المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(7) باب في المعجزات - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ١٢

[الطيبي]

الفصل: ‌(7) باب في المعجزات

الفصل الثالث

5867 -

عن جابر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((لما كذبني قريش قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)) متفق عليه.

(7) باب في المعجزات

الفصل الأول

5868 -

عن أنس بن مالك، أن أبا بكر الصديق [رضي الله عنه] قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رءوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدمه أبصرنا، فقال:((يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)). متفق عليه.

ــ

باب في المعجزات

المعجزة: مأخوذة من العجز الذي هو ضد القدرة، وفي التحقيق: المعجز فاعل العجز في غيره وهو اله سبحانه وتعالى، وسميت دلالات صدق الأنبياء وإعلام الرسل معجزة لعجز المرسل إليهم عن معارضتها بمثلها، ودخلت الهاء فيها إما للمبالغة كعلامة ونسابة، وإما: أن تكون صفة لمحذوف كآية وعلامة.

الفصل الأول

الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه:

قوله: ((ونحن في الغار)) الغار نقب في أعلى ثور، وهو جبل بيمين مكة على مسيرة ساعة.

قيل: طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم:((وما ظنك باثنين الله ثالثهما)) أي: جاعلهما ثلاثة بضم نفسه تعالى إليهما في المعية المعنوية التي أشار إليها بقوله سبحانه وتعالى: {إن الله معنا} وهو من قوله تعالى: {ثاني اثنين إذا هما في الغار

}.

وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم اعم أبصارهم)) فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون، قد أخذ الله بأبصارهم عنه.

فإن قلت: أي فرق بين هذا وبين قوله تعالى لموسى وهارون: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} .

ص: 3754

5869 -

وعن البراء بن عازب، عن أبيه، أنه قال لأبي بكر: يا أبا بكر! حدثني كيف صنعتما حين سريت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد، حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة، لها ظل لم يأت عليها الشمس، فنزلنا عندها وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكاناً بيدي ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت: نم يا رسول الله! وأنا أنفض ما حولك، فنام وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل. قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم قلت: أفتحلب؟ قال: نعم فأخذ شاة فحلب في قعب كثبة من لبن، ومعي إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم يرتوي. فيها يشرب

ــ

قلت: بينهما بون بعيد، لأن معنى قوله:{معكما} أي ناصركما وحافظكما من مضرة فرعون، ومعنى قوله:{الله ثالثهما} أي الله تعالى جاعلهما ثلاثة، فيكون تعالى أحد الثلاثة، وأن كل واحد منهم مشترك فيما له وعليه من النصرة والخذلان.

فإن قلت: ما الفرق بين قوله: ((الله ثالثهما)). وبين قوله: ((ثالثهما الله))؟.

قلت: لا يقدم ما تقدم هنا إلا لنكتة سرية فإن قوله: ((الله ثالثهما)) يفيد أنهم مختصان بأن الله ثالثهما وليس بثالث غيرهما، وفي عكسه يفيد أن الله تعالى ثالثهما لا غيره، وكم بين العارتين.

الحديث الثاني عن البراء رضي الله عنه:

قوله: ((ومن الغد)) أي بعضه، أي أسرينا ليلتنا وبعض الغد، وهو من وادي:((علفته تبنا وماء بارداً)) إذ الإسراء لا يكون إلا بالليل، وإنما ذكر ((ليلتنا)) ليدل به على أن الإسراء كان قد وقع طوال الليلة.

وقوله: ((قائم الظهيرة)) نه: أي قيام الشمس وقت الزوال، من قولهم: قامت به دابته، أي وقفت، والمعنى أن الشمس إذا بلغت وسط السماء أبطأت حركة الظل إلى أن تزول فيحسب الناظر المتأمل أنها قد وقفت وهي سائرة لكن سيراً لا يظهر له أثر سريع كما يظهر قبل الزوال وبعده، فيقال لذلك الوقوف المشاهد: قام قائم الظهيرة.

قوله: ((فرفعت لنا صخرة)) أي أظهرت، ومنه رفع الحديث وهو إذاعته وإظهاره.

قوله ((لم يأت عليها شمس)) بحيث يذهب بظلها، يعني كان ظلها ممدوداً ثابتاً.

قوله: ((وأنا أنفض ما حولك)) نه: أي أحرسك وأطواف هل أرى طلباً، يقال: نفضت المكان واستنفضته إذا نظرت جميع ما فيه، والنفضة بفتح الفاء وسكونها النفيضة قوم يبعثون متجسسين هل يرون عدواً أو خوفاً.

قوله: ((في قعب)) هو بفتح القاف قدح من خشب مقعر.

ص: 3755

ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه، فوافقته حتى استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله: فشرب حتى رضيت، ثم قال:((ألم يأن للرحيل؟)) قلت: بلى قال: فارتحلنا بعدما مالت الشمس، وابتعنا سراقة ابن مالك، فقلت: أتينا يا رسول الله! فقال: ((لا تحزن إن الله معنا)) فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فارتطمت به فرسه إلى بطنها في جلد من الأرض فقال: إني أراكما دعوتما علي، فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل

ــ

وقيل: الكثبة من اللبن قدر حلبة، والكثبة كل قليل جمعته من طعام أو لبن أو غير ذلك، والجمع كثب.

و ((يرتوي فيها)) رويت من الماء بالكسر وارتويت وترويت كله بمعنى.

أقول: فعلى هذا ينبغي أن يقال: ((يرتوي منها)) لا ((فيها)).

مح: يرتوي فيها يستقي فيها، يعني جعل القدح آلة للري والسقي، ومنه الرواية وهي الإبل التي يستقي عليها الماء.

وقوله: ((يشرب ويتوضأ)) مستأنفتان لبيان الاعتمال في السقي.

قوله: ((فوافقته حتى استيقظ)) قض: يعني وافقته في النوم، أو تأنيت به حتى استيقظ، وفي بعض نسخ البخاري، ((حين استيقظ)) أي وافق إتياني وقت اسيتقاظه، ويؤيده ما روى: فوافقته وقد استيقظ.

قوله: ((فارتطمت به)) أي ساخت قوائمها كما تسوخ في الوحل.

و ((الجلد من الأرض)) الصلبة.

قوله: ((أن أرد عنكما)) شف: الجار محذوف تقديره: بأن أراد وقوله: ((فالله لكما)) حشو بينهما. ويمكن أن يقال: فالله مبتدأ، ولكما خبره، وقوله:((أن أرد)) خبر ثان للمبتدأ.

وقال غيره: معناه فادعوا لي كيلا يرتطم فرسي على أن أترك طلبكما ولا أتبعكما بعد، ثم دعا لهما بقوله:((فالله لكما)) أي الله حافظكما وناصركما حتى تبلغ بالسلامة إلى مقصدكما.

ويجوز أن يكون معناه: ادعوا لي حتى أنصرف عنكما، فإن الله قد تكفل بحفظكما عني وحبسني عن البلوغ إليكما.

أقول: الفاء في ((فالله)) تقتضي ترتيب ما بعدها عليه، و ((لكما)) خبر المبتدأ يقتضي متعلقاً بتعلق به هو وما بعده، فالتقدير: ادعوا لي بأن أتخلص مما أنا فيه فإنكما إن فعلتما فالله أشهد لأجلكما أن أراد عنكما الطلب.

ص: 3756

لا يلقى أحداً إلا قال: كفيتم، ما هاهنا، فلا يلقى أحداً إلا رده. متفق عليه.

5870 -

وعن أنس، قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: فما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد، إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال:((أخبرني بهن جبريل آنفا؛ أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت)). قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي من قبل أن

ــ

ويؤيد هذا التقرير ما في شرح السنة: ((والله)) على القسم، أي أقسم بالله لكما على أن أرد الطلب عنكما.

قوله: ((فجعل لا يلقى أحداً)) أي فشرع فيما وعد من رد من لقي.

قوله: ((ما هاهنا)) بمعنى الذي، أي كفيتم الذي هنا، والمعنى كفيتم الطلب في هذا الجانب لأني كفيتكم ذلك.

مح: فيه فوائد:

منها: هذه المعجزة الظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضيلة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه من وجوه.

وفيه: خدمة التابع للمتبوع واستصحاب الركوة ونحوها في السفر للطهارة والشرب.

وفيه: فضل التوكل على الله تعالى وحسن عاقبته.

الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه:

قوله: ((يخترف)) أي يجتني.

قوله: ((وما ينزع الولد)) أي ما سبب نزوع الولد وميله إلى أحد أبويه، فحذف المضاف وأن المصدرية من المضارع، كما في قولك:((أحضر الوغي)).

خط: ((سبق)) إذا علا وغلب، يقال: نزع الولد إلى أبيه إذا أشبهه- ذكره في الغريبين- يعني إذا غلب ماء الرجل أشبهه الولد، وإذا غلب ماء المرأة أشبهها الولد- انتهى كلامه.

فعلى هذا التأنيث في ((نزعت)) بتأويل النسمة.

قوله: ((قوم بهت)) نه: هو جمع بهوت من بناء المبالغة في البهت مثل: صبور وصبر، ثم يسكن تخفيفاً.

ص: 3757

تسألهم يبهتونني. فجاءت اليهود فقال: ((أي رجل عبد الله فيكم؟)) قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا فقال:((أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟)) قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقالوا: شرنا وابن شرنا، فانتقصوه. قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله! رواه البخاري.

5871 -

وعنه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغنا إقبال أبي سفيان، وقام سعد بن عبدة، فقال: يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. قال: فندب رسول

ــ

الحديث الرابع: عن أنس رضي الله عنه:

قوله: ((إقبال أبي سفيان)) أي بالعير من الشام إلى مكة، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان، فأعجب المسلمين تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم فنادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة النجاء النجاء، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة، فقيل له إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس إلى مكة، فقال: لا والله، فمضى بهم إلى بدر، ونزل جبريل وأخبر أن الله وعدكم إحدى الطائفتين.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل.

فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها.

مح: قالوا: إنما قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستشارة اختبار الأنصار لأنه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال وطلب العدو، وإنما بايعهم على أن يمنعوه ممن يقصده، فلما عرض الخروج لعير أبي سفيان أراد أن يعلم أنهم يوافقونه على ذلك أم لا؟ فأجابوا أحسن جواب بالموافقة التامة في هذه المرة وغيرها.

وفيه: حث على استشارة الأصحاب وأهل الرأي والخبرة.

قوله: ((أن نخيضها)) قض: الإخاضة الإدخال في الماء والكناية للخيل والإبل وإن لم يجر ذكرهما لقرينة الحال.

وضرب الأكباد عبارة عن تكليف الدابة للسير بأبلغ ما يمكن.

قوله: ((إلى برك الغماد)) مح: هو بفتح الباء وإسكان الراء هو المشهور من كتب الحديث وروايات المحدثين.

ص: 3758

الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((هذا مصرع فلان)) ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.

5872 -

وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة يوم بدر:((اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم)) فأخذ أبو بكر بيده فقال:

ــ

قال القاضي عياض عن بعض أهل اللغة: صوابه كسر الباء. قال: وكذا قيده شيوخ حديث أبي ذر في البخاري.

واتفقوا على أن الراء ساكنة إلا ما حكاه القاضي عن الأصيلي بإسكانها وفتحها، وهذا غريب ضعيف.

والغماد: بكسر الغين المعجمة وضمها لغتان مشهورتان، وأهل الحديث على ضمها واللغة على كسرها، وهو موضع من وراء مكة بخمس ليال بناحية الساحل.

وقيل: بلد يماني.

وقيل: موضع بأقصى هجر.

قوله: ((فم ماط أحدهم)) يريد ما بعد.

الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما:

قوله: ((أنشدك عهدك)) تو: يقال: نشدت فلاناً أنشده نشداً إذا قلت له: نشدتك الله، أي سألتك بالله، وقد يستعمل في موضع السؤال.

والعهد هاهنا بمعنى الأمان، يريد: أسألك أمانك وإنجاز وعدك الذي وعدتنيه بالنصر، فإن قيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالله وقد علم أن الله سبحانه وتعالى لم يكن ليعده وعدا فيخلفه فما وجه هذا السؤال؟.

قلنا: الأصل الذي لا يفارق هذا العلم هو أن الدعاء مندوب إليه علم الداعي حصول المطلوب أو لم يعلم، ثم إن العلم بالله يقتضي الخشية منه، ولا ترفع الخشية من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما أوتوا ووعدوا من حسن العاقبة، فيجوز أن يكون خوفه من مانع ينشأ من قبله أو من قبل أمته فيحبس عنهم النصر الموعود، ويحتمل أنه وعد بالنصر ولم يعين له الوقت، وكان على وجل من تأخر الوقت فتضرع إلى الله تعالى لينجز له الوعد في يومه ذلك.

ص: 3759

حسبك يا رسول الله! ألححت على ربك، فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول:{سيهزم الجمع ويولون الدبر} . رواه البخاري.

5873 -

وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر:((هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب)). رواه البخاري.

5874 -

وعنه، قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من

ــ

وأما ما أظهر من الضراعة فقيل: الأحسن أن يقال: إن مبالغة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السؤال مع عظم يقينه بربه وكمال علمه به كان تشجيعاً للصحابة وتقوية لقلوبهم، لأنهم كانوا يعرفون أن دعاءه لا محالة مستجاب لاسيما إذا بالغ فيه.

أقول: المراد بالوعد ما في قوله تعالى: {وإذا يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: رب إذا يبلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما أخرجوك، واغزهم نعزك، وأنفق فسينفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمساً مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك)) رواه مسلم عن عياض المجاشعي.

ولعله صلى الله عليه وسلم لما استحضر معنى قوله تعالى: {إن الله غني عن العالمين} وقوله تعالى: {والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم} في قوله: ((إن تشأ لا تعبد)) أي: إن تشأ ألا تعبد فتهلك هذه العصابة، خاف من ذلك، وحين نظر إلى وعده وأنه لا يخلف وعده بالغ في الدعاء بقوله:{سيهزم الجمع ويولون الدبر} فرحاً مستبشراً مع وفور نشاط وهزة، ومن ثمة وثب في الدرع.

مح: بدر هو ماء معروف على نحو أربع مراحل من المدينة بينها وبين مكة.

قال ابن قتيبة: هو بئر كانت لرجل يسمى بدراً.

وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبعة عشر خلت من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة.

الحديث السادس والحديث السابع عن ابن عباس رضي الله عنهما:

قوله: ((يشتد)) أي يعدو ليحمل، يقال: شد في الحرب يشد بالكسر.

ص: 3760

المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم. إذ نظر إلى المشرك أمامه خر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري، فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:((صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة)) فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. رواه مسلم.

5875 -

وعن سعد بن أبي وقاص، قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين، عليهما ثياب بيض، يقاتلان كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد. يعني جبريل وميكائيل. متفق عليه.

5876 -

وعن البراء. قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً إلى أبي رافع، فدخل عليه عبد الله بن عتيك بيته ليلاً وهو نائم فقتله فقال عبد الله بن عتيك: فوضعت السيف في

ــ

قوله: ((أقدم حيزوم)) مح: هو بهمزة قطع مفتوحة وبكسر الدال من الإقدام، قالوا: وهي كلمة زجر للفرس. وقيل بهضم الدال وهمزة وصل مضمومة من التقدم. والأول أشهرهما.

وحيزوم: اسم فرس الملك، وهو منادي حذف حرف النداء.

والخطم: بالخاء المعجمة الأثر على الأنف.

قوله: ((من مدد السماء الثالثة)) فيه تنبيه على أن مدد السماء كان من السموات كلها، وهذا من الثالثة خاصة.

وقوله: ((صدقت، ذلك)) إشارة إلى المذكور من قوله: ((سمع ضربة

الخ)).

الحديث الثامن: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:

قوله: ((كأشد القتال)) الكاف فيه زائدة تأكيداً.

وقوله: ((يعني

)) من قول الراوي أدرجه بياناً لعله عرف ذلك من دليل.

الحديث التاسع عن البراء رضي الله عنه:

قوله: ((رهطاً إلى أبي رافع)) ((قض)): أبو رافع كنية أبي الحقيق اليهودي أعدى عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم، نبذ عهده وتعرض له بالهجاء، وتحصن عنه بحصن كان له، فبعثهم إليه ليقتلوه فدخل عليه عبد الله بن عتيك رضي الله عنه كما دل عليه الحديث.

ص: 3761

بطنه، حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته. فجعلت أفتح الأبواب، حتى انتهيت إلى درجة، فوضعت رجلي فتوقعت، في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، فانطلقت إلى أصحابي، فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال:((ابسط رجلك)). فبسطت رجلي فمسحها، فكأنما لم أشتكها قط. رواه البخاري.

5877 -

عن جابر، قال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال: ((أن نازل)). ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب فعاد كثيباً أهيل، فانكفأت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصا شديداً، فأخرجت جراباً فيه صاع من شعير، ولنا بهمة داجن فذبحتها، وطحنت

ــ

قوله: ((حتى أخذ في ظهره)) عداه بفي ليدل على شدة التمكن وأخذه منه كل مأخذ، وإليه أشار بقوله:((حتى أخذ في ظهره)).

وقوله: ((فوقعت في ليلة مقمرة)) يعني كان سبب وقوعه على الأرض أن ضوء القمر وقع في الدرج فدخل عليه، فحسب أن الدرج مساو للأرض فوقعت منه على الأرض فانكسرت ساقي. فعصبتها: أي شددتها.

فكأنما لم أشتكها: أي كأنها لم تتوجع قط.

الحديث العاشر عن جابر رضي الله عنه:

قوله: ((كدية)) نه: الكدية قطعة غليظة صلبة لا يعمل فيه الفأس.

و ((الذواق)) المأكول والمشروب، فعال بمعنى مفعول من الذوق يقع على المصدر والاسم.

و ((كثيباً أهيل)) أي رملاً سائلاً.

قض: والمعنى أن الكدية التي عجزوا عن رضها صارت بضربة واحدة ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم كتل من رمل مصبوب سيال.

والانكفاء: الانصراف والانقلاب.

والخمص: بسكون الميم، الجوع، سمي بذلك لأن البطن تضمر به.

قوله: ((ولنا بهمة)) مح: هي الصغيرة من أولاد الضأن ويطلق على الذكر والأنثى كالشاة.

و ((الداجن)): ما ألف البيوت.

ص: 3762

الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم فساررته، فقلت: يا رسول الله؟ ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير، فتعالى أنت ونفر معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم:((يا أهل الخندق! إن جابراً صنع سوراً فحي هلا بكم)) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء)). وجاء، فأخرجت له عجيناً، فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثم قال:((ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتكم، ولا تنزلوها)) وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو. متفق عليه.

ــ

في قوله: ((فساررته)) جواز المسارة بالحاجة بحضرة الجماعة، وإنما المنهي أن يتناجى اثنان دون الثالث. كما سبق.

و ((السور)) بضم السين غير مهموز هو الطعام الذي يدعى إليه، وقيل: الطعام مطلقاً، وهي لفظة فارسية، وقد تظاهرت أحاديث صحيحة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم بالألفاظ الفارسية وهو يدل على جوازه.

وأما: ((حي هلا)) فهو بتنوين ((هلا)) وقيل: بلا تنوين على وزن ((علا)).

ويقال: ((حيهل)) ومعناه عليكم بكذا أو أودعكم بكذا.

والبرمة: القدر مطلقاً، وجمعها: برام، وهي في الأصل المتخذ من الحجر.

قوله: ((فبصق)) ((مح)): هو بالصاد هكذا هو في أكثر الأصول، وفي بعضها بالسين وهي لغة قليلة.

قوله: ((وقدحي من برمتكم)) تو: يقال: قدحت المرق أي غرفته، ومنه المقدح وهو المغرفة، سلك بالخطاب مسلك التلوين فخاطب به ربة البيت.

أقول: لعل في نسخته: ((فلتخبز معي)) بالإضافة إلى ياء المتكلم كما هو في بعض نسخ المصابيح، فحمله على ما ذهب إليه.

قال الشيخ محيي الدين: جاء في بعض الأصول: ((ادعي)) على خطاب المؤنث، وهو الصحيح الظاهر، ولهذا قال: " ((فلتخبز معك)) وفي بعضها ادعوا بالواو، أي اطلبوا، وفي بعضها: ادع- انتهى كلامه.

ويعلم منه أن ((معي)) لم يرد بها رواية، وإذا ذهب إلى ((ادعي معك)) لم يكن من تلوين الخطاب في شيء.

ص: 3763

5878 -

وعن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين يحفر الخندق فجعل يمسح رأسه ويقول:((بؤس ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية)) رواه مسلم.

5879 -

وعن سليمان بن صرد، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم حين أجلي الأحزاب

ــ

وقوله: ((لتغط)) بكسر الغين المعجمة، أي يغلي ويسمع غليانه.

وقوله: ((كما هي)) ما كافة وهي مصححة لدخول الكاف على الجملة، وهي مبتدأ والخبر محذوف، أي كما هي قبل ذلك.

مح: قد تظاهرت الأحاديث بمثل هذا من تكثير الطعام القليل، ونبع الماء وتكثيرة، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، وغير ذلك مما هو معروف حتى صار مجموعها بمنزلة التواتر وحصل العلم القطعي وقد مع العلماء أعلاماً من دلائل النبوة في كتبهم كالقفال الشاشي، وصاحبه أبي عبد الله الحليمي، وأبي بكر البيهقي، وغيرهم مما هو مشهور، وأحسنها كتاب البيهقي، ولله الحمد ما أنعم به على نبينا صلى الله عليه وسلم وعلينا بإكرامه.

الحديث الحادي عشر عن أبي قتادة رضي الله عنه:

قوله: ((حين يحفر الخندق)) حكاية الحال الماضية، وكذا ((يقول)).

وقوله: ((تقتلك الفئة الباغية)) بيان لقوله: ((بؤس ابن سمية)) وكان من الظاهر أن يقال: تقتله، ولما كان المراد بهذا البؤس نفسه استقام ذلك.

قض: البؤس الشدة.

وسمية بالضم اسم أم عمار بن ياسر.

والمعنى: يا بؤس عمار احضري هذا أوانك، نادي بؤسه وأراد نداءه، ولذلك خاطبه بقوله:((ستقتلك الفئة الباغية)) يريد به معاوية وقومه، فإنه قتل يوم الصفين.

واتسع في حذف ((يا)) وهي لا تحذف عن أسماء الأجناس.

الحديث الثاني عشر عن سليمان بن صرد رضي الله عنه:

قوله: ((أجلى الأحزاب)) وهم قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من بني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، وضامتهم اليهود من قريظة والنضير، ومضى على الفريقين من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، حتى أنزل الله تعالى النصر بأن أرسل عليهم ريح الصبا وجنود لم يروها وهم الملائكة، وقذف في قلوبهم الرعب، فقال طلحة بن خويلد الأسدي: النجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال، وهذا معنى الإجلاء.

ص: 3764

عنه: ((الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم)). رواه البخاري.

5880 -

وعن عائشة، قالت: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال:((قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعته، اخرج إليهم)) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فأين)) فأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه.

5881 -

وفي رواية للبخاري قال أنس: كأني أنظر إلى الغبار ساطعاً في زقاق بني غنم موكب جبريل عليه السلام حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة.

5882 -

وعن جابر، قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ به ونشرب إلا ما في ركوتك. فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قال: فشربنا وتوضأنا قيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة متفق عليه.

ــ

وقوله: ((الآن نغزوهم)) إخبار بأنه قلت شوكة المشركين من اليوم فلا يقصدوننا البتة بعد بل نحن نغزوهم، ونقتلهم وتكون عليهم دائرة السوء، وكان كما قال فكان معجزة.

الحديث الثالث عشر عن عائشة رضي الله عنها:

قوله: ((موكب جبريل)) في صحيح البخاري وشرح السنة وأكثر نسخ المصابيح بدون ((من)) نصيباً على نزع الخافض، وفي بعضها بإثبات ((من)).

نه: الموكب جماعة ركاب يسيرون برفق.

الحديث الرابع عشر عن جابر رضي الله عنه:

قوله: ((خمس عشرة مائة)) عدل عن الظاهر لاحتماله التجوز في الكثرة والقلة، وهذا يدل على أنه اجتهد فيه وغلب ظنه على هذا المقدار، وقول البزار في الحديث الذي يتلو هذا الحديث:((كنا أربع عشرة مائة)) كان عن تحقيق، لما سبق في الفصل الثاني من باب قسمة الغنائم أن أهل الحديبية كانوا ألفاً وأربعمائة تحقيقاً، وقول من قال: هم ألف وخمسمائة وهم.

ص: 3765

5883 -

وعن البراء بن عزب، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة يوم الحديبية، - والحديبية بئر- فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ، ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها، ثم قال:((دعوها ساعة)) فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا. رواه البخاري.

5884 -

وعن عوف، عن أبي رجاء، عن عمران بن حصين، قال: كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل، فدعا فلاناً- كان يسميه أبو رجاء ونسبه عوف- ودعا عليا، فقال:((اذهبا فابتغيا الماء)). فانطلقا، فتلقيا امرأة بين مزادتين أو سطحيتين من ماء، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء، ففرغ في من أفواه المزادتين، ونودي في الناس: اسقوا. فاستقوا قال: فشربنا عطاشاً أربعين رجلاً، حتى روينا. فملأنا كل قربة معنا وإداوة، وايم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملئة منها حين ابتدأ. متفق عليه.

5885 -

وعن جابر، قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح

ــ

الحديث الخامس عشر والحديث السادس عشر عن عوف:

قوله: ((كان يسميه أبو رجاء)) فاعل يسميه أبو رجاء، وضمير المفعول عائد إلى فلان، وكذا في قوله:((نسبه)).

قوله: ((مزادتين)) قض: المزادة الراوية وهي في الأصل لما يوضع فيه الزاد.

والسطحية: نوع من المزادة يكون من جلدين قوبل أحدهما بالآخر فسطح عليه.

((نه)) قوله: ((فاستنزلوها)) الضمير يجوز أن يرجع إلى المرأة أي: طلبوا منها أن تنزل عن البعير،

وقيل: الضمير راجع إلى المزادة، يعني: أنزلوها، واستنزل وأنزل بمعنى.

وقوله: ((عطاشاً)) حال.

و ((أربعين)) بيان له.

وقوله: ((وايم الله لقد أقلع عنها)) أي: وايمن الله قسمي لقد انكفت الجماعة عن تلك المزادة ورجعوا عنها، وإن الشأن والحديث ليشبه إلينا أن تلك المزادة كانت أكثر ماء من تلك الساعة التي استقوا منها.

الحديث السابع عشر عن جابر رضي الله عنه:

قوله: ((وادياً أفيح)) نه: كل موضع واسع يقال له: أفيح، وروضة فيحاء.

ص: 3766

فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته، فلم ير شيئاً يستتر به، وإذا شجرتين بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال: ((انقادي علي بإذن الله)) فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أنه الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها، فقال:((انقادي علي بإذن الله)). فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما قال:((التئما علي بإذن الله))، فالتأمتا فجلست أحدث نفسي، فحانت مني لفتة، فإذا برسول الله مقبلا، وإذا الشجرتين قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، رواه مسلم.

5886 -

وعن يزيد بن أبي عبيد، قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة بن الأكوع فقلت: يا أبا مسلم، ما هذه الضربة؟ قال: ضربة أصابتني يوم خيبر فقال

ــ

و ((المخشوش)) هو الذي في أنفه الخشاش بالكسر، وهو عويد يجعل في أنفس البعير ليكون أسرع إلى الانقياد.

و ((المنصف)) الموضع الوسط بين الموضعين.

قوله: ((وإذا شجرتين)) بالنصب، كذا في صحيح مسلم وأكثر نسخ المصابيح، وفي بعضها ((شجرتان)) بالرفع وهو مغير، فتقدير النصب: فوجدت شجرتين نابتتين بشاطئ الوادي، وهو كمسألة:((كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو إياها)).

قال شارح اللباب: إنما جوز الإتيان بالضمير المنصوب وهو ((إياها)) لأن المفاجأة تدل على الوجدان، ولفظ ((هو)) فصل وعماد، و ((إياها)) مفعول وجدت مضمراً، والمفعول الأول محذوف ناب ضمير الفصل والعماد عنه أي:((وجدته إياها)) و ((إذا)) بمعنى وجدت.

قوله: ((يصانع قائده)) تو: أي ينقاد له ويوافقه، والأصل في المصانعة الرشوة وهي أن تصنع لصاحبك شيئاً حتى يصنع لك شيئاً.

قوله: ((انقادي علي)) أي لا تعصي علي، ونظيره قوله تعالى:{ما لك لا تأمنا على يوسف} أي: لم تخافنا عليه، ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه.

قوله: ((التئما علي بإذن الله)) على حال، أي اجتمعا مظلتين علي.

قوله: ((فحانت مني التفاتة)) أي ظهرت مني التفاتة ونظرة، من حان إذا أتى وقت الشيء.

واللفتة: فعلة من اللالتفات.

ص: 3767

الناس: أصيب سلمة. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم: فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيتها. حتى الساعة. رواه البخاري.

5887 -

وعن أنس قال: نعى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب- وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله- يعني خالد بن الوليد- حتى فتح الله عليهم)). رواه البخاري.

5888 -

وعن عباس، قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلما التقى المسلمون والكفار، ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أي عباس! ناد أصحاب السمرة؛ فقال عباس- وكان رجلا صيتا- فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة)) فقال: والله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك يا لبيك قال: فاقتتلوا والكفار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار؛ يا معشر الأنصار؛ قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم. فقال: هذا حين حمى

ــ

الحديث الثامن عشر على الحديث العشرين عن عباس رضي الله عنه.

قوله: ((إلى قتالهم)) متعلق بنظر، وفي الحديث كما في المصابيح اختصار مخل، لأن المذكور قبل:((ولى المسلمون مدبرين)) فلابد من ذكر ما يستقيم به المعنى والحديث رواه مسلم عن العباس، وفيه بعد قوله:((آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي عباس ناد أصحاب السمرة)) فقال العباس- وكان رجلاً صيتاً-: ((فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة)) قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون: ((يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث من الخزرج، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ......... الحديث)).

ص: 3768

الوطيس. ثم أخذ حصيات، فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال:((انهزموا ورب محمد)) فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبراً. رواه مسلم.

5889 -

وعن أبي إسحاق، قال: قال رجل للبراء: يا أبا عمارة؛ فررتم يوم

ــ

وقوله: ((هذا)) مبتدأ، والخبر محذوف.

و ((حين)) مبني لأنه مضاف إلى ير متمكن متعلق باسم الإشارة، أي هذا القتال حين اشتد الحرب، وفيه معنى التعجب واستعظام الحرب، ونحوه تعلق الحال والتعجب في قوله تعالى:{وهذا بعلي شيخاً} و {تلك القرى نقص عليك من أنبائها} تعجباً من حصول البشارة بالولد في حال الشيخوخة، أشير إلى تلك القرى في حالة اقتصاصنا عليك صفتها العجيبة الشأن لمزيد من التسلي وتثبيتاً لنفسك.

نه: ((حمي الوطيس)) شبه التنور، وقيل: هو الضراب في الحرب، وقيل: هو الوطء الذي يطس الناس أي يدقهم.

وقال الأصمعي: هو حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد يطأها ولم يسمع هذا الكلام من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من فصيح الكلام عبر به عن اشتباك الحرب وقيامها على ساق. انتهى كلامه.

قوله: ((يا لبيك)) المنادي محذوف، أي: يا قوم، لقوله تعالى:{ألا يا اسجدوا} على وجه.

قوله: ((ما هو إلا أن رماهم)) يعني ليس انهزامهم سوى رميهم بالحصيات وما كان بالقتال والضرب بالسيف والطعان.

ويحتمل أن يكون الضمير عبارة عن لأمر والشأن، ويكون هو المستثنى منه.

مح: فيه معجزتان ظاهرتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما فعلية والأخرى خبرية، وهو أنه: أخبر بهزيمتهم، ورماهم بالحصيات فولوا مدبرين.

الحديث الحادي والعشرون عن أبي إسحاق:

ص: 3769

حنين؟ قال: لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن خرج شبان أصحابه ليس عليهم كثير سلاح، فلقوا قوماً رماة لا يكاد يسقط لهم سهم، فرشقوهم رشقاً ما يكادون يخطئون، فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بلغته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث يقوده، فنزل واستنصر وقال:((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)) ثم صفهم. رواه مسلم.

وللبخاري معناه.

ــ

قوله: ((لا والله)) مح: هذا الجواب لذي أجابه البراء من بديع الأدب، لأن تقدير الكلام: فررتم كلكم، فيقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم في ذلك فقال البراء:((لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن جماعة من أصحابه جرى لهم كذا وكذا)).

فإن قلت: ذكر في الحديث السابق: ((ولى المسلمون مدبرين)) [وبعدوا بعداً صاح بهم العباس وكان صيتا] وفي هذا الحديث: ((فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فكيف الجمع؟.

قلت: أقدر قبل الفاء في قوله: ((فأقبلوا هناك)) جميع ما يتصل به من فرارهم وتصويت العباس لهم وإقبالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: ((فنزل واستنصر)) أي النبي صلى الله عليه وسلم تواضعا واستكانة لله تعالى، وطلب النصرة منه تعالى لعلمه أن النصرة ليس إلا منه، وقد سبق في باب البيان والشعر كلام في أنه لم يقصد بكلامه ذلك الشعر.

مح: فإن قيل: كيف نسب نفسه إلى جده دون أبيه وافتخر بذلك مع أن الافتخار من عمل الجاهلية؟.

فالجواب: أنه صلى الله عليه وسلم كانت شهرته بجده أكثر لأن أباه قد توفي شبابا قبل اشتهاره، وكان جده مشهوراً شهرة ظاهرة شائعة، وكان سيد أهل مكة، وكان مشتهراً عندهم ان عبد المطلب بشر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه سيظهر ويكون شأنه عظيماً، وكان أخبره بذلك سيف بن ذي يزن.

وقيل: إن عبد المطلب رأى رؤيا تدل على ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك مشهوراً عندهم فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم بذلك ونبئهم بأنه صلى الله عليه وسلم لابد من ظهوره على الأعداء وأن العاقبة لهم لتقوى نفوسهم، وأعلمهم أيضاً أنه ثابت يلازم الحرب لم يول مع من ولى، وعرفهم موضعه ليرجع إليه الراجعون.

وأما قوله: ((أنا النبي لا كذب)) فمعناه: أنا النبي حقاً فلا أفر ولا أولي وفيه دليل على جواز قول الإنسان في الحرب أنا فلان أنا فلان، أو أنا ابن فلان، أو نحن ذلك.

ص: 3770

5890 -

وفي رواية لهما: قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذيه، يعني النبي صلى الله عليه ولسم.

5891 -

وعن سلمة بن الأكوع، قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فولى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال:((شاهت الوجوه)) فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين فهزمهم الله، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين. رواه مسلم.

5892 -

وعن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعى الإسلام:((هذا من أهل النار)) فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال، وكثرت به الجراح، فجاء رجل، فقال: يا رسول الله! أرأيت الذي تحدث أنه من أهل الناس، قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال فكثرت به

ــ

واحمرار البأس: كناية عن اشتداد الحرب، فاستعير ذلك لحمرة الدماء الحاصلة، أو لاستعار نار الحرب واشتعالها كما في الحديث السابق ((حمي الوطيس)).

وفيه بيان لشجاعته وعظيم وثوقه بالله تعالى.

وقوله: ((يحاذيه)) أي يوازيه، ويحاذي منكبه حذو منكبه.

الحديث الثاني والعشرون عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.

قوله: ((فلما غشوا)) أي الكفار، أي قاربوا الغشيان.

وشاهت الوجوه: أي قبحت، يقال: شاه يشوه شوهاً، ورجل أشوه، وامرأة شوهاء.

قوله: ((فما خلق)) الظاهر أن يقال: وما بقي منهم، فعدل عنه إلى ما هو عليه تأكيداً وتقريراً للحصر، وأن أحداً ما خلص من ذلك البتة.

وفيه بيان معجزاته صلى الله عليه وسلم من وجهين:

أحدهما: إيصال تراب تلك القبضة اليسيرة إلى أعينهم جميعاً.

وثانيهما: أنها بحيث ملأت عين كل واحد منهم من تلك القبضة اليسيرة وهم أربعة آلاف فيمن ضامهم من أمداد سائر العرب.

الحديث الثالث والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((أرأيت الذي تحدث)) أي أخبرني عن حال من قلت في شأنه: إنه من أهل النار والحال أنه من أهل الجنة لأنه قاتل في سبيل الله تعالى أشد القتال، فرد عليه بقوله:((أما إنه من أهل النار)) أي القول ما قلت وإن ظهر لك خلافة.

ص: 3771

الجراح؛ فقال: ((أما إنه من أهل النار)) فكاد بعض الناس يرتاب، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح، فأهوى بيده إلى كنانته، فانتزع سهماً فانتحر بها، فاشتد رجال المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله؛ صدق الله حديثك، قد انتحر فلان وقتل نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله، يا بلال قم فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)). رواه البخاري.

5893 -

وعن عائشة، قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم عندي، دعا الله ودعاه، ثم قال:

ــ

وقوله: ((فأهوى بيده إلى كنانته)) أي قصد ومال إلى جعبته.

ويقال: انتحر الرجل إذا نحر نفسه، وفي المثل: سرق السارق فانتحر.

فاستد: أي عدا قاصداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: ((الله أكبر)) يحتمل تعجباً وفرحاً لوقوع ما أخبر عنه فعظم الله حمداً وشكراً لتصديق قوله.

وأن يكون كسراً للنفس وعجبها حتى لا يتوهم أنه من عنده، وينصره قوله:((إني عبد الله))

وقوله: ((أذن يا بلال: لا يدخل الجنة إلا مؤمن)) تعريض بقول ذلك الرجل وتعريضه في قوله: ((وقد قاتل في سبيل الله من أشد القتال)) بأنه من أهل الجنة، كما سبق.

مح: اسم الرجل ((قزمان)) قاله الخطيب البغدادي، وكان من المنافقين كذا في جامع الأصول.

قوله: ((وإن الله ليؤيد))، أي إن الله تعالى ينصر هذا الدين ويقويه بالرجل الفاجر، فلا ترتابوا في هذا كما ارتبتم في ذلك لشدة عنايته بهذا الدين وصونه عن الزوال إلى يوم الدين.

الحديث الرابع والعشرون عن عائشة رضي الله عنها:

قوله: ((إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله)) مح: قد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث لذلك وزعم أنه يحط من منزل النبوة، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع. وهذا الذي ادعاه باطل لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقة وعصمته بما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك، وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل، فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بها فهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه، وقد قيل: إنه إنما كان يتخيل أنه وطئ زوجاته وليس يواطئ، وقد يتخيل للإنسان قبل هذا في المنام.

ص: 3772

((أشعرت يا عائشة! أن الله قد أفتاني فيما استفتيته، جاءني رجلان، جلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب: قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي. قال: في ماذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذوران)) فذهب النبي

ــ

وقيل: إنه يتخيل إليه ما يخيل ولكن لم يعتقد صحته وكانت معتقداته على السداد والصحة.

وقيل: ((ليخيل إليه)) أي يظهر له من نشاطه أنه قادر على إتيان النساء فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يتمكن من ذلك.

وكل ما جاء من أنه تخيل شيئاً لم يفعله فمحمول على التخييل بالبصر لا بالعقل وليس فيه ما يطعن في الرسالة.

مظ: وأما ما زعموا من دخول الضرر على الشرع بإثباته فليس كذلك، لأن السحر إنما يعمل في أبدانهم وهم بشر يجوز عليهم من العلل والأمراض ما يجوز على غيرهم، وليس تأثير السحر في أبدانهم بأكثر من القتل وتأثير السم وعوارض الأسقام فيهم، وقد قتل زكريا وابنه، وسم نبينا صلى الله عليه وسلم بخيبر، وأما أمر الدين فإنهم معصومون فيما بعثهم الله عز وجل وأرصدهم له، وهو جل ذكره حافظ لدينه وحارس لوحيه أن يلحقه فساد أو تبديل.

فإن قيل: كلام النبوة يمنع من حلول الاختلال بالسحر بجسم النبي صلى الله عليه وسلم؟

قلنا: لا يطول ذلك بل يزول سريعاً فكأنه ما حل، وفائدة الحلول تنبيه على أن هذا بشر مثلكم، وعلى أن السحر تأثيره حق إذا أثر في أكمل الإنسان فكيف بغيره؟

قوله: ((دعا الله ودعاه)) أي عقب دعاء بدعاء واستمر عليه، يدل على هذا التأويل الرواية الأخرى:((ثم دعا ثم دعا)).

مح: هذا دليل على استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهة وتكريره وحسن الالتجاء إليه تعالى.

و ((المضبوب)) المسحور، يقال: طب الرجل إذا سحر، فكنوا بالطب عن السحر، كما كنوا بالسليم عن اللديغ.

وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء: طب، وللسحر: طب، وهو من أعظم الأدواء.

و ((المشاطة)) بضم الميم الشعر الذي يسقط من الرأس واللحية عند تسريحه بالمشط.

و ((الجب)) بضم الجيم والباء هكذا هو في أكثر نسخ بلادنا، وفي بعضها:((جف)) بالفاء وهما بمعنى، وهو وعاء طلع النخل، ويطلق على الذكر والأنثى فلهذا أضاف في الحديث ((طلعة)) إلى ذكر إضافة بيان.

ص: 3773

صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر. فقال: ((هذه البئر التي أريتها وكأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رءوس الشياطين)) فاستخرجه. متفق عليه.

5894 -

وعن أبي سعيد الخدري، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل. فقال: ((ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟! قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل)) فقال عمر: ائذن لي أضرب عنقه. فقال: ((دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع

ــ

وفي كتاب مسلم: ((في بئر ذي أوران)): كذا وقع في بعض روايات البخاري وفي معظمهما ((ذوران)) وكلاهما صحيح مشهور، والأول أصح وأجود، وفي بئر في المدينة في بستان بني زريق.

قوله: ((وكأن نخلها رءوس الشياطين)) تو: أراد بالنخل طلع النخل، وإنما أضافه إلى بئر لأنه كان مدفوناً فيها، وأما تشبيهه ذلك برءوس الشياطين فلما صادقوه عليه من الوحشة وقبح المنظر، وكانت العرب تعد رءوس الشياطين من أقبح المناظر ذهاباً في الصورة إلى ما يقتضيه المعنى.

وقيل: أريد بالشياطين الحيات الخبيثان العرمات، وأيا ما كان فإن الإتيان بهذا المنظر في الحديث مسوق على نص الكتاب في التمثيل، قال الله تعالى:{كأنه رءوس الشياطين} .

الحديث الخامس والعشرون عن أبي سعيد رضي الله عنه:

قوله: ((قسماً)) تو: القسم مصدر قسمت الشيء فانقسم، سمي الشيء المقسوم وهو الغنيمة بالمصدر.

والقسم: بالكسر الحظ والنصيب، ولا وجه للمكسور في الحديث لأنه يختص إذا تفرد نصيب وهذا القسم كان في غنائم خيبر قسمها بالجعرانة.

و ((خبت وخسرت)) على ضمير المخاطب لا على ضمير المتكلم، وإنما رد الخيبة والخسران إلى المخاطب على تقدير عدم العدل منه، لأن الله تعالى بعثه رحمة للعالمين وبعثه ليقوم بالعدل فيهم، فإذا قدر أنه لم يعدل فقد خاب المعترف بأنه مبعوث إليهم فخاب وخسر لأن الله لا يحب الخائنين فضلاً من أن يرسلهم إلى عباده.

قوله: ((فقال: دعه)) حس: كيف منع النبي صلى الله عليه وسلم من قتله مع أنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم؟.

ص: 3774

صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله، إلا رصافه إلى نضيه وهو قدحه، إلى قذذه فلا يوجد في شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على خير فرقة من الناس)). قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس، فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته.

وفي رواية: أقبل رجل غائر العينين، نأتي الجبهة، كث اللحية، مشرف الوجنتين محلوق الرأس، فقال: يا محمد! اتق الله. فقال: ((فمن يطع الله إذا عصيته؟ فيأمنني

ــ

قيل: إنما أباح قتلهم إذا كثروا وامتنعوا بالسلاح واستعرضوا الناس، ولم تكن هذه المعاني موجودة حين منع من قتلهم، وأول ما نجم ذلك في زمن علي رضي الله عنه، وقاتلهم حتى قتل كثيراً منهم.

قوله: ((لا يجاوز تراقيهم)) حس: أي لا تتجاوز قراءتهم عن ألسنتهم إلى قلوبهم فلا يؤثر فيها، أو لا يتصاعد عن مخرج الحرف وحيز الصوت إلى محل القبول والإنابة.

و ((يمرقون من الدين)) أي: يخرجون من الدين، ويمرون عليه سريعاً من غير حظ وانتفاع به، خروج السهم من الرمية، يعني: الصيد ومروره بجميع أجزائه وتنزهه من التلوث بما يمر عليه من فرث ودم.

و ((الرصاف)) بالضم والكسر عصب يلوي فوق مدخل النصل، والرصافة والرصفة.

ونضى السهم قدحه وهو ما جاوز الريش إلى النصل، م النضو لأنه بري حتى صار نضوا فهو مجاز باعتبار ما كان.

والقذذ: ريش السهم واحده قذذه. أخرج متعلقات الفعل على سبيل التعداد لا التنسيق.

وقوله: ((إلى قذذه)) من كلام الرسول الله صلى الله عليه وسلم.

((وهو قدحه)) تفسير للنضى من قول الراوي.

قوله: ((البضعة)) هي قطعة اللحم.

و ((تدردر)) أي تحرك وتزحزح ماراً وجائياً.

ص: 3775

الله على أهل الأرض ولا تأمنوني)) فسأل رجل قتله، فمنعه، فلما ولى قال:((إن من ضئضئ هذا قوماً يقرءون القرن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، فيقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)). متفق عليه.

5895 -

وعن أبي هريرة، قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! ادع الله أن يهدي أم أبي هريرة فقال: ((اللهم اهد أم أبي هريرة)). فخرجت مستبشراً بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما صرت إلى الباب فاذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خصخصة الماء، فاغتسلت فلبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي من الفرح، فحمد الله وقال خيراً رواه مسلم.

5896 -

وعنه، قال: إنكم تقولون: أكثر أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله الموعد، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي

ــ

قوله: ((إن من ضئضئ هذا)) نه: الضئضئ الصل، يقال: ضئضئ صدق وضؤضؤ صدق، يريد أن يخرج من نسله وعقبه، ((تو)) وأما من ذهب إلى أنهم يتولدون منه فقد أبعد، إذ لم يذكر في الخوارج قوم من نسل ذي الخويصرة، ثم إن الزمان الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول إلى أن نابذ المارقة عليا رضي الله عنه وحاربوه لا يحتمل ذلك، بل معناه من الأصل الذي هو منه في النسب أو من الأصل الذي هو عليه في المذهب.

وأراد بقتل عاد: الاسئصال بالإهلاك، فإن عاداً لم تقتل وإنما أهلكت بالصيحة فاستؤصلت بالإهلاك.

الحديث السادس والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((مجاف)) نه: أجاف الباب، أي: رده عليه، ومنه الحديث:((أجيفوا أبوابكم)) أي ردوها.

ص: 3776

ملء بطني وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً: ((لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئاً أبداً)). فبسطت نمرة ليس علي ثوب غيرها حتى قضى النبي صلى الله عليه وسلم مقالته. ثم جمعتها إلى صدري، فو الذي بعثه بالحق ما نسيت من مقالته ذلك إلى يومي هذا. متفق عليه.

5897 -

وعن جرير بن عبد الله، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تريحني من ذي الخلصة؟)). فقلت: بلى، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري، وقال:((اللهم ثبته واجعله هادياً مهديا)). قال: فما وقعت عن فرسي بعد، فانطلق في مائة وخمسين فارساً من أحمس فحرقها بالنار وكسرها. متفق عليه.

5898 -

وعن أنس، قال: إن رجلا كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم. ((إن الأرض لا تقبله)). فأخبرني أبو طلحة أنه أتى الأرض التي مات فيها فوجده منبوذاً فقال: ما شأن هذا؟ فقالوا: دفناه مراراً فلم تقبله الأرض. متفق عليه.

ــ

و ((الخشف)) الحس والحركة، وقيل: هو الصوت، وكذلك الخشفة بالسكون.

و ((الخضخضة)) تحريك الماء.

وقوله: ((وعجلت عن خمارها)) أي عجلت الفتح متجاوزة عن خمارها.

وقوله: ((قال خيراً)) أي قولا خيراً، أو ذكر كلاماً متضمناً للخير.

الحديث السابع والعشرون عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((والله الموعد)) يعني لقاء الله الموعد، يعني به يوم القيامة، فهو يحاسبني على ما أزيد وأنقص لاسيما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال:((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده منالنار)).

قوله: ((الصفق بالأسواق)) هو كناية عن العقود في البيع والشرى، فإن المهاجرين كانوا أصحاب تجارات، كما أن الأنصار كانوا أرباب زراعات.

وأموال أهل المدينة المواضع التي فيها نخيلهم.

وقوله: ((على ملء بطني)) حال، أي ألزمه صلى الله عليه وسلم قانعاً بما يملأ بطني، فعداه بعلى مبالغة، وفي معناه قول الشاعر:

ص: 3777

5899 -

وعن أبي أيوب، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس، فسمع صوتاً، فقال:((يهود تعذب في قبورها)). متفق عليه.

5900 -

وعن جابر، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((بعثت هذه الريح لموت منافق)). فقدم المدينة، فإذا عظيم من المنافقين قد مات رواه مسلم.

5901 -

وعن أبي سعيد الخدري، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى قدمنا عسفان، فأقام بها ليالي، فقال الناس: ما نحن هاهنا في شيء، وإن عيالنا لخلوف ما نأمن عليهم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((والذي نفسي بيده ما في المدينة شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا إليها)). ثم قال: ((ارتحلوا)) فارتحلنا وأقبلنا إلى المدينة، فو الذي يحلف به ما وضعنا رحالنا حين دخلنا المدينة حتى أغار علينا بنو عبد الله بن غطفان وما يهيجهم قبل ذلك شيء. رواه مسلم.

ــ

فإن ملكت [كفاف] قوت فكن به قنيعاً فإن المتقي الله قانع

قوله: ((فينسي)) جواب النفي على تقدير أن، فيكون عدم النسيان سبباً عن المذكورات كلها، وأوثرت ((لن)) النافية دلالة على أن النسيان بعد ذلك كالمحال، فقوله:((مقالتي هذه)) كأنه إشارة إلى دعاء دعاه حينئذ وقوله ((من مقالتي شيئاً)) إشارة إلى جنس المقالات كلها وقوله ((ذلك)) إشارة إلى الجنس باعتبار المذكور.

و ((النمرة)) شلمة مخططة من مآزر الأعراب، وجمعها ((نمار)) كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض.

الحديث الثامن والعشرون عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه:

قوله: ((من ذي الخلصة)) ذو الخلصة بيت لخثعم كان يدعي: ((كعبة اليمامة)) والخلصة اسم طاغيتهم التي كانت فيه.

شف: فيه ((إيماء إلى أن النفوس الزكية الكاملة المكملة قد يلحقها العناء مما هو على خلاف ما ينبغي من عبادة غير الله تعالى وغيرها مما لايجوز.

قوله: ((من أحمس)) نه: هم قريش وكنانة وجديلة قيس، سموا حمساً لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا، والحماسة الشجاعة.

وقوله: ((فانطلق)) هو من كلام الراوي، وقيل: هو كلام جرير نفسه ففيه التفات.

ص: 3778

5902 -

وعن أنس، قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله! هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا. فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد الغد حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي- أو غيره- فقال: يا رسول الله! تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال:((اللهم حالينا ولا علينا)). فما يشير إلى ناحية من السحاب إلى انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة شهراً، ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.

ــ

الحديث التاسع والعشرون والحديث الثلاثون عن أبي أيوب رضي الله عنه:

قوله: ((وجبت)) أي غربت، وأصله من السقوط، قال تعالى:{فإذا وجبت جنوبها} أي سقطت.

الحديث الحادي والثلاثون عن جابر رضي الله عنه:

قوله: ((قرب المدينة)) نصب على انتزاع الخافض والخبر متعلقه.

قوله: ((تكاد أن تدفن)) قال المالكي: وقع خبر كاد مقروناً بأن وهو صحيح، لكن وقوعه غير مقرون بأن أكثر وأشهر، ولذلك لم يقع في القرآن إلا غير مقرون بها، والسبب المانع من الاقتران في باب المقاربة هو دلالة الفعل على الشروع كطفق وجعل فإن ((أن)) تقتضي الاستقبال، وفعل الشروع يقتضي الحال فتنافيا، وما لا يدل على الشروع كعسى وأوشك وكرب وكاد فمقتضاه مستقبل فاقتران خبره بأن مؤكد لمقتضاه، فإذا انضم إلى هذا التعليل استعمال فصيح ونقل صحيح كما في الحديث المذكور وغيره من قول أنس:((فما كدنا أن نصل إلى منازلنا)) وبعض الصحابة: ((والبرمة: بين الأثافي قد كادت أن تنضج)) وقول خبير: ((كاد قلبي أن يطير)) تأكد الدليل على الجواز ولم يوجد لمخالفته سبيل، وقد اجتمع الوجهان في قول عمر رضي الله عنه:((ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب)).

الحديث الثاني والثلاثون عن أبي سعيد رضي الله عنه:

قوله: ((لخلوف)) نه: يقال: حي خلوف إذا غاب الرجال وأقام النساء، ويطلق على المقيمين والظاعنين.

ص: 3779

وفي رواية قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية، ومنابت الشجر)). قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس. متفق عليه.

5903 -

وعن جابر، قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه، صاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق. فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت، قال:((بكت على ما كانت تسمع من الذكر)). رواه البخاري.

5904 -

وعن سلمة بن الأكوع، أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال:((كل بيمينك))، قال لا أستطيع. قال:((لا استطعت)). ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه. رواه مسلم.

ــ

قوله: ((إلا عليه)) أي على كل واحد من الشعب والنقب.

و ((يحرسانها)) الضمير راجع إلى المدينة، والمراد شعبها ونقبها.

الحديث الثالث والثلاثون عن أنس رضي الله عنه:

قوله: ((قزعة أي قطعة من السحاب.

((نه)) قوله: ((يتحادر أي ينزل ويقطر وهو تفاعل من الحدور ضد الصعود، يتعدى ولا يتعدى.

و ((الجوبة)) الحفرة المستديرة الواسعة، وكل سقف بلا بناء جوبة، أي صار السحاب والغيم محيطاً بآفاق المدينة.

قوله: ((حوالينا)) حوله وحواله وحوليه وحواليه بمعنى، وإنما أوثر حوالينا لمراعاة الازدواج مع قوله:((علينا)) نحو قوله تعالى {وجئتك من سبأ بنبأ يقين} .

((ولا علينا)) عطف جملة على جملة، أي: أمطر حوالينا ولا تمطر علينا، ولو لم يكن بالواو لكان حالا، أي أمطر على المزارع ولا تمطر على الأبنية، وأدمج في قوله:((ولا علينا)) معنى المضرة، كأنه قيل: اجعل لنا لا علينا.

قوله: ((فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت)) وفي أصل المالكي: ((فما جعل يشير

ص: 3780

5905 -

وعن أنس، أن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب النبي صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة بطيئاً، وكان يقطف، فلما رجع قال:((وجدنا فرسكم هذا بحراً)). فكان بعد ذلك لا يجاري.

وفي رواية: فما سبق بعد ذلك اليوم. رواه البخاري.

5906 -

وعن جابر قال: توفي أبي وعليه دين، فعرضت على غرمائه أن يأخذوا التمر بما عليه، فأبوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقتل: قد علمت أن والدي استشهد يوم أحد وترك ديناً كثيراً، وإني أحب أن يراك الغرماء، فقال لي:((اذهب فبيدر كل تمر على ناحية ففعلت، ثم دعوته، فلما نظروا إليه كأنهم أغروا بي تلك الساعة، فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدراً ثلاث مرات ثم جلس عليه، ثم قال: ((ادع لي أصحابك)). فما زال يكيل لهم حتى أدى الله عن والدي أمانته، وأنا أرضى أن يؤدي الله أمانة والدين ولا أرجع إلى أخواتي بتمرة، فسلم الله البيادر كلها، وحتى إني أنظر

ــ

بيده إلى ناحية من السماء إلا انفرجت)) وهذا أنسب لأن الناحية إنما تنسب إلى السماء وهي التي تنكشف عن السحاب.

الجوهري: والفرج في قول أبي ذؤيب:

وللشر بعد القارعات فروج

أي تفرج وانكشاف.

وقال المالكي: وفي ((فما جعل يشير)) غرابة لأن أفعال الشروع إن صحبها نفي كان مع خبرها نحو جعلت لا ألهو، وقد ندر في هذا الحديث دخول فاء على جعل، وسهل ذلك أن معنى ما جعل يفعل وجعل لا يفعل واحد.

قوله: ((قناة شهرا)) نصب على الحال أو المصدر على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه أي: مثل القناة، أو: سيلان القناة في الدوام والاستمرار والقوة والمقدار.

نه: الجواد المطر الواسع الغزير، يقال: جادهم المطر يجودهم جوداً.

و ((الآكام)) جمع أكم، والأكم جمع إكام، والإكام جمع أكمة وهي الرابية.

و ((الظراب)) الجبال الصغار واحدها ظرب بوزن كتف، وقد يجمع في القلة على أظرب.

وأقلع المطر: إذا كف وانقطع، وأقلعت عنه الحمى إذا فارقته- انتهى كلامه والضمير فيه للسحاب فإنها جمع سحابة.

ص: 3781

إلى البيدر الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم كأنها لم تنقص ثمرة واحدة. رواه البخاري.

5907 -

وعنه، قال: إن أم مالك كانت تهدي للنبي صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمناً، فيأتيها بنوها فيسألون الأدم وليس عندهم شيئ فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم فتجد فيه سمناً، فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((عصرتيها؟)). قالت: نعم. قال: ((تركتيها ما زال قائماً)). رواه مسلم.

ــ

مح: فيه استحباب طلب انقطاع المطر عن المنازل والمرافق إذا كثر وتضرروا به، لكن لا يشرع له صلاة ولا اجتماع في الصحراء.

الحديث الرابع والثلاثون والخامس والثلاثون عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:

قوله: ((أن رجلاً)) تو: الرجل يقال له: ((بشر بن راعي العير)) وقيل: ((بسر)) السير المهملة وهو من أشجع.

قوله: ((ما منعه إلا الكبر)) هو قول الراوي ورد استئنافاً لبيان موجب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كان قائلاً قال: لم دعا عليه بـ ((لا استطعت)) وهو رحمة للعالمين؟ فأجيب بأن ما منعه عن الأكل باليمين العجز بل منعه الكبر.

وقريب منه أو مثله في الإجابة ما رويناه في موطأ الإمام مالك عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمار ومعي صاحب يرعى لنا وعليه بردان قد خلقا فنظر إليه فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما له ثوبان غير هذين؟)) فقلت: بلى يا رسول الله، قال: فمره يلبسهما، فلبسهما، فقال صلى الله عليه وسلم:((أليس هذا خيراً؟ ضرب الله عنقه)) فقال الرجل: في سبيل الله يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((في سبيل الله)) فقتل الرجل في سبيل الله.

الحديث السادس والثلاثون عن أنس رضي الله عنه:

قوله: ((كان يقطف)) أي يقارب خطاه.

فا: القطاف بوزن الخراف مقاربة الخطا والإبطاء، من القطف وهو القطع لأن سيره يجيء مقطعاً غير مطرد، ونقيضه الوساعة.

قوله: ((بحراً)) هو المفعول الثاني لوجدنا، شبه الفرس بالبحر في سعة خطوه وسرعة جريه.

الحديث السابع والثلاثون عن جابر رضي الله عنه:

قوله: ((فبيدر)) أمر بجمع كل تمر في بيدره، من قولهم: بيدر.

قال في المغرب: البيدر الموضع الذي يداس فيه الطعام.

قوله: ((أغروا بي)) أي لجوا في مطالبتي وألحوا، كأن دواعيهم حملتهم على الإغراء بي والاسم الغراء بالفتح والمد، وأغريت الكلب بالصيد، وأغريت بنيهم والاسم الغراة.

ص: 3782

5908 -

وعن أنس، قال: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي ولائتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت به، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أرسلك أبو طلحة؟)). قلت: نعم. قال: ((بطعام؟)) قلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: ((قوموا)). فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة، فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم: قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم.

ــ

والضمير في: ((أعظمها)) راجع إلى البيادر.

و ((بيدراً)) تمييز.

قوله: ((أمانته)) تو: يريد دينه لأنه ائتمن على أدائه، قال الله تعالى:{وتخونوا أماناتكم} أي ما ائتمنتم عليه.

وقوله: ((حتى إني أنظر)) حتى هاهنا هي الداخل ما بعدها في ما قبلها، وهي عاطفة على مقدر جمع أولا في قوله:((فسلم الله البيادر كلها)) ثم فصلها بقوله: حتى كذا وحتى كذا.

الحديث الثامن والثلاثون عن جابر رضي الله عنه:

قوله: ((في عكة لها)) نه: هي وعاء من جلد مستدير ويختص بالسمن والعسل وهو بالسمن أخص.

قوله: ((يقيم لها)) أي العكة ذكرها باعتبار الظرف.

وقوله: ((فأتت النبي صلى الله عليه وسلم) أي فأتت وشكت انقطاع إدام بيتها من العكة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عصرتيها)) والياء فيها وفي ((تركتيها)) لإشباع الكسرة.

الحديث التاسع والثلاثون عن أنس رضي الله عنه:

قوله: ((ثم دسته)) نه: يقال: دسه يدسه دساً إذا أدخله في الشيء بقهر وقوة.

وقوله: ((ولا ثتني)) قض: يعني عممتني أو لففتني، من اللوث وهو اللف، وهو لف الشيء بالشيء وإدارته عليه، ومنه لاث به الناس إذا استداروا حوله.

ص: 3783

فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((هلمي يا أم سليم! ما عندك)) فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت، وعصرت أم سليم عكة فأدمته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، قم قال:((ائذن لعشرة)) فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال ((ائذن لعشرة)) فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال:((ائذن لعشرة)) فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا. ثم قال ((ائذن لعشرة)) فأكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً. متفق عليه.

ــ

قوله: ((سؤراً)) تو: هو بالهمزة أي بقية.

فإن قيل: كيف تستقيم هذه الروايات من صحابي واحد، ففي إحداها يقول:((وترك سؤراً)) وفي الأخرى يقول: 00فجعلت أنظر هل نقص من شيء؟)) وفي الثالثة يقول: ((ثم أخذ ما بقى فجمعه

الحديث))؟.

قلنا: وجه التوفيق فيهن هين بين وهو أن نقول: إنما قال: ((وترك سؤراً))، باعتبار أنهم كانوا يتناولون منه فما فضل منهم سماه سؤراً وإن كان بحيث يحسب أنه لم ينقص منه شيء، وأراد بذلك ما فضل عنهم بعد أن فرغوا منه.

وقيل: أخبر في الأولى أنه دعا فيه بالبركة، وفي الثانية يحكيه على ما وجده عليه بعد الدعاء وعوده إلى المقدار الذي كان عليه قبل التناول، والثالثة لا التباس فيها على ما ذكرناه.

قوله: ((الله ورسوله أعلم)) مح: فيه منقبة عظيمة لأم سليم ودلالة على عظم دينها ورجحان عقلها، تعني أنه صلى الله عليه وسلم قد عرف قدر الطعام فهو أعلم بالمصلحة ولو لم يعلم المصلحة لم يفعلها.

وإنما أذن لعشرة عشرة ليكون أرفق بهم، فإن القصعة التي فيها الطعام لا يتحلق عليه أكثر من عشرة إلا بضرر يلحقهم لبعدها عنهم.

وقوله: ((فأذمته)) أي جعلت باق العكة إداماً للمفتوت.

الحديث الأربعون عن أنس رضي الله عنه:

قوله: ((ثلاثمائة)) منصوب على أنه خبر لكان المقدر.

و ((زهاء ثلاثمائة)) أي قدر ثلاثمائة من زهوت القوم إذا حزرتهم.

الحديث الحادي والأربعون عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:

ص: 3784

وفي رواية لمسلم أنه قال: ((ائذن لعشرة)) فدخلوا فقال: ((كلوا وسموا الله)) فأكلوا حتى فعل ذلك بثمانين رجلاً، ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البيت وترك سؤراً.

وفي رواية البخاري، قال:((أدخل علي عشرة)) حتى عد أربعين، ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت أنظر هل نقص منها شيء؟

وفي رواية لمسلم: ثم أخذ ما بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة فعاد كما كان. فقال:((دونكم هذا)).

5909 -

وعنه، قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء، فوضع يده في الإناء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ القوم. قال قتادة: قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة. متفق عليه.

ــ

قوله: ((وأنتم تعدونها تخويفاً)) هو من قوله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} والآيات إما أن يراد بها المعجزات أو آيات الكتاب المنزلة، وكلتاهما بالنسبة إلى المؤمن الموافق بركات وازدياد في إيمانه، وبالنسبة إلى المخالف المعاند إنذار وتخويف، يعن لا نرسلها إلا تخويفاً من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له.

وفيه مدح للصحابة الذين سعدوا بصحبة خير البشر ولزموا طريقته، وذم لمن عدل عن الطريق المستقيم.

وإنما طلب فضله من الماء كيلا يظن أنه صلى الله عليه وسلم موجد للماء، فإن الإيجاد إليه سبحانه وإليه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم:((والبركة من الله)) أي أن هذا الذي رأيتم من زيادة الماء أيضاً ليس مني، إنما هو بركة من الله تعالى وفضله.

مح: في كيفية هذا النبع وجهان حكاهما القاضي وغيره.

أحدهما: أن الماء كان يخرج من نفس أصابعه وينبع من ذاتها، وهو قول المزني وأكثر العلماء، وهو أعظم في المعجزة من نبعه من حجر، ويؤيده ما جاء في رواية:((فرأيت الماء ينبع من أصابعه)).

وثانيهما: أنه تعالى أكثر الماء في ذاته فصار يفور من بين أصابعه.

قوله: ((حي على الطهور)) تو: يريد هلم وأقبل عليه، فتحت الياء لسكونها وسكون ما قبلها، والعرب تقول: حي على الثريد وهو كفعل الأمر.

الحديث الثاني والأربعون عن أبي قتادة رضي الله عنه:

ص: 3785

5910 -

وعن عبد الله بن مسعود، قال: كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفاً. كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقل الماء. فقال:((اطلبوا فضلة من ماء)) فجاءوا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده في الإناء، ثم قال:((حي على الطهور المبارك، والبركة من الله)) ولقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. رواه البخاري.

5911 -

وعن أبي قتادة، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم، وتأتون الماء إن شاء الله غداً)) فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد. قال أبو قتادة: فبينام رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهار الليل فمال عن الطريق، فوضع رأسه، ثم قال:((احفظوا علينا صلاتنا)) فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس في ظهره، ثم قال:((اركبوا)) فركبنا. فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزل، ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء، فتوضأ منها وضوء دون وضوء. قال:

ــ

قوله: ((لا يلوي أحد على أحد)) أي لا يلتفت ولا يعطف عليه، ولا يصرف همه إليه، بل يمشي كل واحد على حدته من غير أن يراعي الصحبة لاهتمامه بطلب الماء.

و ((إبهار الليل)) أي انتصف، وبهرة كل شيء وسطه.

وقيل: ابهار الليل إذا طلعت نجومه واستنارت.

قوله: ((بميضأة)) فا: هي على مفعلة ومفعالة، وميضأة مطهرة كبيرة يتوضأ منها.

قوله: ((دون وضوء)) أي دون وضوء كامل، أي وضوء خفيفاً لقلة الماء.

قوله: ((فلم يعد أن رأى الناس)) لم يضبط الشيخ محيي الدين هذه اللفظة، وفي أكثر نسخ المصابيح وقعت بفتح الياء والسكون العين وضم الدال، وإثبات الفاء في قوله:((فتكابوا)) وليس في صحيح مسلم ولا شرحه الفاء.

و ((أن رأى الناس)) يحتمل أن يكون فاعلاً أي لم تتجاوز رؤية الناس الماء أكبأتهم فتكابوا وأن يكون مفعولاً أي لم يتجاوز السقى أو الصب رؤية الناس الماء في تلك الحالة وهي كبهم عليه.

قوله: ((فتكابوا عليها)) أي ازدحموا على الميضأة مكباً بعضهم على بعض.

قوله: ((أحسنوا الملأ)) فا: الملأ حسن الخلق، وقيل: للخلق الحسن ملأ لأنه أكرم ما فيه الرجل وأفضله، من قولهم لكرام القوم ووجوههم: ملاء.

ص: 3786

وبقي فيها شيء من ماء. ثم قال: ((احفظ علينا ميضأتك؛ فسيكون لها نبأ)) ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة، وركب وركبنا معه، فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمى كل شيء، وهم يقولون: يا رسول الله! هلكنا وعطشنا، فقال:((لا هلك عليكم)) ودعا بالميضأة فجعل يصب، وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أحسنوا الملأ، كلكم سيروي)) قال: ففعلوا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأسقيهم، حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صب فقال لي:((اشرب)) فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله! فقال: ((إن ساقي القوم آخرهم)) قال: فشربت وشرب، قال: فأتى الناس الماء جامين رواء. رواه مسلم هكذا في ((صحيحه))، وكذا في ((كتاب الحميدي)). و ((جامع الأصول)). وزاد في ((المصابيح)) بعد قوله:((آخرهم)) لفظة: ((شرباً)).

ــ

قال المازني عن أبي عبيدة: يقال لكرام القوم ملأ، ثم يقولون: ما أحسن ملأه أي خلقه، وإنما قيل للكرام: ملأ، لأنهم يتمالئون، أي يتعاونون.

قوله: ((فأتى الناس الماء)) الفاء سببية، أي فحصل للناس عن آخرهم مما جرى ما راموا من الري مستريحين.

تو: ((جامين)) أي مستريحين، قد ذهب عنهم إعياؤهم، من الجمام بالفتح وهو الراحة، وأكثر ما يستعمل ذلك في الفرس.

و ((رواء)) بالكسر جمع راو وهو الذي روى من الماء.

الحديث الثالث والأربعون عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((خذوا في أوعيتكم)) أي صبوا في أوعيتكم آخذين، أو: خذوا صابين في أوعيتكم.

وقوله: ((بهما)) يجوز أن تكون الباء فيه سببية أو استعانة أو حالا، وقد جيء بالجملة استطراداً بالشهادتين واستبشاراً للأمة.

حسن: احتج البخاري في النهد في الطعام وفي جواز قسم ما يكال ويوزن مجازفة وقبضة قبضة بهذا الحديث.

قوله: ((غير شاك)) مرفوع صفة ((عبد)).

وقوله: ((فيحجب)) مرفوع عطفاً على الجملة السابقة، والنفي منصب عليهما معاً.

ص: 3787

5912 -

وعن أبي هريرة، قال: لما كان يوم غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة. فقال عمر: يا رسول الله! ادعهم بفضل أزودهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة. فقال:((نعم)). فدعا بنطع، فبسط، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع شيء يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة. ثم قال ((خذوا في أوعيتكم)) فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة)). رواه مسلم.

ــ

الحديث الرابع والأربعون والخامس والأربعون عن جابر رضي الله عنه:

قوله: ((وأنا علي ناضح)) نه: الناضح الإبل التي يستقى عليها، والجمع النواضح ويجمع أيضاً على ((نضاح)).

وفقار الظهر: خرزاته، الواحدة فقارة.

قوله: ((قدامها)) بدل أو بيان لقوله: ((بين يدي الإبل)) وهو ظرف لقوله: ((فما زال)) ويجوز أن يكوف ظرفاً ليسير، ويسير خبره، واسمه عائد إلى ناضح.

الحديث السادس والأربعون عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه:

قوله: ((وادي القرى)) تو: وادي القرى لا يعرب الياء من الوادي فإن الكلمتين جعلتا اسماً واحداً.

وجبلا طيء أحدهما سلمى، والآخر أجأ على فعل بالتحريك وهما بأرض نجد.

الحديث السابع والأربعون عن أبي ذر رضي الله عنه:

قوله: ((يسمى فيها القيراط)) أي يذكر، قض: أي يكثر أهلها ذكر القراريط في معاملاتهم لتشددهم فيها وقلة مروءتهم، وأنشد جار الله لبعض البدويات:

عريض القفا ميزانه في شماله قد انحصر في حسب القراريط شاربه

وقيل: القراريط كلمة يذكرها أهلها في المسابة.

ومعنى الحديث: أن القوم لهم دناءة وخسة، أو في لسانهم بذاء وفحش، فإذا استوليتم عليهم وتمكنتم منهم فأحسنوا إليهم بالصفح والعفو عما تنكرون، ولا يحملنكم سوء أفعالهم.

ص: 3788

5913 -

وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عروسا بزينب، فعمدت أمي أم سليم إلى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيساً فجعلته في تور فقالت: يا أنس! اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام، وتقول: إن هذا لك منا قليل يا رسول الله! فذهبت فقلت، فقال:((ضعه)) ثم قال: ((اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً وفلاناً)) رجالاً سماهم ((وادع من لقيت)) فدعوت من سمى ومن لقيت، فرجعت فإذا البيت غاص بأهله قيل لأنس: عددكم كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة. فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على تلك الحيسة، وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون منه، ويقول لهم:((اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة، ودخلت طائفة، حتى أكلوا كلهم. قال لي: ((يا أنس! ارفع)) فرفعت، فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت. متفق عليه.

5914 -

وعن جابر، قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على ناضح قد أعيي، فلا يكاد يسير فتلاحق بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((ما لبعيرك؟)) قلت: قد عيي، فتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فزجره فدعا له، فمازال بين يدي الإبل قدامها يسير فقال لي:

ــ

وأقوالهم على الإساءة فإن لهم ذمة ورحماً، وذلك لأن هاجر أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ومارية أم إبراهيم صلى الله عليه وسلم ابن النبي صلى الله عليه وسلم كانتا من القبط.

قوله: ((يختصمان في موضع لبنة)) لعله صلى الله عليه وسلم علم من طريق الوحي والمكاشفة أنه ستحدث هذه الحادثة في مصر، وسيكون عقيب ذلك فتن وشرور لخروج المصريين على عثمان رضي الله عنه أولاً، وقتلهم محمد بن أبي بكر ثانياً، فجعل ذلك علامة وأمارة لتلك الفتن وأمره بالخروج منها حينما رآه، وعلم أن في طباع سكانها خسة ومماكسة كما دل عليه صدر الحديث، فإذا اقتضت الحال إلى أن يتخاصموا في مثل هذا المحقر فينبغي أن يتحرز عن مخالطتهم ويتجنب عن مساكنتهم.

الحديث الثامن والأربعون عن حذيفة رضي الله عنه:

قوله: ((في أصحابي)) تو: صحبة النبي صلى الله عليه وسلم المعتد بها هي المقرونة بالإيمان، ولا يصح أن تطلق إلا على من صدق في إيمانه وظهر منه أمارته دون من أغمض عليهم بالنفاق وإضافتها إليهم لا تجوز إلا على المجاز لتشبههم بالصحابة وتسترهم بالكلمة وإدخالهم أنفسهم في

ــ

((كيف ترى بعيرك؟)) قلت: بخير، قد أصابته بركتك. قال:((أفتبيعنيه بوقية؟)) فبعته على أن لي فقار ظهره إلى المدينة. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوت عليه بالبعير، فأعطاني ثمنه ورده علي. متفق عليه.

5915 -

وعن أبي حميد الساعدي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اخرصوها)) فخرصناها، وخرصها رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 3789

عشرة أوسق وقال: ((أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله)) وانطلقنا، حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ستهب عليكم الليلة ريح شديدة)) فلا يقم فيها أحد، فمن كان له بعير فليشد عقاله)) فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء، ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة عن حديقتها ((كم بلغ ثمرها؟)) فقالت: عشرة أوسق. متفق عليه.

5916 -

وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لها ذمة ورحماً- أو قال: ذمة وصهراً- فإذا رأيتم رجلين يختصمان في موضع لبنة فاخرج منها)). قال: فرأيت عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة، فخرجت منها. رواه مسلم.

ــ

غمارها ولهذا قال: ((في أصحابي)) ولم يقل: من أصحابي، وذلك مثل قولنا: إبليس كان في الملائكة، أي في زمرتهم، ولا يصح أن يقال: كان من الملائكة، فإن الله سبحانه وتعالى يقول:{كان من الجن} وقد أسر هذا القول إلى خاصته وذوي المنزلة من أصحابه أمر هذه الفئة المشئومة المتلبسة لئلا يقبلوا منهم الإيمان، ولا يأمنوا من قبلهم المكر والخداع، ولم يكن يخفى على المحفوظين شأنهم لاشتهارهم بذلك في الصحابة إلا أنهم كانوا لا يواجهونهم بصريح المقال أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حذيفة أعلمهم بأسمائهم، وذلك لأنه كان ليلة العقبة مع النبي صلى الله عليه وسلم مرجعه من غزوة تبوك حين هموا بقتله، ولم يكن على العقبة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمار يقود وحذيفة يسوق به، وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نادى أن: ((خذوا بطن

ص: 3790

5917 -

وعن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((في أصحابي- وفي رواية قال: في أمتي- اثنا عشر منافقاً لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيهم الدبيلة: سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى تنجم في صدورهم)). رواه مسلم.

وسنذكر حديث سهل بن سعد: ((لأعطين هذه الراية غداً)) في (باب مناقب علي)) [رضي الله عنه].

وحديث جابر ((من يصعد الثنية)) في ((باب جامع المناقب)) إن شاء الله تعالى.

ــ

الوادي فإنه أوسع لكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ الثنية)) فلما سمع المنافقون طمعوا في المكر به فاتبعوه متلثمين وهم اثنا عشر رجلا، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خشفة القوم من روائه فأمر حذيفة أن يردهم، فاستقبل حذيفة وجوه رواحلهم بمحجن كان معه فضربها ضرباً فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة، فانقلبوا مسرعين على أعقابهم حتى خالطوا الناس، فأدرك حذيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لحذيفة: هل عرفت منهم أحداً؟ قال: لا فإنهم كانوا متلثمين ولكن أعرف رواحلهم، فقال: لحذيفة: هل عرفت منهم أحداً؟ قال: لا فإنهم كانوا متلثمين ولكن أعرف رواحلهم، فقال: إن الله تعالى أخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم وسأخبرك بهم إن شاء الله عند الصباح، فمن ثمة كان الناس يراجعون حذيفة في أمر المنافقين، وقد ذكر عن حذيفة أنهم كانوا أربعة عشر فتات اثنان ومات اثنا عشر رجلاً على النفاق على ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وقد اطلعت على أسمائهم في كتاب حفاظ الحديث مروية عن حذيفة، غير أني وجدت في بعضها اختلافاً فلم أر أن أخاطر بديني فيما لا ضرورة لي.

قوله: ((تكفيهم الدبيلة)) قض: الدبيلة في الأصل تصغير الدبل وهي الداهية، فأطلقت على قرحة رديئة تحدث في باطن الإنسان.

ويقال لها: الدبلة بالفتح والضم.

وفسرها في الحديث بنار تخرج في أكتافهم.

((حتى تنجم)) أي تظهر، من نجم ينجم بالضم إذا طلع وظهر، ولعله أراد بها ورماً حاراً يحدث في أكتافهم بحيث يظهر أثر تلك الحرارة وشدة لهبها في صدورهم ممثلة بسراج من نار وهو شعلة المصباح.

وقد روي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عرفه إياهم، وأنهم هلكوا كما أخبره الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 3791

الفصل الثاني

5918 -

عن أبي موسى، قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا، فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم، قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهب، حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبي، وإن أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به، وكان هو في رعية الإبل، فقال: أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله. فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء شجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه. فقال: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب. فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالاً، وزوده الراهب من الكعك والزيت. رواه الترمذي. [5918]

ــ

الفصل الثاني

الحديث الأول عن أبي موسى رضي الله عنه:

قوله: ((فلما أشرفوا)) مظ: أي اطلعوا عليه ووصلوا إليه نزلوا، واسم ذلك الراهب كان ((بحيراً)) وكان أعلم النصراينة، والموضع الذي كان فيه هو:((بصري)) من بلاد الشام.

((فجعل يتخللهم)) أي أخذ يمشي بين القوم.

قوله: ((مثل التفاحة)) يروى بالضم والنصب، الضم على أنه خبر مبتدأ محذوف، والنصب على إضمار الفعل، ويجوز الجر على البدل لا الصفة لأن مثل وغير لا يتعرفان بالإضافة إلى المعرفة.

قوله: ((عليه)) حال أي مال ظله عليه.

وقوله: ((أيكم وليه؟)) متعلقة محذوف، هو جواب للاستعطاف، أي: لتنبئن أيكم وليه؟ وبطل عمل الفعل للتعليق الاستفهامي.

ص: 3792

5919 -

وعن علي بن أبي طالب [رضي الله عنه]، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله. رواه الترمذي. والدارمي [5919].

5920 -

وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بالبراق ليلة أسرى به ملجماً مسرجاً، فاستصعب عليه، فقال: له جبريل: أبمحمد تفعل هذا؟ قال: فما ركبك أحد أكرم على الله منه قال: فارفض عرقاً. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب [5920].

5921 -

وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه، فخرق بها الحجر، فشد به البراق)). رواه الترمذي [5921].

5922 -

وعن يعلي بن مرة الثقفي، قال: ثلاثة أشياء رأيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يسنى عليه، فلما رآه البعير جرجر، فوضع جرانه، فوقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((بعنيه)) فقال: بل نهبه لك يا رسول الله! وإنه لأهل بيت مالهم معيشة غيره. قال: أما إذ ذكرت هذا

ــ

فلم يزل يناشده: أي الراهب يقول لأبي طالب: بالله عليك ن ترد محمداً إلى مكة وتحفظه من العدو، حتى رده إلى مكة.

قيل: كان الراهب يخاف أن يذهبوا به إلى الروم فيقتله الروم.

و ((الكعك)) الخبز، وهو فارسي معرب.

و ((ما علمك)) سؤال عن وصف العلم، أي بين لنا كيفية عملك به.

الحديث الثاني والثالث عن أنس رضي الله عنه:

قوله: ((فاستصعب عليه)) تو: يريد أنه لم يمكنه من الركوب، يقال: استصعب عليه الأمر أي صعب.

ووجدنا الرواية في ((أكرم)) بالنصب فلعل التقدير، فما ركبك أحد كان أكرم على الله منه.

و ((فارفض عرفاً)) أي فاض، وارفضاض الدمع ترششها، وكل ذاهب متفرق مرفض.

الحديث الرابع عن بريدة رضي الله عنه:

ص: 3793

من أمره، فإنه شكا كثرة العمل وقلة العلق، فأحسنوا إليه، ثم سرنا حتى نزلنا منزلا، فنام النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته، ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له. فقال:((هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم على رسول صلى الله عليه وسلم، فأذن لها)). قال: ثم سرنا فمررنا بماء فأتته امرأة بابن لها به جنة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنخره ثم قال:((اخرج فإني محمد رسول الله)). ثم سرنا فلما رجعنا مررنا بذلك الماء فسألها عن الصبي، فقالت: والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريباً بعدك. رواه في ((شرح السنة)) [5922].

5923 -

وعن ابن عباس، قال: إن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابني به جنون، وإنه ليأخذ عند غدائنا وعشائنا فيخبث علينا فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا، فثع ثعة وخرج من جوفه مثل الجرو الأسود يسعى. رواه الدارمي. [5923].

ــ

قوله: (فخرج به الحجر)) فإن قلت: كيف الجمع بين هذا وبين قوله في حديث أنس: ((فربطه بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء))؟.

قلت: لعل المراد من الحلقة الموضع الذي كان فيه الحلقة وقد انسد فخرقه جبريل عليه السلام.

الحديث الخامس عن يعلى بن مرة الثقفي رضي الله عنه:

قوله: ((يسني عليه)) قض: يعني يستسقي عليه من سنت الناقة الأرض تسنوا إذا سقتها.

و ((الجرجرة)) صوت تردد البعير في حلقه.

والجران: مقدم العنق، وجمعه جرن.

((منه ريباً بعدك)) أي شيئاً نكرهه فيريبنا ويقلقنا ويضجرنا.

قوله: ((أما إذا ذكرت)) جواب ((أما)) محذوف.

ص: 3794

5924 -

وعن أنس، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين، قد تخضب بالدم من فعل أهل مكة، فقال: يا رسول الله! هل تحب أن نريك آية؟ قال: ((نعم)). فنظر إلى شجرة من ورائه فقال: ادع بها، فدعا بها، فجاءت، فقامت بين يديه فقال: مرها فلترجع، فأمرها، فرجعت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((حسبي حسبي)). رواه الدارمي [5924].

5925 -

وعن ابن عمر، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؟)). قال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال: ((هذه السلمة)). فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً، فشهدت ثلاثاً، أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها. رواه الدارمي [5925].

5926 -

وعن ابن عباس، قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بما أعرف أنك نبي؟ قال: ((إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة يشهد أني رسول الله))

ــ

وقوله: ((فإنه شكا)) جواب لأما المقدرة، تقديره: أما إذا ذكرت أن البعير لأهل بيت مالهم معيشة فلا ألتمس شراه، وأما البعير فعاهدوه فإنه اشتكى، إذ لابد لأما التفصيلية من التكرار.

الحديث السادس عن ابن عباس رضي الله عنهما:

قوله: ((فثع ثعة)) نه: الثع القيء، والثعة المرة الواحدة.

الحديث السابع عن أنس رضي الله عنه:

قوله: ((حسبي)) أي: كفاني في تسليتي عما لقيته من الحزن، هذه الكرامة من ربي ومنحه لي هذه معجزة.

الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما:

قوله: ((هذه السلمة)) نه: السلم من شجر العضاة، واحدها سلمة بفتح اللام، ورقها القرظ الذي يدبغ به، وبها سمي الرجل سلمة.

ص: 3795

فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:((ارجع)) فعاد، فأسلم الأعرابي. رواه الترمذي وصححه [5926].

5927 -

وعن أبي هريرة، قال: جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، قال فصعد الذئب على تل فأقعى واستثفر، وقال: قد عمدت إلى رزق رزقنيه الله أخذته، ثم انتزعته مني؟! فقال الرجل: تالله إن رأيت كاليوم ذئب يتكلم! فقال الذئب: أعجب من هذا الرجل في النخلات بين الحرتين يخبركم بما مضى وبما هو كائن بعدكم. قال: فكان الرجل يهودياً، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فصدقه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:((إنها أمارات بين يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعده)). رواه في ((شرح السنة)) [5927].

5928 -

وعن أبي العلاء، عن سمرة بن جندب، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نتداول من قصعة، من غدوة حتى الليل، يقوم عشرة ويقعد عشرة قلنا:[فمما] كانت

ــ

والخد والأخدود الشق في الأرض.

الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما:

قوله: ((إن دعوت)) جواب لقوله: ((بما أعرف)) أي بأني إذا دعوتها تشهد.

وقوله: ((هذا العذق)) بكسر العين المهملة العرجون بما فيه من الشماريخ وهو بمنزلة العنقود من العنب.

وبالفتح: النخلة.

الحديث العاشر عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((فأقعى)) أي جلس مقعياً.

و ((استثفر)) أي أدخل ذنبه بين رجليه.

وقوله: ((عمدت)) إن روي على صيغة المتكلم يكون إخباراً على سبيل الشكاية، وإن روي على الخطاب يكون استفهاماً على سبيل الإنكار.

ص: 3796

تمد؟ قال: من أي شيء تعجب؟ ما كنت تمد إلا من هاهنا وأشار بيده إلى السماء. رواه الترمذي، والدارمي [5928].

5929 -

وعن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر. قال:((اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم اللهم إنهم جياع فأشبعهم)) ففتح الله له، فانقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين، واكتسوا، وشبعوا. رواه أبو داود [5929].

5930 -

وعن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إنكم منصورون ومصيبون ومفتوح لكم؛ فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر)). رواه أبو داود. [5930].

5931 -

وعن جابر، أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية، ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع، فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ارفعوا أيديكم)) وأرسل إلى اليهودية فدعاها، فقال:

ــ

قوله: ((إن رأيت كاليوم)) ((فا)): أي ما رأيت أعجوبة كأعجوبة اليوم، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، وحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

((تو)): الراعي، قيل: إنه هبار بن أوس الخزاعي، يقال له: مكلم الذئب.

قوله: ((إنها أمارات)) الضمير يحتمل أن يكون للقصة وأن يكون مبهما يفسره ما بعده، وأن يرجع إلى معنى ما تكلم به الذئب باعتبار الحالة والقصة.

الحديث الحادي عشر عن أبي العلاء:

قوله: ((نتداول)) أي نتناوب بأكل الطعام منها.

((نه)): وفي الحديث: ((يوشك أن تدال الأرض منا)) أي يجعل لها الكرة والدولة علينا فتأكل لحومنا كما أكلنا ثمارها، وتشرب دماءنا كما شربنا مياهها.

ص: 3797

((سممت هذه الشاة؟)) فقالت: من أخبرك؟ قال: ((أخبرتني هذه في يدي)) للذراع، قالت: نعم، قلت: إن كان نبياً فلن تضره، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعاقبها، وتوفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة، وهو مولى لبنى بياضة من الأنصار. رواه أبو داود. والدارمي [5931].

5932 -

وعن سهل بن الحنظلية، أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فأطنبوا السير حتى كان عشية، فجاء فارس فقال: يا رسول الله! إني طلعت على جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم، اجتمعوا إلى حنين فتبسم رسول الله وقال:((تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله تعالى)) ثم قال: ((من يحرسنا الليلة؟) قال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله. قال: ((اركب)) فركب فرساً له. فقال: ((استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه)) فلما أصبحنا خرج رسول

ــ

قوله: ((فمما كانت تمد؟)) أي أي شيء كانت القصعة تمد به، وهو من المدد من قولك: مد السراج بالزيت، وفيه معنى التعجب، ولذلك قال:((من أي شيء تعجب؟)).

وذهب المظهر ومن تبعه أن قوله: ((من أي شيء تعجب؟)) هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون من قول سمرة، والسائل أبو العلاء وهو الظاهر.

الحديث الثاني عشر والثالث عشر عن ابن مسعود رضي الله عنه:

قوله: ((منصورون)) على أعداء الدين.

((مصيبون)) أي الغنائم.

((مفتوح لكم)) أي البلاد.

الحديث الرابع عشر عن جابر رضي الله عنه:

قوله: ((شاة مصلية)) تو: المصلية المشوية من قولك: صليت اللحم إذا شويته.

والمرأة: قيل: إنها زينب بنت الحارث وهي بنت أخي مرحب بن أبي مرحب جاءت بشاة مشوية فسمتها وأكثرت في الكتف والذراع لما بلغها أنهما أحب أعضاء الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 3798

الله صلى الله عليه وسلم، إلى مصلاه، فركع ركعتين، ثم قال:((هل حسستم فارسكم؟)) فقال رجل: يا رسول الله! ما حسسنا، فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى الصلاة قال:((أبشروا، فقد جاء فارسكم)) فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء، حتى وقف على رسول صلى الله عليه وسلم فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب، حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما، فلم أر أحداً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((هل نزلت الليلة)) قال لا إله إلا مصلياً أو قاضي حاجة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلا عليك أن لا تعمل بعدها)). رواه أبو داود [5932].

5933 -

وعن أبي هريرة، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بتمرات، فقلت: يا رسول الله! ادع الله فيهن بالبركة، فضمهن، ثم دعا لي فيهن بالبركة، قال:((خذهن فاجعلهن في مزودك، كلما أردت أن تأخذ منه شيئاً فأدخل فيه يدك فخذه ولا تنثره نثراً)). فقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا من وسق في سبيل الله، فكنا نأكل منه ونطعم، وكان لا يفارق حقوى حتى كان يوم قتل عثمان فإنه انقطع. رواه الترمذي [5933].

ــ

وقوله: ((فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم): فيه اختلاف إذ الرواية وردت أنه أمر بقتلها فقتلت، ووجه التوفيق بينهما: أنه عفا عنها في أول الأمر، فلما مات بشر بن البراء بن معرور من الأكلة التي ابتلعها أمر بها فقتلت مكانه.

قوله: ((في يدي)) حال من هذه، أي مستقرة فيها.

قوله: ((بالقرن والشفرة)) أي كانت المحجمة: قرناً، والمبضع السكين العريضة.

الحديث الخامس عشر عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه:

قوله: ((حتى كان عشية)) أي حتى كان السير ممتداً إلى وقت العشية.

قوله: ((على بكرة أبيهم)) ((قض)): يقال: جاء القوم على بكرة أبيهم أي جاءوا بأجمعهم بحيث لم يبق لم يبق منهم أحد، و ((على)) هنا بمعنى مع، وهو مثل تضربه العرب، وكان السبب فيه أن جمعاً من العرب عرض لهم انزعاج فارتحلوا جميعاً ولم يخلفوا شيئاً حتى إن بكرة كانت

ص: 3799

الفصل الثالث

5934 -

عن ابن عباس، قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات علي [رضي الله عنه] على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار. وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحوا ثاروا عليه، فلما رأوا علياً رد الله مكرهم فقالوا:

ــ

لأبيهم أخذوها معهم، فقال من وراءهم:((جاءوا على بكرة أبيهم)) فصار ذلك مثلا في قوم جاءوا بأجمعهم وإن لم يكن معهم بكرة- وهي التي يستقى عليها الماء- فاستعيرت في هذا الموضع.

قوله: ((فثوب بالصلاة)) ((نه)): التثويب هنا إقامة الصلاة، والأصل في التثويب أن يجيء الرجل مستصرخاً فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر، فسمي الدعاء تثويباً لذلك وكل داع مثوب.

قوله: ((فلا عليك أن لا تعمل بعدها)) أي لا بأس عليك أن لا تعمل بعد هذه الليلة من المبرات والخيرات فإن عملك الليلة كاف لك عند الله مثوبة وفضيلة، وأراد النوافل والتبرعات من الأعمال لا الفرائض، فإن ذلك لا يسقط. ويمكن أن ينزل على ما عليه من عمل الجهاد في ذلك اليوم جبراناً لقلبه وتسلية له.

الحديث السادس عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((أن تأخذ منه شيئاً)) إن جعل ((منه)) صلة لتأخذ و ((شيئاً)) مفعولا له فيكون نكرة شائعة فلا يختص بالتمر، وإن جعل حالاً من ((شيئاً)) اختص به.

و ((حملت)) يجوز أن يحمل على الحقيقة وأن يحمل على معنى الأخذ، أي أخذت مقدار كذا بدفعات.

و ((الحقو)) معقد الإزار وسمي الإزار به للمجاورة.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما:

قوله: ((فاقتصوا أثره)) الاقتصاص الإتباع والتتبع، يقال: قص الأثر واقتصه إذا اتبعه.

و ((اختلط عليهم)) أي اشتبه.

الحديث الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه:

ص: 3800

أين صاحبك هذا، قال: لا أدري. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال. رواه أحمد. [5934]

5935 -

وعن أبي هريرة، قال: لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود)). فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إني سائلكم عن شيء فهل أنتم مصدقي عنه؟)) قالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أبوكم؟)) قالوا: فلان. قال: ((كذبتم، بل أبوكم فلان)). قالوا: صدقت وبررت. قال: ((فهل أنتم مصدقي عن شيء إن سألتكم عنه؟)). قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كما عرفته في أبينا. فقال لهم:((من أهل النار؟)) قالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبداً)). ثم قال: ((هل أنتم مصدقي عن شيء إن سألتكم عنه؟)). فقالوا: نعم يا أبا القاسم قال:

ــ

قوله: ((فهل أنتم مصدقي)) وفي أصل المالكي: ((فهل أنتم صادقوني)) قال: كذا في ثلاثة مواضع في أكثر النسخ، قال: مقتضى الدليل أن تصحب نون الوقاية الأسماء المعربة المضافة إلى ياء المتكلم لتقيها من خفاء الإعراب، فلما منعوها ذلك كان الأصل متروكاً فنبهوا عليه في بعض الأسماء المعربة المشابهة للفعل، كقول الشاعر:

وليس يعييني وفي الناس ممتنع صديق إذا أعي ((عليك)) صديق

ولما كان لأفعل التفضيل شبه بفعل التعجب اتصلت به النون المذكورة أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((غير الدجال أخوفني عليكم)) والأصل أخوف مخوفاتي عليكم فحذف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه فاتصلت أخوف بها مقرونة بالنون كما اتصل معنى في البيت المذكور.

قوله: ((وبررت)) بالكسر أي أحسنت.

وقوله: ((نكون فيها يسيراً)) هذا هو الذي حكى الله تعالى عنهم في قوله تعالى: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات} .

ص: 3801

هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟)). قالوا: نعم. قال: ((فما حملكم على ذلك؟)) قالوا: أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك، وإن كنت صادقاً لم يضرك. رواه البخاري.

5936 -

وعن عمرو بن أخطب الأنصاري، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الفجر وصعد على المنبر فخطبنا، حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا، حتى حضرت العصر. ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر، حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة فأعلمنا أحفظنا. رواه مسلم

5937 -

وعن معن بن عبد الرحمن، قال: سمعت أبي قال: سألت مسروقاً: من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ قال: حدثني أبوك- يعني عبد الله بن مسعود- أنه قال: آذنت بهم شجرة. متفق عليه.

ــ

وأشار صلى الله عليه وسلم بقوله: ((اخسئوا)) إلى خلودهم فيها، قال تعالى:{اخسئوا فيها ولا تكلمون} وهو في الأصل زجر الكلب.

وقوله: ((أن نستريح)) مفعول لأردنا، وجزاء الشرط المتوسط بين الفعل والمفعول محذوف لوجود القرينة، أي إن كنت كاذبا يضرك فنستريح منك، وإن كنت صادقاً لم يضرك فتنتفع بهدايتك، وحاصله أردنا الامتحان.

الحديث الثالث عن عمرو بن أخطب الأنصاري رضي الله عنه:

قوله: ((فأعلمنا)) أي أحفظنا، أي أعلمنا الآن أحفظنا يومئذ.

الحديث الرابع والخامس عن أنس رضي الله عنه:

قوله: ((فجعل لا يراه)) كأنه إتباع لقوله: ((فجعلت أقول)) أي طفقت أريه الهلال فهو لا يراه فأقحم ((جعل)) مشاكلة كما أقحم: ((ولا تحسبنهم)) في قوله تعالى: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} : تأكيداً لقوله: {لا تحسبن الذين يفرحون} .

قوله: ((سأراه)) أي لا يهمني الآن رؤيته بتعب وسأراه بعد من غير تعب.

الحديث السادس إلى التاسع عن عاصم بن كليب:

ص: 3802

5938 -

وعن أنس، قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة، فتراءينا الهلال، وكنت رجلاً حديد البصر، فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ فجعل لا يراه قال: يقول عمر: سأراه وأنا مستلق على فراشي، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول:((هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله)). قال عمر: والذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حدها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فجعلوا في بئر، بعضهم على بعض، فانطلق رسول الله حتى انتهى إليهم، فقال:((يا فلان بن فلان! ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقاً)). فقال عمر: يا رسول الله! كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها؟ فقال: ((ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئاً)).

5939 -

وعن أنيسة بنت زيد بنت أرقم، عن أبيها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على زيد يعوده من مرض كان به، قال:((ليس عليك من مرضك بأس، ولكن كيف لك إذا عمرت بعدي فعميت؟)). قال: أحتسب وأصبر. قال: ((إذاً تدخل الجنة بغير حساب)). قال: فعمي بعدما مات النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رد الله عليه بصره ثم مات. [5939]

ــ

قوله: ((الأسرى)) الأسرى والأسارى جمع أسير، وهم كفار، وذلك أنه لما لم يوجد صاحب الشاة ليستحلوا منه وكان طعاماً في صدد الفساد فلم يكن بد من إطعام هؤلاء، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإطعامهم.

الحديث العاشر عن حبيش بن خالد:

قوله: ((مرملين)) ((حس)): المرمل من نفد زاده، يقال: أرمل الرجل إذا ذهب طعامه.

((مسنتين)) أي أصابهم القحط، يقال: أسنت الرجل فهو مسنت.

((كسر الخيمة)) - بكسر الكاف وفتحها- جانب الخيمة.

ص: 3803

5940 -

وعن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تقول علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)). وذلك أنه بعث رجلاً، فكذب عليه، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد ميتاً، وقد انشق بطنه، ولم تقبله الأرض. رواهما البيهقي في ((دلائل النبوة)) [5940]

5941 -

وعن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه وامرأته وضيفهما حتى كاله، ففني، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم)). رواه مسلم.

5942 -

وعن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن رجل من الأنصار، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر يقول:((أوسع من قبل رجليه، أوسع من قبل رأسه)) فلما رجع استقبله دعي امرأته، فأجاب ونحن معه، فجيء بالطعام، فوضع يده، ثم وضع القوم، فأكلوا،

ــ

و ((الجهد)) الهزال.

((فتفاجت)) أي فتحت ما بين رجليها للحلب.

((اجترت)) الجرة ما يخرج البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه، يقال: اجتر البعير يجتر.

((يربض الرهط)) أي يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا، أي على الأرض، من ربض في المكان يربض إذا لصق به وأقام ملازماً له.

و ((الثج)) السيلان، ((وبهاء اللبن)) [وبيض] رغوته.

و ((غادره)) أي تركه.

و ((بايعها على الإسلام)) وتمام الحديث:

((فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا، يتساوكن هزلى ضحى، مخهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن، عجب، وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاء عازب حيال لا حلوب في البيت؟

ص: 3804

فنظرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فيه ثم قال: ((أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها)). فأرسلت المرأة تقول: يا رسول الله: إني أرسلت إلى النقيع- وهو موضع يباع فيه الغنم- ليشتري لي شاة، فلم توجد، فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن يرسل بها إلى بثمنها، فلم يوجد، فأرسلت إلى امرأته، فأرسلت إلي بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أطعمي هذا الطعام الأسرى)). رواه أبو داود، والبيهقي في ((دلائل النبوة)). [5942]

5943 -

وعن حزام بن هشام، عن أبيه، عن جده حبيش بن خالد- وهو أخو أم معبد- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخرج من مكة خرج مهاجراً إلى المدينة، هو وأبو بكر، ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله الليثي، مروا على خيمتي أم معبد، فسألوها لحماً وتمراً ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك. وكان القوم مرملين مسنتين، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ((ما هذه

ــ

قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا.

قال: صفيه لي يا أم معبد.

قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه لم تعبه نحلة ولم تزر به صقلة، وسيم قسيم، في عينه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صهل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج أقرن، إن صمت عليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لانزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا يأس من طول ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محشود محفود، لا عابس ولا مفند.

قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.

وأصبح صوت بمكة عالياً يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول:

جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين قالا خيمة أم معبد

هما نزلاها بالهدى واهتدت به فقد فاز من أمسى رفيق محمد

فيال قصي ما زوى الله عنكم به من فعال لا تجازى وسودد

ص: 3805

الشاة يا أم معبد؟)) قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم. قال: ((هل بها من لبن؟)) قال: هي أجهد من ذلك، قال:((أتأذنين لي أن أحلبها؟)) قالت: بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلباً فاحلبها. فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله تعالى، ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه، ودرت واجترت، فدعا بإناء يربض الرهط، فحلب فيه ثجا، حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه.

ــ

ليهن بني كعب مقام فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصد

سلوا أحتكم عن شاتها وإنائها فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

دعاها بشاة حائل فتحلبت عليه صريحاً ضرة الشاة مزبد

فغادرها رهنا لديها لحالب يرددها في مصدر ثم مورد

قوله: ((يتساوكن)) تساوكت الإبل إذا اضطربت أعناقها من الهزال، أراد أنها تتمايل من ضعفها.

((ولم تعبه نحلة)) من نحول الجسم وكذا صقله.

والوسيم: الحسن الوضي، وكذا القسيم.

والدعج: السواد في العين.

والوطف: طول شعر العين.

والصهل: الحدة والصلابة في الصوت.

والسطع: الطول.

والزجج: في الحاجبين تقوس فيهما مع طول في أطرافهما وسبوغ.

والقرن: التقاء الحاجبين.

وسما: أي علا برأسه وارتفع من جلسائه.

وفصل: بين لا نزر ولا هذر أي: وسط لا قليل ولا كثير.

ولا يأس من طول: أي ليس بالطويل البائن ولا بالقصير.

ولا تقتحمه: أي لا تحتقره العين ولا تزدريه.

والمحشود:- بالحاء والشين المعجمة- الجماعة.

والمحفود: المخدوم.

ص: 3806

حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيه ثانياً بعد بدء، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، وبايعها، وارتحلوا عنها. رواه في ((شرح السنة))، وابن عبد البر في ((الاستيعاب))، وابن الجوزي في كتاب ((الوفاء)) وفي الحديث قصة [5943]

ــ

ولا مفند: أي خرف لا فائدة في كلامه.

وقول الهاتف في الشعر: ((فيال قصي .. البيت)) مقالة فيال قصي أي تعالوا ليتعجب منكم فيما أغتلتموه من حقكم وأضعتموه من عزكم بعصيانكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلجائكم إياه إلى الخروج من بين أظهركم، ((وما)) مبتدأ بمعنى الذي، والخبر ((من فعال))، و ((لا تجازي)) صفته.

و ((سودد)) عطف عليه.

و ((زوى)) نحى وباعد.

الضمير في ((به)) راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والباء للسببية.

والصريح: اللبن الخالص الذي لم يمذق.

فغادرها رهنا: أي ترك الشاة عندها مرتهنة بأن تدر.

وقال: الصوت الذي سمعوا بمكة صوت بعض مسلمي الجن، أقبل من أسفل مكة، والناس يتبعونه ويسمعون الصوت ولا يرونه، حتى خرج بأعلى مكة.

قالت أسماء: فلما سمعناه عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن وجهه إلى المدينة- انتهى كلام محيي السنة.

وقال ابن عبد البر: فلما بلغ حسن بن ثابت ذلك جعل يجاوب الهاتف وهو يقول:

لقد خاب قوم غاب عنهم نبيهم وقدس من يسري إليهم ويغتدي

ترحل عن قوم فضلت عقولهم وحل على قوم بنور مجدد

هداهم به عبد الضلالة ربهم وأرشدهم، من يتبع الحق ويرشد

وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا عمي وهداة يهتدون بمهتد

لقد نزلت منه على أهل يثرب ركاب هدى حلت عليهم بأسعد

نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتاب الله في كل مسجد

وإن قال في يوم مقالة غائب فتصديقه في اليوم أو في ضحى الغد

ليهن أبا بكر سعادة جده بصحبته من يسعد الله يسعد

ص: 3807