الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ثمَّ تولى السُّلْطَان سليم الثَّانِي ابْن سُلَيْمَان خَان)
(وَجلسَ على سَرِير السلطنة فِي سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة)
بُويِعَ بعد موت وَالِده فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور فَلَمَّا جلس على سَرِير السلطنة سَار على نمط وَالِده فِي الْعدْل والإنصاف ثمَّ بَادر فِي قيام شرائع الدّين فَبنى جَامعا عَظِيما بِأَرْبَع منائر كَامِلَة الإرتفاع ب أدرنة ومدرسة عَظِيمَة للْعلم بِعُمُومِهِ ومدرسة مفخمة برسم الْقرَاءَات وَهُوَ أول من عمر ذَلِك الْمحل الْمَذْكُور وَعمر عمَارَة برسم الطَّعَام للخاص وَالْعَام بِمَدِينَة قونية وَعمر خانات للمسافرين فِيهَا كِفَايَة النازلين بهَا مَعَ دوابهم من الطَّعَام وَالشرَاب وَأَنْشَأَ بَلْدَة كَامِلَة تعرف بقره نكار وَكَانَت خربة جَمِيعهَا فَحصل بهَا غابة النَّفْع للْمُسلمين سِيمَا الْمُسَافِرين لِأَنَّهَا كَانَت معقلاً لقطاع الطَّرِيق الكسجية وَله فتوحات عَظِيمَة من أعظمها الأقطار اليمنية لِأَنَّهَا فِي آخر الدولة السليمانية اخْتَلَّ أمرهَا وهجم أَهلهَا الطاغون على أعظم مدنها وملوكه بل سمعنَا أَنه لم يبْق فِي الحماية العثمانية إِلَّا مَدِينَة زبيد فَقَط فَلَمَّا جلس مَوْلَانَا صَاحب التَّرْجَمَة على سَرِير السلطنة أَمر بالتجهيز إِلَيْهَا فعين لذَلِك وزيره الْأَكْبَر سِنَان باشا فبرز من الديار المصرية أَوَاخِر عشر السّبْعين وَتِسْعمِائَة فِي جَيش كثيف بِالْخَيْلِ المسومة والعساكر الشجعان المعظمة وَطَوَائِف من السناجق السُّلْطَانِيَّة وعدة من المدافع فَوق الْمِائَة فَلَمَّا وصلوا إِلَى مَكَّة البهية عرضوا لَهَا عرضة عَظِيمَة وَأظْهر أبهة الْملك وَالسُّلْطَان قَالَ السَّيِّد مُحَمَّد الْحُسَيْنِي فِي تَارِيخه الْمُسَمّى الرَّوْضَة الأنيقة فِي سُلْطَان الْحجاز على الْحَقِيقَة أَخْبرنِي الثِّقَة أَنه سمع كَاتب العساكر أَنهم يعلقون كل لَيْلَة أَرْبَعَة وَعشْرين ألف عليقة وَله فتوحات عَظِيمَة مِنْهَا فتح جزائر ساقس وكل جَزِيرَة فِيهَا مدن عَظِيمَة وكنائس وقلاع حَصِينَة وَعَاد على الْمُسلمين من هَذِه الفتوحات غَنَائِم وَأسرى لَا تعد وَلَا تحصى وانتفع بهَا بَيت المَال وَجَمِيع أَرْكَان الدولة وَسَائِر الرعايا انتفاعاً ظَاهرا غزير الْمَحْصُول كثير الْمَنَافِع وَأمن بذلك الصادرون والواردون بحراً وَبرا
وَله خيرات كَثِيرَة بالحرمين الشريفين من الْأَجْزَاء القرآنية والنقود والحبوب الْمرتبَة كل عَام أُسْوَة أسلافه الْكِرَام طَابَ ثراهم بدار السَّلَام وَكَانَ مَوْلَانَا صَاحب التَّرْجَمَة من طَاعَة وَالِده المرحوم المبرور السُّلْطَان سُلَيْمَان بِمحل لَا يُمكن عَنهُ التَّعْبِير بِحَيْثُ يُرَاجِعهُ فِي الْجَلِيل والحقير ويصبر فِي رِضَاهُ على مضض الدَّهْر وضيق الْعَيْش والضنك والقهر وكل مَا يبلغهُ من حَاسِد ونمام عَن وَالِده بالانتقاص والإعراض عَنهُ وَالْإِشَارَة بالسلطنة إِلَى غَيره من إخْوَته بالإعطاء وتمهيد أَحْوَال السلطنة لغيره لَا يمنعهُ ذَلِك من أَنْوَاع الْبر لوالده بالْقَوْل وَالْفِعْل وَلَا يحملهُ على العقوق خُصُوصا عَن والدته فَإِنَّهَا كَانَت تصرح بِعَدَمِ صَلَاحه للْملك وقابلية غَيره للدولة وَهُوَ على غَايَة من الصَّبْر وَتحمل الْجفَاء وَالتَّصْرِيح بالتفويض إِلَى رب السَّمَاء فَكَانَت طَاعَته لوَالِديهِ مُوجبَة لإنعام الله بِالْملكِ عَلَيْهِ فانقرضت إخْوَته وَأَعْقَابهمْ ووالدته فِي حَيَاة وَالِده طَابَ ثراه فَلَمَّا مَاتَ وَالِده كَمَا ذكرنَا شرفه الله بِالْملكِ على حَالَة هينة لم تقع لأحد من أهل هَذَا الْبَيْت أبدا ودام سُلْطَانه إِلَى أَن مَاتَ على سَرِير ملكه وعزه فِي ثامن شهر رَمَضَان الْمُعظم قدره فِي عَام اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فدرج عَتيق رَمَضَان تغمده الله بِالرَّحْمَةِ والرضوان وَمن أعظم حَسَنَاته عمَارَة الْعين فقد تقدم أَن ابْتِدَاء الْعِمَارَة فِي أَوَاخِر دولة وَالِده السُّلْطَان سُلَيْمَان وتمامها فِي أول دولته وَقد قدمنَا ذكرهمَا ومعاناتهما وَمَا صرف على ذَلِك وَمن خيراته ابْتِدَاء عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة قبل وَفَاته بِسنتَيْنِ وَإِن كَانَ تَمامهَا إِنَّمَا كَانَ فِي دولة وَلَده الْآتِي بعده مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد بن سليم كَمَا سَيَأْتِي ذكر ذَلِك وَله غزوات شهيرة بِالْإِرْسَال وَهُوَ جَالس مَكَانَهُ فتح فِي أَيَّامه السعيدة جَزِيرَة قبرس بِالسِّين الْمُهْملَة لَا بالصَّاد كَمَا تَقوله الْعَامَّة ومدينة تونس الخضراء وممالك الْيمن بأسرها وَتُوفِّي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَمُدَّة سلطنته ثَمَان سِنِين وعمره الشريف ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة وَكَانَ شجاعاً كَرِيمًا مهاباً كثير الْإِحْسَان من قبل أَن يجلس على سَرِير الْملك وَبعده
وَمن غَزَوَاته فتح تونس الغرب وحلتي الْوَادي وَفتح ممالك الْيمن واسترجاعها من أَيدي العصاة الْبُغَاة أهل الْإِلْحَاد وَمِنْهَا فتح جَزِيرَة قبرس بِسيف الْجِهَاد وَهِي جَزِيرَة على الْبَحْر الشَّامي كَثِيرَة الْقطر ومقدارها مسيرَة عشْرين يَوْمًا وَبهَا قرى ومزارع وأشجار ومعادن الزاج القبرسي وَهِي على مر الْأَيَّام رخاؤها شَامِل وَخَيرهَا كَامِل وَبهَا معادن الصفر واللادن الَّذِي يغلب الْعود فِي طيبه وَكَانَ مُعَاوِيَة رضي الله عنه غَزَاهَا وَصَالح أَهلهَا على سَبْعَة آلَاف دِينَار فنقضوا عَلَيْهِ فغزاهم ثَانِيَة فَقتل وسبى شَيْئا كثيرا وَبَين جَزِيرَة قبرس وساحل مصر خَمْسَة أَيَّام وَبَينهَا وَبَين جَزِيرَة رودس يَوْم وَاحِد وَإِنَّمَا سميت جَزِيرَة قبرس بوثن كَانَ هُنَاكَ يُسمى قابرس وَكَانَت أم حرَام بنت ملْحَان الصحابية شهِدت غَزْوَة قبرس فَتُوُفِّيَتْ بهَا وَأهل قبرس يتبركون بقبرها وَيَقُولُونَ هَذَا قبر الْمَرْأَة الصَّالِحَة وَكَانَت سَأَلت رَسُول الله
أَن يَدْعُو لَهَا أَن يجلعها الله من الَّذين يركبون ثبج الْبَحْر مجاهدين فِي سَبِيل الله فَفعل وَهُوَ حَدِيث مَعْرُوف وَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ يَقُول إِنَّا نرى هَؤُلَاءِ يَعْنِي أهل قبرس أهل عهد وَإِن عَهدهم وَقع على شَرط وَأَنه لَا يسع الْمُسلمين نقضه إِلَّا بِأَمْر يعرف بِهِ غدرهم وَرَأى عبد الْملك بن صَالح فِي حدث أحدثوه أَن ذَلِك نقض لعهدهم فَكتب إِلَى عدَّة من الْفُقَهَاء يشاورهم فِي أَمرهم مِنْهُم اللَّيْث بن سعد وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ وَمُحَمّد بن الْحسن فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ وَأجَاب كل وَاحِد بِمَا ظهر لَهُ وَقد فتحت أَيْضا فِي دولة الشراكسة فِي دولة الْملك الْأَشْرَف برسباي وَأسر ملكهَا وَذَلِكَ سنة سبع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة ثمَّ فتحت على يَد السُّلْطَان سليم خَان هَذَا الْمَذْكُور وَكَانَت مُدَّة سلطنته ثَمَان سِنِين كَمَا تقدم ذكر ذَلِك