتها الرتيبة - الروتينية - لتمشيط (منطقة تيفرين) في يوم 24 - تشرين الأول - أكتوبر -. فأسرع القادة لاتخاذ الترتيبات الضرورية لمجابهة قوات هذه العملية.
قال لي (عزوز) ونحن نخرج من الاجتماع: هل تعرف؟ وأجبته: أعرف ماذا؟ فقال لي: (ستطير الزنابير غدا بالخلايا) وأجبته: (ولكنني لم أفهم شيئا مما قلته). فعاد، وقال لى:(غدا ستفهم كل شيء. أما الآن، فتعال لأعطيك الكتب، فالوقت ضيق، وليس أمامنا متسع لإضاعته).
رافقت (عزوز) إلى منزله، وسلمني الكتب. وكانت الساعة تشير إلى الواحدة صباحا، فعدت إلى منزلي، فوجدت في انتظاري عمي - والد زوجي، وهو شيخ من خريجي جامع الزيتونة، ويعمل
مسبلا - نصيرا - من مسبلي الثورة. وسألني: أين كنت؟ لقد بحثت عنك في كل مكان؟. فأجبته: لقد كنت فى الملجأ. وعندها
أعطاني قطعة من الخبز وقليلا من التين المجفف. وزجاجة من زيت الزيتون. وزجاجة من الماء فوضعت الجميع في مزودتي. ومضينا في طريقنا لمغادرة قرية (تيفرين). وفي هذا الوقت ذاته كان المجاهدون يتجهون نحو تلال (تيزي - غمدان). وتسلقنا دربا ضيقا - لا يسلكه إلا الماعز - يصل إلى قمة جبل (برشيش) المرتفع. وكان باستطاعتنا من هذا المكان الاشراف على القطاع بكامله. فإذا ما بقي الموقف هادئا، كان بإمكاننا العودة إلى القرية، أما إذا ما كان الأمر على العكس من ذلك، فإنه باستطاعتنا البحث عن ملجأ مأمون في الغابة يضمن لنا إنقاذ حياتنا. وكان جبل (برشيش) يقع على بعد أربعة كيلومترات تقريبا، إلى الجنوب من (تيزي - غمدان). وكان قادة الكتائب قد تدارسوا أثناء اجتماعهم، ردود فعل العدو المحتملة تجاه كمين (تيزي - عمدان) وفقا للمعطيات التالية:
أ - إذا جاءت قوة الاستعماريين من (علي إيفيل) فإنها ستصطدم بكمين (تيزي - غمدان) وستكون القوة المتمركزة في (بوجليل) هي أول قوة يجب عليها أن تسرع لنجدة القوة الاستعمارية وعلى هذا يجب على كتيبة المجاهدين المتمركزة في (بني وحدان) إقامة كمين لقوات (النجدة) عند أبواب مركز (بو جليل).
ب - إذا جاءت قوة الاستعماريين من (بوجليل) فإنها ستصطدم بقوة الكمين الذي ينتظرها. وستكون أقرب قوة ستهرع لنجدتها هي القوة الافرنسية المتمركزة في محطة (بني منصور). وهنا سيكون من واجب كتيبة المجاهدين المتمركزة في (حمدة) التصدي لها، وإقفال الطريق في وجهها. وذلك بتنظيم كمين على الطريق الممتد بين (بني منصور) و (بو جليل).
ودارت المعارك طبقا لما تم توقعه، وافتراضه.
تميز موقع (تيزي - غمدان) بطبيعته الصعبة، حيث الأرض المتضرسة والصخرية والمكسوة بالغابات. ويمر الطريق هنا بين هضبة، وبين مجنبة جبل مقابل للهضبة، مما يشكل مضيقا أشبه بالبوابة، ولهذا السبب أطلق عليه اسم (تيزي - غمدان) وكان الطرف الجبلي يرتفع مجاورا للطريق على شكل جدار قائم من الصخور التي استخدمها الفلاحون لإقامة تخم يحمون به حقول التين وكروم الزيتون.
احتل الرقيب (سالم) وجنده المجاهدون مواقعهم القتالية على امتداد هذا الجدار الطويل، وتمركزوا في الحفر، وحول الذرى المجاورة له. وقد تجنبوا التمركز على الهضبة المقابلة لأنها كانت محرومة من المؤخرة المستورة والتي يمكن لها تأمين الانسحاب وحمايته، إذا ما تطلب الأمر ذلك.
بدأت طيور الحجل تغريدها، وهذا يعني أن الموعد مع الفجر بات قريبا. كانت السماء صافية تزينها النجوم المتلالئة، وظلمة الليل لا زالت قاتمة. ونظر أحد المجاهدين الى ميناء ساعته المضيء، فوجد أن عقاربها تشير إلى الرابعة صباحا. وفي هذه اللحظة، تمزق السكون بهدير القافلة الافرنسية التي ضمت عربات نقل الجند الكبيرة (ج. م. س) والعربات نصف المزنجرة (هاف - تراك) والمدرعات، والتي كانت تقترب من (تيزي - غمدان). وكان المجاهدون قد انتهوا من حفر الحفر على أرض الطريق، وزرعها بالألغام. وقد وضعت هذه الألغمام بطريقة تسمح بتدمير عدد من الآليات، والتي يعتبر تدميرها هو الشارة المتفق عليها للبدء بالهجوم. وانفجرت الألغام عندما دخلت آخر مركبة من
مركبات العدو منطقة الكمين. وعندها فتحت كافة الأسلحة نيرانها - من كل العيارات - على قوات العدو. لقد كان المجاهدون يمسكون بقنابلهم، ويضعون أصابعهم على الزناد، فما إن بدأت المعركة حتى أفرغ المجاهدون كافة ما تحتويه مخازن أسلحتهم، وقذفوا قنابلهم دفعة واحدة على قافلة العدو.
بوغت جند العدو مباغتة كاملة، وأخذوا في القفز من مركباتهم، أو الوقوع منها، والانبطاح أرضا لاستخدام أسلحتهم ضد المجاهدين، وكان بعضهم قد تملكه الرعب، فتوجه على غير هدى نحو الغابة حيث كان ينتظرهم الموت المؤكد. ولجأ عدد من الجنود إلى أسفل عرباتهم يحتمون بها، ومنهم من أخذ في العدو، في كل اتجاه. وكان المجاهدون يسمعون من مواقعهم، الأوامر التي كان يصدرها الرتباء والضباط والتي كان يختلط بعضها ببعض. كما كانوا يسمعون الشتائم البذيئة والقدرة والتي كان يتبادلها جند العدو. وحاول بعض جند العدو، الرجوع على أعقابهم، وأخذوا في العدو والقفز من فوق الجثث المتراكمة فوق أرض الطريق، غير أن رشات جديدة من الأسلحة كانت تسقطهم وتحصدهم حصدا. وساد الذعر والهلع على جند العدو، فأخذوا في البحث عن أي ملجأ يحميهم، ولم يكن هناك غير الغابة طريقا لهم. ولكن الغابة لم تكن في قبضتهم. فكانت مجزرة حقيقية، خيم فيها الموت الزؤام وهرب عدد من جند العدو في اتجاه (علي إيفيل).
دفع المجاهدون مجموعات صغرى لاجتياح ميدان المعركة، بهدف جمع الغنائم، وأمكن جمع كمية ضخمة من الأسلحة والذخائر والتجهيزات العسكرية. وترك الاستعماريون فوق أرض المعركة قتلاهم وجرحاهم الذين باتوا عاجزين عن التحرك، فكانوا
يصرخون من الألم، ويستعطفون المجاهدين ويتوسلون إليهم حتى لا يجهزوا عليهم. فكان المجاهدون يردون عليهم:(نحن لسنا جبناء حتى نجهز على الجرحى المحرومين من كل وسائل الدفاع. كما أننا نفتقر إلى التجهيزات الطبية التي تمكننا من إجراء الاسعافات الأولية لكم. لكن قوات دعمكم لن تتأخر عن الوصول إليكم لانقاذكم). وصرخ أحد الجرحى: (أبـ
…
تاه، أمـ
…
ا5، لا أريد أن أموت). فيما كان جريح آخر يصرخ:(عاش الثوار).
أفاد المجاهدون من فترة الهدوء التي أعقبت المعركة، لإخلاء جرحاهم الثلاثة، ودفن أول شهيد سقط في معركة هذا اليوم.
…
كانت القوات الاستعمارية المتمركزة في (بوجليل) قد غادرت قلاعها الحصينة في هذه الفترة، بهدف الهجوم على مؤخرة المجاهدين في (تيزي - غمدان). غير أن هذه القوات الاستعمارية لم تبتعد عن قاعدتها أكثر من مئات الأمتار حتى وقعت في كمين أكثر عنفا، وأكثر قتلا من كمين (تيزي - غمدان) ولم تكتف كتيبة (العياشي) هنا بجمع الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية فقط وإنما أخذت أيضا ثلاثة أسرى من بينهم ضابط برتبة ملازم يعمل في الاستخبارات - وفي مكتب اشتهر بتعذيب المواطنين الجزائريين والتنكيل بهم هو مكتب بو جليل - وقد قام المجاهدون بعرضه في المساء. وبعد انتهاء القتال، على مواطني الاقليم وهو معصوب العينين، ومقيد اليدين وراء ظهره.
…
تلقت القوات الاستعمارية المتمركزة في محطة (بني منصور)
أمرا بالتوجه إلى ميدان، فوقعت هذه القوات بدورها في كمين - في ضواحي مقطع الحجارة الكلسية. وكان حظ القوات الاستعمارية هنا أفضل من حظ القوات السابقة، إذ تمكنت من المحافظة على مواقعها، ومنعت المجاهدين من جمع الأسلحة، ولكن خسائرها في الأرواح بقيت، بالرغم من ذلك، كبيرة وفادحة.
…
أصبح الوقت على الحد الفاصل بين الليل والنهار، فكان الشرق أقرب إلى ضوء النهار، في حين بقي الغرب أقرب إلى ظلمة الليل، ووصلت قوات دعم ضخمة من جهة (علي إيفيل) فاستؤنف الرمي في (تيزي - غمدان) بوتيرة متصاعدة. ووصلت في الوقت ذاته أربع طائرات من طراز (ت - 6) مجهزة بمضخمات للصوت (مكبرات) حتى تثير ضجيجا مرعبا. وقال بعض الجنود من الذين اشتركوا في الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) بأن طائرة (ت - 6) تهدر صاخبة مثلها كمثل طائرات (الشتوكا) الألمانية وكان ضوء النهار قد ارتفع ساطعا الآن، وامتد القتال على مسافة خمسة عشر كيلومترا من الشرق إلى الغرب.
كان بعض المدنيين والمسبلين قد انتشروا على قمة جبل (برشيش) وأمامهم، غير بعيد عنهم، تمركزت فصيلة مسلحة برشاش (برن) علاوة على البواريد الفردية. واقترب أحد مجاهدي الفصيلة من المدنيين، ونصحهم بمغادرة مركزهم، وقال لهم:(قد يكون من الأفضل لكم الخروج من هنا، إذ من المحتمل جدا أن يحاول جند العدو احتلال هذه القمة حتى يستطيع تطويق منطقة القتال). وقام هؤلاء المدنيون بتقديم الخبز والتين المجفف والزيت والماء وكل ما يحملونه من الطعام، لمجاهديهم البواسل، وهم
يبتهلون الله لهم: لينصركم الله، كان الله معكم. وأجابهم المجاهدون: شكرا! شكرا! صحة! صحة!.
قرر المدنيون والمسبلون الانتقال إلى قمة (غارمالا) التي تتربع في أعلى جبل يقع على بعد ثلاثة كيلومترات - خط مستقيم - من (برشيش). وعلى بعد (7 - 8) كيلو مترات من (تيزي - غمدان).
زجت القيادة الاستعمارية في هجومها المضاد بقوات صخمة، شاركت فيها (3) طائرات من نموذج (بوسارد). و (12) طائرة من نموذج (ب - 47) و (12) طائرة من نموذج (ب - 26) - وقد
وصلت هذه الطائرات كلها في وقت واحد. وكانت طائرات (ب - 26) مسلحة بالرشاشات الثقيلة والقنابل، فأخذت في استخدام رشاشاتها وقذف قنابلها على مواقع المجاهدين المنتشرين
على مقربة من (بو جليل) ومقطع الحجارة الكلسية، ومواقع المجاهدين على مرتفعات (تيزي - غمدان). وبلغ مجموع عدد الطائرات (30) طائرة. بالإضافة إلى عشر طائرات عمودية - هيليكوبتر - منها (6) طائرات نموذج (بانانا) كانت تعمل جيئة وذهابا بين مواقع القتال، وبين القواعد العسكرية في الاقليم. وكانت (تيزي - غمدان) منيعة على نيران العدو بسبب طبيعة أرضها الصخرية، وبسبب ما يتوافر لها من الغابات.
كانت معركة اليوم من المعارك الصعبة، القاسية.
صعبة، لأنه لم يكن باستطاعة المجاهدين الإسراف في استخدام الذخائر على نحو ما كان يفعل أعداؤهم الذين كانوا ينفقون ذخائرهم دون حدود أو قيود.
وصعبة، لأنه كان على المجاهدين الذين لا يتجاوز عددهم (350) مجاهدا، مجابهة قوات متفوقة بعددها وبوسائطها القتالية تفوقا لا يمكن مقارنته. فمقابل الهاون (60 مم) ورشاش (برن) و (30) رشاشا روسيا. كانت هناك طائرات (ب 470) و (ب - 26) ومدرعات ومدفعية، وكل ما كانت تحفل به ترسانة حلف شمال الأطلسي من ضروب الأسلحة المتنوعة ووسائط القتال المتباينة. وبالرغم من ذلك، فقد بقي المجاهدون هم الأقوى، لأنهم يمتلكون الأسلحة الأكثر فاعلية من تلك التي يمتلكها الاستعماريون: كان المجاهدون يحملون سلاح النصر، والإيمان العميق، وحب الوطن. ولذلك كانوا هم الذين يحبطون باستمرار كل المخططات الجهنمية - الشيطانية - التي يضعها دهاقنة الاستعماريين، وأفضل قادتهم الإستراتيجيين.
كان من عادة الاستعماريين الافرنسيين افتتاح عملياتهم بقصف عنيف تقوم به الطائرات ضد مواقع المجاهدين، وذلك قبل زج القوات البرية من مشاة ومدرعات ومدفعية. وقد قال لنا المجاهدون بأن طائرات (ب - 47) وطائرات (الميسترال) لا تميز في قصفها بين الرجال الذين يرتدون الألبسة القاتمة وبين جذوع الأشجار، أو الغياض المتفرقة، وذلك بسبب السرعة الكبيرة التي تحلق بها هذه الطائرات. ولهذا، فقد كان من المحال عليها إجراء قصف دقيق لمواقع المجاهدين المنتشرين فوق أرض شديدة التضاريس، وبمسافات كافية تفصل كل مجاهد عن إخوته بقية المجاهدين، وهو يتمركز في ملجأ تحت الأشجار، أو بين الصخور.
وكانت طائرات (بوسارد) هي التي ترمي الشهب الدخانية لتحدد لتلك الطائرات أهدافها. ولكن طائرات (بوسارد) هذه باتت
مرغمة على التحليق وهي مرتفعة فوق سطح الأرض بمسافات عالية، منذ أن امتلك المجاهدون الرشاشات (الخفيفة منها والثقيلة) والتي برهنت على فاعليتها في إسقاط هذه الطائرات. ومقابل ذلك كانت طائرات (ب - 26) و (ت - 6) شديدة التأثير، كبيرة الخطر، على مجاهدي الجيش الذين يفتقرون للأسلحة المضادة للطائرات والقادرة على التعامل مع الطائرات الأقل سرعة، والتي كان باستطاعتها إحكام رماياتها على مجموعات الرجال أثناء تحركهم.
باختصار، استمر دوي القصف كالرعد، واستمر المي برشاشات الطائرات، فشمل كل الإقليم الذي بات يهتز بعنف، حتى وصلت تلك الاهتزازات إلى أولئك الذين وقفوا على جبل (غار - مالا) والذين شعروا بالأرض وهي تميد من تحتهم. وكانت قنابل النابالم الضخمة التي قذفتها طائرات (ب - 26) هي التي أثارت هذا النوع من الاهتزازات القوية.
بلغت الساعة الحادية عشرة صباحا (1100) ولا زال المجاهدون يحتفظون بمواقعهم على هضاب (تيزي - غمدان) وفي كافة المواقع الأخرى.
وهبط ضباب أبيض كثيف على قمم جبل (جرجرة) فغطى منطقة القتال، وغلفها بحجاب سميك. وكان الواقفون على جبل غار مالا) ينظرون إلى سحب الغيوم التي تهبط من تحت أقدامهم بيضاء كالثلج، وهتف كل سكان الإقليم لقدرة الله التي أرسلت الغيم أمنا وسلاما على المجاهدين، ليحميهم من قصف طيران أعدائهم.
لم يعد باستطاعة طائرات (ب 47) و (ت 6) متابعة تنفيذ عملياتها، فاضطرت للعودة إلى قواعدها. بينما تابعت طائرات (ب
26) تحليقها فوق الضباب. واستمرت في قذف قنابلها بصورة عمياء، وعلى غير هدى.
أفاد المجاهدون كثيرا من هذا الضباب، فنظموا هجمات ضد مجموعات العدو المتفرقة والمنعزلة. واستعادوا المبادأة التي كانوا يمسكون بها في الصباح، ثم جاء القصف الجوي فكاد ينتزعها منهم: وخسر العدو كافة المميزات التي حصل عليها بفضل النيران الكثيفة للطائرات. وجال في خاطر الرقيب (محمد) سؤال لم يلبث أن طرحه ببراءة: (لماذا يهرب جند العدو بالرغم من أنهم هم الأكثر عددا، والأفضل تسليحا وتجهيزا؟).
وأجابه الرقيب (العياشي): (لأننا مجاهدون في سبيل الله، نؤمن به وعليه نتوكل، ولأننا نقاتل على أرضنا، ولأننا على استعداد لبذل دمنا عن طيب خاطر، فوق هذه الأرض الطيبة، أرض وطننا الأم. لأننا نقاتل ونحن على قناعة بأنه ليس لحياتنا أية قيمة إلا إذا تحررت بلادنا تحررا كاملا، وخاليا من كل قيد أو شرط. ومقابل ذلك، فإنهم يخوضون معاركهم تنفيذا للأوامر التي يخطها لهم قادتهم العميان. إنهم يعرفون أنهم يقاتلون من أجل قضية خاسرة، محكوم عليها مسبقا بالفشل. ولهذا السبب فإنهم سرعان ما يبحثون عن طريق الفرار. إنهم يختارون باستمرار أضخم الوسائط وأقواها من أجل مجابهتنا، ويزجون ضدنا بالأسلحة التي لا نمتلك الوسائط ضدها .. غير أنهم وهم يفرون من ميادين القتال، يحاولون الظهور بمظهر الأبطال عندما يواجهون المدنيين المحرومين من كل وسائط الدفاع، فيعملون على التضحية بهم، وإبادتهم، في كافة القرى التي يمرون بها. آه يا أخي محمد، كم هو أمر مخجل أن يترك هؤلاء على هواهم ليسحقوا شعبنا طوال (127) عاما) هيا إلى الأمام!.
وأصدر الرقيب (العياشي) أمره إلى عدد من الجماعات بالانقضاض على أقرب القوات الاستعمارية إليهم. وأطلق المجاهدون صيحتهم بصوت واحد (الله أكبر). وأسندوا مسدساتهم الرشاشة إلى (الورك) وضغطت أصابعهم على الزناد، فأفرغوا محتوى مخازن أسلحتهم، وهم يوجهون نيرانهم بدقة وإحكام. واختلط الأمر في وسط الضباب، فكان من المحال التمييز بين المجاهد وبين عدوه الإفرنسي. وارتفع صوت المجاهدين وهم ينشدون نشيدهم الوطني (جزائرنا). ورددت الوهاد والمنحدرات، السهول والجبال، مع المجاهدين (جزائرنا). وغنت معهم نشيدهم.
عاد القتال عنيفا، ضاربا، في الساعة (1430) - الثانية والنصف من بعد الظهر -. فقد أخذ الضباب في الاضمحلال شيئا فشيئا. وعادت الطائرات وهي تحلق كالعقبان تبحث عن طرائدها. وقد حلت طائرات (الميسترال) في هذه المرة محل طائرات (ب - 47) وهي طائرات مسلحة بالمدافع وبالرشاشات الثقيلة. وكانت قنابل مدافع هذه الطائرات شديدة الحساسية من أي احتكاك، حتى لو كان هذا الاحتكاك بأوراق الأشجار. ولما كانت الوحدات المتصارعة على أرض المعركة قريبة بعضها جدا من بعض. وقد نزلت القنابل على الوحدات الإفرنسية ذاتها. (وعلى سبيل المثال فقد جرح المجاهد ساقي شعبان وهو من قرية - ولاساصي - بينما كان أسيرا في قبضة الإفرنسيين، وقد أصابته شظية في فخذه من إحدى رمايات طائرة ب - 26 أثناء وجوده بين الجنود الإفرنسيين في (تيزي غمدان) وأصابت معه عددا من الإفرنسيين).
شاهد المدنيون والمسبلون. من أماكنهم في قمة (غار مالا)
شدة القتال وضراوته، فقرروا التوجه إلى (سيدي مسعود) حيث توجد (زاوية) في وسط الغابة. أقيم بجوارها مركز للعناية بالجرحى الذين يتم إخلاؤهم، وذلك لمديد العون، ومساعدة المجاهدين فيما قد يحتاجونه وعلى هذا، غادر المدنيون والمسبلون (غار مالا) وأخذوا في التنقل من شجرة إلى شجرة تنفيذا لتعليمات المجاهدين، وذلك فرارا من طائرات (ت 6) التي كانت تحلق فوق رؤوسهم، وهي تعرف تماما أن كل هذه الجبال مأهولة بأعدائها. وقد استغرقت الرحلة إلى (سيدي مسعود) زهاء نصف ساعة. وهناك، تم اللقاء بين الجميع.
تمدد عشرات الجرحى تحت الأشجار - على مقربة من الزاوية - بعضهم يئن من الألم، وآخرون يصلون أو يقرؤون القرآن. في حين كان آخرون يصنعون محفات - ناقلات - لحمل الجرحى مستخدمين في ذلك أغصان الأشجار، حتى يتم لهم بواسطتها إخلاء الجرحى وحملهم عندما يهبط ظلام الليل، لنقلهم إلى المستوصفات السرية في الإقليم.
تسلح بعض المواطنين والمجاهدين والمسبلين بأسلحة الصيد، وانتظموا في مجموعات مقاتلة انتشرت على هضاب (ميت شيخ) ووزعوا الحراسة على مؤخرة المجاهدين لإجراء مراقبة حذرة هدفها الحيطة من أي تدخل قد يصدر عن معسكر الاستعماريين في (ولا سيدي إبراهيم) ضد مجاهدي (تيزي - غمدان). غير أن القوات الإفرنسية في هذا المعسكر لم تقم بأي تحرك.
لم يكن في (سيدي مسعود) إلا ممرضان اثنان محرومين من كل الأدوية، باستثناء بعض أنابيب حبوب الأسبيرين وزجاجات صغيرة من مادة الميكروكروم. ولم يكن هناك طبيب في (سيدي
مسعود) أو في الإقليم كله. وكان المجاهد (بلقاسم) مصابا بتمزق في أضلاعه نجم عن انفجار قنبلة بعض الطائرات، مما كان يتسبب له بآلام مفزعة. وكان لا بد من إيقاف النزف بأية طريقة، فتم تقليم سيقان من نبات طبي يعرف باسم (أم الزير) يعرفه الفلاحون الجبليون جيدا، ويتواصون باستخدامه منذ القدم - ويتناقلون معرفته جيلا عن جيل في هذا الإقليم. وما أن تم تجريف الجروح بتلك العيدان حتى تم وضع أوراق النبات ذاته بإحكام على الجراح. ولم يبق إلا تضميد تلك الجراح بمساعدة قطع من النسيج من تلك المستخدمة في تغطية الأسرة (شرشف).
وصل بعض المجاهدين من ميدان المعركة يحملون معهم الأخبار السيئة عن استشهاد المجاهد الرقيب (سالم) في الساعة (1600) إثر إصابته بقنبلة طائرة (ب - 26) بينما كان يقف على مرتفع يحمل اسم (الخطيبة من الصابون - إيسلي ناصابون) وبكى إخوان الشهيد موته، فما عرفوه إلا بطلا شجاعا، ووطنيا متحمسا، الأمر الذي أكسبه شهرة واسعة في وسط قوات جيش التحرير الوطني. زالت مخاوف المجاهدين وأنصارهم - مسبليهم، إذ لم تحاول القوات الاستعمارية نقل المعارك من (تيزي غمدان) والقيام بتمشيط الإقليم، أو محاولة تطويق المجاهدين. وانتهت المعارك في الساعة (1900) - وعادت القوات الاستعمارية إلى ثكناتها مع غروب الشمس. وتجمعت كتائب المجاهدين في (سيدي مسعود). ولم يكن المجاهدون قد طعموا شيئا طوال النهار، ولم يكن هناك في (سيدي مسعود) ما يسد رمقهم، وكل ما كان هناك هو بعض أباريق القهوة التي تحتفظ بالحرارة (ترمس) وقليلا من زجاجات حليب الماعز التي احتجزت للجرحى.
بلغت خسائر المجاهدين في معارك اليوم (33) شهيدا و (57) جريحا، كانت جراح (13) منهم خطيرة تمنعهم من الحركة. أما الآخرون فكان باستطاعتهم مرافقة المجاهدين والسير على أقدامهم.
تكبدت القوات الاستعمارية خسائر فادحة في الأرواح والأعتدة والتجهيزات القتالية. غير أنه كان من الصعب معرفة العدد الدقيق لقتلى العدو وجرحاه. وقتل ثمانية مدنيين في (تيفرين) بنتيجة القصف الجوي.
قامت نساء (تيفرين) بدفن شهداء المجاهدين الذين استشهدوا فوق ساحة الشرف، وذلك في اليوم التالي للمعركة (يوم 25 تشرين الأول - اكتوبر 1957). وكانت المجاهدة (حماني عادادا) في طليعة تلك النسوة، ومعروف أن السلطات الاستعمارية قد اعتقلت بعد ذلك المجاهدة (حماني) وبقيت في السجن حتى نهاية الحرب.
حمل الرجال جرحاهم على أكتافهم، وغادروا (سيدي مسعود). وتوجهوا إلى قرية تبعد ثلاثين كيلومترا عن (تيفرين).