الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في متعلقات أحوال الفعل
مدخل
…
القول في متعلقات أحوال الفعل:
حال الفعل مع المفعول1 كحاله مع الفاعل، فكما أنك إذا أسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك أن تفيد وقوعه منه لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط، كذلك إذا عديته إلى المفعول كان غرضك أن تفيد وقوعه عليه لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط، فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما إنما كان ليعلم التباسه بهما2،
1 قد أشير في التنبيه الذي ذكره الخطيب قبل هذا الباب إلى أن كثيرًا من الاعتبارات السابقة تجري في متعلقات الفعل لكن ذكر في الباب تفصيل بعض من ذلك لاختصاصه بمزيد من البحث. هذا وراجع المفتاح ص97 وما بعدها والدلائل ص118 وما بعدها في هذه البحوث.
والمراد المفعول به بدلالة قول الخطيب "من جهة وقوعه عليه" وقوله "نزل الفعل المتعدي منزلة اللازم".. وإن كان سائر المفاعيل بل جميع المتعلقات كذلك، فإن الغرض من ذكرها مع الفعل إفادة تلبسه بها من جهات مختلفة، لكن خص البحث بالمفعول به لقربه من الفاعل ولكثرة حذفه كثرة شائعة، وسائر المعلقات تعلم بالمقايسة.
والمراد كما قال الشربيني أن الفعل بالنظر للمفعول كالفعل بالنظر للفاعل فلما كان المقصود في التمهيد بيان حال الفعل بالنظر لهما كانا متبوعين له ولما كان قيدين له لبيان حالة قال السعد "من ذكره معه" أي ذكر كل إلخ.
2 المراد بالتلبس التعلق والارتباط وقوله "بهما" أي بالمفعول والفاعل. والمراد إفادة التلبس نفيًا أو إثباتًا فدخل ما ضرب زيد وما ضرب زيدًا. وفي العبارة مسامحة إذ ليس الغرض من ذكر كل منهما مع الفعل إفادة تلبس الفعل بكل منهما فالأظهر أن يقول: أي تلبس الفعل بما ذكر معه. وقال عبد الحكيم: أي تلبس الفعل بكل منهما والمعنى أن الغرض من ذكر واحد منهما مع الفعل أي واحد كل منهما تلبس الفعل بذلك الواحد أي واحد كان؛ لأن الضمير المفرد إذا كان راجعًا إلى التعدد باعتبار كل واحد يكون المراد أي واحد لا كل واحد على سبيل الشمول، فلا اشتباه في صحة هذه العبارة وإن خفي على بعض الأذكياء وقالوا إنها تفيد أن الغرض من ذكر كل منهما إفادة تلبس الفعل مع كل منهما وهذا لا يصح.
فعمل الرفع في الفاعل ليعلم التباسه به من جهة وقوعه منه، والنصب في المفعول ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه. أما إذا أريد الأخبار بوقوعه في نفسه من غير إرادة أن يعمل ممن وقع في نفسه أو على من وقع، فالعبارة عنه أن يقال كان ضرب أو وقع ضرب أو وجد أو نحو ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرد1. وإذا تقرر هذا فنقول:
الفعل المتعدي إذا أسند إلى فاعله ولم يذكر له مفعول فهو على ضربين:
الأول: أن يكون الغرض إثبات المعنى في نفسه للفاعل على الإطلاق أو نفيه عنه كذلك، وقولنا:"على الإطلاق" أي من غير اعتبار عمومه
1 ويقول عبد القاهر في الدلائل ص118: "وإذ قد بدأنا في الحذف بذكر المبتدأ فإني أتبع ذلك ذكر المفعول به إذا حذف خصوصًا، فإن الحاجة إليه أمس، وهو بما نحن به أخص، واللطائف كأنها فيه أكثر، وما يظهر بسببه من الحسن أعجب وأظهر. وههنا أصل يجب ضبطه، وهو أن حال الفعل مع المفعول الذي يتعدى إليه حاله مع الفاعل، وكما أنك إذا قلت ضرب زيد فأسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك من ذلك أن تثبت الضرب فعلًا له لا أن تفيد وجود الضرب في نفسه وعلى الإطلاق، كذلك إذا عديت الفعل إلى المفعول فقلت ضرب زيد عمرًا، كان غرضك أن تفيد التباس الضرب الواقع من الأول بالثاني ووقوعه عليه، فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما إنما كان من أجل أن يعمل التباس المعنى الذي اشتق منه بهما، فعلم الرفع في الفاعل ليعلم التباس الضرب به من جهة وقوعه منه، والنصب في المفعول ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه، ولم يكن ذلك ليعلم وقوع الضرب في نفسه، بل إذا أريد الإخبار بوقوع الضرب ووجوده في الجملة من غير أن ينسب إلى فاعل أو مفعول أو يتعرض لبيان ذلك فالعبارة فيه أن يقال: كان ضرب أو وقع ضرب وما شاكل ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرد في الشيء" أ. هـ عبد القاهر. وقد نقل الخطيب في الإيضاح كلام الدلائل بالنص.
وخصوصه ولا اعتبار تعلقه بمن وقع عليه1، فيكون المتعدي حينئذ بمنزلة اللازم، فلا يذكر له مفعول، لئلا يتوهم السامع أن الغرض الإخبار به باعتبار تعلقه بالمفعول، ولا يقدر أيضًا؛ لأن المقدر في حكم المذكور2.
1 زاد "على الإطلاق" المفسر بعدم اعتبار العموم في الفعل وفي المتعلق ولو كان التنزيل إنما يترتب على إرادة مجرد ثبوته للفاعل ليلائم قوله بعد "ثم إن كان المقام خطابيًّا لا استدلاليًّا إلخ"؛ لأن تفصيله إلى إفادة العموم أو الخصوص إنما يتأتى في الفعل المطلق عن التقييد بكل منهما. كذا قيل، والحق أن إسقاط لفظ الإطلاق لا ينافي التفصيل بل هو أنسب على ما يأتي تحقيقه أ. هـ ابن يعقوب. هذا والعموم في الفعل بأن يراد جميع أفراده والخصوص فيه بأن يراد بعضها، وقوله: ومن غير اعتبار تعلقه بمن وقع عليه أي فضلًا عن عمومه وخصوصه.
2 وسيأتي ذكر الضرب الثاني بعد قوله "والضرب الثاني أن يكون الغرض إفادة تعلقه بمفعول فيجب تقديره بحسب القرائن ثم حذفه من اللفظ إما للبيان بعد الإيهام إلخ".
وقال العصام والمراد بالإطلاق أن لا يتقيد بالمعقول به، لكن فسره المصنف في الإيضاح بالإطلاق عن المفعول عاما كان أو خاصا والإطلاق عن عموم نفس الفعل -بإرادة جميع أفراده- وعن خصوصه -بإرادة بعض أفراده- وفيه أن التنزيل منزلة اللازم لا يتوقف على الإطلاق بهذا المعنى فإن لك أن تقول: فلان يعطي كل إعطاء أو إعطاء كذا.. ثم قال العصام: "نزل الفعل منزلة اللازم". لم يقل جعل لازمًا؛ لأنه في معنى المتعدي؛ لأن "يعطي" بمعنى يفعل الإعطاء إلا أنه لما كان المفعول داخلًا في معناه ليحتج إلى ذكر مفعول فصار كاللازم في أنه يطلب منصوبًا.
هذا واعتبار العموم أو الخصوص في الفعل لازم للعموم أو الخصوص في المفعول، فالمدار إذا على العموم أو الخصوص في المفعول إذ عدم اعتبار العموم أو الخصوص في الفعل ليس له شأن بأمر تنزيل المتعدي منزلة اللام، يدل على ذلك كلام عبد القاهر ونصه: اعلم أن أغراض الناس يختلف في ذكر الأفعال المتعدية فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقصروا على إثبات المعاني التي اشتقت منها للفاعلين من غير أن يتعرضوا لذكر المفعولين. فإذا كان الأمر كذلك كان الفعل المتعدي كغير المتعدي مثلًا في أنك لا ترى له =
.........................................................................
= مفعولًا لا لفظًا ولا تقديرًا ومثال ذلك قول الناس فلان يحل ويعقد ويأمر وينهي ويضر وينفع وكقولهم هو يعطي ويجزل ويقري ويضيف، المعنى في جميع ذلك على إثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق وعلى الجملة من غير أن يتعرض لحديث المفعول حتى كأنك قلت: صار إليه الحل والعقد، وصار بحيث يكون منه حل وعقد وأمر ونهي وضر ونفع. وعلى ذلك قوله تعالى:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، المعنى هل يستوي من له علم ومن لا علم له من غير أن يقصد النص على معلوم، وكذلك قوله تعالى:{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى، وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} ، وقوله: وأنه هو أغنى وأقنى -أي أعطى ما يقتنى- المعنى هو الذي منه الإحياء والإماتة والإغناء والإفناء. وهكذا كل موضع كان القصد فيه أن يثبت المعنى في نفسه فعلًا للشيء وأن يخبر بأن من شأنه أن يكون منه أو لا يكون إلا منه "أي على إفادة التقوي أو الخصيص" أو لا يكون منه فإن الفعل لا يعدي هناك؛ لأن تعديته تنقض الغرض وتغير المعنى. ألا ترى أنك إذا قلت هو يعطي الدنانير كان المعنى على أنك قصدت أن تعلم السامع أن الدنانير تدخل في عطائه أو أنه يعطيها خصوصًا دون غيرها وكان غرضك على الجملة بيان جنس ما تناوله الإعطاء لا الإعطاء في نفسه ولم يكن كلامك مع من نفى أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه بل مع من أثبت له إعطاء إلا أنه لم يثبت إعطاء الدنانير فاعرف ذلك فإنه أصل كبير عظيم النفع. فذا قسم من خلو الفعل عن المفعول وهو ألا يكون له مفعول يمكن النص عليه "118 و119 دلائل".
وكلام السكاكي أيضًا في هذا الموضوع على نهج كلام عبد القاهر حيث جعل من أسباب ترك ذكر المفعول: القصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدي منزلة اللازم ذهابًا في نحو فلان يعطي إلى معنى يفعل الإعطاء ويوجد هذه الحقيقة إيهامًا للمبالغة بطريق المذكور في إفادة اللام للاستغراق وعليه قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] ، المعنى وأنتم من أهل العلم المعرفة.
وقد فسر الخطيب وغيره "الإطلاق" هنا بشيئين: عدم اعتبار العموم أو الخصوص في الفعل، وعدم اعتبار التعليق بالمفعول. واعترض على الخطيب بأن عدم اعتبار العموم أو الخصوص في الفعل لا دخل له في تنزيله.
...........................................................................
منزلة اللازم؛ لأن مناط التنزيل هو عدم اعتبار التعلق بمفعول فضلًا عن أن عدم اعتبار العموم أو الخصوص في الفعل ينافي إفادته التعميم كما سيأتي عن السكاكي والاعتراض الأول للعصام والثاني للسعد، وقد أجاب السعد عن الثاني بجواب عده السيد ضعيفًا. وخلاصة الاعتراض الثاني هو أن التعميم في أفراد الفعل ينافي كون الغرض من الفعل إثباته أو نفيه مطلقًا، وقد رد هذا الاعتراض السعد بأن المفاد غير الغرض، واستضعف السيد هذا بدليل أن الخارج عن القصد لا يعد من الخصوصيات، ورد العصام على السيد بأن الذي لا يكون من الخصوصيات هو الذي لا يتعلق به الغرض أصلًا لا ما كان غرضًا من حاق الكلام، وكذلك رد عبد الحكيم على السيد بأن التعميم من مستتبعات التركيب.
أما السيد فرد بأنه لا منافاة: لأن التعميم لم يستفد من الفعل وحده بل منه بمعونة المقام فيكون عند السيد -كما فهم العصام والبناني وابن يعقوب- كناية، أي أن الفعل المطلق عن العموم كناية عنه عامًا بواسطة المقام. والإنبابي لا يراه كناية لعدم اللزوم هنا بين المعنى الحقيقي والكنائي؛ ولأنه لا داعي لاعتبار الكناية. والعصام يقول هذا ينافي أصل الموضوع وهو أن الفعل لم يجعل كناية. والبناني يرد عليه بأن الكناية هنا في نفس الفعل وأصل الموضوع المنفي هنا هو الكناية في المفعول -وأما البناني وابن يعقوب فيقولان يمكن حمل كلام السعد على كلام السيد بأن العموم ليس مقصودًا أولًا بل المقصود أولًا مطلق الثبوت الذي ليس فيه عموم ليتوصل به إلى العموم بواسطة دفع التحكم. أما عبد الحكيم فيرد رأي السيد بأنه يلزم على ما ذكره السيد أن يكون منشأ القصد بمجرد الإثبات والنفي مغايرًا لمنشأ القصد للعموم، والاختلاف باعتبار المنشأ لا يدفع التنافي بل الدافع له الاختلاف بالاعتبار في أنفسهما لا في منشأهما ورد معاوية كلام عبد الحكيم هذا بأن المتنافيين اللذين لا يدفع اجتماعهما اختلاف المنشأ هنا هما قصد العموم وقصد عدمه، لا قصده وعدم قصده كما هو فرض مسألتنا، فالدافع للتنافي هنا هو الاختلاف بالاعتبار في أنفسهما "لا في منشأهما كما فهم عبد الحكيم"؛ لأن المثبت كونه مقصودًا من الكلام والمنفي كونه داخلًا في الغرض.
ورد الإنبابي على المنافاة بجواب السعد، وبجواب آخر، خلاصته
........................................................................
أن التعميم هنا مستفاد من ذات الفعل إجمالًا وعدم اعتبار العموم والخصوص هناك مستفاد من عموم المفعول وخصوصه كما ذكره عبد الحكيم.
هذا وعبد القاهر: لم يعول في تنزيل المتعدي منزلة اللازم إلا على عدم اعتبار تعلقه بالمفعول، قال في "هو يعطي ويمنع": المعنى في ذلك على إثبات المعنى في نفسه على الإطلاق وعلى الجملة من غير أن يتعرض لحديث المفعول.
أما السكاكي فلم يذكر قيد الإطلاق في كلامه "وللقصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدي منزلة اللازم".
على أن تفسيرهم الإطلاق هنا بما ذكره السعد مخالف لتفسيرهم الإطلاق الأول.
وقال السعد في شرح قول الخطيب في متن التلخيص "نزل الفعل المتعدي منزلة اللازم ولم يقدر له مفعول؛ لأن المقدر كالمذكور" ما نصه: كالمذكور أي في أن السامع يفهم منهما أن الغرض الإخبار بوقوع الفعل من الفاعل باعتبار تلعقه بمن وقع عليه، فإن قولنا "فلان يعطي الدنانير" يكون لبيان جنس ما يتناوله الإعطاء لا لبيان كونه معطيًا، ويكون كلامًا مع من أثبت له إعطاء غير الدنانير لا مع نفي أن يوجد منه إعطاء.. وفي هذا خطأ في العبارة مثل الخطأ السابق في تفسير الإطلاق بالعموم في إفراد الفعل أو الخصوص فيه.
ملاحظة: المثال "هو يعطي الدنانير":
1 فيه قصر، قصر صفة على موصوف، قصر إعطاء الدنانير على "محمد" مثل المقدم، وهو أما:
أقصر قلب أي لا غيره.
ب أو قصر أفراد أي وحده.
جـ أو قصر تعيين لنفي تردد المخاطب في أنه هو هل الذي يعطيها أو غيره. ويصح أن يكون المثال للتقوي لا للتخصيص فيخاطب به أما:
.........................................................................
أمن ينكر ثبوت الفعل "إعطاء الدنانير" له.
ب أو من يتردد في ثبوت الفعل له.
وقال عبد القاهر في المثال: المعنى على أنك قصدت إعلام السامع أن الدنانير تدخل في عطائه أو أنه يعطيها خصوصا دون غيرها، وكان غرضك بيان جنس ما تناوله الإعطاء لا الإعطاء في نفسه، ولم يكن كلامك مع من نفى أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه بل مع من أثبت له إعطاء إلا أنه لم يثبت له إعطاء الدنانير أي بأن أثبت له إعطاء غير الدنانير أو أثبت له الدنانير مع غيرها. فهو يرى أنه للإعلام بأن الدنانير تدخل في عطائه، أو لتخصيصها دون غيرها بالإعطاء بطريق فحوى الكلام وسياقه لا من طريق القصر. وأنها تلقي لمخاطب لا يثبت له إعطاء الدنانير. وهي عنده لقصر القلب أو للإنكار، ولنا أن نقول أن عبارة عبد القاهر فيها تسامح وليست نصًّا قاطعًا في إفادة القصر.
ويرى السيد أن المثال يلقى لمخاطب يثبت له إعطاء ولا يدري ما المعطى فهي عنده ليس فيها ملاحظة قصر باعتبار القيد.
ويرى السعد أن المثال هو كلام مع من يثبت له إعطاء غير الدنانير لا مع من نفى أن يوجد منه إعطاء.
وكلام السعد "كعبد القاهر" لا يقتضي ملاحظة القصر باعتبار القيد بطريق التقديم بل بطريق الفحوى، وتكون لقصر القلب عنده "أي فقط كما هي كذلك عند عبد القاهر"، وذلك فهم البناني، ويخالف السعد عبد القاهر في أن السعد قصر حال المخاطب بهذه العبارة على شيء واحد هو أن يكون مثبتًا للمقدم إعطاء غير الدنانير.
وعبد الحكيم والشربيني قد صرحا بأن العبارة للتقوي لدفع الإنكار أو التردد أو لتخصيص المسند إليه بالمسند باعتبار قيده قصر قلب أو إفراد أو تعيين، وهذا تكلف منهما في حملهما كلام السعد على غير ظاهره، ومخالف للمعروف في القصر فلا بد أن يكون المخاطب مثبتًا للفعل المتعلق بغير ذلك القيد للمسند إليه المقدم. فعلى رأيهما نستنتج أن "هو يعطي الدنانير" إما:
1 لقصر القلب فالمخاطب بها من يعتقد أنه يعطي غير الدنانير وأن غيره يعطي الدنانير.
ب لقصر الأفراد في المخاطب بها من يعتقد أنه يعطي الدنانير "أي أو غيرها" وأن غيره يعطي الدنانير "أي أو غيرها".
جـ لقصر التعيين فالمخاطب بها من يتردد في أنه يعطي الدنانير "أي أو غيرها" أو أن غيره يعطي الدنانير "أي أو غيرها".
د لدفع الإنكار فالمخاطب بها من يعتقد أنه يعطي غير الدنانير.
هـ لدفع التردد فالمخاطب بها من يتردد في أنه يعطي الدنانير أو غيرها.
وهذا الضرب قسمان:
1-
لأنه إما أن يجعل الفعل مطلقًا1 كناية2 عن الفعل متعلف بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة3.
1 أي من اعتبار عموم أو خصوص في الفعل ومن غير اعتبار تلعقه بالمفعول.
2 وجعل المطلق كناية عن المقيد مع أنها الانتقال من الملزوم إلى اللازم والمقيد ليس لازمًا للمطلق، بناء "على أن مطلق اللزوم ولو بحسب الادعاء كاف فيها فيدعي أن المطلق ملزوم للمقيد وكونه "كناية عنه" أي معبرًا به عن الفعل المتعلق بمفعول مخصوص ومستعملًا فيه على طريقة الكناية.
3 قال العصام: "ولا بد للمعنى أيضًا من قرينة"، والاقتصار هنا على الكناية يشعر بنفي صحة التجوز ولم يقم عليه دليل؛ لأنه قد يوجد في تركيب قرينة مانعة فيكون مجازًا لا كناية وإن كانت القرينة وهي مقام المدح في مثال المصنف غير مانعة، فالكناية ليس معها قرينة تمنع إرادة المعنى الحقيقي وحينئذ لا يجوز إرادته من اللفظ مع لازمة، وهذا القيد مخرج للمجاز إذ لا تجوز فيه إرادة المعنى الحقيقي مع المعنى المجازي عند من يمنع الجمع بين الحقيقة والمجاز كالمصنف. ولا دليل على نفي جعله كناية عن فعل متعلق بمفعول عام كما يرى العصام فتقول "فلان يعطي" أي كل أحد؛ لأن العطاء إذا صدر عن مثله لا يخص أحدًا. وقوله:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلام} يحتمله. والحق أن العموم مستفاد من القرائن. وقال الإنبابي: قد يقال الفعل المتعلق بمفعول عام داخل في كلام المصنف؛ لأنه مخصوص من حيث اعتبار العموم فقول المصنف بمفعول مخصوص أي معين.
2-
أو لا1.
1 أي أو لا يجعل ذلك.
ويلاحظ أن عبد القاهر لم يقسم هذا الضرب إلى قسمين بل الذي جرى عليه أن هذا الضرب هو القسم الثاني فقط وهو ألا يجعل الفعل مطلقًا كناية عنه متعلقًا بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة، أما القسم الآخر وهو أن يجعل كناية فقد جعله من الضرب الثاني الآتي؛ لأن له عنده مفعولًا مقصودًا محذوفًا لدلالة الحال ونحوه عليه.. ويقول عبد القاهر: اعلم أن أغراض الناس تختلف في ذكر الأفعال المتعدية فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقتصروا على إثبات المعاني المشتقة منها للفاعلين من غير أن يتعرضوا لذكر المفعولين فيكون الفعل المتعدي كغير التعدي في أنك لا ترى له مفعولًا لا لفظًا ولا تقديرًا. وعلى ذلك قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، فهذا قسم من خلو الفعل عن المفعول وهو أن لا يكون له مفعول يمكن النص عليه، وقسم ثان وهو أن يكون له مفعول مقصود قصده معلوم إلا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه، وينقسم إلى: جلي لا صنعة فيه مثل أصغت إليه أي أذني، وحتى تدخله الصنعة فيتفنن ويتنوع:
أ- فنوع منه أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص قد علم مكانه إما لجري ذكر أو دليل حال إلا أنك تنسيه نفسك وتخفيه وتوهم أنك لم تذكر ذلك الفعل إلا؛ لأن تثبت نفس معناه من غير أن تعديه إلى شيء أو تعرض فيه لمفعول ومثاله شجو حساده البيت.
ب- ونوع آخر وهو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصده قد علم أنه ليس للفعل الذي ذكرت مفعول سواه بدليل الحال أو ما سبق من الكلام إلا أنك تطرحه وتتناساه وتدعه يلزم ضمير النفس لغرض غير الذي مضى وذلك الغرض أن تتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل وتخلص له وتنصرف بجملتها وكما هي إليه ومثاله قول عمرو بن معد يكرب:
"فلو أن قومي أنطقتني رماحهم"
البيت، ومثله قول جرير:
أمنيت المنى وخليت حتى
…
تركت ضمير قلبي مستهاما
=
الثاني: كقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، أي من يحدث له معنى العلم ومن لا يحدث.
= وقول طفيل: جزى الله عنا جعفرًا. الأبيات، وقوله تعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَن} الآية، وقول البحتري:
إذا بعدت أبلت وإن قربت شفت
…
فهجرانها يبلي ولقيانها يشفي
جـ الإضمار على شريطة التفسير أو البيان بعد الإبهام كما يقول الإيضاح، مثل:{وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِي} . وجعل من هذا الضرب ما حذف؛ لأنه أريد ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه إظهارًا لكمال العناية بوقوعه عليه مثل قول البحتري:
قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ
…
دد والمجد والمكارم مثلا
ويحذف المفعول لدفع إيهام غر المراد مثل:
وكم ذدت عني ومن تحامل حادث
…
وسورة أيام حززن إلى العظم
فهذا صنيع عبد القاهر، أما السكاكي فقد سبق أنه جعل أسباب الحذف في المفعول عدة أمور منها:
1 القصد إلى التعميم مع الاختصار - والله يدعو إلى دار السلام.
2 القصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدي منزلة اللازم: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} .
3 القصد إلى مجرد الاختصار: {أَهَذَاْ الذِيْ بَعَثَ اللهُ رَسُوْلَا} ، {أَرِنَيْ أَنْظُر إِلَيْكَ} ، {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} الآية- {وَلَوْ شَاْءَ لَهَدَاْكُمْ أَجْمَعِيْن} . ثم قال: ولك أن تنظم: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} في هذا السلك. ومنه:
لو شئت عدت بلاد نجد عودة
البيت.
4 الرعاية على الفاصلة مثل: ما ودعك ربك وما قلى.
5 استهجان ذكره مثل ما رأيت منه ولا رأى مني إلخ.
قال السكاكي1: ثم إذا كان المقام خطابيًّا2 لا استدلاليًّا، أفاد2 العموم في أفراد الفعل، بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون مفرد آخر مع تحقق الحقيقة فيهما تحكم، ثم جعل قولهم في المبالغة
1 ذكر السكاكي في بحث إفادة اللام للاستغراق أنه إذا كان المقام خطابيًّا لا استدلاليا كقوله: صلى الله عليه وسلم: "المؤمن غر كريم والمنافق خب لئيم" حمل المعرف باللام مفردًا كان أو جمعا على الاستغراق بعلة إيهام أن القصد إلى فرد آخر مع تحقق الحقيقة فيهما ترجيح لأحد المتساويين على الآخر. ثم ذكر في بحث حذف المفعول -ص99 من المفتاح- أنه قد يكون "للقصد إلى نفس الفعل بتنزيل المتعدي منزلة اللازم ذهابًا في نحو فلان يعطي إلى معنى الإعطاء ويوجد هذه الحقيقة إيهامًا للمبالغة بالطريق المذكور في إفادة اللام للاستغراق" فجعل المصنف قوله "بالطريق المذكور" إشارة إلى قوله "ثم إذا كان المقام خطابيًّا لا استدلاليا حمل المعرف باللام على الاستغراق".. وقول السكاكي "ثم" أي بعد كون الغرض ثبوت أصل الفعل وتنزيله منزلة اللازم من غير اعتبار كناية.
2 أي يكتفي فيه بمجرد الظن - والاستدلالي ما يطلب فيه اليقين.
3 أي المقام أو الفعل. فمعنى "يعطي" حينئذ يفعل الإعطاء المعرف بلام الحقيقة يحمل في المقام الخطابي على استغراق الإعطاءات وشمولها مبالغة لئلا يلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر. لا يقال: إفادة التعميم في إفراد الفعل تنافي كون الغرض الثبوت أو النفي عنه مطلقًا أي من غير اعتبار عموم ولا خصوص؛ لأنا نقول: لا نسلم ذلك "أي التنافي" فإن عدم كون الشيء معتبرًا لا يستلزم عدم كونه مفادًا من الكلام فالتعميم مفاد غير مقصود.
قال السيد: الاعتذار المذكور ركيك جدًّا فإن المعتبر عند البلاغيين هو المعاني المقصودة للمتكلم وما يفهم من العبارة، وما لا يكون مقصودًا لا يعتد به ولا يعد من خواص التركيب.
ثم قال السيد: فالتعميم في أفراد الفعل إذا لم يكن معتبرًا مقصودًا في الغرض لم يكن مما يعتد به عندهم، والأظهر في الاعتذار أن يقال: أن الفيد للعموم في أفراد الفعل هو الفعل بمعونة المقام الخطابي وذلك لا ينافي كون الغرض من نفس الفعل الإطلاق على التفسير المذكور، غاية ما في الباب أن لا يكون العموم مقصودًا بنفس الفعل بل به مع معونة المقام:
"فلان يعطي ويمنع ويصل ويقطع" محتملًا لذلك ولتعميم المفعول كما سيأتي، وعده الشيخ عبد القاهر مما يفيد أصل المعنى على الإطلاق من غير إشعار بشيء من ذلك.
والأول1 كقول البحتري يمدح المعتز بالله ويعرض بالمستعين بالله:
شجو حساده وغيظ عداه
…
أن يرى مبصر ويسمع واعي2
1 راجع120 من الدلائل والبيت من قصيدة في ديوان البحتري، والمعتز والمستعين من خلفاء بني العباس، تولى المستعين عرش الخلافة من 248 إلى 252هـ، وتولى المعتز العرش بعده من 252 إلى 255هـ.
2 الشجو: الحزن. العدى: جمع عدو. وقوله أن يرى مبصر من إقامة السبب مقام المسبب؛ لأن الرؤية والسماع المذكورين ليسا نفي الشجو ونفس الغيظ بل سببهما وعطف "وغيظ" على "شجو" عطف مرادف: و"أن يرى" خير عن شجو حساده. وقد جعل عبد القاهر هذا القسم مقابلًا للقسم الذي جعل فيه المتعدي كغير المتعدي، قال ما نصه: وقسم ثان وهو أن يكون له مفعول مقصود قصده معلوم إلا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه وينقسم إلى جلي لا صنعة فيه مثل أصغيت إليه أي أذني، وخفي تدخله الصنعة وهو يتنوع: فنوع منه أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص قد علم مكانه إما لجري ذكر أو دليل حال، إلا أنك تنسيه نفسك وتخفيه وتوهم أنك لم تذكر ذلك الفعل لا؛ لأن تثبت نفس معناه من غير أن تعديه إلى شيء أو تعرض فيه بالمفعول ومثاله، قول البحتري:
شجو حساده وغيظ عداه
…
أن يرى مبصر ويسمع واع
المعنى -لا محالة- أن يرى مبصر محاسنه ويسمع واع أخباره وأوصافه، ولكنك تعلم على ذلك أنه كان يسرق علم ذلك من نفسه، ويدفع صورته عن وهمه ليحصل على معنى شريف وغرض خاص، وقال: أنه يمدح خليفة وهو المعتز ويعرض بخليفة وهو المستعين، فأراد أن يقول أن محاسن المعتز وفضائله المحاسن والفضائل يكفي فيها أن يقع عليها بصر =
أي أن يكون ذو رؤية وذو سمع. يقول: محاسن الممدوح وآثاره لم تخف على من له بصر لكثرتها واشتهارها، ويكفي في معرفة أنها سبب استحقاقه الإمامة دون غيره أن يقع عليها بصر ويعيها سمع لظهور دلالتها على ذلك لكل أحد، فحساده وأعداؤه يتمنون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها وأذن يسمع بها كي يخفى استحقاقه للإمامة فيجدوا بذلك سبيلًا إلى منازعته إياها. فجعل كما ترى مطلق الرؤية
= ويعيها سمع حتى يعلم أنه المستحق للخلافة، والفرد الوحيد الذي ليس لأحد أن ينازعه مرتبتها، فأنت ترى حساده وليس شيء أشجى لهم وأغيظ من علمهم بأن ههنا مبصرًا يرى وسامعًا يعي، حتى ليتمنون أن لا يكون في الدنيا من له عين ببصر بها وأذن يعي معها كي يخفى استحقاقه لشرف الإمامة فيجدوا بذلك سبيلًا إلى منازعته إياها -120 دلائل- فالخطيب يخالف عبد القاهر هنا في أمرين:
1-
أنه يرى أن الفعل هنا منزل منزلة اللازم وعبد القاهر يراه مما له مفعول مقصود محذوف.
2-
أنه يجعل الفعل مطلقًا كناية عن نفسه متعلقًا بمفعول مخصوص وعبد القاهر لا يراه كناية. والحق رأي عبد القاهر. والدليل على هذه الكناية جعلهما خبرًا عن الشجو والغيظ. قال الدسوقي وقوله "للدلالة" علة لجعلهما كنايتين، أي جعلهما كنايتين، ولم يصرح بالمفعول المخصوص من أول الأمر أو يلاحظ تقديره للدلالة إلخ، وهذا جواب عما يقال لا حاجة إلى اعتبار الإطلاق أولًا ثم جعله كناية عن نفسه مقيدًا بمفعول مخصوص، وهل هذا إلا تلاعب ولم لم يجعل من أول الأمر متعلقًا بمفعول مخصوص، وحاصل الجواب أنه لو جعل كذلك لفاتت المبالغة في المدح؛ لأنها لا تحصل إلا بحمل الرؤية على الإطلاق ثم يجعل كناية عن تعلقه بمفعول مخصوص إذ المعنى حينئذ أنه متى وجد فرد من أفراد الرؤية أو السماع حصلت رؤية محاسنه وسماع أخباره وهذا يدل على أن أخباره بلغت من الكثرة والاشتهار إلى حالة هي امتناع الخفاء.
هذا وعبد القاهر لا يجعل في الفعل في مثل "يرى مبصر" كناية؛ لأن الشاعر على رأيه يكون قصده من أول الأمر: أن يرى مبصر محاسنه ولكنه يحذفها ادعاء لشهرتها وأن رؤية البصر لا تقع إلا عليها.
كناية عن رؤية محاسنه وآثاره، ومطلق السماع كناية عن سماع أخباره، وكقول عمرو بن معد يكرب1:
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم
…
نطقت ولكن الرماح أجرت2
لأن غرضه أن يثبت أنه كان من الرماح أجرار وحبس للألسن عن النطق بمدحهم والافتخار بهم حتى يلزم منه بطريق الكناية مطلوبه وهو أنها أجرته. وكقول طفيل الغنوي لبني جعفر بن كلاب.
1 شارع مخضرم فارس اليمن قدم على النبي سنة 9هـ فأسلم وشهد القادسية في عهد عمر وشهد واقعة نهاوند وبها قتل.
2 من أبيات في الدلائل ص122:
ولما رأيت الخيل زورا كأنها
…
جداول زرع أرسلت فاسبطرت
فجاشت إلى النفس أول مرة
…
فردت على مكروهها فاستقرت
ظللت كأني للرماح دريئة
…
أقاتل عن أبناء جرم وفرت
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم
…
نطقت ولكن الرماح أجرت
قال التبريزي: الإجرار هو شق لسان الفصيل لئلا يرضع أمه ويجعل فيه عويد. يقول: لو أنهم أبلوا في الحرب بلاء حسنًا لمدحتهم وذكرت بلاءهم ولكن قصروا فأجروا لساني فما أنطق بمدحهم. وقال الجاحظ "154/ 2 البيان": "الجرار عود يعرض في فم الفصيل أو يشق به لسانه لئلا يرضع أمه فيقول: قومي لم يطعنوا بالرماح فأثني عليهم ولكنهم فروا فأمسكت كالفصيل الذي في فمه جرار.
وقد جعل عبد القاهر البيت مثالًا لنوع من أنواع حذف مفعول الفعل "الذي له مفعول مقصود قصده معلوم إلا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه".
والخطيب يخالف عبد القاهر في هذا البيت في أمرين:
1-
أنه ذهب إلى أن الفعل هنا منزل منزلة اللازم. ويراه عبد القاهر متعديًا إلا أن مفعوله محذوف.
2-
أنه يرى الفعل مطلقًا كناية اصطلاحية عن نفسه متعلقًا بمفعول مخصوص بخلاف عبد القاهر.
جزى لله عنا جعفرًا حين أزلفت
…
بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا
…
تلاقي الذي لاقوه منا لملت
هم خلطونا بالنفوس وألجأوا
…
إلى حجرات أدفأت وأظلت
فإن الأصل لملتنا وأدفأتنا وأظلتنا إلا أنه حذف المفعول من هذه المواضع ليدل على مطلوبه بطريق الكناية1، فإن قلت لا شك أن قوله "ألجأوا" أصله "ألجأونا" فلأي معنى حذف المفعول منه؟ قلت
1 قال عبد القاهر: ومن بارع ذلك -أي حذف المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل- ونادره ما تجده في هذه الأبيات، ثم قال: ففيها حذف مفعول مقصود قصده في أربعة مواضع، قوله: لملت وألجأوا وأدفأت وأظلت؛ لأن الأصل: "لملتنا وألجأونا إلى حجرات أدفأتنا وأظلتنا" إلا أن الحال على ما ذكرت لك من أنه في حد المتناهي، حتى كأن لا قصد إلى مفعول، وكأن الفعل قد أبهم أمره فلم يقصد به قصد شيء يقع عليه، كما يكون إذا قلت "قد مل فلان" تريد دخله الملال من غير أن تخص شيئًا، بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته، وكما تقول: هذا بيت يدفئ ويظل، تريده أنه بهذه الصفة.
واعلم أن لك في قوله "أجرت" و"لملت" فائدة أخرى زائدة على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل وهي أن تقول: كان من سوء بلاء القوم ومن تكذيبهم عن القتال ما يجر مثله وما القضية فيه أنه لا يتفق على قوم إلا خرس شاعرهم فلم يستطع نطقًا، وتعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى؛ لأنك إذا قلت "أجرتني" لم يمكن أن يتأول على معنى أنه كان منها ما شأن مثله أن يجر قضية مستمرة في كل شاعر قوم، بل يجوز أن يوجد مثله في قوم آخرين فلا يجر شاعرهم، وهكذا قوله "لملت"، يتضمن أن من حكم مثله في كل أم -العموم في الفاعل وهو ضمير الأم ليس مقصودًا إنما هو من مستتبعات التراكيب وقد ذكره عبد القاهر هنا عرضا لما فيه من مبالغة وسحر- أن تمل وتسأم وأن المشقة في ذلك إلى حد يعلم أن الأم تمل له الابن وتتبرم به مع ما في طباع الأمهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد، وذلك أنه وإن قال "أمنا" فإن المعنى على أن ذلك حكم كل أم مع أولادها، ولو قلت "لملتنا" لم يحتمل؛ لأنه يجري مجرى أن نقول: لدخلها ما يملها منا، وإذا قلت "ما يملها" فقيدت لم يصلح، لأن يراد به معنى العموم وأنه بحيث يمل كل أم من كل ابن. وكذلك شأن "حجرات أدفأت وأظلت"، والمعنى: من شأن =
الظاهر أن حذفه لمجرد الاختصار؛ لأن حكمه حكم ما عطف عليه وهو قوله خلطونا1.
الضرب الثاني: أن يكون الغرض إفادة تعلقه بمفعول2 فيجب
= مثلها أن تدفئ وتظل ولا يجيء هذا المعنى مع إظهار المفعول، إذ لا تقول حجرات من شأنها مثلها أن تدفئنا وتظلنا، هذا لغو من الكلام، فهذه النكتة تجدها مضمومة إلى المعنى الآخر الذي هو توفير العناية على إثبات الفعل والدلالة على أن القصد من ذكر الفعل أن تثبته لفاعله لا أن تعلم التباسه بمفعول "122-124 دلائل". ومن توفير العناية على إثبات الفعل عند عبد القاهر: لما ورد ماء مدين الآية "124 دلائل". ومنه أيضًا قول البحتري:
إذا بعدت أبلت وإن قربت شفت
…
فهجرانها يبلي ولقيانها يشفي
المراد "أبلتني" و"شفتني" إلا أنك تجد الشعر يأبى ذكر ذلك ويوجب إطراحه، وذلك؛ لأنه أراد أن يجعل البلى كأنه واجب في بعادها أن يوجبه ويجلبه وكأنه كالطبيعة فيه، وكذلك حال الشفاء مع القرب "125 دلائل".
والظاهر أن هذه المثل كلها عند السكاكي من حذف المفعول لقصد مجرد الاختصار وقد صرح بأن الآية: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَن} من هذا النوع "99 مفتاح".
1 وإن كان عبد القاهر يجعله مثل ما عطف عليه في "توفير العناية على إثبات الفعل".
2 هذا الضرب مقابل للضرب الأول السابق وهو ما كان "الغرض فيه إثبات المعنى في نفسه للفاعل على الإطلاق أو نفيه عنه كذلك". وفي مختصر المطول: "إن لم يكن الغرض عند عدم ذكر المفعول مع الفعل المتعدي المسند إلى فاعله إثباته لفاعله أو نفيه عنه مطلقًا بل قصد تعلقه بمفعول غير مذكور وجب التقدير بحسب القرائن. وفي الدسوقي أن الإطلاق هنا في عبارة المختصر المراد به من غير قصد إلى تعلقه بمفعول، وليس المراد به "أي بالإطلاق هنا" هو المراد بالإطلاق السابق. وهذه ملاحظة لها أهميتها.