الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فعدد له كما ترى خصالًا فاضلة من المضاء على الأحداث مقدمًا، والصبر على ألم الجوع، والأنفة من أن يعد الشبعة مغنمًا، وينمم كبرى المكرمات، والتأهب للحرب بأدواتها، ثم عقب ذلك بقوله "فذلك" فأفاد أنه جدير بإنصافه بما ذكر بعده.
وكذا قوله تعالى: {أولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان: 5] ، أفاد اسم الإشارة زيادة الدلالة على المقصود من اختصاص المذكورين قبله باستحقاق الهدى من ربهم والفلاح1.
وإما لاعتبار آخر مناسب2.
1 فقد عقب المشار إليه وهو "الذين يؤمنون" بأوصاف متعددة من الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وغير ذلك ثم عرف المسند إليه بالإشارة تنبيهًا على أن المشار إليهم أحقاء بما يرد بعد "أولئك" وهو كونهم على الهدى عاجلًا والفوز بالفلاح آجلًا من أجل اتصافهم بالأوصاف المذكورة.
2 مثل تنزيل المعقول منزلة المحسوس نحو: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} ، و"ذلك هو النبل والشرف". ومثل تنزيل الغائب منزلة الحاضر، ومثل الاعتبارات التي ستأتي في وضع اسم الإشارة المظهر موضع المضمر.
تعريفه بالام
…
وإن كان باللام 1:
1 أي تعريف المسند إليه باللام، وقيل المعرف هو "ال".... هذا ولام التعريف على قسمين:
1-
لام العهد الخارجي وتحتها أقسام ثلاثة: صريح بأن تقدم له ذكر صراحة -وكنائي بأن تقدم له ذكر كناية- وعلمي بأن لم يتقدم له ذكر أصلًا لكنه معلوم عند الخاطب سواء كان حاضرًا أو لا، ويسميها النحويون إذا كان مدخولها معلومًا حاضرًا لام العهد الحضوري، وإن كان غير حاضر لام العهد الذهني.
2-
لام الحقيقة وتشمل أربعة أقسام: لام الحقيقة من حيث هي وتسمى بلام الجنس - ولام العهد الذهني - ولام الاستغراق الحقيقي - ولام الاستغراق العرفي.. فإن أشير بها للحقيقة من حيث هي فهي لام الحقيقة أو الجنس، وإن أشير بها إلى الحقيقة في ضمن فرد مبهم فهي لام العهد الذهني، وإن أشير بها إلى الحقيقة في ضمن جميع الأفراد فهي للاستغراق.
فأقسام اللام سبعة. وقيل لام الحقيقة أصل ولام العهد الخارجي أصل آخر، وقيل الأصل لام العهد الخارجي، وقيل لام الاستغراق، وقيل الجميع أصول.
فإما للإشارة إلى معهود بينك وبين مخاطبك1، كما إذا قال لك قائل: جاءني رجل من قبيلة كذا، فتقول.. ما فعل الرجل؟، وعليه قوله تعالى:{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} ، أي وليس الذكر الذي طلبت2 كالأنثى التي وهبت لها.
1 أي للإشارة إلى حصة من الحقيقة معهودة بين المتكلم والمخاطب واحدًا كان أو اثنين أو جماعة. يقال: عهدت فلانًا إذا أدركته ولقيته، وذلك لتقدم ذكره صريحًا أو كناية.. فهي للدلالة على معين في الخارج وإما الحقيقة فهي معينة في الذهن.
2 أي الذي طلبته امرأة عمران، فالأنثى إشارة إلى ما تقدم ذكره صريحًا في قوله تعالى:{قَالَتْ رِبِ إَنِّيْ وَضَعْتُهَا أُنْثَى} لكنه ليس بمسند إليه، والذكر إشارة إلى ما سبق ذكره كناية في قوله تعالى:{رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} فإن لفظ "ما" وإن كان يعم الذكور والإناث لكن التحرير وهو أن يعتق الولد لخدمة بيت المقدس إنما كان للذكور دون الإناث وهو المسند إليه.
هذا وقد يستغنى عن ذكره صريحًا أو كناية، وذلك لتقدم علم المخاطب به بالقرينة سواء كان حاضرًا أم لا نحو خرج الأمير إذا لم يكن في البلد إلا أمير واحد. فالعهد الحضوري والعلمي من أقسام العهد الخارجي لتحقق المشار إليه باللام خارجًا.
وإما لإرادة نفس الحقيقة1 كقولك: الرجل خير من المرأة، والدينار خير من الدرهم، ومنه قول أبي العلاء المعري:
والخل كا لماء: يبدي لي ضمائره
…
مع الصفاء، ويخفيها مع الكدر
وعليه من غير هذا الباب قوله تعالي: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَي} ، أي جعلنا مبدأ كل شيء حي هذا الجنس الذي هو الماء، روي أنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء والجن من نار خلقها منه، وآدم من تراب خلقه منه.. ونحوه:{أولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89] .
والمعرف باللام2 قد يأتي لواحد باعتبار عهديته في الذهن لمطابقته
1 ليس المراد من الحقيقة الماهية الموجودة في الخارج بل مفهوم المسمى من غير اعتبار لما صدق عليه ذلك المفهوم من الأفراد. ومن ذلك: اللام الداخلة على المعرفات نحو: الكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد؛ لأن التعريف للماهية، واللام الداخلة على القضية الطبيعية نحو: الحيوان جنس.. وهنا نظر؛ لأن لام الاستغراق ولام العهد الذهني اعتبر فيهما الأفراد مع أنهما من أقسام لام الحقيقة واعتبار الأفراد ينافي عدم اعتبارها، وأجيب بعدم ملاحظة الأفراد فيها بالنظر لذات الكلام وقطع النظر عن القرائن، وذلك صادق بأن لا تعتبر الأفراد أصلًا كما في لام الحقيقة أو تعتبر بواسطة القرائن كالعهد الذهني والاستغراق.
2 أي لام الحقيقة كما في المطول لا اللام مطلقًا، يعني مطبق اسم الجنس المعرف بلام الحقيقة الذي هو موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن على فرد ما مبهم موجود من الحقيقة لمطابقة ذلك الواحد للحقيقة باعتبار كونه معهودًا في الذهن وجزئيًّا من جزئيات تلك الحقيقة مطابقًا إياها، وذلك عند قيام قرينة دالة على أن ليس القصد إلى نفس الحقيقة، كما في لام الحقيقة - من حيث هي هي، بل من حيث الوجود، ولا من حيث وجودها في ضمن جميع الأفراد كما في الاستغراق بل بعض غير معين.
الحقيقة كقولك: ادخل السوق وليس بينك وبين مخاطبك سوق معهود في الخارج1 وعليه قول الشاعر2:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
…
"فمضيت ثمت قلت لا يعنيني"
وهذا يقرب في المعنى من النكرة3، ولذلك يقدر يسبني وصفًا للئيم لا حالًا.
1 وإذا كان هناك عهد في الذهن فلو كان هناك عهد خارجي كانت أل للعهد الخارجي.. ومن أمثلة هذا النوع أيضًا: وأخاف أن يأكله الذئب.
2 هو عميرة بن جابر الحنفي. والبيت في شواهد الجملة الحالية.
3 أي المعرف بلام العهد الذهني في المعنى كالنكرة أي بعد اعتبار القرينة وأما قبل اعتبارها فليس كالنكرة إذا هو موضوع للحقيقة المعينة في الذهن.
وهو من جهة اللفظ يجري عليه أحكام المعارف من وقوعه مبتدأ وذا حال ووصفًا للمعرفة وموصوفًا بها وعطف بيان من المعرفة وعكسه واسم كان ومفعولًا أول لظن. وإنما قال "كالنكرة"، لما بينهما من تفاوت ما، وهو أن النكرة مثل: ادخل سوقًا، معناها بعض غير معين من جملة أفراد الحقيقة، والمعرف بلام العهد الذهني معناه نفس الحقيقة وإنما تستفاد البعضية من القرينة كالدخول والأكل فيما مر، فالمجرد من اللام نحو "سوق" وذو اللام نحو "السوق" بالنظر إلى القرينة سواء وبالنظر إلى نفسيهما مختلفان، وهذا الفرق بناء على أن النكرة موضوعة للفرد المنتشر أما إن كانت موضوعة للماهية فالفرق أن تعين الماهية وعهديتها معتبر في مدلول المعرف بلام العهد الذهني وغير معتبر في مدلول النكرة وإن كان حاصلًا، فالفرق بينهما كالفرق بين اسم الجنس المنكر كأسد وعلم الجنس كأسامة. واعلم أن النكرة سواء كانت موضوعة للفرد المنتشر أو للمفهوم فهي لا توجد إلا في الفرد المنتشر وإنما الخلاف فيما وضعت له.. هذا ولكون المعرف بلام العهد الذهني في المعنى كالنكرة قد يعامل معاملة النكرة ويوصف بالجملة كقوله:
"ولقد أمر على اللئيم يسبني".
وقد يفيد الاستغراق، وذلك إذا امتنع حمله على غير الأفراد وعلى بعضها دون بعض كقوله تعالى:{إن الْانْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 1-2] .
والاستغراق ضربان:
حقيقي1 كقوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة} أي كل غيب وشهادة.
1 أشير باللام إلى الحقيقة لكن لم يقصد بها الماهية من حيث هي هي، ولا من حيث تحققها في ضمن بعض الأفراد بل في ضمن الجميع بدليل صحة الاستثناء الذي شرطه دخول المستثنى في المستثنى منه لو سكت عن ذكره، ودخوله فرع العموم الذي يدل على الاستغراق، وما ذكر شرط بالنسبة للاستثناء المتصل لا مطلقًا.
فاللام التي لتعريف العهد الذهني، والتي للاستغراق، هي لام الحقيقة حملت على ما ذكرنا بحسب المقام والقرينة، ولهذا قلنا إن الضمير في قوله:"يأتي""وقد يفيد" عائد إلى المعرف باللام المشار بها إلى الحقيقة، فالمنظور له في الكل الحقيقة دون بعض الأفراد أو كلها. وأما لام العهد الخارجي فهي قسم برأسها أصل لكل خارجي.. هذا ولا بد في لام الحقيقة من أن يقصد بها الإشارة إلى الماهية باعتبار حضورها في الذهن ليتميز اسم الجنس المعرف كالرجعي عن أسماء الأجناس النكرات كرجعي مثلًا، فالإشارة بها إلى الماهية لا باعتبار حضورها في الذهن وإن كانت حاضرة فيه ضرورة أنها موضوعة لها ولا يضع الواضع لفظًا لمعنى إلا إذا كان حاضرًا في ذهنه، وإذا اعتبر الحضور في الذهن فوجه الفرق بينها وبين المعرف بلام العهد الخارجي العلمي أن لام العهد إشارة إلى حصة معينة من الحقيقة واحدًا كان أو اثنين أو جماعة ولام الحقيقة إشارة إلى نفس الحقيقة من غير نظر إلى الأفراد هذا.. والفرق بين علم الجنس واسم الجنس المعرف أن الأول يدل على التعيين والحضور الذي هو جزء المسمى بجوهر اللفظ والثاني يدل على ذلك بالآلة.
1 وهو أن يراد كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب اللغة.
وعرفي1 كقولنا "جمع الأمير الصاغة" إذا جمع صاغة بلده أو أطراف مملكته فحسب، لا صاغة الدنيا2.
واستغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع3، بدليل أنه لا يصدق "لا رجل في الدار" في نفس الجنس إذا كان فيها رجل أو رجلان، ويصدق "لا رجال في الدار4".
ولا تنافي بين الاستغراق وإفراد اسم الجنس5:
1 وهو أن يراد كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف.
2 قبل المثال مبني على مذهب المازني القائل أن "أل" الداخلة على اسم الفاعل واسم المفعول معرفة لا موصولة، وإلا فاللام في اسم الفاعل عند غيره موصولة.
وفي نظر؛ لأن الخلاف إنما هو في اسم الفاعل والمفعول بمعنى الحدوث دون غيره، نحو: المؤمن والكافر والعالم والجاهل؛ لأنهم قالوا هذه الصفة فعل في صورة الاسم -وأل لا تدخل على الفعل- فلا بد فيه من معنى الحدوث؛ لأنه معتبر في الفعل. ولو سلم جريان الخلاف في اسم الفاعل سواء كان بمعنى الحدوث أو الثبوت فالمراد تقسيم مطلق الاستغراق سواء كان بحرف التعريف أو غيره كالإضافة والموصول فإن الموصول أيضًا مما يأتي للاستغراق نحو "أكرم الذي يأتونك إلا زيدًا" و"اضرب القائمين إلا عمرًا".
3 وكذلك من استغراق المثنى بمعنى أنه يتناول كل واحد واحد من الأفراد والمثنى إنما يتناول كل اثنين اثنين والجمع إنما يتناول كل جماعة جماعة.
4 وهذا في النكرة المنفية مسلم، وأما في المعرف باللام فليس مسلمًا؛ لأن الجمع المعرف بلام الاستغراق يتناول كل واحد من الأفراد، فيكون الجمع المعرف باللام مساويًا في الاستغراق، ولا فرق إلا في المفرد المستغرق فلا يستثني منه إلا الواحد بخلاف الجمع المستغرق فيستثني منه الواحد والمثنى والجمع.
5 لما كان ههنا مظنة اعتراض هو أن أفراد الاسم يدل على وحدة معناه والاستغراق يدل على تعدده وهما متنافيان، قال الخطيب:"ولا تنافي"، وشرح عدم المنافاة.
لأن الحرف إنما يدخل عليه مجردًا عن الدلالة على الواحدة والتعدد؛ ولأنه بمعنى كل الأفرادي لا كل المجموعي، أي معنى قولنا الرجل:"كل فرد من أفراد الرجال لا مجموع الرجال"1، ولهذا امتنع وصفه بنعت الجمع، وللمحافظة على التشاكل بين الصفة والموصوف أيضًا.
فالحاصل أن المراد باسم الجنس المعرف باللام:
إما نفس الحقيقة لا ما يصدق عليه من الأفراد وهو تعريف الجنس والحقيقة، ونحوه علم الجنس كأسامة.
وإما فرد معين وهو العهد الخارجي، ونحوه العلم الخاص كزبد.
وإما فرد غير معين وهو العهد الذهني ونحوه النكرة كرجل.
وإما كل الأفراد وهو الاستغراق، ونحوه لفظ كل مضافًا إلى النكرة كقولنا: كل رجل.
1 الجواب الأول بتسليم أن الوحدة تنافي التعدد والثاني يمنع تنافيهما.. وخلاصة الجواب الأول أن الحرف الدال على الاستغراق كحرف النفي ولام التعريف إنما يدخل على الاسم المفرد مجردًا عن الدلالة على معنى الوحدة والتعدد وامتناع وصفه بنعت الجمع للمحافظة على التشاكل اللفظي.
والجواب الثاني يرجع إلى أن المفرد الداخل عليه حرف الاستغراق بمعنى كل فرد لا مجموع الأفراد، ولأجل كونه بمعنى كل فرد امتنع وصفه بنعت الجمع وإن حكاه الأخفش في نحو "أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض" نظرًا لكون أل للجنس ومدخولها يصدق بالجمع لتحققه.
وقد شكك السكاكي على تعريف الحقيقة والاستغراق بما خرج الجواب عنه مما ذكرنا1:
ثم اختار2-بناء على ما حكاه عن بعض أئمة أصول الفقه من كون اللام موضوعة لتعريف العهد لا غير- أن المراد بتعريف الحقيقة تنزيلها منزلة المعهودة بوجه من الوجوه الخطابية، إما لكون الشيء حاضرًا في الذهن لكونه محتاجًا إليه على طريق التحقيق أو التهكم، أو لأنه عظيم الخطر معقود به الهمم على أحد الطريقين3، وإما؛ لأنه لا يغيب عن الحس على أحد الطريقين لو كان معهودًا.
وقال4:
1 قال السكاكي: "إن قصد به -أي بالمعرف بلام الحقيقة- الإشارة إلى الماهية من حيث هي هي لم تتميز من أسماء الأجناس التى ليست فيها دلالة على البعضية والكلية نحو رجعي وذكري والرجعي والذكري، وإن قصد به الإشارة إليها باعتبار حضورها في الذهن لم يتميز عن تعريف العهد""ص93 من المفتاح"، وجوابه أنا لا نسلم عدم تميزه عن تعرف العهد على هذا التقدير؛ لأن النظر في العهد إلى فرد معين أو اثنين أو جماعة بخلاف الحقيقة فإن النظر فيها إلى نفس المساهمة والمفهوم باعتبار كونها حاضرة في الذهن وهذا المعنى غير معتبر في اسم الجنس النكرة، وعدم اعتبار الشيء ليس باعتبار لعدمه.. وقال السكاكي في تتمة كلامه:"وإن قصد بتعريف الحقيقة" الاستغراق لزم في اللام كونها موضوعة لغير التعريف ولزم مع ذلك أن يكون الجمع بينها وبين لفظ المفرد جمعًا بين المتنافين
…
وكل ذلك على ما يرى فاسد، والأقرب -بناء على قول بعض أئمة أصول الفقه أن اللام موضوعة لتعريف العهد غير- هو أن يقال: المراد بتعريف الحقيقة أحد قسمي التعريف وهو تنزيلها منزلة المعهود بوجه من الوجوه الخطابية إلخ.
2 أي السكاكي.
3 أي التحقيق أو التهكم.
4 أي السكاكي أي أن لام الاستغراق موضوعة في أصلها للحقيقة من حيث هي فتصلح من أصلها للاستغراق ولغيره بحسب اختلاف المقامات، وهذا جواب من السكاكي عن تشكيكه في الاستغراق بعد جوابه عن تشكيكه في تعريف الحقيقة، ومبناه على إدخال لام الاستغراق في لام العهد؛ لأن الاستغراق لا يجوز أن يكون معنى اللام.. ورأيي أن رأي السكاكي في اللام أقرب إلى البلاغة وأبعد عن اصطلاحات المنطق والنحو التي لا طائل تحتها.
"الحقيقة من حيث هي هي لا واحدة ولا متعددة، لتحققها مع الوحدة تارة ومع التعدد أخرى، وإن كانت لا تنفك في الوجود عن أحدهما، فهي صالحة للتوحد والتكثر، فكون الحكم استغراقًا أو غير استغراق إلى1 مقتضى المقام: فإذا كان خطابيًّا2 مثل: "المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم" حمل المعرف باللام -مفردًا كان أو جمعًا- على الاستغراق، بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون آخر مع تحقق الحقيقة فيهما ترجيح لأحد المتساويين، وإذا كان استدلاليًّا حمل على أقل ما يحتمل وهو الواحد في المفرد والثلاثة في الجمع3.
1 خبر "فكون"، أي راجع إلى مقتضى المقام.
2 المقام الخطابي هو الذي يكتفي فيه بالظن، والاستدلالي هو الذي يطلب فيه اليقين.
3 مثل حصل الدرهم وحصل الدراهم، فيجعل الأول على درهم واحد والثاني على ثلاثة؛ لأن هذا هو المتيقن فيهما.
خلاصة للام التعريف وأقسامها:
اللام المعرفة تأتي: للعهد الخارجي، والحقيقة، والعهد الذهني، والاستغراق:
1 أما لام العهد الخارجي:
فهي التي يراد بمدخولها معين في الخارج فردا أو أكثر، ونوعين مدخولها أما: لتقدم ذكره صريحًا أو كناية، وأما لتقدم العلم به سواء كان حاضرًا أو غير حاضر.
فالذكر الصريح مثل: {فَأَرْسَلْنَا إِلَىْ فِرْعَوْنَ رَسُوْلَاً، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُوْل} ، والكنائي مثل:{وَلَيْسَ الذَكَرُ كَالأُنْثَى} فإن الذكر لم يتقدم ذكره صريحًا بل كناية في قوله تعالى: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} فإن ما محتمل للذكر والأنثى ولكن بانضمام قيد التحرير إليه صار مرادًا به الذكر.. ومثال التقدم العلمي وهو مشاهد حاضر أغلق الباب لداخل
.........................................................................
عليك، والعلمي الغير المشاهد:{إِذْ هُمَا فِيْ الغَارِ..} فالمعرف بلام العهد الخارجي نظير ضمير الغائب في وجوب تقدم مدخولها، وهو أيضًا نظير علم الشخص في الدلالة على فرد معين في الخارج. والفرق بينهما "علم الشخص والمعرف باللام هذه" أن التعيين في علم الشخص مستفاد من اللفظ وفيه من اللام.
2 ولام الحقيقة:
هي التي يراد بمدخولها الحقيقة من حيث هي، أي بقطع النظر عن الأفراد وتسمى لام الجنس والطبيعة نحو الرجل خير من المرأة والإنسان حيوان ناطق ولكلمة ما دل على معنى مفرد.. والمراد من الحقيقة هنا ما يفهم من اللفظ سواء كان له تحقق في الخارج بتحقق أفراده: كما قدمنا أو في الذهن فقط نحو: العنقاء والغول.
3 ولام العهد الذهني:
هي التي يراد بمدخولها الحقيقية لا من حيث هي بل باعتبار تحققها في فرد مبهم غير معين لا في الذهن ولا في الخارج، نحو أطعم المسكين صدقة الفطر فإنه ليس المراد بمدخولها الحقيقة من حيث هي؛ لأن الحقيقة لا تطعم، ولا فردًا معينًا؛ لأن الغرض أنه لا عهد ولا تعين له في الخارج ولا في الذهن، كما أنه ليس المراد الحقيقة باعتبارها في جميع الأفراد لاستحالته، بل المراد بعض من الأفراد غير معين فلفظ أطعم قرينة على إرادة الفرد المبهم. ومما ألفت نظرك إليه هنا أن المعرف باللام في هذا القسم بالنظر للقرينة مساو للنكرة في دلالة كل منهما على فرد مبهم وبالنظر إلى لفظه وقع النظر عن القرينة هو معرفة لفظًا ومعنى، أما لفظًا فلوجود اللام المعرفة وأما معنى؛ فلأنه حينئذ دال على الحقيقة في ضمن الفرد عند إرادته والحقيقة معينة، ومن ثم جاز معاملته عاملة النكرة نظرًا إلى القرينة ومعاملته معاملة المعرفة نظرًا للفظ والمعنى بقطع النظر عن القرينة، ولهذا تراهم يقولون في قول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني.
إلخ: إن جملة يسبني يجوز إعرابها حالًا نظرًا؛ لأن اللئيم معرفة، وصفة؛ لأنها نكرة نظرًا للقرينة.
4 ولام الاستغراق:
هي التي يراد بها الحقيقة من حيث وجودها في جميع الأفراد،
.........................................................................
والاستغراق قسمان حقيقي وعرفي، فالحقيقي أن تراد الحقيقة في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب الوضع نحو:{إِنَ الأَبْرَارَ لَفِيْ نَعِيْمٍ} ، والعرفي أن تراد الحقيقة في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللفظ بحسب العرف نحو جمع الأمير الصاغة.
ولكن السكاكيش بعد أن ذكر هذه الأقسام في باب المسند إليه، قال في باب المسند: والقول بكون اللام لتعريف الحقيقة أو الاستغراق مشكل، فأورد اعتراضًا على كونها لتعريف الحقيقة واعتراضًا آخر على كونها للاستغراق، أما حاصل الاعتراض الأول فإنه قال إذا أريد بكونها لتعريف الحقيقة أنها لتعريف الحقيقة من حيث هي بقطع النظر عن حضورها في الذهن لزم أن تكون أسماء الأجناس المصادر المجردة من آل معارف نحو ذكرى ورجعى وضرب وقتل؛ لأنها موضوعة للحقيقة باتفاق، وإذالم يتميز اسم الجنس المجرد من أل عن المقترن بها يكون معرفة وكونه معرفة باطل بدليل أنه لا يصح في الاستعمال العربي وصفه بالمعرفة، فلا يقال رجع رجعي السريعة أو البطيئة، وإنما تعرضت لأسماء الأجناس المصادر دون غير المصادر نحو رجل؛ لأن الأمر هين في مثل رجل. فإنه قيل أنه وضع للفرد المنتشر بناء عليه فلا تعين في مدلوله.
فإن فرق بين اسم الجنس المعرف بلام الحقيقة والمجرد منها بأن الأول موضوع للماهية باعتبار حضورها في ذهن السامع وأن التعيين فيها مقصود ملحوظ بخلاف المجرد منها فإن التعيين فيه حاصل غير مقصود، والفرق واضح بين الحاصل المقصود والحاصل من غير قصد -إن فرق بينهما بذلك كان الفرق صحيحًا ولكن يشكل الأمر من ناحية أخرى. وهي أنه لا يكون هناك حينئذ فرق بين المعرف بلام الحقيقة والمعرف بلام العهد الخارجي العلمي، فإن كلا منهما أشير به إلى معهود في الذهن.. هذا هو إشكال السكاكي بإيضاح.
وقد أجاب عنه بعض الكاتبين في الفرق بين المعرف بلام الحقيقية والمعرف بلام العهد الخارجي العلمي بأن مدلول لام العهد الخارجي فرد معين في الخارج ومدلول لام الحقيقة الملحوظة ذهنًا، والفرق واضح بين المدلولين.
ولكن السكاكي سلك في حل هذا الإشكال مسلكًا آخر، وأجاب عن عن هذا الاعتراض الوارد على كون اللام لتعريف الحقيقة أن اللام لتعريف
.......................................................................
العهد مطلقًا وتعريف الحقيقة من قبيل التعريف العهدي وذلك؛ لأن تعريف العهد معناه الدلالة على ما هو حاضر في ذهن السامع معهود بين المتكلم والمخاطب عهدًا تحقيقيًّا أو تقديريا تنزيلًا، فالعهد التحقيقي أن يتقدم ذكر مدلولها صريحًا أو كناية أو يتقدم العلم به وتسمى اللام حينئذ لام العهد الخارجي، والعهد التقديري التنزيلي هو ألا يتقدم ذكر مدخولها لا صريحا ولا كناية ولا يتقدم العلم به ولكنه منزل منزلة المعهود في ذهن السامع لاعتبارات خطابية يأتي تفصيلها وهذا العهد يسمى التعريف فيه بتعريف لام الحقيقة سواء أريد بمدخولها الحقيقة من حيث هي أوفى ضمن فرد مبهم.
وتسمى اللام حينئذ لام العهد الذهني فلام الحقيقة والعهد الذهني تسميان بلام العهد الذهني على رأي السكاكي وهي لم يشر بها إلى تعيين مدخولها في ذهن السامع على سبيل التحقيق بل على سبيل تنزيله منزلة المعهود في ذهن السامع ولا عهد في الواقع. ولكي ينكشف لك مذهب السكاكي انكشافًا أكثر أذكر ما قاله الشيرازي: فالفرق بين اسم الجنس المنكر والمعرف أنك إذا قلت جاء رجل كنت قد أحدثت في ذهن السامع شيئًًًًًا ما كان حاضرًا فيه ولا مقدرًا حضوره بوجه من الوجوه الخطابية الآتية، وإذا قلت جاء الرجل أو جاء الحبيب مثلًا من غير أن يتقدم له ذكر ولا علم كنت قد أشرت إلى موجود في ذهنه حاضرًا على وجه الفرض والتقدير، فاسم الجنس المعرف تعريف الحقيقة زاد على مفهوم غير المعرف منه بهذا القدر من التعيين وهو فرض وجوده الخطابي، وبهذا القدر من التعيين استحق اسم التعريف.. والوجوه الخطابية التي تجعل مدخول لام الحقيقة حاضرًا في الذهن على وجه الفرض والتقدير ترجع لأمور كثيرة: منها أن يكون محتاجًا إليه على طريق التحقيق
أو التحكم نحو الدينار خير من الدرهم والمسلم حضر يريد غير معين تهكما به حيث لا يعمل بمقتضى الإسلام، أو أن يكون عظيم الخطر معقودًا به الهمم نحو والذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة، أو يكون حاضرًا لا يغيب عن الحس نحو جاء الحبيب.
هذا هو اعتراض السكاكي الذي أورده على كون اللام لتعريف الحقيقة وهذا هو جوابه عنه وجواب غيره.. أما اعتراضه على كون اللام للاستغراق فقد قال: إن القول بكون اللام للاستغراق يلزم عليه الجمع بين المتنافيين وذلك بأن اللام تدل حينئذ على التعدد والمفرد الداخلة عليه على الوحدة، والتعدد والوحدة متنافيان وقد أجاب عن هذا الاعتراض بأن الاستغراق ليس مستفادًا من المعرف باللام بطريق الوضع وإنما يفهم من المقام، فإن الحقيقة من حيث هي ليست متوحدة لتحققها مع التعدد ولا متعددة لتحققها مع الوحدة إذ كانت ليست للتعدد فقط ولا للتوحد فقط.
فكون الحكم المحكوم به على مدخول اللام مستغرقًا لجميع أفراده وغير مستغرق يرجع إلى مقتضى المقام فإذا كان المقام خطابيًّا يكتفي فيه بالظن حمل الحكم على الاستغراق وأن المراد بمدخولها العام سواء كان مدخولها مفردًا نحو المؤمن غر كريم أو جمعًا نحو المؤمنون هينون لينون فالمقام هنا خطابي؛ لأن هذه الأمثلة من القضايا المقبولة من جهة الشرع وهنا أريد بمدخولها الاستغراق والحكم ثابت لجميع الأفراد بسبب أن المتكلم يلقى في خيال السامع أن تخصيص الحكم ببعض المؤمنين دون بعض مع تحقق حقيقة الإيمان في كل منهما ترجيح لأحد المتساويين بلا مرجح، فوجب الحمل على الاستغراق من أجلها.
أما إذا كان المقام استدلاليًّا، فيحمل مدخول اللام على المتيقن وهو الواحد في المفرد والثلاثة في الجمع نحو حصل الدرهم، فيراد من الدرهم واحد فقط، وحصل الدراهم ويراد ثلاثة فقط.
وقد أجاب صاحب الإيضاح عن هذا الاعتراض الثاني بجوابين الأول بالمنع والثاني بالتسليم، أما جواب المنع فحاصله أن المراد بالعموم المدلول عليه بأداة الاستغراق الكل الأفرادي لا الكل المجموعي، والفرق بينهما أن يراد من مدخول اللام كل واحد بدلًا عن الأفراد لا كل واحد مجتمع مع الآخر، وهذا لا ينافي الوحدة في المدلول، وأما الكل المجموعي فيراد فيه الفرد مجتمعًا مع الآخر، وهذا الذي ينافي الوحدة في المدلول وهو غير المراد. وجواب التسليم: سلمنا فرضًا أن الوحدة هنا تتنافى مع التعدد، كأن أداة الاستغراق تدخل على المفرد مجردًا عن الوحدة والتعدد، فيصلح لأن يراد الحقيقة في ضمن الجميع.