الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبرد وأثره في البيان العربي:
1-
المبرد عالم جليل من أعلام اللغة العربية عاش في القرن الثالث "210-285هـ" يخدم اللغة والثقافة، ويدرس مذهبه في النحو وآراءه فيه لتلاميذه، ويبحث ويكتب ويؤلف ويعمل، حتى أصبح بحق شيخ العلماء والنحاة وإمام العربية وقطبها.. وأهم مؤلفات المبرد هو كتابه الكامل، الذي يعد من أهم مصادر الأدب العربي وضمنه آراءه في الأدب والنقد والبيان، وأشار فيه إلى بعض آرائه في النحو العربي ودراسته. وكتاب الكامل مجموعة كبيرة من الأدب العربي، شعره ونثره، في العصر الجاهلي والإسلامي والأموي وصدر عصر المحدثين، ساقها المبرد على غير نظام ولا ترتيب، وأضاف إليها شروحًا وتعليقات وتفسيرات وتوجيهات قيمة في دراسة الأدب العربي ونحن لا يعنينا هنا إلا أن ندرس كل ما يتصل بالبلاغة والبيان في كتاب "الكامل للمبرد" لنتبين أثره في هذا الميدان.
2-
والبيان العربي أو قل البلاغة العربية دراسة لأصول التعبير والأداء والذوق الأدبي في اللغة العربية.
وقد ساعد على إنضاج هذه الدراسات مجهود العلماء المتواصل إلى آخر القرن الثالث الهجري، في كشف أسرار البلاغة العربية، ودراسة أصولها وعناصرها وألوانها، ولكن مجهود هؤلاء كان مفرقًا موزعًا على المناسبات، يأتي عرضًا حين تحليل بيت أو ذكر قصيدة، وأهم العلماء الذين كان لهم أثرهم في بدء نواة هذه البحوث البيانية هو الجاحظ صاحب البيان والتبيين. ثم جاء المبرد، وألف كتابه "الكامل"، فجاء فيه عرض لكثير من الآراء في البيان والبلاغة، بعضها استنبطه وابتكره، وبعضها الآخر تابع فيه الباحثين قبله كالجاحظ وابن قتيبة وسواهما. هذا فضلًا عن أنه ألف كتاب "قواعد الشعر".
وكتاب "البلاغة1" مما لا شك في تعلقه واتصاله بالبيان ودراسات البلاغة في مرحلة نشأتها الأولى.
3-
ونحن نشير هنا إلى أهم هذه الآراء التي وردت في "الكامل":
أ- أشار المبرد إلى أسلوب القلب2 في كامله، وذهب إلى جوازه في الكلام للاختصار إذا لم يدخله لبس2، وعلى نهج المبرد في ذلك سار ابن فارس في الصاحبي3، ويسمى قدامة هذا الأسلوب "المقلوب" ويجعله من عيوب ائتلاف المعنى والوزن معًا4. وأشار المبرد في "الكامل" إلى أسلوب "الالتفات5". قال:"والعرب تترك مخاطبة الغائب إلى مخاطبة الشاهد ومخاطبة الشاهد إلى مخاطبة الغائب6. وقد سبق أبو زيد في "جمهرة أشعار العرب" المبرد إلى ذكر هذا الأسلوب7 وسار على نهجه ابن فارس8.
وعرف المبرد السجع بأنه ائتلاف أواخر الكلام على نسق، كما تأتلف القوافي9. وهو روح كلام الجاحظ الذي عرف السجع بأنه الكلام المزدوج على غير وزن10. والسجع يذكره أرسطو في خطابته ويوجب أن "يكون كل واحد من المصاريع مسوقًا إلى المصراع الذي
1 88 فهرست ابن النديم.
2 217/ 1 الكامل للمبرد، وص38 من كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن الكريم للمبرد.
3 ص173/ الصاحبي في فقه اللغة العربية.
4 130 نقد الشعر.
5 271/ 1 و30/ 2 الكامل للمبرد.
6 30/ 2 الكامل.
7 ص3 الجمهرة ط1926.
8 172 الصاحبي.
9 382/ 1 الكامل.
10 133/ 1 البيان والتبيين ط1927.
يليه والذي إنما يتم به المعنى"1 ويذكر الجاحظ آراء رجال البيان في السجع وآثر المطبوع منه2، كما أشار الجاحظ إلى الازدواج3. ويذكر مؤلف نقد النثر أن "من أوصاف البلاغة السجع في موضعه وعند سماع القريحة به وأن يكون في بعض الكلام لا في جميعه"4.
ب- وقسم المبرد في "كامله" الكلام إلى الاختصار المفهم والإطناب المفخم، وقال: "وقد يقع الإيماء إلى الشيء فيغني عند ذوي الألباب وإن قيل بل الكلام القبيح في الحسن أظهر كان ذلك، ولكن يغتفر السيء للحسن والبعيد للقريب5.
جـ- ويشير المبرد إلى التعقيد اللفظي في بيت الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكًا
…
أبو أمه حي أبوه يقاربه
ويشرح البيت وينقده6.
و ويشير إلى أسلوب الاستعارة التمثيلية في قولك: "فلان عليه دين أو ركبه دين" تريد أن الدين علاه وقهره7، ويذكر مثلًا للتمثيل كقوله تعالى:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه} وسواه 8. ويشير إلى مثل للاستعارة ويحللها9، ويشير أيضًا إلى الاستعارة10 ويقول: "والعرب تستعير من بعض لبعض"11. وقد سبقه
1 الخطابة من كتاب الشفاء لابن سينا.
2 194/ 1 وما بعدها من البيان والتبيين.
3 96/ 2 و16/ 3 البيان.
4 107 نقد النثر.
5 17/ 1 الكامل للمبرد طبعة التجارية 1355هـ.
6 ص18/ 1 الكامل.
7 24/ 1 المرجع.
8 76/ 1 المرجع.
9 37/ 1 الكامل.
10 57/ 1 المرجع.
11 167 جـ1 المرجع.
الجاحظ بتعريف الاستعارة1 الذي هو روح تعريف المبرد.. ويحال المبرد في الكامل مثلًا من أمثلة التجريد2. ويشير إلى أسلوب اللف والنشر، فيقول: "والعرب تلف الخبرين المختلفين ثم ترمي بتفسيرهما جملة، ثقة بأن السامع يرد إلى خبره إلخ"3، وسار على نهجه الصاحبي4. وقدامة يسمي ذلك صحة التفسير5. ويشير المبرد إلى مثل للكناية الاصطلاحية6، ويسميها ابن فارس في الصاحبي الإيماء7. ويقسم الكلام إلى مصرع وما يكنى عنه بغيره وما يقع مثلًا فيكون أبلغ في الوصف، ويذكر أقسام الكناية8، وإن كل المبرد يقصد الكناية اللغوية لا الاصطلاحية وكذلك فعل ابن فارس في الصاحبي9. ويشير المبرد إلى أسلوب التغليب: كالقمرين للشمس والقمر، والعمرين لأبي بكر وعمر10.
هـ- ويذكر أيضًا بيتين للقتال الكلابي ويقول: البيت الثاني توكيد للأول11. وهذا أحد أسباب الفصل عند البلاغيين، ولا نجد أحدًا أشار إلى سبب من أسبابه قبل المبرد، وإن كان الجاحظ قد أشار إلى الفصل والوصل ومكانتهما في البلاغة12.. ويشير المبرد إلى ورود همزة الاستفهام13 للتقرير ويذكر إفراط الشعراء في مثل من الشعر14. وقد سبقه ابن قتيبة م 276هـ إلي الإشارة إلى مثل للإفراط من شعر الشعراء وذلك في كتابه "الشعر والشعراء".
1 114 جـ1 البيان والتبيين.
2 35 و36/ 1 الكامل.
3 75/ 1 المرجع.
4 206 الصاحبي.
5 81 نقد الشعر.
6 77 و116/ 1، 92 و281/ 2 الكامل للمبرد.
7 210 الصاحبي.
8 5 و6 جـ2 الكامل.
9 218 و219 الصاحبي.
10 84/ 1 الكامل.
11 125/ 1 الكامل، و23 وما بعدها من كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه للمبرد طبع القاهرة عام 1350هـ.
12 76/ 1 البيان والتبيين.
13 35/ 1 الكامل.
14 173/ 1 و44/ 2 و46 و76 و77 و87/ 2 الكامل.
"و" ويشير المبرد إلى مثل للمجاز المرسل1. وفي أدب الكاتب لابن قتيبة باب سماه "باب تأويل كلام من كلام الناس مستعمل"2 ذكر فيه مثلًا كثيرة للمجاز المرسل. ويشير المبرد إلى مثل من أمثلة المجاز العقلي3. ويحلل قول الشاعر:
"متقلدًا سيفًا ورمحًا"
ومثلًا أخرى تشبهه4. وهذه المثل يجوز أن تكون من أسلوب المشاكلة الذي سبق المبرد إلى تقريره. ويشير إلى التشبيه5، ويعقد له بابًا يذكر فيه "ما للعرب من التشبيه المصيب والمحدثين بعدهم"6.
وقد أفاض المبرد في استطراد في ذكر ما يستجاد من التشبيه في شعر القدامى والمحدثين وحلل ما أتي به ذاكرًا كثيرًا من أصول التشبيه، فتكلم على جهة الشبه وأنه إنما ينظر إلى التشبيه من حيث وقع7 ويذكر كثرة التشبيه في الكلام8، ويشرح التشبيه في الآية الكريمة:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} شرحًا وافيًا9. ويذكر أقسام التشبيه: المفرط والمصيب والمقارب والبعيد10، وأن منه تشبيه شيء في حالتين بشيئين مختلفين 11 كقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا
…
لدى وكرها العناب والحشف البالي
إلى ما سوى ذلك من بحوثه في باب التشبيه الذي شرح فيه أسراره وبين ألوانه وفصل القول في كثير من مناحيه، والباب حافل بكثير من ألوان النقد الأدبي وهو أصل عظيم لدراسة التشبيه عند البيانيين -ويذكر المطابقة12. وبعض عيوب البيان كاللحن وفساد
1 212/ 1 و222 و68/ 2 الكامل، 13 و14 من كتاب ما اتفق لفظه للمبرد.
2 26-34 أدب الكاتب.
3 79 و128 و168/ 1، و238 و249/ 2 الكامل.
4 218/ 1 الكامل.
5 246/ 1 الكامل.
6 35-101/ 2 الكامل.
7 47/ 2 الكامل.
8 69 و90/ 2 المرجع.
9 69 و70 جـ2 الكامل.
10 87/ 2 الكامل.
11 35/ 2 الكامل.
12 241/ 1 الكامل.
الملكات1 واللكنة2 وكالاستعانة ويعرفها بأنها أن يدخل في الكلام ما لا حاجة بالمستمع إليه ليصحح وزنًا إن كان في شعر وليتذكر ما بعده إن كان في نثر3. وفي خطابة أرسطو "ومن الأشياء المفسدة لرونق النظم إدخال كلام في كلام وهو الاعتراض الطويل بين الكلام المتصل بعضه ببعض4، ويشير العتابي الشاعر إلى الاستعانة ويشرحها5 بما لا يخرج عن كلام المبرد، ويذكر قدامة أن من نعوت الكلام ألا يكون الوزن قد اضطر إلى إدخال معنى ليس الغرض في الشعر محتاجًا إليه حتى إذا حذف لم تنقص الدلالة لحذفه6 ويذكر المعاظلة وأن ثعلبًا عرفها بأنها مداخلة الشيء في الشيء7، ويذكر الحشو ويجعله من عيوب الكلام ويعرفه بأنه أن يجيء البيت بلفظ لا يحتاج إليه لإقامة الوزن8. إلى غير ذلك مما ذكره المبرد وما عرض له من آراء في البيان.
وبعد فلا شك أن هذه الآراء كلها وردت مبثوثة مفرقة في الكامل وخالية من الاصطلاحات العلمية وحينما يقف عند أسلوب من أساليب البيان ويحلله ويعجب به ولا يسميه؛ لأن علماء البيان والأدب لم يكونوا قد وضعوا له اسمًا وإنما بلاغته وسحره لا يخفيان على متذوق.. وبحسبي هذا اليوم ففيه كفاية، وهو يرشد إلى أثر الكامل في هذه الدراسات، وإن كان أثرًا محدودًا، شأنه في ذلك شأن من سبقه من العلماء الذين كانوا لا يزالون يكشفون أسرار البيان العربي.
1 297/ 1 المرجع.
2 369/ 1.
3 19/ 1 الكامل.
4 الفن الرابع من المقالة الثامنة من الشفاء لابن سينا.
5 90/ 1 البيان والتبيين، 190/ 1 العمدة لابن رشيق.
6 99 نقد الشعر.
7 104 نقد الشعر.
8 128 نقد الشعر.