الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 -
المقاومة في (بوهندس)
(*)
عندما أقبل شهر أيلول - سبتمبر - 1957. كان قد مضى على الثورة الجزائرية ثلاث أعوام تقريبا من يوم اندلاعها في الفاتح من نوفمبر - تشرين الثاني - 1954، ففي ذلك اليوم التاريخي، قررت الطليعة الثورية حمل السلاح من أجل وضع حد لليل الاستعمار المظلم، وتمهيد السبيل أمام الشعب الجزائري لإقامة دولته التي تجسد له سيادته. وفي تلك الفترة من سنة 1957، كانت الثورة قد قطعت شوطا بعيدا عن بداياتها الصعبة. واستجاب الشعب بكل فئاته لنداء الثورة، وأقبل بشكل إجماعي على التطوع لدعم حرب التحرير الوطني.
لم تكن (الجروة) في الولاية الرابعة متخلفة عن الركب الثوري الذي سارت فيه شمال - قسنطينة واوريس ووهران ومنطقة القبائل الكبرى. وكان قد مضى عام تقريبا على تطبيق ما تم اتخاذه من مقررات في (مؤتمر الصومام) بنجاح رائع، فأقيمت المجالس
(*) للكاتب الجزائري (محمد روبيغا) وهو مجاهد قديم عاش أحداث المقاومة في مشتى (الأطلس البليدي) - والمرجع:
RECITS DE FEU. (SNED) S.N. EL MOUDJAHED ، ALGER 1977، P P. 99 - 108.
الادارية في الولاية والأقاليم - المناطق - والمقاطعات منذ اجتماع الولاية فى أيلول - سبتمبر - 1956.
وأخذت المجالس الشعبية في ممارسة دورها المتعاظم يوما بعد يوم، في التأثير بالحياة اليومية لجماهير الشعب. ونظمت في مناطق (باليسترو) و (بليدا) و (مليانة) قوات من الوحدات المختارة من المغاوير. واستطاعت هذه الوحدات إلحاق الهزائم المتتالية بالقوات الافرنسية في كل أنحاء الولاية. وأكدت الولاية الرابعة بذلك أنها قادرة على منافسة بقية الولايات في تطوير الثورة المسلحة.
وهيمنت الحماسة للثورة على كتلة المواطنين جميعهم بمثل ما كانت مهيمنة على المجاهدين في جيش التحرير الوطني. وفي هذه الفترة، نزلت بالقوات الافرنسية خسائر فادحة، فأخذت القيادة الاستعمارية في الاستعداد لإبادة قرية وإزالتها من على الأرض الجزائرية، ووقع الخيار على (دشرة بوهندس) التي تعرضت للإبادة في يوم الجمعة من أيام شهر أيلول - سبتمبر - 1957.
لم يكن فصل الخريف قد أطل على الجزائر، غير أن رياحه قد أخذت في حمل بشائر وصوله إلى الجبال: فاصفرت أوراق الأشجار، واضطرت الثمار التي لم تنضج بعد إلى تأخير نضجها حتى وقت متأخر يقع بين فصلي الصيف والخريف (الثمار الرجعية). وكانت (بوهندس) تحتل ضهرة في الأطلس البليدي. وتستند في ظهرها إلى نهر الشريعة الذي يشق طريقه عبر سهل صغير تحيط به الغابات. وهو المنظر الذي كثيرا ما تقع عليه العين في الجزائر، فهنا غابات كثيفة، وهناك منطقة سهلية مفتوحة، تفسح المجال لظهور الشجيرات القصيرة التي تنبت فوق تربة رملية أو أرض صخرية تفتقر إلى الانتظام في استقبال المياه الشتوية.
وقد سكنت في قرية (بوهندس) مئات العائلات التي اعتادت على العيش على الزراعة الموسمية، وزراعة الأشجار المثمرة، ولم تكن (بوهندس) تفتقر إلى الماء، فالماء فيها متوافر. غير أنها أخذت في العيش اعتبارا من سنة 1957 لقضية الثورة، بأكثر من عيشها لأمور حياتها اليومية. فالضهرة كلها تعيش من أجل الجهاد والصراع، وهذا ما أنساها أمورها المادية الثانوية، ولم تعد تظهر تجاهها أي اهتمام، وأدى بها ذلك إلى أن تصبح أكثر يسرا، وأقل معاناة من الصعوبات. وأخذت (الضهرة كلها) تعيش على مثلها الأعلى الذي كانت تعيشه الجزائر. أما (بوهندس) فقد باتت قادرة على تأمين الطعام لا لسكانها فقط، وإنما لقوات جيش التحرير الوطني التي كانت تنزل على ضيافة القرية، عندما تضطرها الظروف إلى اللجوء إليها. ولم تكن قلوب الفلاحين في هذه الفترة منفتحة على الزراعة، بل أصبحت هناك قضية أكثر خطورة، وأكثر أهمية تملأ قلوبهم وتشغلهم. وعلى هذا فقد أخذوا في تنظيم قريتهم (بوهندس) حتى تتكيف مع ظروف الحياة الجديدة. واعتبرت القرية أن الحياة السابقة التي كانت تعيشها هي نموذح من العيش لا يمكن قبوله، في حين يندلع الصراع في كل مكان ضد القمع وضد الضغط، وضد المعتصبين الغرباء الذين أرادوا إخضاع شعب أبي بالقوة، وتجريده من فضائله وشرفه بفرض قوانينهم على أرض الآباء والأجداد وقام أهل (بوهندس) بتنفيذ مجموعة من الأعمال، قدر استطاعتهم؛ مثل حفر الملاجىء وتنظيم مجموعات الأنصار - المسبلين - القادرين على تحويل حياة الغزاة إلى جحيم وبؤس مقيم، مع تأمين الدفاع الداتي عن أنفسهم وتنظيم حرس يقظ باستمرار. وتقديم الأدلاء - الكشافين - لقوات جيش التحرير الوطني
حتى تستطيع توجيه ضرباتها إلى قوات العدو، من غير أن تصاب بضرر أو أذى. هذا بالاضافة إلى استئصال شأفة الخونة والعملاء. وجمع المعلومات الدقيقة عن كل ما يتعلق بالصراع حتى اشتهر أهالي (بوهندس) بأنهم من أكثر الناس كفاءة وقدرة في أعمال الاستطلاع.
وكانت هذه القدرة الكامنة في مقاومة العدو تبرز يوما بعد يوم وكان ذلك لسوء الحظ سببا في اتخاذ الاستعماريين قرارهم بشأن مصير (بوهندس). غير أن هذا القرار لم يدخل الخوف إلى قلواب هؤلاء الجزائريين الشجعان، الذين كانوا يحبون أرضهم، وشعبهم، وجيشهم، حبا لم تعرفه إلا قلة من الشعوب المتمسكة بأصالتها وفضائلها. ولم تكن هذه (الدشرة) تخشى أبدا أن تستيقظ يوما على مصير كمصير أختها (قرية الجرة) التي دمرها الاستعماريون في سنة 1956. وتبلورت في وسط القرية خلال هذه الفترة أمنية، وهي أنه إذا كان لا بد من الموت، فيجب مقاومة الاستعماريين حتى لا يأخذوا القرية على حين غرة، ويبيدوا أهلها بنذالة وجبن، وبحيث يستطيع الرجال المقاومة حتى الاستشهاد وأسلحتهم في أيديهم.
لقد ماتت (بوهندس) يوم الجمعة من أيام شهر ايلول - سبتمبر -. ولكنها ماتت كما أراد أهلها وتمنوه وكانت ميتتها على أيدي الأنذال الحاقدين من مظليي الفرقة العاشرة لقوات المظليين الافرنسيين والذين اجتاحوا في طريقهم وأزالوا عشرات المشاتي. والتي شيدها أهلها بجهدهم وعرقهم يوما بعد يوم وسنة بعد سنة، حتى أصبحت وافرة الظلال، كثيرة الخيرات والثمرات. ولم يكن تدمير هذه (المشاتي) إلا برهانا جديدا على بربرية الاستعماريين،
وحقدهم الدفين على شعب يعمل على استرجاع حقه الذي لا ينكر في حياة هو جدير بها وأهلا لها.
لقد ماتت (بوهندس) يوم الجمعة من أيام شهر أيلول - سبتمبر -. وفي عشية ذلك اليوم، أو بالأحرى في صباحه، كانت قد استقبلت المغاوير الفدائيين الشهيرين (بمغاوير باليسترو) والذين لم يصلوا إلى (بوهندس) إلا بعد مسيرة شاقة. وكانت (الضهرة كلها) قد وقفت على قدم وساق لاستقبال أبنائها المغاوير الذين دفنوا قوات العدو في (زبار بار) و (وادلاكرا) وأماكن أخرى كثيرة - ولم تكن (بو هندس) تتسع لفرحتها قادرة على استيعاب فرحتها أو احتواء بهجتها وهي تستقبل مجاهديها الظافرين لقد كانت سعادتها أكبر من قدرتها على الاحتمال.
أخيرا! رأى أهل (بو هندس) عددا من القادة الذين طالما رددوا أسماءهم على شفاههم وتناقلوا أخبارهم، وأحبوهم من غير معرفة بهم. لقد وقف أهل (بو هندس) شيبا وشبابا، رجالا ونساء وكلهم يريد استقبال الأبطال، والاستماع منهم عن قصصهم، والاستيضاح كيف أمكن لهم الانتصار على الافرنسيين في ذلك الاشتباك، أو تلك المعركة، أو ذاك الكمين الخ
…
؟
…
ولم تتعب (بوهندس)، ولم يتعب أهلها، من سماع ما يرغبون معرفته: لم نكن نعرف الخوف أبدا، كان العدو هو الخائف باستمرار لأنه يحارب ويقاتل من أجل قضية جائرة ومعركة خاسرة.
اشتهرت (بوهندس) بطبيعتها الجميلة، وكان على قائد الفدائيين المغاوير مشاهدة هذه الطبيعة مع بزوغ فجر اليوم الذي وصل فيه للقيام باستطلاع المنطقة، وكانت (الضهرة) تقع تحت هيمنة المنحدرات الحادة للذرى الواقعة فيما وراء الشريعة. وتقع
(بوهندس) في أسفل السفوح حيث يمر نهر يشق طريقه عبر الوادي الذي يحتضنه. وإلى يمين الضهرة، حيث اتجاه الغرب، يصعد الطريق المتعرج (الاستراتيجي) والذي يصل (الشفة) بمدينة (المدية) ويتفرع عن هذا الطريق عدد من الدروب والسالك التي تصل إلى الذرى المهيمنة على (بوهندس).
…
اتخذت كافة ترتيبات الحيطة والأمن: وتمركزت الرشاشات في أماكنها، كما انتشر الفدائيون والمجاهدون يحملون بواريدهم في الأماكن المناسبة لهم. ونظمت الدوريات. وكان لا يزال أمام مجاهدي المغاوير متسع من الوقت للاختلاط برجال (الضهرة). وفي هذا اليوم خصصت النساء وقتهن لسخرة الغسيل، فمضين منذ الصباح المبكر لجمع ما يمكن تنظيفه وغسيله. هذا فيما خصصت فترة بعد ظهر يوم الخميس لعقد اجتماع سياسي يتم فيه الاتفاق ما بين قادة المغاوير، وقادة المجاهدين المحليين وقادة الفدائيين على خطة العمل في الولاية. وفي هذا الاجتماع، تمت عملية تقويم النجاحات التي حققها جيش التحرير الوطني في الولاية الرابعة، مع عرض لإنجازات قوات جيش التحرير الوطني في الولايات الأخرى، وكذلك الموقف السياسي للثورة. ونوقشت الأساليب التعبوية (التكتيكية) للعدو، وما يعانيه هذا العدو من عزلة ديبلوماسية. لقد كان الصراع المسلح لجيش التحرير يحقق كل يوم انتصارات جديدة وكان على المجاهدين طرح بعض المسائل، وعرض الصعوبات التي يصطدمون بها، وتقديم وجيز عن الدروس المستخلصة من تجربتهم القتالية في حربهم الثورية. وتحدث المسؤولون في (بوهندس) عن التحولات التي طرأت على
حياتهم، وعن التدابير التي تم اتخاذها ضد القصف الجوي للعدو (إقامة الملاجيء). وكذلك عن تدابير الحيطة والأمن التي تم اتخاذها، وهجماته المسبلين على مزارع المستوطنين. وقدموا تقريرا عن نشاط الأدلاء والخفراء المراقبين. وانتهى الاجتماع بقراءة تقرير عن الدعم الذي يقدمه الشعب بفئاته المختلفة لقوات الثورة، وتقويم ظاهرة التضامن المثيرة بين كل قوى الشعب للوصول إلى أهدافه في السلام والتقدم.
انصرف بعد ذلك كل واحد للقيام بالأعمال التي يتطلبها الموقف. أما قائد المغاوير الفدائيين (علي خوجه) فقد مضى في سبيله لتفتيش المجاهدين القائمين بواجب الحراسة، وتفقد المسبلين - الأنصار - الذين تمركزوا بعيدا عن (الضهرة). واقترب المساء، وغابت الشمس كعادتها وراء الأفق، وهبط الظلام، وكان وجود المغاوير الفدائيين كافيا لتبديد أية مخاوف - إن وجدت - بين سكان الضهرة، وجلب الطمأنينة والسكون إلى نفوسهم.
عندما أنهى قائد المغاوير الفدائيين جولته، توجه إلى مشتى المسؤول عن عقد الاجتماع الشعبي للمسؤولين في مجالس الولاية عن المنطقة الثانية والإقليم الثاني ممن كانوا حضورا في (بوهندس). وما أن بدأ النقاش السياسي في الاجتماع حتى وصل أحد الأنصار - المسبلين - فأعلم المساعد: بأن هناك حركة كثيفة لرتل عدو يضم دبابات وعربات مدرعة نصف مزنجرة (هاف تراك) ومركبات كبيرة لنقل الجند (كميونات). وأن هذا الرتل يسير على الطريق المتفرع عن طريق (المدية). وأن كل الآليات تسير وهي مطفأة الأنوار بالرغم من ظلمة الليل. ولم تمض أكثر من دقائق قليلة حتى أقبل مسبلان - نصيران - وقدما تقريرهما عن مشاهدتهما
لتحركات قوات راجلة، لوحدات من المشاة - تسير على امتداد الوادي، وعلى خط ذرى الجبال. وفي هذا الوقت ذاته انفجرت نيران غزيرة على الذرى، فأكدت المعلومات عن قيام العدو بالهجوم.
واستعد الفدائيون المغاوير لخوض المعركة خلال دقائق قليلة. واستدعى قائد المغاوير الفدائيين إليه، من كان حاضرا من المسؤولين، وطلب إليهم إبداء وجهات نظرهم في السلوك الواجب اتباعه لمجابهة الموقف. وأثناء ذلك توافرت معلومات أكثر دقة أكدت أن هدف العملية الافرنسية هو تطويق المنطقة المحيطة بقرية (بوهندس). ويظهر أن العدو كان يجهل وجود المغاوير الفدائيين في المنطقة، وأن ما تم تنفيذه في هذه الأمسية - الخميس - هو استعداد لعملية تمشيط - مسح - استعدادا لعملية اليوم التالي -الجمعة -. وكانت الاقتراحات التي قدمها المسؤولون تتركز حول حلين:
…
الأول هو الإفادة من ظلمة الليل لاختراق دائرة الحصار وتركيز الجهد الرئيسي للهجوم من أجل تحقيق الهدف الرئيسي وهو إحداث ثغرة للوصول إلى النهر. أما الحل الثاني، فهو البقاء في دائرة الحصار، لمجابهة قوة العدو في منتصف اليوم التالي - الجمعة - وتكبيدها أفدح الخسائر. وكان رأي المسؤول في (بوهندس) هو الرأي الحاسم إذ قال: (بأن الإفادة من ظلمة الليل لاجراء الاختراق
هو - بالنسبة لجيش التحرير الوطني - بمثابة انسحاب من (الضهرة) وتعريضها لانتقام تجار الحروب. وإذا كان لا بد من الموت، فيجب أن نموت بشرف في ميدان القتال).
واتخذ المغوار (علي خوجة) قراره، وذلك بالدخول في معركة مكشوفة مع العدو، وقبول التحدي المفروض، وقام (علي
خوجة) بإملاء أوامر القتال، واتخاذ المواقف القتالية كالتالي:
أولا: إذا زج العدو الكتلة الرئيسية من قواته عبر الذرى والمجنبة الغربية، فانه يجب على المغاوير الانتشار على امتداد النهر والمنحدرات الشرقية.
ثانيا: يجب على المغاوير قتال العدو فوق كل شبر من الأرض عند تقدمه من خط الذرى نحو الوادي.
ثالثا: على المغاوير الانقسام إلى زمر. عند التحرك إلى نقطة الازدلاف - الاجتماع - الكائنة على خط الذرى. والانتقال من هناك إلى النهر، وعلى كل زمرة أن تصطحب معها واحدا من المسبلين - الأنصار - ليعمل دليلا للزمرة.
بقيت النقطة الأكثر حساسية في الموقف، وهي التفكير بمصير النساء والأطفال والشيوخ من أهالي (بوهندس).وقد تمسك المسؤولون في (الضهرة) بموقفهم تجاه هذه النقطة ولم يتراجعوا عنه: يبقى العجزة والنساء والأطفال في الملاجىء. أما بقية الرجال من غير العجزة، فيبقون مع رجال جيش التحرير ويتبعونهم، سواء كانوا يحملون أسلحة أو لا يحملونها .. وعندما نوقشوا فيما يتضمنه هذا الموقف من الخطورة، كان جوابهم: بأنه من الأفضل لهم أن يستشهدوا في ميدان الجهاد من أن يقتلوا غيلة وفي مواقف الضعف والجبن.
مضت ساعات ليلة الخميس - الجمعة متثاقلة بطيئة، واستسلم كل واحد إلى أفكاره وتأملاته: ترى ماذا سيحل بقرية (بوهندس)؟
…
وهل سينجح العدو في اكتشاف ملاجىء النساء والأطفال؟
…
وهل أن القرار الذي تم اتخاذه هو القرار الأمثل والأفضل، أم هناك حلول أخرى؟ .. إن المغاوير الفدائيين لا
يعرفون الطبيعة الطبوغرافية للمشتى، فهل كان القرار الذي اتخذه قائدهم استجابة لفكرة لم تدرس بصورة جيدة؟ وهكذا كان تفكير كل واحد موجه إلى ما فيه المصلحة العامة. ولم يكن هناك بينهم من فكر في شخصه، أو في أمر يهمه وحده.
كان كل جندي يشعر بنوع من القلق قبل خوض المعركة؛ فهل كان المجاهدون يشعرون بهذا القلق وهم جند الثورة؟ لقد خلق الإنسان في الحياة ليعيشها - يقينا - ولكن في ظروف مغايرة لتلك التي تتطلبها التضحية من كل فرد لرفع راية الجهاد المقدس والذي يخوضه شعب بأكمله. لقد كان دور المجاهد هو الريادة والطليعة أمام حركة شاملة. وقد فرض عليه هذا الدور التاريخي احتمال كافة النتائج، ومجابهة أخطرها، بهدوء مطلق ونكران للذات. وكما يحمل كل واحد في ذاته - أو في الأنا - حوافزه للدفاع عن شخصه وعن ذويه. فقد كان لا بد له من ضمان التجاوزات الضرورية لحدود (الأنا) عندما يتطلب الموقف بعث الأمة التي ينتمي إليها.
طلع سحر يوم الجمعة أخيرا. وغمر الضباب الكثيف (بوهندس) وحمل السحر معه نسمات رطبة حلوة أنعشت نفوس المجاهدين. لقد مضت ليلة الاستنفار، وحدث نوع من الراحة والاسترخاء. ثم أقبل النهار مضيئا، مشرقا، يحمل معه أملا متجددا هو: إظهار قوة العقيدة والفضائل التي يتحلى بها المجاهدون.
ظهرت طائرات الاستطلاع الأولى في سماء (بوهندس). وأخذت في توجيه الرمايات التمهيدية للمدفعية. ومضت ساعة كانت خلالها مدفعية العدو الرابضة في المراكز المحيطة، تصب ثقل قنابلها لسحق (الضهرة الشهيدة). واشتركت مدافع الدبابات في هذا القصف المركز. وكانت طائرات الاستطلاع تتابع بأجهزتها رصد
الرمايات وتوجيهها لتدمير ما بقي من (المشاتي) القائمة في (بوهندس). وأثناء ذلك كان (الاستراتيجيون) الذين قدموا (البرهان) على علمهم ومعرفتهم تحت سماء بلاد أخرى، يستعدون الآن لإطلاق وحداتهم المختارة في الهجوم وهذه الوحدات هي (المظليون). ترى ألم تكن فرقة المظليين العاشرة تخشى من التعرض للسخرية، أو الفشل، وهي الفرقة المختارة في (الحرب ضد العصابات) وهم يزجونها للهجوم على (مشتى)؟
…
لقد كلفت فرقة المظليين العاشرة بالاستيلاء على المناطق المحصنة، فتصورت هذه الفرقة أنها ستهاجم منطقة، مثل منطقة (خط ماجينو الذي لا يقهر). وكانت تلك هي المأساة التي عاشتها الأرض الجزائرية.
انتهت فترة التمهيد المدفعي، وأصدرت القيادة الإفرنسية أوامرها بتضييق حلقات الحصار حول مشتى (بوهندس). وأسرع المظليون - أصحاب القبعات الحمراء والثياب المموهة - بالتقدم على منحدرات المشتى من كل الاتجاهات. وأصدر قائد المجاهدين أمرا بعدم الرمي على الأعداء - المظليين - إلا عندما يصل هؤلاء الى مسافة (رمي الحجر) من مواقع المجاهدين. وهكذا بدأت حشود العدو بالتقدم، وفي اللحظة المناسبة، فتح المجاهدون نيران أسلحتهم، فتمزقت صفوف المظليين الذين كانوا يهرولون بخطوات متسارعة، وسقط جنودهم على الأرض، وحاول الأحياء منهم التشبث بمواقفهم التي وصلوا إليها، غير أن قيادتهم أصدرت إليهم الأمر بالتراجع، وذلك لإفساح المجال أمام نوبة جديدة من (التمهيد المدفعي) وأخذت القنابل في التساقط بغزارة، وبشكل أعمى، حتى حرثت المنحدرات حرثا بالقذائف. وكانت مجموعات
الفدائيين المجاهدين تغير ما بين فترة وأخرى مواقعها. وقامت قوات العدو بهجومها الثاني، غير أن الفشل والدمار كانا من نصيب هذا الهجوم أيضا.
انقسمت قوة الفدائيين المجاهدين إلى مجموعات صغرى، واحتلت مواقع متباعدة جغرافيا، غير أنها بقيت تعمل كما لوكانت رجلا واحدا، مستخدمة كل قدراتها النارية بكفاءة عالية. فرماة الرشاشات الخفيفة كانوا يستخدمون نيرانهم وكأنهم يعزفون على أسلحتهم لحنا شجيا، تطرب له آذان الرجال الجزائريين. وكان لكل رام من رماة (علي خوجه) طريقته الخاصة في إحكام رماياته، وكان كل واحد يعرف كيف يعزف على أداته الموسيقية الخاصة به، ومتى يجب أن يعزف. ليس ذلك فحسب، بل إن كل مجاهد كان يعرف اللحظة المناسبة التي سيبدأ فيها هذا السلاح أو ذاك في التعامل مع العدو. واكتشف العدو مدى الكارثة التي تنتظره على امتداد الجبهة، وعرف قدرة هذه القوة التي تجابهها قواته والتي تمكت من دفن الانساق الأولى من الهجومين فوق المنحدرات. وإذن، فليست (بوهندس) وحدها في المعركة، فالمنتقمون من مجاهدي جيش التحرير الوطني يقفون سدا بين العدو، وبين الضهرة. وقد أكدوا مرة أخرى أنهم في خدمة شعبهم.
اضطرت قيادة فرقة المظليين العاشرة لطلب نجدات جديدة، وقوات دعم إضافية، من أجل مجابهة (مغاوير باليسترو). كما طلبت قيادة قوات العدو أيضا تدخل الطيران، وزج القوات المحمولة جوا. وأظهرت الفرقة العاشرة للمظليين بذلك عجزها عن مجابهة قوة المغاوير التي يقودها (علي خوجة).
ارتفع قرص الشمس حتى بلغ السمت تقريبا. وأشارت عقارب
الساعة إلى الحادية عشرة ظهرا (1100). ترى ماذا تخبيء بقية النهار لهؤلاء المدافعين عن كل شبر من أرض وطنهم، ويضحون بحياتهم فوق كل موطىء قدم، وهم على ما هم عليه من البؤس، وماذا يخبىء لهم القدر؟ لم يكن الوقت في هذه الفترة يعمل لمصلحة الجزائر، ولكن مقابل ذلك، فإن المحصلة العامة للجهود المبذولة لم تكن صلبية. ألم تثمر هذه المحصلة العامة عن ولادة الجزائر الحديثة من خلال ذلك التلاحم بين الشعب وجيشه؟
…
كانت النساء الطاعنات في السن - العجائز - قد غادرن الملاجىء في هذه الفترة، فالمجاهدون يحتاجون إلى الطعام - بالتأكيد - إذا ما استمرت المعركة. فهل سيتركن ثمار (بوهاندس) حتى يأتي المغتصبون فيقطفونها ويأكلونها؟
…
لقد احتدمت المعركة، وانطلقت النسوة (العجائز) للعمل، يبحثن عن الشهداء، ويوزعن الخوخ والدراق اليابس الذي تشتهر به أشجار (بوهندس)، ويتعرضن خلال ذلك لخطر الموت.
ولكن ماذا يمثل الموت لهن عندما يموت الأبناء.
مزقت طائرات (ت - 6) عنان السماء وهي تطلق صواريخها بالعشرات. لكن قدم جيش التحرير الوطني بقيت ثابتة، وأمكن لها خرق بعض الثغرات على المجنبة - الشرقية لطوق العدو. وأمكن الحصول على بعض الغنائم من أسلحة الإفرنسيين. وأعطت (بوهندس) المثل في الشجاعة وحمل السلاح. وكانت كل شجرة، وكل صخرة، تجابه العدو برشقات من الرصاص، فتمزق صفوفه وتكبده الخسائر الفادحة. ولم يكن لقنابل النابالم، أو الصواريخ، أي تأثير في المغاوير المجاهدين الذين يدعمهم شعب مسلح. وتوقف جند العدو عن الهجوم. واكتفوا بممارسة قتال المواقع
والرمايات من مسافات بعيدة.
غابت الشمس، وأمكن للمغاوير المجاهدين فتح ثغرة في تنظيم العدو، وأخذت زمر المغاوير في عبور الثغرة وهي تتبادل الحماية بالتناوب ونجحت عملية العبور. ورافق المسلحون من (بوهندس) قوات المغاوير في عبورهم. وانتهت عملية تجميع القوات في الليل. وكان لا بد من الاستدارة حول قوات العدو الذي أخذ في تطوير عملياته، عن طريق استدعاء قوات جديدة. واستمر صراع المغاوير المجاهدين مع العدو طوال عشرة أيام، لم يتوقف خلالها القتال في الليل أو في النهار. وخلال هذه الفترة بقيت ثمار (بوهندس) هي الطعام الوحيد لعدد كبير من المجاهدين الذين كانوا يتناولون الثمار مع بذورها حتى يحافظوا على قوتهم، ويسدوا بها رمقهم.
خسر المجاهدون في هذا الصراع المرير عددا من شهدائهم، وأصيب عدد منهم بجراح. وكان المجاهدون يحملون معهم قتلاهم حتى لا تتاح للعدو فرصة تدنيس هذه الأجاد الطاهرة التي سقطت حتى تعيش الجزار. واغتيك (بوهندس) وزالت من الوجود. ولكن (بوهندس) لم تمت في الحقيقة غيلة، وإنما فضلت أن تدمر وهي تقاتل. إن (بوهندس) لم تمت إلا لتعود من جديد مزهرة في ربع الحرية.
وتمشي الحرب، وتبت سفوح (بوهندسس) في كل ربع زهور ثقائق النعمان الحمراء. إنها زهور تحمل لون الدم الأحمر القاني. إن هذه الزهور التي تغطي المطقة في الريع شتمد غناءها من دم الأبطال المجاهدين إبناء الشعب.
حطام طائرة أسقطها جيش التحرير