المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(4) باب المبعث وبدء الوحي - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ١٢

[الطيبي]

الفصل: ‌(4) باب المبعث وبدء الوحي

(4) باب المبعث وبدء الوحي

الفصل الأول

5837 -

عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة، فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة. متفق عليه.

5838 -

وعنه، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة، يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين، ولا يرى شيئًا، وثمان سنين يُوحى إليه، وأقام بالمدينة عشرًا، وتوفي وهو ابن خمسٍ وستين. متفق عليه.

ــ

الفصل الأول

الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما:

قوله: ((لأربعين سنة)) اللام فيه بمعنى الوقت كما في قوله تعالى: {قدمت لحياتى} .

ذكر في وفاته ثلاث روايات: إحداها: أنه صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ستين سنة، والثانية: ابن خمس وستين سنة، والثالثة: ثلات وستين سنة، وهي أصحها وأشهرها، رواه مسلم هنا من رواية: أنس وعائشة وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم.

فرواية ((ستين)) مقتصرة على العقود.

ورواية ((الخمس)) متأولة بأن اعتبر الراوي الكسور.

وأنكر عروة على ابن عباس قوله، وقال: إنه لم يدرك أول النبوة ولا كثرت صحبته بخلاف الباقين.

وولد عام الفيل على الصحيح المشهور، وادعى القاضى عياض الإجماع عليه.

واتفقوا على أنه ولد يرم الاثنين في شهر ربيع الأول.

واختلفوا فيه هل هو ثاني الشهر أم ثامنه؟ أم عاشر؟.

وتوفي يوم الاثنين في ثانى عشر ربيع الأول ضحى، صلى الله عليه وسلم.

وأقول: مجاز قوله: ((على رأس ستين .. إلى آخره)) كمجاز قولهم: رأس آية

إلى آخرها، وسموا آخر الشيء رأسًا لأنه مبدأ مثله من آية أخرى أو عقد آخر.

الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما:

ص: 3713

5839 -

وعن أنس، قال: توفاه الله على رأس ستين سنة. متفق عليه.

5840 -

وعنه، قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وعمر وهو ابن ثلاث وستين. رواه مسلم.

قال محمد بن إسماعيل البخاري: ثلاث وستين، أكثر.

5841 -

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات

ــ

قوله: ((ويرى الضوء سبع سنين)) يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى من أمارات النبوة سبع سنين النبوة ضياء مجردًا، وما رأي معه ملكًا، وهو معنى قوله:((ولايرى شيئًا)) أي سوى الضوء، قالوا: والحكمة في رؤية الضوء المجرد دون رؤية الملك حصول استئناسه أولا بالضوء المجرد، وذهاب روعه، إذ في رؤية الملك مظنة ذهول وذهاب عقل لغلبة دهشته فإنه أمر خطير.

الحديث الثالث إلى الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها:

قوله: ((قالت: أول مابدئ به)) ((مح)): هذا الحديث من مراسيل الصحابة، فإن عائشة رضي الله عنها لم تدرك هذه القضية فتكون سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي، ومرسل الصحابي حجة عند جمهور العلماء، إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني.

أقول: والظاهر أنها سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم لقولها: قال: ((فأخذني فغطني)) فيكون قولها: ((أول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي)) حكاية ما تلفظ به صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى:{قل للذين كفروا ستغلبون} بالتاء والياء على تأويل أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤدي لفظ ما أوحى إليه أو معناه، فلا يكون الحديث حينئذ من المراسيل.

قوله: ((مثل فلق الصبح)) ((قض)): شبه ماجاءه في اليقظة ووجده في الخارج طبقًا لما رآه في المنام بالصبح في إنارته ووضوحه.

والفلق: الصبح، لكنه لما كان مستعملا في هذا المعنى وفي غيره أضيف إليه للتخصيص والبيان، إضافة العام إلى الخاص، كقولهم: عين الشيء ونفسه.

أقول: للفلق شأن عظيم ولذلك جاء وصفًا لله تعالى في قوله سبحانه: {فالق الإصباح}

ص: 3714

العدد - قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزودُ لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزودُ لمثلها، حتى جاء الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. فقال: ((ما أنا بقاريء))، قال:((فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ فقلتُ: ما أنا بقاريء، فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلتُ: ما أنا بقاريء. فأخذني فغطني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم. علم الإنسان مالم يعلم}. فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة، فقال: ((زملوني زملوني)) فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر:((لقد خشيت على نفسي)) فقالت خديجة: كلا، والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ثم انطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل، ابن عم خديجة. فقالت له: يا بن عم! اسمع من ابن أخيك.

ــ

وأمر بالاستعاذة برب الفلق لأنه ينبيء عن انشقاق ظلمة عالم الشهادة، وطلوع تباشير الصبح، بظهور سلطان الشمس وإشراقها الآفاق، كما أن الرؤيا الصالحة مبشرات تنبيء عن وفود أنوار عالم الغيب وآثار مطالع الهدايات، شبه به الرؤيا التي هي جزء يسير من أجزاء النبوة، وتنبيه من تنبيهاتها لمشتركي العقول على ثبوت النبوة، لأن النبي إنما سمي نبيًا لأنه ينبيء عن عالم الغيب الذي لا تستقل العقول بإدراكه.

((مح)): قالوا: إنما ابتديء صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا تحتملها القوى البشرية، فبديء بتباشير الكرامة وصدق الرؤيا استئناسًا.

والحراء: بكسر الحا، المهملة وتخفيف الراء وبالمد، وهو مذكر مصروف هذا هو الصحيح، وقيل: مؤنث غير مصروف.

قال القاضي الزاهد صاحب [لثعلب] والخطابي وغيرهما: يغلط العوام في ((حراء)) في ثلاثة مواضع: يفتحون الحاء وهي مكسورة، ويكسرون الراء وهي مفتوحة، ويقصرون الألف وهي ممدودة.

وهو جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى.

ص: 3715

فقال له ورقة: يا بن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأي. فقال ورقة: هذا هو الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتنى فيها جذعًا، ياليتنى فيها أكون حيًا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أومخرجي هم؟)) قال: نعم؛ لم يأت رجلٌ قط بمثل ماجئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك انصرك نصرًا مؤزرًا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي. متفق عليه.

ــ

قوله ((الليالى ذوات العدد)) أطلق الليالى وأراد بها الليالي مع أيامهن على سبيل التغليب لأنها أنسب للخلوة، ووصف الليالي بذوات العدد لإرادة التقليل كما في قوله تعالى:{دراهم معدودة} .

((تو)) فسرت التحنث بقولها: ((وهو التعبد الليالى ذوات العدد)) ويحتمل أن يكون التفسير من قول الزهرى أدرجه في الحديث وذلك من دأبه.

((مح)): قوله: ((الليالى ذوات العدد)) متعلق بيتحنث لا بالتعبد، ومعناه يتحنث الليالى، ولو جعل متعلقًا بالتعبد فسد المعنى، فإن التحنث لا يشترط فيه الليالى ذوات العدد، والخلوة شأن الصالحين وعباد الله العارفين.

قال الخطابي: حبب إليه الخلوة لأن معها فراغ القلب، وهي معينة على التفكر وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويخشع قلبه، ويجمع همه، فالمخلص في الخلوة يفتح الله عليه ما يؤنسه في خلوته تعويضًا من الله تعالى إياه عما تركه لأجله، واستنار قلبه بنور الغيب حتى تذهب ظلمة النفس، واختيار الخلوة لسلامة الدين وتفقد أحوال النفس وإخلاص العمل لله تعالى.

قوله: ((قبل أن ينزع إلى أهله)) نزع إلى أهله ينزع نزاعًا أي اشتاق، وبعير نازع وناقة نازع إذا حنت إلى أوطانها.

((تو)): ((حتى جاء الحق)) أي أمر الحق وهو الوحي، أو رسول الحق وهو جبريل عليه السلام.

((مح)): ((ما أنا بقاريء)) معناه لا أحسن القراءة، فإن قلت: قد تقرر في علم المعاني أن إيلاء الضمير حرف النفي يفيد الاختصاص والحصر وهو يستدعي أن يكون حكم المخاطب مشوبًا بصواب وخطأ، فيرد خطؤه إلى الصواب فأين هذا من جبريل؟.

قلت: إنه صلى الله عليه وسلم لما سمع من جبريل: ((اقرأ)) تصور منه صلى الله عليه وسلم أنه اعتقد أن حكمه صلى الله عليه وسلم ليس كحكم سائر الناس في أن حصول القراءة والتمكن منها إنما هو بطريق التعلم ومدارسة الكتب فلهذا رده بقوله: ((ما أنا بقاريء)) أي حكمي كحكم سائر الناس من أن حصول القراءة إنما هو

ص: 3716

5842 -

وزاد البخاري: حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رءوس شواهق الجبل، فكلما أوفي بذورة جبل لكي يُلقي نفسه منه،

ــ

بالتعلم، وعدمه بعدمه، فلذلك أخذه وغطه مرارًا ليخرجه من حكم سائر الناس ويستفرغ منه البشرية ويفرغ فيه صفات الملكية فحينئذ يعلم معنى: اقرأ، ويخاطب بقوله:{اقرأ باسم ربك الذي خلق ..} إلى قوله: {.. مالم يعلم} ففي المقروء أيضًا إشارة إلى رد ما تصوره صلى الله عليه وسلم من أن القرآن إنما يتيسر بطريق التعليم فقط بل إنها كما تحصل من التعليم بواسطة العلم فقد تحصل بتعليم الله بلا واسطة، فقوله:{علم بالقلم} إشارة إلى العلم التعليمي، وقوله:{علم الإنسان مالم يعلم} إلى العلم اللدني، ومصداقه قوله تعالى {إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى} .

قوله: ((الغط)) العصر الشديد والكبس، ومنه الغط في الماء الغوص فيه، قيل: إنما غطه ليختبره هل يقول من تلقاء نفسه شيئًا؟.

((مح)): قالوا: والحكمة في الغط شغله عن الالتفات والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لما يقوله له، وكرره ثلاثًا مبالغة في التنبيه، فقيه أنه ينبغى للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم ويأمره بإحضار قلبه.

والجهد: يجوز فيه فتح الجيم وضمها، وهو الغاية والمشقة، ويجوز نصب الدال ورفعها، فعلى النصب بلغ جبريل في الجهد، وعلى الرفع بلغ الجهد مني مبلغه وغايته، وممن ذكر الوجهين - أعني نصب الدال ورفعها - صاحب التحرير.

((تو)): لا أرى الذي يرويه بنصب الدال إلا قد وهم فيه أو جوزه من طريق الاحتمال، فإنه إذا نصب الدال عاد المعنى إلى أنه غطه حتى استفرغ قوته في ضغطه، وجهد جهده بحيث لم يبق فيه مزيد، وهذا قول غير سديد، فإن البنية البشرية لا تستدعي استيفاء القوة الملكية لاسيما في مبدأ الأمر، وقد دلت القضية على أنه اشمأز من ذلك وتداخله الرعب.

أقول: لاشك أن جبريل في حالة الغط لم يكن على صورته الحقيقية التي تجلى بها عند سدرة المنتهى، وعندما رآه مستويًا على الكرسي فيكون استفراغ جهده بحسب الصورة التي تجلى له وغطه، وإذا صحت الرواية اضمحل الاستبعاد.

وقوله: {اقرأ باسم ربك} ((مح)): هذا دليل صريح في أن أول ما نزل من القرآن {اقرأ} وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف.

وقيل: أوله {يأيها المدثر} وليس بشيء.

ص: 3717

تبدَّى له جبريل، فقال: يا محمد! إنك رسول الله حقًا. فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه.

ــ

واستدل بهذا الحديث بعض من يقول: ((بسم الله الرحمن الرحيم)) ليست بقرآن في أوائل السور لكونها لم تذكر هنا، وجواب المثبتين لها: أنها لم تنزل أولاً بل نزلت البسملة في وقت آخر كما نزلت باقي السورة في وقت آخر.

أقول: قوله {اقرأ} أمر بإيجاد القراءة مطلقًا وهو لايختص بمقروء دون مقروء، فقوله:{باسم ربك} حال، أي اقرأ مفتتحا باسم ربك. قل: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم اقرأ، وهذا يدل على أن البسملة مأمور بقراءتها في ابتداء كل قراءة، فيكون مأمورًا بقراءتها في ابتداء هذه السورة أيضًا.

وقوله: {ربك الله خلق} وصف مناسب مشعر بعلية الحكم بالقراءة والإطلاق في خلق أولا على منوال يعطى ويمنع، وجعل توطئة لقوله:{خلق الإنسان} إيذانًا بأن الإنسان أشرف المخلوقات، ثم الامتنان عليه بقوله:{علم الإنسان مالم يعلم} يدل على أن العلم أجل النعم وأكثرها فائدة.

وقوله: ((فرجع بها)) أي صار بسبب تلك الضغطة يضطرب فؤاده، ورجع يجيء بمعنى قصد أيضًا، كما في قولهم: ما روجع إليه في خطب إلا كفي، أي ما قصد. و ((زملوني)) أي غطوني بالثياب ولفوني بها.

قوله: ((لقد خشيت على نفسي)) ((مح)): قال القاضي عياض: ليس هو بمعنى الشك فيما أتاه من الله تعالى، لكنه ربما خشي أنه لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يقدر على حمل أعباء الوحي، فتزهق نفسه، أو يكون هذا لأول [ما رأي] التباشير في النوم واليقظة، وسمع الصوت قبل لقاء الملك، و [تحققه] رسالة ربه سبحانه وتعالى فيكون قد خاف أن يكون من الشيطان الرجيم، فأما منذ قد جاءه الملك برسالة ربه سبحانه وتعالى، فلا يجوز عليه الشك فيه وتسلط الشيطان عليه. قال الشيخ محيى الدين: وهذا الاحتمال ضعيف لأنه تصريح بأن هذا كان بعد غط الملك وإتيانه: بـ {اقرأ باسم ربك} .

ص: 3718

ــ

أقول: إخراج قوله: ((لقد خشيت)) على القسمية بعد قوله: ((يرجف فؤاده)) يدل على انفعال حصل له من الضغط فخشي على نفسه من ذلك أمرًا توهم منه كما يحصل للبشر إذا دهمه أمر لم يعهد به، ومن ثمة قال صلى الله عليه وسلم:((زملوني))، وأتت خديجة بكلمة الردع وصرحت بقولها:((لا يخزيك الله)) إلى آخره. ((مح)): ((لا يخزيك الله)) هو بضم الياء وبالخاء المعجمة في رواية يونس وعقيل، وفي رواية معمر (يحزنك) بالحاء المهملة والنون، ويجوز فتح الياء في أوله وضمها، وكلاهما صحيح، والخزيُ: الفضيحة والهوان، و ((الكل)) الثقل، ويدخل في حمل الكل الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك، وهو من الكلال [وهو] الإعياء، ((تكسب)) بفتح التاء هو الصحيح المشهور، وروى بضمها، قال ثعلب والخطابي وغيرهما: يقال: كسبت الرجل مالاً، وأكسبته مالاً، لغتان أفصحهما بحذف الألف، فمعنى الضم تكسب غيرك المال المعدوم، أي تعطيه إياه تبرعًا فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، وقيل: معناه تعطى الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفرائد ومكارم الأخلاق.

ومعنى الفتح قيل: كمعنى الضم، وقيل: معناه تكسب المال المعدوم، وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله، وكانت العرب تتمادح يكسب المال [لا سيما قريش، وكان صلى الله عليه وسلم محظوظًا في تجارته، وهذا القول ضعيف وغلط، ويمكن تصحيحه بأن يضم معهما زيادة فمعناه] العظيم الذي يعجز عنه غيرك، ثم تجود به في وجوه الخير وأبواب المكارم، كما ذكرت من حمل الكل وصلة الرحم وقرى الضيف والإعانة على نوائب الحق.

وصاحب التحرير جعل المعدوم عبارة عن الرجل المحتاج المعدوم العاجز عن الكسب، وسماه معدومًا لكونه كالمعدوم الميت حيث لم يتصرف في المعيشة.

و ((النوائب)) جمع نائبة وهي الحادثة، وإنما أضيفت إلى الحق لأن النائبة قد تكون في الخير وقد تكون في الشر، قال لبيد:

نوائب من خير وشر كلاهما فلا الخير ممدود ولا الشر لازب

ص: 3719

5843 -

وعن جابر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي، قال: ((فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعدٌ على كرسي بين السماء والأرض، فجئثت منه رعبًا حتى هويت إلى

ــ

أرادت أنك ممن لم يصبه مكروه لما جمع الله فيك من مكارم الأخلاق ومحاسن الشمائل، وفيه دلالة أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء.

وفيه مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال لمصلحة تطرأ.

وفيه: تأنيس من حصلت له مخافة من أمر وتبشيره وذكر أسباب السلامة له.

وفيه: أعظم دليل وأبلغ حجة على: كمال خديجة رضي الله عنها، وجزالة رأيها، وقوة نفسها، وثبات قلبها، وعظم فقهها.

وقولها له: ((يا بن عم)) على الحقيقة؛ لأنه ورقة بن نوفل بن أسد، وهي خديجة بنت خويلد ابن أسد.

و ((الناموس)): جبريل عليه السلام، قال أهل اللغة: الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، يقال: نامست الرجل إذا ساررته.

قال الهروي: سمي بذلك لأن الله تعالى خصصه بالوحي.

والضمير في ((ياليتني فيها)) يعود إلى أيام النبوة ومدتها.

قال المالكي: قد يظن أن ((يا)) حرف نداء حذف المنادي منه، أي: يامحمد ليتني كنت حيًا. وهو ضعيف، لأن الشيء إنما يجوز حذفه مع صحة المعنى بدونه إذا كان الموضع الذي ادعي فيه حذفه مستعملا فيه ثبوته، كحذف المنادي قبل أمرٍ، كقوله تعالى:{ألا يسجدوا} أي ألا يا هؤلاء اسجدوا، أو دعاء كقول الشاعر:

ألا يا اسلمي يا دارمي على البلى.

بعد ثبوته مثله في قوله تعالى: {يا آدم اسكن} وقوله: يا رب هب لي من لدنك مغفرة، بخلاف ليت فإن المنادي لم تستعمله العرب قبلها ثابتًا، فيتعين كون ((يا)) التي تقع قبلها لمجرد التنبيه مثل ((ألا)) في نحو: ألا ليت شعري، وقد يجمع بين ((يا)) و ((ألا)) تأكيدًا، للتنبيه كقوله: ألا يا اسلمي.

ومثل ((يا)) الواقعة قبل ليت للتنبيه ((يا)) قبل ((حبذا)) في قول الشاعر:

ص: 3720

الأرض، فجئت أهلي، فقلتُ: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل الله تعالى: {يأيها

ــ

يا حبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كانا

وقبل ((رب)) في قول الراجز:

يارب ساريات ماتوسنا

و ((جذعًا)) يعني شابًا قويًا حتى أبالغ في نصرتك، والجذع في الأمل للدواب وهو هنا استعارة.

وقال الخطابي والمازري وغيرهما: نصب على أنه خبر كان المحذوفة تقديره: ليتني أكون فيها جذعًا، على مذهب الكوفيين.

قال القاضي: الظاهر عندي أنه منصوب على الحال، وخبر ليت قوله:((فيها)).

قوله: ((إذ يخرجك قومك)) قال المالكي: ((إذا فيه وقع موقع ((إذا)) في إفادة الاستقبال، وهو استعمال صحيح غفل عن التنبيه عليه أكثر النحويين.

وقلت: ليس التنبيه عليه من وظيفتهم بل من وظيفة أهل المعانى، إما وضعًا للآتي موضع الماضي قطعًا بوقوعه كإخبار الله تعالى عن المستقبل، أو استحضارًا للصورة الآتية في مشاهدة السامع تعجبًا وتعجيبًا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:

((أو مخرجي هم؟)) استبعادًا للإخراج وتعجبًا منه.

وقال أيضًا: الأصل فيه وفي أمثاله تقديم حرف العطف على الهمزة كما تقدم على غيرها من أدوات الاستفهام، نحو {وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله} ونحو:{أم هل تستوي الظلماتُ والنورُ} ونحو {فأين تذهبون} فالأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف كما جيء بعده في أخواتها فيقال في: أفتطمعون، وفي أو كلما:((فأتطمعون، وأكلما))، لأن أداة الاستفهام جزء من جملة الاستفهام، وهي معطوفة على ما قبلها من الجمل، والعاطف لا يتقدم عليه جزء مما عطف، ولكن خصت الهمزة بتقديمها على العاطف تنبيها على أنها أصل أدوات الاستفهام، لأن الاستفهام له صدر الكلام وقد خولف هذا الأصل في غير الهمزة وأرادوا التنبيه عليه، فكانت الهمزة بذاك أولى لأصالتها في الاستفهام، وقد غفل الزمخشري في معظم كلامه في الكشاف عن هذا المعنى فادعى أن بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة معطوفة عليها بالعاطف مابعده، وفي هذا تكلف وحذف في موقع لم يثبت فيه الثبوت على ما سبق في ((ياليتني)).

ص: 3721

المدثر. قم فأنذر وربك فكبر. وثيابك فطهر. والرجز فاهجر}، ثم حمي الوحي وتتابع)). متفق عليه.

ــ

والجواب أنه لا يجوز فيما نحن بصدده أن يقدر تقديم حرف العطف على الهمزة لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ((أو مخرجي هم؟)) جواب ورد على قوله: ((إذ يخرجك قومك)) على سبيل الاستبعاد والتعجب فيكف يستقيم العطف؟ ولأن هذه جملة إنشائية وتلك خبرية، والحق أن الأصل أمخرجي هم؟ فأريد مزيد استبعاد وتعجب فجيء بحرف العطف على تقدير: على أو ماضي، أو هم مخرجي، وأما إنكار الحذف في مثل هذه المواضع فمستبعد لأن مثل هذه الحذوف من حلية من رشح بالبلاغة لاسيما قد شحن التنزيل بمثلها، على أن الحذف المردود هو ما لا دليل عليه ولا أمارة قائمة عليه، والدليل هنا وجود العاطف، ولا يجوز العطف على المذكور فيجب أن يقدر بعد الهمزة ما يوافق المعطوف تقريرًا للاستبعاد وشدا لعضده.

وقال: ((مخرجي)) خبر مقدم، وهم مبتدأ مؤخر، ولا يجوز العكس لأن مخرجي نكرة فإن إضافته إضافة غير محضة، ولو روي ((مخرجي)) مخفف الياء على أنه مفرد لجاز وجعل مبتدأ وما بعده فاعل سد مسد الخبر، لأن مخرجي معتمدة على همزة الاستفهام مستندة إلى ما بعدها لأنه وإن كان ضميرًا فإنه منفصل والمنفصل من الضمائر يجري مجرى الظاهر، ومنه قول الشاعر:

أمنجز أنتم وعدًا وثقت به أم اقتفيتم جميعًا نهج عرقوب

((وإن يدركني يومك)) ((قض)): يريد الزمان الذي أظهر فيه الدعوة أو عاداه قومه فيه وقصدوا إيذاءه وإخراجه.

و ((المؤزر)) البالغ في القوة من الأزر وهو القوة.

و ((لم ينشب)) أي لم يلبث ولم يبرح وأصله أنه لم يتعلق بشيء، أو لم يشتغل فكنى به عن ذلك.

قوله: ((أن توفي)) بدل اشتمال من ورقة، أي لم تلبث وفاته.

وقوله: ((فيما بلغنا)) معترض بين الفعل ومصدره.

و ((الشواهق)) الجبال العالية.

((فيسكن لذلك جأشه)) أي اضطراب قلبه وقلقه.

الحديث السادس عن جابر رضي الله عنه:

قوله: ((فجئثت)) ((تو)): جئث الرجل إذا أُفزع، وكذلك جئف.

وقوله: ((رعبًا)) أي ممتلئًا رعبًا، ويجوز أن يكون معناه: مرعوبًا كل الرعب، ويحتمل أن يكون من ((الجأث)) وهو الإفزاع بالرعب لاقتران معنييهما، وهو أن الفزع انقباض ونقار يعترى

ص: 3722

5844 -

وعن عائشة، أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس،

ــ

الإنسان من الشيء المخيف وهو قريب من الفزع، والرعب والانقطاع من امتلاء الخوف، والرعب يتعدى ولا يتعدى يقال: رعبته فرعب.

((قض)): رعبًا نصب على المفعول لأجله.

الحديث السابع عن عائشة رضي الله عنها:

قوله: ((مثل صلصلة الجرس)) يجوز أن يكون مفعولا مطلقًا، والأحسن أن يكون حالا، أي يأتيني الوحي مشابهًا صوته لصلصلة الجرس، والصلصلة صوت الحديد إذا حرك، يقال: صل الحديد وصلصل.، والصلصلة أشد من الصليل.

((تو)): هذا الحديث يغالط فيه أبناء الضلالة ويتخذونه ذريعة إلى تضليل العامة وتشكيكهم، وهو حق أبلج ونور يتوقد من شجرة مباركة يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار، لايغلط فيه إلا من أعمى الله قلبه، وجملة القول في هذا الباب أن نقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم معنيًا بالبلاغ مهيمنًا على الكتاب مكاشفًا بالعلوم الغيبية، مخصوصًا بالمسامرات العلية، كان يتوفر على الأمة حصتهم بقدر الاستعداد، فإذا أراد أن ينبئهم بما لا عهد لهم به من تلك العلوم صاغ لها أمثلة من عالم الشهادة ليعرفوا مما شاهدوه ما لم يشاهدوه، فلما سأله الصحابة عن كيفية الوحي وكان ذلك من المسائل العويصة والعلوم الغريبة التي لا يميط نقاب التعري عن وجهها لكل طالب ومتطلب، وعالم ومتعلم ضرب لها في الشاهد مثلا بالصوت المتدارك الذي يسمع ولا يفهم منه شيء، تنبيهًا على أن إتيانها يرد على القلب في لبسة الجلال وأبهة الكبرياء، فيأخذ هيبة الخطاب حين ورودها بمجامع القلب، ويلاقى من ثقل القول ما لا علم له بالقول مع وجود ذلك، فإذا سرى عنه وجد القول بينًا ملقى في الروع واقعًا موقع المسموع، وهذا معنى قوله:((فيفصم عني وقد وعيت)).

ومعنى: ((يفصم)) يقلع عني كرب الوحي، شبهه بالحمى إذا فصمت عن المحموم، يقال: أفصم المطر أي أقلع.

وهذا الضرب من الوحي شبيه بما يوحى إلى الملائكة على ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله كأنها [سلسلة] على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير)).

وقد تبين لنا من حديث عائشة رضي الله عنها أن الوحي كان يأتيه على صفتين:

أولاهما: أشد من الأخرى، وذلك لأنه كان يرد فيها من الطباع البشرية إلى الأوضاع

ص: 3723

وهو أشده علىَّ، فيفصم عني وقد وعيتُ عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملكُ رجلا فيكلمني، فأعي ما يقولُ)). قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا. متفق عليه.

ــ

الملكية فيوحى إليه كما يوحى إلى الملائكة على ما ذكر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث حسن صحيح.

والأخرى: يرد فيها الملك إلى شكل البشر وشاكلته وكانت هذه أيسر والله أعلم.

أقول: لا يبعد أن يكون هناك صوت على الحقيقة متضمن للمعاني مدهش للنفس لعدم مناسبتها إياه ولكن القلب للمناسبة يشرب معناه، فإذا سكن الصوت آفاق النفس فحينئذ تتلقى النفس من القلب ما ألقى إليه فيعي، على أن العلم بكيفية ذلك من الأسرار التي لا يدركها العقل.

((مح)): قال القاضي عياض: إن ما جاء من مثل ذلك يجري على ظاهره، وكيفية ذلك وصورته مما لا يعلمه إلا الله تعالى، ومن أطلعه على شيء من ذلك من ملائكته ورسله، وما يتأول هذا ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان إذ جاءت به الشريعة ودلائل العقول لا تحيله.

[مظ]: يريد - والله أعلم - أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته عند أول ما يقرع بسمعه حتى يتفهم ويتثبت فيتلقنه حينئذ ويعيه، ولذلك قال:((هو أشده عليّ)).

قوله: ((ليتفصد عرقًا)) ((تو)): أي يسيل، يقال: انفصد الشيء وتفصد إذا سال، كأنه شبه بالعِرق المفصود إذا سال عنه الدم.

الحديث الثامن عن عبادة رضي الله عنه:

قوله: ((كُرِبَ لذلك)) ((تو)): يحتمل أنه كان يهتم لأمر الوحي أشد الاهتمام، ويهاب مما يطالب به من حقوق العبودية والقيام بشكر النعم، ويخشى على عصاة الأمة أن ينالهم من الله خزي ونكال فيأخذه الغم الذي يأخذ بالنفس حتى يعلم ما يقضي إليه.

ويحتمل أن المراد منه كرب الوحي وشدته، فإن الأصل في الكرب الشدة، وإنما قال الصحابي: كرب، لما وجد من شبه حاله بحال المكروب.

ص: 3724

5845 -

وعن عبادة بن الصامت، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك وتربَّد وجهه وفي رواية: نكس رأسه، ونكس أصحابه رءوسهم، فلما أُتلي عنه رفع رأسه. رواه مسلم.

ــ

وقوله: ((تربد وجهه)) أي تغير، وأكثر ما يقال ذلك في التغير من الغضب، وتربد الرجل أي تعبس.

وقوله: ((فلما أُتلى عنه)) كذا هو في المصابيح، وأرى صوابه:((فلما تليّ عليه)) من التلاوة، وإن كان ((أتلى عليه)) محققًا فمعناه أحيل، يقال: أتليته إذا أحلته، أي أحيل إليه البلاغ، وذلك أن الملك إذا قضى إليه ما نزل به فقد أحال عليه البلاغ.

((مح)): أتلي، بهمزة وتاء مثناة فوق ساكنة ولام وياء، هكذا هو في معظم نسخ بلادنا، معناه: ارتفع عنه الوحي، هكذا فسره صاحب التحرير وغيره.

ووقع في بعض النسخ: ((أجلي)) بالجيم.

وفي رواية ابن ماهان: ((نجلي)) ومعناهما أزيل عنه وزال عنه.

أقول: ضمن ((أتلي)) معنى ((أقلع)) فعدى بعن، وينصره رواية شرح السنة:((فلما أقلع عنه)).

الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما:

قوله: ((ما جربنا عليك إلا صدقا)) ضمن جرب معنى ألقي، أي ما ألقينا عليك شيئا من الأخبار مجربين إياك إلا وجدناك فيه صادقًا، ومر الكلام مستقصى في هذا الحديث في باب قبل كتاب الفتن مع تغيير يسير.

الحديث العاشر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:

قوله: ((إلى فرثها ودمها)) الضمير راجع إلى جزور وهي مؤنث.

((نه)): الجزور البعير ذكراً كان أو أنثى إلا أن اللقطة مؤنثة، يقال: هذه جزور وإن أردت ذكرًا والجمع [جزر] وجرائر.

والسلا: الجلد الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمه ملفوفًا فيه، قيل: هي في الماشية السلا وفي الناس المشيمة، والأول أشبه؛ لأن المشيمة تخرج بعد الولد ولا يكون الولد فيها حين يخرج.

قوله: ((فانبعث أشقاهم)) ((مح)): هو عقبة بن أبي معيط كما مرح به في الرواية الأخرى، فإذا قيل: كيف استمر في الصلاة مع وجود نجاسة على ظهره؟

ص: 3725

5846 -

وعن ابن عباس، قال: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فجعل ينادي:((يا بني فهر! يا بني عدي!)) لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال:((أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل - وفي رواية: أن خيلا تخرج بالوادي تريد أن تغير عليكم - أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا. قال: ((فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد)). قال أبو لهب: تبالك، ألهذا جمعتنا؟! فنزلت:{تبت يدا أبي لهب وتب} متفق عليه.

5847 -

وعن عبد الله بن مسعود، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة وجمع قريش في مجالسهم، إذ قال قائل: أيكم يقوم إلى جزور آل فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة، فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم

ــ

أجاب القاضي عياض: بأنه ليس هذا بنجس؛ لأن الفرث ورطوبة البدن طاهران وإنما النجس الدم، وهو مذهب مالك ومن وافقه من أن روث ما يؤكل لحمه طاهر، ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة أنه نجس.

وهذا القول الذي قاله القاضي ضعيف؛ لأن هذا السلا يتضمن النجاسة من حيث إنه لا ينفك من الدم في الغالب، ولأنه ذبيحة عباد الأوثان، والجواب المرضي أنه لم يعلم ما وضع على ظهره فاستمر في سجوده استصحابًا للطهارة.

((حس)): قيل: كان الصنيع منهم قبل تحريم هذه الأشياء من: الفرث والدم وذبيحة أهل الشرك، فلم يكن تبطل الصلاة بها كالخمر كان يصيب ثيابهم قبل تحريمها.

أقول: لعل ثباته على ذلك كان مزيدًا للشكوى وإظهار ما صنع أعداء الله تعالى برسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذهم أخذًا وبيلا، ولذلك كرر له الدعاء ثلاثا.

وقوله: ((عليك بقريش)) أي اذهب بهم واستأصلهم عن آخرهم كما يقال: ذهبت به الخيلاء.

ص: 3726

ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبُّهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال:((اللهم عليك بقريش)) ثلاثًا - وكان إذا دعا؛ دعا ثلاثًا، وإذا سأل! سأل ثلاثا -:((اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد)). قال عبد الله: فو الله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأتبع أصحاب القليب لعنة)). متفق عليه.

5848 -

وعن عائشة: أنها قالت: يارسول الله؟ هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحد؟ فقال: ((لقد لقيت من قومك، فكان أشد مالقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت - وأنا مهموم - على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك وماردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم)) قال: ((فناداني ملك

ــ

وقوله: ((وأتبع أصحاب القليب لعنة)) أي أتبع عذابهم الدنيا بعذاب الآخرة من قوله تعالى: {وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود} أي بئس العون المعان، فإذا اللعنة لما تبعتهم كأنها رفدتهم على سبيل ما يستوجبون به العذاب على التهكمية فلما أعينت في الآخرة بلعنة أخرى صارت مرفودة، فإذن اللعنة ملعونة، وفي الحقيقة [هم] الملعونون دنيا وعقبى.

الحديث الحادي عشر عن عائشة رضي الله عنها:

قوله: ((أشد مالقيت)) خبر كان؛ واسمه عائد على مقدر وهو مفعول قوله: ((لقد)).

و ((يوم العقبة)) ظرف كان، المعنى: كان مالقيت من قومك يوم العقبة أشد مالقيت منهم، وأراد بالعقبة التي بمنى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف عند العقبة في الموسم يعرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم إلى الله تعالى وإلى الإسلام، فدعا ابن عبد ياليل فما أجاب إلى ما أراد صلى الله عليه وسلم.

ووضع ((إذا)) التي هي للاستقبال موضع ((إذا)) استحضارًا لتلك الحالة الفظيعة.

و ((على وجهي)) متعلق بقوله: ((انطلقت)) أي: انطلقت حيرانًا هائمًا لا أدري أين أتوجه من شدة ذلك ولم أستفق مما أنا فيه من الغم حتى بلغت ((قرن الثعالب)).

و ((القرن)) جبل صغير، و ((قرن الثعالب)) جبل بعينه بين مكة والطائف.

وقوله: ((لتأمرني بأمرك)) أي بشأنك وبما تريده.

ص: 3727

الجبال، فسلم عليَّ ثم قال: يا محمد! إنَّ الله قد سمع قول قومك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا)). متفق عليه.

5849 -

وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشُج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول:((كيف يفلح قومٌ شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته؟)) رواه مسلم.

5850 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه)). يشير إلى رباعيته ((اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله)). متفق عليه.

وهذا الباب خالٍ عن: الفصل الثاني

ــ

((نه)): ((الأخشبان)) الجبلان المطبقان بمكة وهو أبو قبيس والأحمر وهو جبل مشرف وجهه على قيعان، والأخشب كل جبل خشن غليظ.

الحديث الثاني عشر عن أنس رضي الله عنه:

قوله: ((يسلت الدم)) أي يزيله من رأسه، من سلتت المرأة خضابها إذا أزالته.

و ((شج في رأسه)) من باب قوله: [يجرح في عراقيبها نصلى] بولغ في الشج حيث أوقع الرأس ظرفًا.

الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((يشير إلى رباعيته)) حال من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامله ((قال)) وقع مفسرًا لمفعول فعلوا [أي فعلوا] هذا.

وقوله: ((يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن يراد به الجنس، وأن يراد به نفسه صلى الله عليه وسلم وضعًا للظاهر موضع [المضمر] إشعارًا بأن من يقتله من هو رحمة للعالمين لم يكن إلا أشقى الناس، والذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبي بن خلف.

((مح)): ((في سبيل الله)) احترازًا ممن يقتله في حد أو قصاص، لأن من يقتله في سبيل الله كان قاصدًا له صلى الله عليه وسلم.

الفصل الثاني

خالٍ.

ص: 3728

الفصل الثالث

5851 -

عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألتُ أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ قال: {يأيها المدثر} قلت: يقولون: {اقرأ باسم ربك} قال أبو سلمة: سألتُ جابرًا عن ذلك. وقلت له مثل الذي قلت لي. فقال لي جابر: لا أحدثك إلا بما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((جاورت بحراء شهرًا، فلما قضيت جواري هبطتُ، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا ونظرت عن خلفي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي فرأيت شيئًا، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني، فدثروني، وصبوا عليَّ ماءً باردًا، فنزلت:{يأيها المدثر. قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر. والرجز فاهجر} وذلك قبل أن تفرض الصلاة. متفق عليه.

ــ

الفصل الثالث

الحديث الأول عن يحيى:

قوله: ((لا أحدثك .. إلخ)) إخبار عما سمع واعتقد من أن أول ما نزل من القرآن: {يأيها المدثر} لكن لايدل على المطلوب؛ لأنه قال: في آخرته فقلت: ((دثروني، فنزلت، {يأيها المدثر} وقد سبق في حديث عائشة رضي الله عنها أن أول ما نزل من القرآن {اقرأ باسم ربك} .

((مح)): قول من قال: إن أول ما نزل {يأيها المدثر} ضعيف، والصواب أن أول ما نزل على الإطلاق {اقرأ باسم ربك الذي خلق} كما صرح به في حديث عائشة، وأما {يأيها المدثر} فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزهري عن جابر يدل عليه قوله وهو يحدث عن فترة الوحي

إلى أن قال: فأنزل الله {يأيها المدثر} .

أقول: ينبغي أن يقدر في هذا الحديث بعد قوله: ((جاورت بحراء)) جاءه الملك فقال: اقرأ .. إلى قوله: فيرجف فؤاده ثم فتر الوحي، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت .. إلخ.

ويؤيد هذا التقرير الحديث السابق وهو حديث جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي: ((فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء .. الحديث)) فإن فترة الوحي يدل على تقدمه. والله أعلم.

ص: 3729