المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(5) باب علامات النبوة - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ١٢

[الطيبي]

الفصل: ‌(5) باب علامات النبوة

(5) باب علامات النبوة

الفصل الأول

5852 -

عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه، فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظُّ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه وأعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو منتقعُ اللون قال أنس: فكنت أرى أثر المخيط في صدره رواه مسلم.

5853 -

وعن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن)). رواه مسلم.

ــ

((قضيت جواري)): بالكسر أي اعتكافي.

باب علامات النبوة

الفصل الأول

الحديث الأول عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((ثم لأمه)) ((تو)): تقول: لأمت الجرح والصدع إذا سددته فالتأم، يريد أنه سواه وأصلحه.

ويقال: انتقع لونه، إذا تغير من جنون أو فزع، وكذلك ((امتقع)) بالميم.

وهذا الحديث وأمثاله مما يجب فيه التسليم ولا يتعرض له بتأويل من طريق المجاز والاتساع إذ لا ضرورة في ذلك، إذ هو خبر صادق مصدوق عن قدرة القادر.

قوله: ((هذا حظ الشيطان منك)) قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بشرًا متعلقًا [عما انعلق عنه] سائر البشر، ولا ينكر هذا لقوله تعالى:{قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى} والعلقة في الإنسان أصل المفاسد والمعاصى، ولذلك قال جبريل عليه السلام بعد ما أخرجها:((هذا حظ الشيطان منك)) فعصمه من آفته وطغمه، كما أسلم له شيطانه على يده، قدر الله تعالى في سابقة لطفه أن يخرج حظ الشيطان منه، فجعله قدسيًّا طاهر الأصل والعنصر منور القلب مقدس الجسم مستعدًا لقبول الوحي السماوي والفيض الإلهي، لا تتطرق إليه هواجس النفس.

الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه:

ص: 3730

5854 -

وعن أنس قال، إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما. متفق عليه.

5855 -

وعن ابن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اشهدوا)) متفق عليه.

ــ

قوله: ((إني لأعرفه الآن)) تقرير لقوله: ((إني لأعرف حجرًا بمكة)) واستحضار له في مشاهدته وكأنه يسمع سلامه الآن.

الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه:

قوله: {فأراهم القمر} قال الزجاج: زعم قوم – عدلوا عن القصد وما عليه أهل العلم – أن تأويله أن القمر ينشق يوم القيامة، والأمر بين في اللفظ لقوله:{وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} فكيف يكون هذا في يوم القيامة؟؛ لأن معنى قوله: {سحر مستمر} مطرد، يدل على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة ومعجزات سابقة.

وقال الإمام فخر الدين الرازي: إنما ذهب المنكر إلى ما ذهب؛ لأن الانشقاق أمر هائل، ولو وقع لعم وجه الأرض وبلغ مبلغ التواتر.

والجواب: أن الموافق قد نقله وبلغ مبلغ التواتر، وأما المخالف فربما ذهل أو حسب أنه نحو الخسوف، والقرآن أولى دليل وأقوى شاهد، وإمكانه لا شك فيه، وقد أخبر عنه الصادق فيجب اعتقاد وقوعه وأما امتناع الخرق والالتئام فحديث اللئام.

((مح)): قالوا: إنما هذا الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون، والأبواب مغلقة، وهم متغطون بثيابهم، فقل من يتفكر في السماء وينظر إليها.

((حس)): هذا شيء طلبه قوم خاص على ما حكاه أنس، فأراهم ذلك ليلا وأكثر الناس نيام ومستكنون في الأبنية، والأيقاظ في البوادي والصحاري قد يتفق أن يكونوا مشاغيل في ذلك الوقت، وقد يكسف القمر فلا يشعر به كثير من الناس، وإنما كان ذلك في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر، ولو دامت هذه الآية حتى يشترك فيها العامة والخاصة ثم لم يؤمنوا لاستؤصلوا بالهلاك، فإن من سنة الله تعالى في الأمم قبلنا أن نبيهم كان إذا أتى بآية عامة يدركها الحس فلم يؤمنوا أهلكوا، كما قال الله تعالى في المائدة:{إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين} فلم يظهر الله هذه الآية للعامة لهذه الحكمة. والله أعلم.

ص: 3731

5856 -

وعن أبي هريرة، قال: قال أبو جهل: هل يُعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي – زعم ليطأ على رقبته – فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له مالك، فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولا، وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا)) رواه مسلم.

5857 -

وعن عدي بن حاتم، قال: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا آتاه رجلٌ فشكا إليه الفاقة، ثم آتاه الآخر فشكا إليه قطع السبيل. فقال: ((يا عدي! هل رأيت الحيرة؟ فإن

ــ

الحديث الرابع والخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه:

قوله: ((هل يعفر؟)) يريد به سجوده على التراب، وإنما آثر التعفير على السجود تعنتًا وعنادًا وإذلالا وتحقيرًا.

قوله: ((زعم)) وقع حالا من الفاعل بعد حال من المفعول، وزعم بمعنى طمع وأراد.

قال في أساس البلاغة: ومن المجاز: زعم فلان في غير مزعم، طمع في غير مطمع، لأن الطامع زاعم ما لم يستيقن.

قوله: ((إلا وهو ينكص)) المستثنى فاعل ((فجيء)) أي: فما فجيء في أصحاب أبي جهل من أمر إلا نكوص عقبيه، وقد سد الحال ها هنا مسد الفاعل، كما سدت مسد الخبر في قوله صلى الله عليه وسلم:((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) وفيه إرخاء عنان الكلام للمعنى لا للفظ، ويحتمل أن يكون الضمير المستتر في ((فجئهم)) لأبي جهل. والمجرور في ((منه)) للأمر، أي: ما فجيء أبو جهل وأصحابه من الأحوال إلا هذه الحالة.

والهول: الخوف والأمر الشديد، وقد هاله يهوله فهو هائل.

والخطف: استلاب الشيء وأخذه بسرعة.

الحديث السادس عن عدي رضي الله عنه:

قوله: ((هل رأيت الحيرة؟)) ((نه)): الحيرة بكسر الحاء البلد القديم بظهر الكوفة، ومحلة معروفة بنيسابور.

والظعينة: المرأة، قيل لها ذلك لأنها تظعن مع الزوج حيثما ظعن، أو لأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت.

ص: 3732

طالت بك حياةٌ فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله، ولئن طالت بك حياةٌ لتفتحن كنوز كسرى، ولئن طالت بك حياةٌ لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله فلا يجد أحدًا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولن ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى فينظر عن يمينه فلا يرى إلاجهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم، اتقوا النار ولو بشق تمرة. فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) قال عديٌّ: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياةٌ لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم:((يخرج ملء كفه)). رواه البخاري.

5858 -

وعن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تدعو الله، فقعد وهو محمرٌ وجهه وقال: ((كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بمنشار، فيوضع فوق رأسه فيشق نصفين. فما يصُده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط

ــ

وقيل: الظغينة المرأة في الهودج، ثم قيل للهودج بلا امرأة وللمرأة بلا هودج:((ظعينة))

قوله: ((وأفضل عليك)) أي أحسن إليك بمعنى أعطيتك المال ومكنتك من إنفاقه والاستمتاع منه.

فإن قلت: ما وجه نظم هذا الحديث؟

قلت: لما اشتكى الرجل الفاقة والخوف وهو العسر المعني في قوله تعالى: {إن مع العسر يسرا} وهو ما كانت الصحابة عليه قبل فتح البلاد، أجاب عن السائل في ضمن بشارة لعدي وغيره من الصحابة باليسر والأمن، ثم بين أن هذا اليسر والغنى الدنيوي عسر في الآخرة وندامة، إلا من وفقه الله تعالى بأن يسلطه على إنفاقه فيصرفه في مصارف الخير، ونظيره حديث علي رضي الله عنه:((كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة، وراح في حلة، ووضعت بين يديه صحفه؟ .. إلى قوله-: لأنتم اليوم خير منكم يومئذ؟)) وقد سبق في باب: تغير الناس.

ص: 3733

الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب. وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)). رواه البخاري.

5859 -

وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان، وكانت تحت عباده بن الصامت، فدخل عليها يومًا فأطعمته؛ ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ((ناس من أمتي عرضُوا على غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكًا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة)). فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت: يا رسول الله! ما يضحكك؟ قال: ((ناسٌ من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله)). كما قال في الأولى. فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. قال: ((أنت من الأولين)). فركبت أم حرام البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فهلكت. متفق عليه.

5860 -

وعن ابن عباس، قال: إن ضمادًا قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان

ــ

قوله: ((لترون ما قال)) أي سيُرى ما قال وهو الرجل الذي يخرج بصدقته

إلى آخره.

الحديث السابع عن خباب رضي الله عنه قوله: ((من عظم وعصب)) بيان ((ما)) في ((ما دون لحمه)) وفيه من المبالغة أن الأشماط تنفذ من: اللحم إلى العظم والعصب لحدتها وقوتها.

الحديث الثامن عن أنس رضي الله عنه:

قوله: ((على أم حرام)) قد ذكر وجه الدخول عليها في حديث أختها أم سليم.

وثبج كل شيء وسطه، وثبج الرمل معظمه، شبه ثبج البحر بظهر الأرض، والسفينة بالسرير، فجعل الجلوس عليها متشابهًا لجلوس الملوك على أسرتهم، إيذانًا بأنهم بذالون لأنفسهم، ويركبون هذا الأمر العظيم مع وفور نشاطهم وتمكنهم من مقامهم كالملوك على أسرتهم.

مح: قيل: هو صفة لهم في الآخرة إذا دخلوا الجنة، والأصح أنها صفة لهم في الدنيا، أي يركبون مراكب الملوك لسعة حالهم واستقامة أمرهم وكثره عددهم.

الحديث التاسع عن ابن عباس رضي الله عنهما:

ص: 3734

يرقي من هذا الريح، فسمع سفهاء أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي. قال: فلقيه. فقال: يا محمد! إني أرقي من هذا الريح، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد)) فقال: أعد على كلماتك هؤلاء، فأعادهنَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء. ولقد بلغن

ــ

قوله: ((من هذا الريح)) الإشارة بهذا إلى ما في الذهن، والخبر مبين له، وذكره باعتبار الجنون.

تو: الإشارة بهذا إلى جنس العلة التي كانوا يرونها الريح، وأنهم كانوا يرون أن الخبل الذي يصيب الإنسان والأدواء التي كانوا يرونها من مسة الجن نفخة من نفخات الجن فيسمونها الريح.

قوله ((لعل الله يشفيه)) جواب للو، أي لو رأيته لداويته ورجوت شفاءه من الله تعالى.

قوله ((فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحمد لله)) طابق هذا القول قول ضماد من حيث إنه لما سمع من سفهاء أهل مكة: أن محمدًا مجنون اعتقد أنه كذلك فقال: هل لك رغبة في أن أرقيك وأخلصك من الجنون؟ كأنه صلى الله عليه وسلم ما التفت إلى قوله ذلك وأرشده إلى الحق البحت والصدق المحض: أي أني لست بمجنون أتكلم بكلام المجانين بل كلامي نحو هذا وأمثاله، فتفكروا فيه هل ينطق المجنون بمثل هذه الكلمات، ونحوه قوله تعالى:{ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين} أي أنهم جننوه لأجل القرآن، وما هو إلا ذكر وموعظة للعالمين فكيف يجنن من جاء بمثله.

وأشار بهؤلاء إلى الكلمات، والعرب ربما استعملوها في غير العقلاء وقد شهد به التنزيل، قال الله تعالى:{إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} قال الشاعر:

ذم المنازل بعد منزله اللوى

والعيش بعد أولئك الأيام

قوله ((ولقد بلغن قاموس البحر)) تو: وفي كتاب المصابيح: ((بلغنا)) وهو خطأ لا سبيل إلى تقويمه من طريق المعنى، والرواية لم ترد به.

و ((ناعوس البحر)) أيضًا خطأ.

ص: 3735

قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه. رواه مسلم.

وفي بعض نسخ ((المصابيح)): بلغنا الناعوس البحر.

وذكر حديثا أبي هريرة وجابر بن سمرة ((يهلك كسرى)) والآخر ((ليفتحن عصابةٌ)) في باب ((الملاحم))

ــ

وكذلك رواه مسلم في كتابه وغيره من أهل الحديث وقد وهموا فيه، والظاهر أن سمع بعض الرواة أخطأ فيه فروي ملحونًا، وهذه هي الألفاظ التي لم تسمع في لغه العرب والصواب فيه ((قاموس البحر)) وهو وسطه ومعظمه، من القمس وهو الغوص، والقماس الغواص.

أقول: قوله: ((بلغنا)) خطأ إن أراد به من حيث الرواية فلا ننكره لأنا ما وجدناها في الأصول، وإن أراد بحسب المعنى فمعناه صحيح أي: قد وصلنا إلى لجة البحر ومحل اللآلئ والدر فيجب أن نقف عليه ونغوص فيه استخراجًا لفوائده والتقاطًا لفرائده.

ومعنى قوله: ((بلغن)) أن كلماتك قد بلغت في الفصاحة والبلاغة الغاية القصوى بحيث لم ير لأحد من الفصحاء مثله.

فعلى الأول: قوله: ((قاموس البحر)) استعارة مصرحة لأن المشبه وهو الكلمات غير مذكورة في هذه الجملة، وعلى الثاني تشبيه واقع على سبيل التجريد لذكر المشبه والمشبه به.

وقوله: ((ناعوس البحر)) أيضًا خطأ وليس بصواب، إما رواية، فقد فقال الشيخ محيى الدين في شرح صحيح مسلم: ناعوس البحر ضبطناه بوجهيين أشهرهما بالنون والعين هذا هو الموجود في أكثر نسخ بلادنا، والثاني: قاموس البحر بالقاف والميم، وهذا الثاني هو المشهور في روايات الحديث في غير صحيح مسلم.

قال القاضي عياض: وروى بعضهم ((ناعوس البحر)) بالنون والعين، وقال شيخنا أبو الحسن:((ناعوس البحر)) بمعنى القاموس.

((نه)): قال أبو موسى: ((ناعوس البحر)) كذا وقع في صحيح مسلم، وفي سائر الروايات ((قاموس البحر)) وهو وسطه ولجته، ولعله لم يجود كتبته فصحفه بعضهم، وليست هذه اللفظة أصلا في مسند إسحاق بن راهويه الذي روى عنه مسلم هذا الحديث، غير أنه قرنه بأبي موسى وروايته فلعلها فيها، قال: وإنما أورد نحو هذه الألفاظ؛ لأن الإنسان إذا طلبه ولم يجده في شئ من الكتب فيتحير فإذا نظر في كتابنا عرف أصله ومعناه.

وإما دراية: فقال القاضي ناصر الدين: ((ناعوس البحر)) معظمه ولجته التي يغاص فيها لإخراج اللآلئ، من نعس إذا نام، لأن الماء من كثرته لا تظهر حركته فكأنه نائم.

ص: 3736

وهذا الباب خال عن: الفصل الثاني

الفصل الثالث

5861 -

عن ابن عباس، قال: حدثني أبو سفيان بن حرب من فيه إلى فيَّ، قال: انطلقت في المدة التي كانت بينى وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبينا أنا بالشام

ــ

أقول هذا على طريق المجاز والتوسع في الكلام، وقد تقرر أن المجاز لا يستدعي تقدم استعمال فيما جوز فيه، بل العلاقة المعتبرة كافية في الاستعمال، وقد جاء في أساس البلاغة: ومن المجاز تناعس البرق إذا فتر وحده ناعس، وقد عرف عن حال الغواصين أنهم إنما يغوصون في لجة البحر إذا كان هادئًا ساكنا غير متلاطم أمواجه حتى يتمكنوا من إخراج الدر، فشبه تمكن الكلمات بسبب نظمها المعجز من استخراج المعاني منها بتمكن [البحر بالدر] من استخراج الدر واللآلئ منه.

ويجوز أن يراد بناعوس البحر: رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستعارة، على أنه من الجائز أن يكون الناعوس حقيقة في القاموس، وكانت لغه غريبة خفي مكانها فلم تنقل نقلا فاشيًا

الفصل الثاني

خال

الفصل الثالث

الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما:

قوله ((انطلقت)) أي سافرت وهاجرت أوطاني.

قوله: ((من فيه إلى في)) من للابتداء، أي الحديث الذي أرويه انتقل من فيه إلى في لم يكن بيننا واسطة.

قوله: ((في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم) مح: يعني صلح الحديبية.

و ((دحية)) بكسر الدال وفتحها.

و ((عظيم بصرى)) أميرها.

و ((هرقل)) بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف.

قال العلماء: وإنما سأل قريب النسب لأنه أعلم بحاله وأبعد من أن يكذب في نسبه، ثم

ص: 3737

إذ جيء بكتاب من النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: قال: وكان دحية الكلبيُّ جاء به فدفعه إلى عظيم بُصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، فقال هرقل: هل هنا أحدٌ من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم، فدعيت في نفرٍ من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسبًا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، قال أبو سفيان: فقلت: أنا، فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا بترجمانه فقال: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه. قال أبو سفيان: وايم الله لولا مخافةُ أن يؤثر عليَّ الكذب لكذبته، ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه من ملكٍ؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا: قال: ومن يتبعه؟ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل

ــ

أكد ذلك فقال لأصحابه: ((إن كذبني فكذبوه)) أي لا تستحيوا منه، وإنما أجلس أصحابه خلفه ليكون أهون عليهم في تكذيبه إن كذب.

و ((الترجمان)) بضم التاء وفتحها والفتح أفصح، وهو المعبر عن لغة أخرى.

و ((لولا مخافة أن يؤثر على)) معناه لولا خوف أن ينقلوا عنى الكذب إلى قومى ويتحدثوا به لكذبت عليه لبغضي إياه، وإنما عداه بعلي لتضمن معنى المضرة، أي: كذب يكون عليّ لا لي.

وفي هذا بيان أن الكذب قبيح في الجاهلية كما هو قبيح في الإسلام.

قوله: ((ومن يتبعه؟)) وفي الحميدي وجامع الأصول: فهل يتبعه؟ و ((أم)) هنا متصلة، وفي وقوعها قرينة ((هل)) إشكال، لأن هل تستدعي السؤال عن حصول الجملة، وأم المتصلة تستدعي حصولها لكن السؤال بها عن تعين أحد المعنيين مسندًا ومسندًا إليه، والظاهر ما في صحيح مسلم وشرحه والمشكاة ومن يتبعه فتكون همزة الاستفهام مقدرة في قوله:((أشراف الناس)) فسأل أولا مجملا، ثم سأل ثانيًا مفصلا.

و ((السخط)) بفتح السين كراهة الشيء وعدم الرضي به.

و ((السجال)) بكسر السين من المساجلة، وأصله من السجل وهو الدلو، لأن لكل واحد من الواردين دلوًا مثل ما للآخر، ولكل واحد منهم يوم في الاستسقاء، ومعناه هاهنا أن الحرب دلو تارة له وتارة عليه.

وقوله: ((ونحن منه في هذه المدة)) يعني مدة الهدنة والصلح الذي جرى يوم الحديبية.

ص: 3738

ضعفاؤهم: قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: لا: بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطةً له؟ قال: قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: يكون الحرب بيننا وبينه سجالا، يصيب منا ونصيب منه. قال. فهل يغدر؟ قلت: لا ونحن منه في هذه المدة، لا ندري ما هو صانع فيها؟ قال: والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه قال: فهل قال هذا القول أحدٌ قبله؟ قلت: لا. ثم قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها. وسألتك هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب مُلك آبائه. وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله. وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة

ــ

قوله: ((تبعث في أنساب قومها)) من باب التجريد، أي يبعث ذا حسب، وهي كقولك: في البيضة عشرون رطلا من الحديد، وهي في نفسها هذا المقدار.

قوله: ((لم يكن ليدع الكذب)) ليدع. ليترك، واللام تأكيد للجحد، المعنى لم يصح ولم يستقم أن يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب على الناس قبل أن يظهر رسالته ثم بعد إظهاره الرسالة يكذب على الله تعالى، هذا بعيد، ونحوه قوله تعالى:{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} أي محال أن يعذبهم وأنت فيهم.

وثم في الحديث استبعادية كقوله تعالى: {ثم أنتم تمترون}

مح: والحكمة في ذلك أنه أبعد من انتحاله الباطل وأقرب إلى انقياد الناس له.

وأما قوله: ((ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل)) فلكون الأشراف يأنفون من تقدم مثلهم عليهم، والضعفاء لا يأنفون فيسارعون إلى الانقياد واتباع الحق.

وأما سؤاله عن الردة فلأن من دخل على بصيرة في أمر محقق لا يرجع عنه، بخلاف من دخل في الأباطيل.

ص: 3739

له؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب وسألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لها العاقبة. وسألتك هل يغدر. فزعمت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو كان قال هذا القول أحد قبله، قلت: رجل ائتم بقول قيل قبله قال: ثم قال: بما يأمركم؟ قلنا: يأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصلة، والعفاف قال: إن يكُ ما تقول حقا فإنه نبيٌّ، وقد كنت أعلم أنه خارجٌ، ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عند قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه. متفق عليه.

وقد سبق تمام الحديث في ((باب الكتاب إلى الكفار)).

ــ

وأما سؤاله عن الغدر فلأن من طلب حظ الدنيا لا يبالي بالغدر وغيره مما يتوصل به إلى ذلك، ومن طلب الآخرة لم يرتكب غدرًا ولا غيره من القبائح.

وبشاشة اللقاء: الفرح بالمرئى والانبساط إليه والأنس به.

((وكذلك الرسل تبتلى)) يعني يبتليهم في ذلك ليعظم أجرهم بكثرة صبرهم وبذل وسعهم في طاعة الله تعالى.

والصلة: صلة الأرحام وكل ما أمر الله تعالى به أن يوصل.

والعفاف: الكف عن المحارم.

قال العلماء: وقول هرقل: ((إن يك ما تقول حقا فإنه نبي ..)) أخذه من الكتب القديمة، ففي التوراة هذا ونحوه من علامات رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه بالعلامات، وأما الدليل القاطع على النبوة فهو المعجزة الظاهرة الخارقة للعادة، هكذا قاله المازري.

قوله: ((أخلص إليه)) أي أصل إليه.

نه: يقال: خلص فلان إلى فلان، أي وصل إليه.

مح: لا عذر له في هذا لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما شح في الملك ورغب في الرئاسة فآثرها على الإسلام، وقد جاء ذلك مصرحًا به في صحيح البخاري، ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي وما زالت عنه الرئاسة – والله أعلم.

ص: 3740