الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الْبَاب السَّادِس)
(فِي ذكر الدولة الشركسية بِمصْر وَالشَّام وأعمالهما)
اعْلَم أَن الشراكسة جنس من التّرْك فِي جنوب الأَرْض لَهُم مَدَائِن عامرة وَلَهُم جمال ومزارع يزرعون وهم تابعون لسلطان سراي قَاعِدَة ملك خوارزم وملوك هَذِه الطوائف لملك سراي كالرعية يقاتلونهم ويسبون مِنْهُم النِّسَاء وَالْأَوْلَاد ويجلبونهم إِلَى أَطْرَاف الْبِلَاد والأقاليم وَكَانَ الْملك الْمَنْصُور قلاوون الَّذِي هُوَ من مُلُوك الأتراك صَاحب مصر قد استكثر من شِرَاء المماليك الشركسية وَكَذَلِكَ أَوْلَاده وَأَوْلَادهمْ وأدخلوهم فِي الخدم الْخَاصَّة وصاروا سلحدارية وجمدارية وجاشنكيرية وَكَبرُوا عمائهم وسلكوا طرائق أستاذيهم مُلُوك التّرْك وأدخلوا السلطنة وغلبوا عَلَيْهَا واستكثروا من جنسهم وَعمِلُوا قَوَاعِد انتظمت بهَا دولتهم وَولي مِنْهُم وَمن أَوْلَادهم السلطنة بِمصْر اثْنَان وَعِشْرُونَ ملكا وَكَانَ ابْتِدَاء ملكهم سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وَمُدَّة ملكهم مائَة وَثَمَانِية وَثَلَاثُونَ سنة فأولهم
(السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر سيف الدّين)
(أَبُو سعيد برقوق بن آنص العثماني كَذَا ذكره المقريزي فِي خططه
) قَامَ بدولة الشراكسة جلبه عُثْمَان بن مُسَافر فَلذَلِك يُقَال لَهُ برقوق العثماني فَاشْتَرَاهُ الأتابك يلبغا الْعمريّ وَهُوَ من جملَة الأتراك الَّذين مسهم الرّقّ مماليك بني أَيُّوب وَإِنَّمَا سمى برقوق لجحوظ فِي عَيْنَيْهِ وتقلبت بِهِ الْأَحْوَال إِلَى أَن صَار أَمِير
مائَة مقدم ألف وَكَانَ أتابكاً للْملك الصَّالح حاجي بن الْأَشْرَف شعْبَان بن حسن بن النَّاصِر بن مُحَمَّد قلاوون وَهُوَ الرَّابِع وَالْعشْرُونَ من مُلُوك الأتراك مماليك الأيوبية المتغلبين عَلَيْهِم وَكَانَ إِذْ ذَاك سنّ الْملك الصَّالح حاجي لما ولي السلطنة عشرَة أَعْوَام وَلَيْسَ لَهُ من السلطنة إِلَّا الِاسْم فألزم الْأُمَرَاء برقوق بخلع الْملك الصَّالح حاجي وبتوليته السلطنة بدله فَخلع بعد سنة وَنصف كَمَا تقدم وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر رَمَضَان سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة وَكَانَ برقوق مُتَمَكنًا من المملكة جمع الْأَمْوَال والخزائن وَاشْترى المماليك الشركسية فتمكنت من الْملك وتلاعبت بعده المماليك الشركسية بِملك مصر وصاروا مُلُوكهَا وسلاطنيها بِالْقُوَّةِ والغلب والاستيلاء وَكَانَت تقع بَينهم فتن وجدال وجلاد وَقتل نفوس وَحرب بسوس وَخَوف وبؤس إِلَى أَن يسْتَقرّ الْأَمر لوَاحِد مِنْهُم فيركب فِي شعار السلطنة وَكَانَ من شعار سلاطنيهم عِمَامَة كَبِيرَة ملفوفة مكلفة يجْعَلُونَ فِي مقدمها ويمينها ويسارها شكل سِتَّة قُرُون بارزة من نفس الْعِمَامَة ملفوفة من نفس الشاش يلبسهَا السُّلْطَان فِي موكبه وديوانه وَذَلِكَ عرف لَهُم وَالْعرْف يحسن ويقبح ويلبس قفطاناً يكون على كتفه قِطْعَة طراز مزركش بِالذَّهَب وَمثله على كتفه الْأَيْسَر ويلبسه الْأُمَرَاء أَيْضا فَلَيْسَ مَخْصُوصًا بالسلطان ويخلع بِمثل هَذَا القفطان على من أَرَادَ وَتحمل على رَأس السُّلْطَان قبَّة صَغِيرَة لَطِيفَة كالجسر فِي وَسطهَا صوره طير صَغِير يظلل السُّلْطَان بِتِلْكَ الْقبَّة وَالَّذِي يحملهَا على رَأس السُّلْطَان هُوَ أَمِير كَبِير وظيفته أَن يصير سُلْطَانا بعد ذَلِك وأكابر أمرائه أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ أَمِيرا بطبلخانة تضرب على أَبْوَابهم صبحاً وعصرا
كل وَاحِد مِنْهُم أَمِير بَابه مقدم ألف بِمَنْزِلَة البيكلاربيكية عِنْدهم ودونهم أَمِير عشرَة مقدم مائَة بِمَنْزِلَة السنجق كل وَاحِد مِنْهُم عمَامَته بقرنين فَقَط ودونهم الخاصكية يكون لَهُ فرس وخادم وعَلى رَأسه زنط عَلَيْهِ عِمَامَة بعذبة يديرها تَحت حنكه ودونهم وهم المشاة على رُءُوسهم طواقٍ من جوخ أَحْمَر ضيق مدخله وَاسع آخِره لاطئ بِرَأْسِهِ وملبوسُ أكثرِهم اللطةُ الْبَيْضَاء المصقولة يكون على كَتفيهِ طرازان من مخمل وأطلس مزركش وَفِي أوساطهم شدود بيض مصقولة يشدونها ويسدلونها ويسدلون أطرافها إِلَى أَنْصَاف سوقهم وَكَأن خيال السلطنة فِي دماغ كل وَاحِد مِنْهُم من حِين يُجلب إِلَى السُّوق إِلَى أَن يَمُوت حَتَّى إِن وَاحِدًا مِنْهُم جلب وَهُوَ حقير فَاحش الْقرعَة فَاحش العرَج قَالَ للدلال الَّذِي يَبِيعهُ هَل اتّفق تولي الْأَقْرَع الْأَعْرَج سُلْطَانا فِي مصر وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَت
لَهُم سماحة وحماسة وصداقة لمن صادقوه وَكَانَت أرزاق مصر بِأَيْدِيهِم وَأهل مصر تتلاعب بهم فِيمَا بيدهم من الأرزاق ثمَّ لما تسلطن برقوق اسْتمرّ سُلْطَانا وَأَنْشَأَ الْمدرسَة الَّتِي بِمصْر بَين القصرين كَانَ مشد عمارتها شركس الخليلي فَقيل فِي ذَلِك الْعَمَل من الْبَسِيط
(قَدْ أَنْشَأَ الظَّاهِرُ السُّلْطَان مَدْرَسَةً
…
فَاقَتْ عَلَى إِرَم فِي سُرْعَةِ العَمَلِ)
(يَكْفِي الخَلِيلَ بِأَنْ جَاءَتْ لخدْمَته
…
صمُّ الجِبَالِ لَها تَمشي عَلَى عَجَلِ)
فَأَقَامَ سُلْطَانا إِلَى أَن اخْتلف عَلَيْهِ الْأُمَرَاء فَخرج عَلَيْهِ تمربغا الأفضلي ويلبغا الْعمريّ فجهَّز عَلَيْهِمَا عَسَاكِر فَكسر وقوى أَمرهمَا وملكا مصر فَإِن برقوقاً عجز عَن النهوض وَقبض عَلَيْهِ فَأخْرج حاجي من دور القلعة وأعيد إِلَى السلطنة وَحبس برقوق بالكرك ثمَّ تسحب من الْحَبْس وَجمع الجيوش وَقَاتل وَغلب على المملكة وأعيد إِلَى السلطنة وَصَارَ يتتبع أعداءه وَمن خرج عَلَيْهِ وَيقدم من وَافقه وحالفه إِلَى أَن اصطفاهم وَمَا صفا لَهُ الزَّمَان وَظن أَنه آمن وَأَيْنَ الْأمان وبرق برق الزيال على برقوق وَشَاهد الِانْفِصَال فعهد بالسلطنة إِلَى وَلَده النَّاصِر فرج وَتُوفِّي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى لَيْلَة الْجُمُعَة وَقت التَّسْبِيح منتصف شَوَّال سنة وَاحِد وَثَمَانمِائَة وَفِي ذَلِك يَقُول أَحْمد الْمقري رحمه الله تعال من الطَّوِيل
(مَضَى الظَّاهِرُ السُّلْطَانُ أَكْرَمُ مَالِكٍ
…
إِلَى رَبِّهِ يَرْقَى إِلَى الخُلْدِ فِي الدَّرَجْ)
(وقَالُوا سَتَأْتِي شِدَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ
…
فَأَكْذَبَهُمْ رَبِّي وَمَا جَا سِوى فَرَجْ)
وَخلف برقوق من الذَّهَب الْعين ألفي ألف دِينَار وَأَرْبَعمِائَة ألف دِينَار وَمن الْخَيل المسومة وَالْبِغَال الفارهة سِتَّة آلَاف وَمن الْجمال خَمْسَة آلَاف وَكَانَ عليق دوابه كل شهر أحد عشر ألف أردب شعير وفول وَكَانَت مُدَّة تصرفه سِتّ عشرَة سنة وَأَرْبَعَة أشهر