المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(2) باب قصة حجة الوداع - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٦

[الطيبي]

الفصل: ‌(2) باب قصة حجة الوداع

الفصل الثالث

2553 -

عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الحج، أذن في الناس، فاجتمعوا، فلما أتى البيداء أحرم. رواه البخاري.

2554 -

وعن ابن عباس، قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ويلكم قد قد)) إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت. رواه مسلم.

(2) باب قصة حجة الوداع

الفصل الأول

2555 -

عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بالمدينة تسع سنين لم

ــ

الفصل الثالث

الحديث الأول عن جابر: قوله: ((البيداء)) ((نه)): البيداء المفازة التي لا شيء فيها، وهي هنا اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة، وأكثر ما ترد يراد بها هذه.

الحديث الثاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((قد قد)) هو بإسكان الدال وكسرها مع التنوين، ومعناه كفاكم هذا الكلام فاقتصروا عليه، يعني كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فإذا انتهي كلامهم إلي ((لا شريك لك)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((قد قد)) أي اقتصروا عليه، ولا تجاوزوا عنه إلي ما بعده. وقوله:((إلا شريكاً)) الظاهر فيه الرفع علي البدلية من المحل، كما في كلمة التوحيد، فاختير في كلمة السفلي اللغة السافلة، كما اختير في الكلمة العليا اللغة العالية.

باب قصة الوداع

((مح)): سميت ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها، وعلمهم في خطبة فيها أمر دينهم، وأوصاهم بتبليغ الشرع إلي من غاب.

الفصل الأول

الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((مكث بالمدينة)) ((مح)): هو حديث عظيم

مشتمل علي جمل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم، قال القاضي

عياض: قد تكلم الناس علي ما فيه من الفقه، وأكثروا فيه، وصنف أبو بكر بن المنذر كراساً

ص: 1957

يحج ثم أذن في الناس بالحج في العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج، فقدم

المدينة بشر كثير، فخرجنا معه، حتى إذا أتينا ذا الحليفة. فولدت أسماء بنت عميس

محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: ((اغتسلي

واستثفري بثوب، وأحرمي)). فصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء،

ــ

كبيراً، وخرج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً، ولو تقصى لزيد علي هذا العدد.

قوله: ((مكث)) ((تو)): إنما ترك الحج في الأعوام التي قبل الفتح؛ لأن الحج لم يكن فرضاً حينئذ؛ لأنه فرض سنة ست من الهجرة، ثم إنه كان معنياً بحرب أعداء الله، مأموراً بإعلاء كلمة الله وإظهار دينه، فلم يكن ليتفرغ من هذا القصد الكلي، والأمر الجامع إلي الحج الذي لم يفرض. وأما اعتماره صلى الله عليه وسلم في تلك السنين؛ فلأنه لم يكن له موسم معين فيتألب الأعداء لمناوأته وصده عن البيت، والإتيان علي أفعال العمرة كان ممكناً في بعض يوم مع أنه كان عبداً مأموراً، يراقب الأمر في تصاريف أحواله، فأمر بها ولم يؤمر بالحج. وأما بعد الفتح، وهو في سنة ثمان، فإن هوازن وثقيفاً وكثيراً من العرب، كانوا حرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم متأهبين لقتاله. وقد ذهب قوم إلي أن تأخير الحج بعد الفتح إنما كان للنسيء المذكور في كتاب الله، حتى عاد الحساب في الأشهر إلي أصله الموضوع الذي بدأ الله به في أمر الزمان يوم خلق السموات والأرض.

قوله: ((ثم أذن)) ((مح)): إنما أعلمهم بذلك؛ ليتأهبوا للحج معه، فيتعلموا المناسك والأحكام، ويشاهدوا أفعاله وأقواله، وليوصيهم بأن يبلغ الشاهد الغائب، فتشيع دعوة الإسلام، وتبليغ الرسالة القريب والبعيد. وفيه أنه يستحب للإمام بأن يأذن للناس بالأمور المهمة ليتأهبوا لها. قوله:((أسماء بنت عميس)): ((مح)): فيه استحباب غسل الإحرام للنفساء. والاستثفار: أن تشد في وسطها شيئاً وتأخذ خرقة عريضة تجعلها علي محل الدم، وتشد طرفها من قدامها ومن ورائها، في ذلك المشدود في وسطها، وهو شبيه بثفر الدابة- بفتح الفاء-. وفيه صحة إحرام النفساء، وهو مجمع عليه. ((والقصواء)) هي بفتح القاف وبالمد، قال ابن الأعرابي: القصواء التي قطع طرف أذنها، وكذا الأصمعي. وقال أبو عبيدة: هي المقطوعة الأذن عرضاً. وقال محمد ابن إبراهيم التيمي التابعي: إن القصواء، والعضباء، والجذعاء اسم لناقة واحدة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: ((أهل بالتوحيد لبيك)) إلي آخره بيان ((التوحيد))، وفيه تعريض لما كان يفعله الجاهلية

من انضمام قولهم: ((إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك)). قوله: ((لسنا نعرف العمرة)) تأكيد

وتقرير لمعنى الحصر في قوله: ((لسنا ننوي إلا الحخ))، أي لسنا ننوي شيئاً من النيات إلا نية

الحج، وكان محتملاً فأكده به. ((قض)): أي لا نرى العمرة في أشهر الحج؛ استصحاباً لما كان

ص: 1958

حتى إذا استوت به ناقته علي البيداء، أهل بالتوحيد:((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)). قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن، فطاف سبعاً، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم تقدم إلي مقام إبراهيم فقرأ:{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي} ، فصلي ركعتين فجعل المقام بينه وبين البيت. وفي رواية: أنه قرأ في الركعتين: {قل هو الله أحد} و {قل يا أيها الكافرون} ، ثم رجع إلي الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلي الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إن الصفا والمروة

ــ

من معتقد أهل الجاهلية؛ فإنهم كانوا يرون العمرة محظورة في أشهر الحج، ويعتمرون بعد مضيها. وقيل: معناه ما قصدناها ولم تكن في ذكرنا.

قوله: ((استلم)) ((نه)): هو افتعل من السلام التحية، وأهل اليمن يسمون الركن الأسود ((المحيا)) أي الناس يحيونه بالسلام، قيل: هو افتعل من السلام، وهي الحجارة، واحدتها سلمة بكسر اللام، يقال: استلم الحجر إذا لمسه وتناوله، ويقال: رمل يرمل ورملاناً، إذا أسرع في المشي، وهز منكبه. قال: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في عمرة القضاء؛ ليري المشركين قوتهم، حيث قالوا: وهنتهم حمى يثرب، وهو مسنون في بعض الأطواف دون بعض. ((مح)): فيه قولان للشافعي، أصحهما طواف يعقبه سعي، ويتصور ذلك في طواف القدوم، سواء أراد السعي بعده أم لا، ويسرع في طواف العمرة؛ إذ ليس فيها إلا طواف واحد.

قوله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي} ((مح)): هذا دليل لما أجمع عليه العلماء أنه ينبغي لكل

طائف إذا فرغ من الطواف أن يصلي خلف المقام ركعتين للطواف، واختلفوا هل هما واجبتان أو سنتان؟

وفيه أقوال، أصحها أنها سنة، وثالثها إن وجب الطواف وجبتا، وإلا فسنتان. وعلي التقادير لو تركهما

لم يبطل طوافه. قوله: {قل هو الله أحد} {قل يا أيها الكافرون} كذا في صحيح مسلم، وشرح السنة في

إحدى الروايتين، وكان من الظاهر أن يقدن سورة الكافرين علي سورة الإخلاص ترتيباً، كما في رواية المصابيح،

ولأن البراءة عن الشرك مقدمة علي إثبات التوحيد، كما في كلمة التوحيد. ولعل السر في ذلك أن سورة الإخلاص

ص: 1959

من شعائر الله} أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقي عليه حتى رأي البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده،

ــ

مقدمتها مسوقة لإثبات التوحيد، وساقتها لنفي الأنداد، والأضداد، والشركاء، فقدم الإثبات علي النفي فيها للاهتمام بشأنه حينئذ، لاضمحلال الكفر واندراس آثاره يوم الفتح. والله أعلم.

قوله: ((فاستلمه)) ((مح)): يستحب لمن طاف القدوم إذا فرغ من صلاته خلف المقام أن يعود إلي الحجر فيستلمه ثم يخرج من باب الصفا، ولو خرج لو يلزمه دم، قوله:((من الصفا)) ((مح)): قال أصحابنا: يستحب أن يرقى علي الصفا والمروة، حتى يرى البيت إن أمكنه، وأن يقف علي الصفا مستقبل الكعبة، ويذكر الله تعالي بهذا الدعاء ثلاث مرات.

قوله: {إن الصفا والمروة} هما علمان للجبلين، و ((الشعائر)) جمع شعيرة، وهي العلامة، أي من أعلام مناسكه، ومتعبداته. ولما كان الصفا مقدماً في التنزيل علي المروة، قال:((أبدأ بما بدأ الله به)). ((مح)): الابتداء بالصفا شرط، وعليه الجمهور، وعن بعضهم: به احتج من أوجب الترتيب في الوضوء علي أنه لو بدأ بالمروة لكان ذلك الشوط غير محسوب له. وفيه دليل علي وجوب الطواف بين الصفا والمروة، كما يجب الطواف بالبيت. وقال بعضهم: ليس بواجب، بل هو تطوع؛ لقوله تعالي:{فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ورفع الجناح يدل علي الإباحة، ويجب علي تاركه الدم. ورد بأن الآية إنما أنزلت في الأنصار، كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فقيل لهم:((فلا جناح عليه أن يطوف بهما))، ودلائل الوجوب موجودة.

قوله: ((وقال: لا إله إلا الله)) يحتمل أن يكون قولاً آخر غير ما سبق من التوحيد والتكبير، وأن يكون كالتفسير له والبيان، والتكبير وإن لم يكن ملفوظاً، لكن معناه مستفاد من هذا القول، و ((وحده)) حال مؤكدة من ((الله)) لقوله تعالي:{هو الحق مصدقاً} وقوله تعالي: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم قائماً بالقسط} في أحد الوجهين. ويجوز أن يكون مفعولاً مطلقاً، و ((لا شريك له)) كذلك حال، أو مصدر. قوله:((وهزم الأحزاب وحده)) ((مح)): هم الذين تحزبوا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فهزمهم الله وحده من غير قتال المسلمين، ولا سبب منهم.

ص: 1960

ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)). ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم

نزل ومشى إلي المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي، ثم سعى، حتى إذا

صعدنا مشى حتى أتى المروة، ففعل علي المروة كما فعل علي الصفا، حتى إذا كان

ــ

قوله: ((ثم دعا بين ذلك)) ((ثم)) تقتضي التراخي، وأن يكون الدعاء بعد الذكر، و ((بين)) تقتضي التعدد، والتوسط بين الذكر بأن يدعو بعد قوله:((علي كل شيء قدير)) ثم الدعاء، فتمحل المظهر بأن قال: لما فرغ من قوله: ((وهزم الأحزاب وحده)) دعا بما شاء، ثم قال مرة أخرى هذا الذكر، حتى فعل ثلاث مرات. أقول: وهذا أنى يستتب علي التقديم والتأخير، بأن يذكر قوله:((ثم دعا بين ذلك)) بعد قوله: ((قال مثل هذا ثلاث مرات)) و ((ثم)) تكون للتراخي في الإخبار لا تأخر زمان الدعاء عن الذكر، ويدعو ثلاث مرات، هذا هو المشهور عند أصحابنا، [وقال: منهم] تكرار الذكر ثلاثاً، والدعاء مرتين، والصواب الأول.

قوله: ((انصبت قدماه)) ((نه)) أي انحدرت في المسعى، وهذا مجاز من قولهم: صب الماء فانصب، ((مح)): قال القاضي عياض: في هذا الحديث إسقاط لفظة لابد منها، وهي ((رمل)) بعد قوله:((في بطن الوادي)) كما جاء في رواية مسلم، وكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين، وفي الموطأ ((حتى انصبت قدماه في بطن الوادي، سعى حتى خرج منه)) وهو بمعنى ((رمل)). قال الشيخ: وجدت في بعض نسخ مسلم كما في الموطأ.

قوله: ((إذا صعدنا)) ((تو)): الإصعاد الذهاب في الأرض، والإبعاد، سواء ذلك في صعود أو حدور، قال تعالي:{إذ تصعدون ولا تلون علي أحد} ومعناه في الحديث ارتفاع القدمين من بطن المسيل إلي المكان العالي؛ لأنه ذكر في مقابلة الانصباب. قوله: ((إذا كان)) ((كان)) هي التامة. وقوله: ((فقال)) جواب ((إذا)). قوله: ((لو إني استقبلت)) ((نه)): أي لو عن لي هذا الرأي الذي رأيته آخراً، وأمرتكم به في أول أمري، لما سقت الهدي، أي لما جعلت علي هدياً، وأشعرته، وقلدته، وسقته بين يدي؛ فإنه إذا ساق الهدي لا ينحل حتى ينحره، ولا ينحر إلا يوم النحر، فلا يصح له فسخ الحج بعمرة، فمن لم يكن معه هدي لا يلتزم هذا، ويجوز له فسخ الحج.

((خط)): إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القول لأصحابه تطييباً لقلوبهم، وذلك أنه كان يشق عليهم أن يحلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم محرم، ولم يعجبهم أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه،

يتركوا الاقتداء به، فقال عند ذلك القول؛ لئلا يجدوا في أنفسهم، وليعلموا أن الأفضل لهم ما دعاهم

ص: 1961

آخر طواف علي المروة، نادى وهو علي المروة والناس تحته فقال:((لو إني استقبلت من أمري ما استدبرت، لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي، فليحل وليجعلها عمرة)). فقام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه، واحدة في

ــ

إليه. قال: وقد يستدل بهذا من يروي أن التمتع بالعمرة إلي الحج أفضل من الإفراد والقران. أقول: وعلهم إنما شق عليهم لإفضائهم إلي النساء قبل انقضاء المناسك، كما ورد في حديث جابر قالوا:((فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني)) وأشاروا إلي مذاكيرهم. ((قض)): إنما قال ذلك تأسيساً للتمتع، وتقريراً لجواز العمرة في أشهر الحج، وإماطة لما ألفوا من التحرج عنها. ((مح)): فيه تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متمتعاً. قوله: ((فمن كان منكم)) ((الفاء)) فيه جواب شرط محذوف، يعني إذا تقرر ما ذكرت من إني أفردت الحج، وسقت الهدي، ولم أتمكن من الإحلال إلا بعد النحر، فمن كان منكم ليس معه إلي آخره، وفي هذا المقام كلام سيأتي في حديث عائشة، قال:((خرجنا)) الحديث.

قوله: ((ألعامنا هذا؟)) ((مح)): اختلف العلماء في معناه علي أقوال، أصحها وبه قال جمهورهم، معناه: أن العمرة يجوز فعلها في أشهر الحج إلي يوم القيامة، والمقصود به بيان إبطال ما كانت الجاهلية تزعمه من امتناع العمرة في أشهر الحج. والثاني: معناه جواز القران، وتقدير الكلام: دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج إلي يوم القيامة. والثالث: تأويل بعض القائلين بأن العمرة ليست واجبة، قالوا: معناه سقوط العمرة، قالوا: ودخولها في الحج سقوط وجوبها، وهذا ضعيف، أو باطل، وسياق الحديث يقتضي بطلانه. والرابع: تأويل بعض أهل الظاهر أن معناه: جواز فسخ الحج إلي العمرة، وهذا أيضاً ضعيف. أقول: الوجه الثاني هو الوجه وإن جاز: دخل وقت أحد النسكين في وقت الآخر علي البعد؛ لأن إدخال الأصابع بعضها في بعض، وتكريرها مرتين إما بالقول أو بالفعل، يستدعي إدخال أحد النسكين في الآخر. ويؤيده حديث ابن عباس في آخر هذا الفصل، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلي يوم القيامة، فإن قوله:((ألعامنا هذا)) وارد علي قوله: ((فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل)) محتمل لأن يكون مفرداً ومعتمراً وقارناً، ولم يسق الهدي في كل ذلك، فالسؤال إذن ورد علي القارن، فصح معنى التشبيك.

وقوله: ((واحدة في الأخرى)) ((واحدة)) منصوب بعامل مضمر، أي جاعلاً واحدة منهما في

الأخرى، والحال مؤكدة. وأما قوله:((لا)) فهو جواب عن السؤال؛ وهو مشكل؛ لأن السؤال

بـ ((أم)) المعادلة إنما يتلقى في الجواب بأحد المعتدلين المستويين علي التعيين، فالوجه أن يحمل

علي التشديد، وأن يقدر: ليس لعامك هذا، بل لأبد أبد، وتكرير ((أبد)) ينصر ما ذكرنا من

ص: 1962

الأخرى، وقال:((دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد))، وقدم علي من اليمن ببدن

النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له: ((ماذا قلت حين فرضت الحج؟)): قلت: اللهم إني أهل بما أهل به

رسولك. قال: ((فإن معي الهدي، فلا تحل)). قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي

أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة. قال: فحل الناس كلهم، وقصروا، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية، توجهوا إلي منى، فأهلوا بالحج، وركب النبي صلى الله عليه وسلم، فصلي

بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر

تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما

ــ

التشديد، كما إذا سأل سائل عن الأمر الثابت بـ ((أم)) المتصلة، فيكون الرد بإيراد أم في غير موقعه، وقد سبق مثله في قوله صلى الله عليه وسلم:((كل ذلك لم يكن)) جواباً عن سؤال ذي اليدين ((أقصرت الصلاة أم نسيتها؟)).

قوله: ((ببدن)) البدن جمع بدنة، سميت لعظم بدنها، وهي الإبل خاصة. قوله:((ماذا قلت حين فرضت الحج)) ((قض)): أي حين ألزمته نفسك بالإحرام، سأله عن كيفية إحرامه. وقوله:((قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك)) يدل علي جواز الإحرام بإحرام غيره. قوله: ((فحل الناي كلهم)) ((مح)): هذا من العام الذي خص؛ لأن عائشة رضي الله عنها لم تحل، ولم تكن ممن ساق الهدي. والهدي بإسكان الدال وكسرها، وتشديد الياء مع الكسر، والتخفيف مع الإسكان. وأما تقصيرهم مع أن الحلق أفضل؛ فلإرادة أن يبقى لهم بقية من الشعر حتى تحلق في الحج. قوله:((يوم التروية)) قيل: هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك؛ لأن إبراهيم عليه السلام تروى فيه، أي تفكر في ذبح ولده. وقيل: لأنهم يرتوون فيه من الماء لما بعده. ((مح)): الأفضل عند الشافعي وأصحابه أن من كان بمكة، وأراد الإحرام بالحج أحرم يوم التروية. وفيه أن السنة أن لا يتقدم أحد إلي منى قبل يوم التروية، وقد كرهه مالك، وقيل: لا بأس به.

قوله: ((وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلي بها)) أي بمنى. ((مح)): فيه أن الركوب في تلك المواطن أفضل من المشي، كما أنه في جملة الطريق، وهذا هو الصحيح. وقال بعض أصحابنا: الأفضل في جملة الحج الركوب إلا في مواطن المناسك، والسنة: أن يبيت الليلة التاسعة بمنى، حتى تطلع الشمس، ولو تركه لا دم عليه. قوله:((بنمرة)) هي بفتح النون وكسر الميم، جبل عن يمين الخارج من مأزمي عرفة، إذا أراد الموقف. وقوله:((تضرب)) صفة لـ ((قبة)) أو حال، والتقدير: أمر بضرب قبة بنمرة قبل قدومه إليها، فحذف المضاف، وجعل الصفة دليلاً عليه. ((مح)): فيه دليل جواز استظلال المحرم، ولا خلاف من النازل، وإنما الخلاف في الراكب، فمذهبنا جوازه، وكره مالك وأحمد.

ص: 1963

كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلي حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، وقال: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية

ــ

قوله: ((إلا أنه واقف)) أي أنه في وقوفه، وفي الاستثناء دقة، يعني أن قريشاً لم يشكوا في أنه صلى الله عليه وسلم خالفهم في سائر مناسك الحج إلا الوقوف عند المشعر الحرام، فإنهم لم يشكوا في المخالفة، بل تحققوا أنه صلى الله عليه وسلم يقف عند المشعر الحرام؛ لأنه من المواقف الخمس، وأهل حرم الله. ((مح)): هو جبل في المزدلفة، يقال له: قزح، وقيل: هو كل المزدلفة، وكان سائر العرب يجاوزون المزدلفة، ويقفون بعرفات، وظنت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف في المشعر الحرام علي عادتهم، ولا يجاوز عنه، فتجاوز إلي عرفات، لأن الله تعالي أمره بذلك في قوله تعالي:{ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} أي سائر العرب، وكانت قريش يقولون: نحن أهل حرم الله، ولا نخرج منه. وقوله:((فأجاز)) أي جاوز المزدلفة. وقوله: ((أتى عرفة)) أي قارب عرفات؛ لقوله: ((فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها)): لأن نمرة ليست من عرفات.

قوله: ((فرحلت له)) أي أمر بوضع الرحل علي القصواء، ففعل، تقول: رحلت البعير أرحله رحلاً، إذا شددت علي ظهره الرحل. قال الأعشى:

رحلت سمية غدوة أجمالها

غضبى عليك، فما تقول بدالها

قوله: ((بطن الوادي)) ((مح)): هو عرنة- بضم العين وفتح الراء وبعدها نون- وليست من أرض عرفات عند الشافعي، ومنها عند مالك.

قوله: ((إن دماءكم وأموالكم)) ((تو)): أراد أموال بعضكم علي بعض، إنما ذكره مختصراً اكتفاء بعلم المخاطبين، حيث جعل ((أموالكم)) قرينة ((دماءكم))، وإنما سبه ذلك في التحريم بيوم عرفة، وبذي الحجة، وبالبلد؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها محرمة أشد التحريم لا يستباح منها شيء، وفي تشبيهه هذا مع بيان حرمة الدماء والأموال تأكيد لحرمة تلك الأشياء التي شبه بتحريمها الدماء والأموال.

أقول: هذا من تشبيه ما لم تجر به العادة بما جرت به العادة، كما في قوله تعالي: {وإذ

نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} كانوا يستبيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأشهر

الحرم، ويحرمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرمة عليكم أبداً كحرمة يومكم

ص: 1964

تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث

-وكان مسترضعاً في بني سعد فقتله هذيل- وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا، ربا عباس بن

عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله،

ــ

وشهركم وبلدكم. ثم أتبعه بما يؤكده تعميماً من قوله: ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع)) ((تو)): أي أبطلت ذلك وتجافيت عنه، حتى صار كالشيء الموضوع تحت قدمي، قوله:((دم ابن ربيعة)) ((مح)): الجمهور: اسمه إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، قالوا: وكان هذا الابن المقتول طفلاً صغيراً يحبو بين البيوت، فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبني ليث بن بكر.

((تو)): وربيعة بن الحارث صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وكان أسن من العباس، توفي في خلافة عمر رضي الله عنه. وإنما بدأ في وضع دماء الجاهلية ورباها بين أهل الإسلام بأهل بيته، ليكون أمكن في قلوب السامعين، وأسد لأبواب الطمع في الترخيص. وقوله:((من دمائنا)) أراد به أهل الإسلام لا ذوي القرابة منه، أي أبدأ في وضع الدماء التي يستحق أهل الإسلام ولايتها بأهل بيتي. قوله:((فاتقوا الله في النساء)) عطف من حيث المعنى علي قوله: ((إن دماءكم وأموالكم)) يعني فاتقوا الله في استباحة الدماء، وفي نهب الأموال، وفي النساء، وهي من عطف الإنشائي علي الإخباري بالتأويل، كما عطف {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} علي قوله:{إن أصحاب الجنة اليوم} وفي رواية المصابيح: ((واتقوا)) بالواو، وكلاهما جائزان. قوله:((بأمان الله)) أي بعهده، وهو ما عهد إليهم من الرفق بهن، والشفقة عليهن.

قوله: ((بكلمة الله)) ((مح)): قيل: هي قوله تعالي: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} وقيل:

هي الإيجاب والقبول؛ لأن الله تعالي أمر بها، وقيل: هي قوله تعالي: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}

وهو قول الخطابي، وقيل: كلمة التوحيد؛ إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم، والأول هو الأوجه. ((تو)):

المعنى أن استحلالكم فروجهن وكونهن تحت أيديكم إنما كان بعهد الله وحكمه، فإن نقضتم عهده

وأبطلتم حكمه انتقم منكم لهن. قوله: ((أن لا يوطئن فرشكم)) ((نه)): أي لا يأذن لأحد من الرجال أن يتحدث إليهن، وكان الحديث من الرجال إلي النساء من عادات العرب، لا يرون ذلك عيباً، ولا يعدونه ريبة، إلي أن نزلت آية

ص: 1965

ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً

غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا

بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد

ــ

الحجاب. وليس المراد بوطء الفراش نفس الزنا؛ لأن ذلك محرم علي الوجوه كلها، فلا معنى لاشتراط الكراهة فيه، ولو كان ذلك لم يكن الضرب فيه ضرباً غير مبرح، وإنما كان فيه الحد والضرب المبرح هو الشديد.

: ((مح)) النهي يتناول الرجال والنساء جميعاً، وهكذا المسألة عند الفقهاء؛ لأنها لا يحل لها أن تأذن لرجل ولا امرأة، محرم وغيرها في دخول منزل الزوج، إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه؛ لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممن أذن له في الإذن، أو عرف رضاه بالظن، أو العرف، ومتى حصل الشك في الرضا لا يحل الدخول ولا الإذن. أقول: ظاهر قوله: ((أن لا يوطئن فرشكم أحداً)) مشعر بالكناية عن الجماع، فعبر به عن عدم الإذن مطلقاً تغليظاً وتشديداً.

قوله: ((غير مبرح)) هو من برح به السوق تبريحاً، إذا اشتد عليه بحيث جهده، وبرحاء الوحي شدته. ((مح)): فيه إباحة ضربها للتأديب، فلو ضربها الضرب المأذون فيه فماتت منه، وجبت الدية علي العاقلة والكفارة علة الضارب.

قوله: ((لن تضلوا بعده)) أي بعد التمسك به، والعمل بما فيه، و ((كتاب)) بدل أو بيان لـ ((ما)) وفي التفسير بعد الإبهام تفخيم لشأن القرآن، وفي تعقيب هذا الكلام أعني ((وقد تركت فيكم)) الكلام السابق تعميم بعد التخصيص. قوله:((وأنتم تسألون عني)) عطف علي مقدر، أي قد بلغت ما أرسلن به إليكم جميعاً، غير تارك لشيء مما بعثني الله به، وأنتم تسألون عن ذلك يوم القيامة، هل بلغكم محمد جميع ما أمر به أن يبلغ إليكم؟ كما قال الله تعالي:{يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل} أي إن لم تبلغ الجميع {فما بلغت رسالته} ؛ لأنك كتمت شيئاً ما أنزل إليك، فما بلغت جميع ما أنزل إليك. و ((الفاء)) في قوله:((فما أنتم قائلون)) يدل علي هذا المحذوف، أي إذا كان الأمر علي هذا، فبأي شيء تجيبونه؟ ومن ثم طبق جوابهم السؤال، فأتوا بالألفاظ الجامعة، أي بلغت ما أنزل إليك، وأديت ما كان عليك، وزدت علي ذلك بما نصحتنا من السنن، والآداب، وغير ذلك.

ص: 1966

أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلي السماء وينكتها إلي الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) ثلاث مرات، ثم أذن بلال، ثم أقام فصلي الظهر، ثم أقام فصلي العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلي الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل

ــ

قوله: ((فقال)) أي أشار. وقوله: ((يرفعها إلي السماء)) حال إما من فاعل ((قال)) أو من ((السبابة)) أي رافعاً إياها، أو مرفوعة. قوله:((وينكبها)) ((نه)): هي بالباء الموحدة من تحت، أي يميلها إليهم من نكبت الإناء نكباً ونكبتها تنكيباً، إذا أماله كبه. ((مح)): ضبطناه بالتاء المثناة من فوق. قال القاضي عياض: كذا الرواية، وقال: وهو بعيد المعنى، وقيل: صوابه بالباء الموحدة، وروينا في سنن إبن داود بالتاء المثناة من طريق ابن الأعرابي، وبالموحدة من طريق أبي بكر التمار، ومعناه يردها، ويقلبها إلي الناس مشيراً إليهم.

أقول: أراد بقوله: ((بعيد المعنى)) أنه غير موافق للغة. ((الجوهري)): نكت في الأرض بالقضيب، إذا ضرب في الأرض فيؤثر فيها. ((المغرب)): في الحديث ((نكتت خدرها بإصبعها)) أي نقرت وضربت، هذا إذا استعمل بفي أو بالباء، وفي الحديث مستعمل بإلي، فيكون النكت مجازاً عن الإشارة بقرينة إلي، وتقديره ما ذكر من قوله:((يقلبها إلي الناس مشيراً إليهم)).

قوله: ((ولم يصل بينهما شيئاً)) ((مح)): فيه أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك حينئذ، وقد أجمعت الأمة عليه، واختلفوا في سببه، فقيل: بسبب النسك، وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وقال أكثر أصحابنا: بسبب السفر، فمن كان حاضراً، أو مسافراً دون مرحلتين لم يجز له الجمع، كما لا يجوز القصر. وفيه أن الجامع بين الصلاتين يصلي الأولي أولاً، وأنه يؤذن للأولي، ويقيم لكل واحدة، ولا يفرق بينهما.

قوله: ((إلي الصخرات)) أي جعل بطن ناقته منتهياً إلي الصخرات بحيث يكون جبل المشاة قدامها. ((نه)): الجبل المستطيل من الرمل، وقيل: الجبال في الرمل كالجبال في غير الرمل، فالمعنى جعل جبل المشاة أي طريقهم الذي يسلكون في الرمل، وقيل: أراد صفهم ومجتمعهم، ومشيهم بسببها بجبل الرمل.

((مح)): في هذا الفصل مسائل وآداب للوقوف: منها أنه إذا فرغ من الصلاتين عجل الذهاب

إلي الموقف، ومنها أن الوقوف راكباً أفضل وفيه خلاف، ومنها استحباب الوقوف عند

الصخرات، وهن مفترشات في أسفل جبل الرحمة، وأما ما اشتهر بين العوام من الاعتناء

بصعود الجبل، وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا به فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في كل

ص: 1967

القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، وأردف أسامة، ودفع حتى أتى المزدلفة. فصلي بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلي الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام،

ــ

جزء من أرض عرفات، والفضيلة الوقوف علي موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن عجز فالأقرب والأقرب، ومنها استحباب استقبال الكعبة، ومنها الوقوف عليها حتى الغروب الكامل، فلو أفاض قبل الغروب صح الوقوف، ويجبر بدم، والأصح أنه سنة. وأما وقت الوقوف فمن وقت الزوال في يوم عرفة، وطلوع الفجر الثاني من يوم النحر، ومن فاته فاته الحج.

قوله: ((حتى غاب القرص)) ((مح)): قال القاضي عياض: لعل صوابه حين غاب القرص، قال: ويحتمل أن يكون الكلام علي ظاهره، وقوله:((حتى غاب القرص)) بياناً لقوله: ((غربت الشمس، وذهبت الصفرة)) فإن ذلك قد يطلق مجازاً علي مغيب معظم القرص، فأزال ذلك الاحتمال بقوله:((حتى غاب القرص)).

قوله: ((ودفع)) ((نه)): أب ابتدأ السير، ودفع نفسه ونحاها، أو دفع ناقته وحملها علي السير، و ((المزدلفة)) هي منزل بين عرفات ومنى، سمي مزدلفة؛ لأنه يتقرب فيها. ((مح)): قيل: سميت بها؛ لمجيء الناس إليها في زلف الليل، وسميت أيضاً بجمع، لاجتماع الناس فيها، والمزدلفة كلها من الحرم. وقال جمع من العلماء: حد مزدلفة ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر، وليس الحدان منها، ويدخل في المزدلفة جميع تلك الشعاب، والجبال الداخلة في الحد المذكور.

وفي هذا الفصل فوائد: منها أن السنة للداخل من عرفات أن يؤخر المغرب إلي وقت العشاء بنية الجمع، وقال أصحابنا: ولو جمع بينهما في وقت المغرب في أرض عرفات، أو في موضع آخر، أو صلي كل واحدة في وقتها جاز، لكنه خلاف الأفضل. وللأئمة في المسألة خلاف. وأما قوله:((فلم يسبح بينهما)) فمعناه لم يصل بينهما النافلة والنافلة تسمى سبحة، واختلفوا قي أن الموالاة بين الصلاتين شرط أم لا، لكن لم يختلفوا في اشتراطها إذا جمع بينهما في الوقت الأول.

قوله: ((ثم اضطجع)) ((مح)): لم يختلفوا في أن المبيت بمزدلفة ليلة النحر نسك، لكن اختلفوا هل هو واجب أم ركن أم سنة؟ والصحيح من قول الشافعي رضي الله عنه: أنه واجب ولو تركه أثم ولزمه دم، وصح حجه. وقال جماعة من أصحابنا: أنه ركن لا يصح الحج إلا به. قوله: ((أسفر)) ضمير الفاعل للفجر، و ((جداً)) حال، أي مبالغاً، أو صفة مصدر محذوف أي إسفاراً بليغاً.

ص: 1968

فاستقبل القبلة، فدعاه، وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس، حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج علي الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن

الوادي، ثم انصرف إلي المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بدنةً بيده، ثم أعطى علياً، فنحر ما غبر، وأشركه في هديه،

ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها. ثم ركب

ــ

قوله: ((بطن محسر)) ((مح)): هو بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين، سمي بذلك؛ لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه، أي أعيى وكل. قوله:((الطريق الوسطى)) ((مح)): هو غير الطريق الذي ذهب فيه إلي عرفات، وهذا معنى قول أصحابنا: يذهب إلي عرفات في طريق ضب، ويرجع في طريق المأزمين. قوله:((حصى الخذف)) بدل من ((حصيات)) وهو نحو حبة الباقلاء، ينبغي أن لا تكون أصغر ولا أكبر منها. أقول: يريد أن الإضافة فيه للبيان بمعنى من. ((تو)): ((الخذف)) بالخاء والذال المعجمتين، الرمي بالأصابع، يريد أن كل حصاة كانت كالتي يجعلها الإنسان علي إصبعه فرمى بها. ((مح)): فيه أن يكون المرمي به حجراً، وفيه أن التكبير بينهما سنة، ويجب التفريق بينهما، فإن رماها رمية واحدة حسبت واحدة، ومذهبنا أن الرمي واجب وليس بركن، فإن تركه حتى فاتت أيام الرمي عصى، ولزمه دم.

قوله: ((ما غبر)) أي ما بقي، والغبور البقاء والمضي، وهو من الأضداد. ((مح)): فيه استحباب ذبح هديه بنفسه، وجواز الاستنابة فيه، واستحباب تعجيل ذبح الهدايا يوم النحر وإن كانت كثيرة. وأما قوله:((وأشركه في هديه)) فظاهره أنه شاركه في نفس الهدي. وقال القاضي عياض: وعندي أنه لم يكن تشريكاً حقيقياً، بل أعطاه قدراً يذبحه. و ((البضعة)) بفتح الباء، القطعة من اللحم. وفيه استحباب الأكل من هدي التطوع وأضحيته. قوله:((فأكلا من لحمها وشربا من مرقها)) ((مظ)): الضمير المؤنث يعود إلي القدر؛ لأنها مؤنث سماعي. أقول: ويحتمل أن يعود الضمير إلي الهدايا. ((مح)): قالوا: لما كان الأكل من كل واحدة سنة، وفي الجمع بينها كلفة، جعلت في قدر ليكون الشرب مع مرق الجميع الذي فيه جزء من كل واحدة، والأكل من اللحوم المجتمعة متيسر.

قوله: ((فأفاض)) أي أسرع إلي الكعبة للطواف الفرض، ((وطاف فصلي)) ففيه إضمار. ((مح)):

هو ركن من أركان الحج بالإجماع، ويجوز الطواف في جميع يوم النحر بلا كراهة، ويكره

تأخيره عنه بلا عذر، وتأخيره عن أيام التشريق أشد كراهة، ولا يحرم تأخيره سنين متطاولة، ولا

ص: 1969

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاض إلي البيت، فصلي بمكة الظهر، فأتى علي بني عبد المطلب يسقون علي زمزم، فقال:((انزعوا بني عبد المطلب! فلولا أن يغلبكم الناس علي سقايتكم لنزعت معكم)). فناولوه دلواً فشرب منه. رواه مسلم.

2556 -

وعن عائشة [رضي الله عنها] قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في

حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلي الله

عليه وسلم: ((من أهل بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهل بالحج مع

ــ

آخر لوقته، بل يصح ما دام الإنسان حياً، وشرط أن يكون بعد الوقوف بعرفات، ولا يشترط فيه الرمل، ولا الاضطباع، إذا كان قد رمل واضطبع في طواف القدوم، ولو طاف للوداع أو التطوع، وعليه طواف الإفاضة، وضع عنه طواف الإفاضة بلا خلاف عندنا بنص الشافعي رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة وأكثر العلماء: لا يجزئ طواف الإفاضة بنية غيره.

قوله: ((انزعوا)) ((مح)): أي استقوا بالدلاء، وانزعوها بالرشاء. لولا خوفي أن يعتقد الناس أن النزع والاستقاء مناسك من الحج، ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم، لاستقيت معكم لكثرة فضيلته، وفيه استحباب شرب ماء زمزم، وسميت به لكثرة مائها، يقال: ماء زمزم وزموم وزمام، إذا كان كثيراً. وقيل: إنها غير مشتقة.

الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((ولا بين الصفا والمروة)) عطف علي النفي علي تقدير ((ولم أسع)) وهو من باب ((علفتها تبناً وماءً بارداً))، ويجوز أن يقدر ((ولم أطف)) علي المنفي قبله علي طريق المجاز، لما سيجيء في الحديث الذي يتلوه ((فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف)). وإنما ذهبنا إلي التقدير دون الانسحاب لئلا يلزم استعمال اللفظ الواحد حقيقة ومجازاً في حالة واحدة. وقوله:((فلم أزل)) عطف علي ((حضت)) أي حضت فاستمر حيضي.

قوله: ((ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى يحل بنحر يهديه)) ((مح)): هذا ظاهره الدلالة علي مذهب أبي حنيفة وأحمد وموافقيهما، ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما: أن المعتمر إذا طاف وسعى وحلق، حل وحل له كل شيء في الحال، سواء ساق هدياً أم لا، واحتجوا بالقياس علي من لم يسق الهدي، وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شيء .. قالوا: إن هذه الرواية مختصرة من الرواية التي ذكرها مسلم بعدها، والتي قبلها عن عائشة قالت: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليهلل بالحج والعمر، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً، فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتج بها أبو حنيفة، وتقديرها: ومن أحرم بعمرة وأهدى، فليهلل بالحج، ولا يحل حتى ينحر هديه. ولابد من هذا التأويل؛ لأن القضية واحدة، والراوي واحد، فيتعين الجمع بين الروايتين علي ما ذكرناه.

ص: 1970

العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما)). وفي رواية: ((فلا يحل حتى يحل بنحر هديه، ومن أهل بحج فليتم حجه)). قالت: فحضت، ولم أطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة، فلم أزل حائضاً حتى كان يوم عرفة، ولم أهلل إلا بعمرةٍ، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أنقض رأسي وأمتشط وأهل بالحج، وأترك العمرة، ففعلت، حتى قضيت حجي بعث معي عبد الرحمن بن أبي بكر، وأمرني أن أعتمر مكان عمرتي من التنعيم. قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافاً بعد أن رجعوا من منى. وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً. متفق عليه.

2557 -

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في

حجة الوداع بالعمرة إلي الحج، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ فأهل

ــ

قوله: ((واترك العمرة)) ((مظ)): أي أخرج من إحرامي العمرة، وأستبيح محذورات الإحرام، وأحرم بعد ذلك بالحج، وأتم الحج، فإذا أرغ منه أحرم بالعمرة. وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: ليس معناه أنه أمرها بترك العمرة، بل معناه أنه أمرها بترك أعمال العمرة، وأمرها أن تدخل الحج في العمرة، لتكون قارنة، وأما عمرتها بعد فراغ الحج، فكانت تطوعاً لتطيب نفسها، كيلا تظن لحوق نقصان عليها بتركها أعمال عمرتها الأولي. قوله:((بعث)) جملة استئنافية علي تقدير السؤال كأنها لما أخبرت عن الكلام السابق سئلت: ثم ماذا حدث بعد؟ فأجابت ((بعث)) إلي آخره، وقوله:((مكان عمرتي)) أي بدلها، وهو نصب علي المصدر. و ((من التنعيم)) متعلق بـ ((اعتمر)) وهو موضع قريب من مكة عند مسجد عائشة رضي الله عنها. قوله:((ثم طافوا طوافاً واحداً)) ((مظ)): يعني طاف الذين أفردوا العمرة عن الحج طوافين، طوافاً للعمرة وطوافاً بعد أن رجعوا للحج في يوم النحر بعد أن رجعوا من منى إلي مكة، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، فإنهم طافوا طوافاً واحداً يوم النحر للحج والعمرة جميعاً.

الحديث الثالث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم)((مح)): قال القاضي عياض: هو محمول علي التمتع اللغوي، وهو القران آخراً، معناه أنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولاً بالحج مفرداً، ثم أحرم بالعمرة، فصار قارناً في آخر أمره، والقارن هو متمتع من حيث اللغة، ومن حيث المعنى؛ لأنه ترفه باتحاد الميقات والإحرام والفعل، ويتعين هذا التأويل هنا؛ لمل قدمناه في الأبواب السابقة من الجمع بين الأحاديث في ذلك.

ص: 1971

بالعمرة، ثم أهل بالحج، فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلي الحج، فكان من الناس من أهدى، ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة، قال للناس:((من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعةً إذا رجع إلي أهله)) فطاف حين قدم مكة واستلم الركن أول شيء، ثم خب ثلاثة أطواف، ومشى أربعاً فركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف، فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ساق الهدي من الناس. متفق عليه.

ــ

وأما قوله: ((وبدأ رسول الله صلي الله عليه ويلم، فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج)) فهو محمول علي التلبية في أثناء الإحرام، وليس المراد أنه أحرم في أول أمره بعمرة، ثم أحرم بحج؛ لأنه يؤدي إلي مخالفة الأحاديث السابقة، فوجب تأويل هذا علي موافقتها. ويؤيد هذا التأويل قوله:((فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلي الحج)) ومعلوم أن كثيراً منهم، أو أكثرهم أحرموا أولاً بالحج مفردين، وإنما فسخوه إلي العمرة آخراً فصاروا متمتعين. فقوله:((فتمتع الناس)) يعني في آخر الأمر. وأما قوله: ((ثم ليهل بالحج)) فمعناه يحرم في وقت الخروج إلي عرفات، لا أنه يهل به عقيب تحلل العمرة، ولهذا قال:((ثم ليهل)) فأتى بـ ((ثم)) التي هي لتراخي المهلة. وأما قوله: ((وليهد)) فالمراد به هدي التمتع وهو واجب.

أقول: علي هذا التأويل معناه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يقارن العمرة بالحج مترفهاً بإيجاد الميقات والإحرام والفعل، فساق الهدي وبدأ فلبى لإحرام العمرة، ثم لبى في أثناء الإحرام للحج، و ((ثم)) ها هنا لتراخي مرتبة الحج من العمرة، ولابد من تقدير الإرادة لئلا يلزم التكرار. ويجوز أن لا يقدر الإرادة فتكون الفاء للتفصيل، فإن التفصيل يعقب الإجمال. وقوله:((إلي الحج)) حال أي متوجهاً إلي الحج. و ((أول شيء)) حال من المفعول أي مبدوءاً به. قوله: ((ثم خب)) الخب ضرب من العدو، وهو المعنى بالرمل، ووضع قوله:((فطاف بالصفا والمروة)) موضع السعي بينهما.

قوله: ((فليصم ثلاثة أيام)) ((مح)): يجب صومها قبل يوم النحر، ويجوز صوم يوم عرفة

منها، لكن الأولي أن يصوم الثلاثة قبله، والأفضل أن لا يصومها حتى يحرم بالحج بعد فراغه

ص: 1972

2558 -

وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن عنده الهدي فليحل الحل كله، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلي يوم القيامة)). رواه مسلم.

وهذا الباب خال عن الفصل الثاني

الفصل الثالث

2559 -

عن عطاء، قال: سمعت جابر بن عبد الله في ناس معي قال: أهللنا-

أصحاب محمد- بالحج خالصاً وحده. قال عطاء: قال جابر: فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح

ــ

من العمرة، فإن صامها لذلك أجزأه علي المذهب الصحيح، وإن صامها بعد الإحرام بالعمرة، وقبل فراغها لم يجزئه، فإن صامها في أيام التشريق ففي صحته قولان، أشهرهما أنه لا يجوز، وأصحهما من حيث الدليل جوازه، ولو ترك صيامها حتى مضي التشريق لزمه قضاؤها عندنا. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يفوت صيامها، ويلزمه الهدي إذا استطاعه، وأما صوم السبعة فيجب إذا رجع، وفي المراد بالرجوع خلاف، والصحيح عندنا أنه إذا رجع إلي أهله، وقيل: إذا رجع إلي مكة من منى، ومذهب أبي حنيفة الثاني.

الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((استمتعنا بها)) هذا ظاهر في أن المراد بالاستمتاع هو الترفه باتحاد الميقات والإحرام. ((مظ)): قد مر اختلاف الروايات في أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً أو قارناً أو مفرداً، فمن قال بالتمتع تمسك بظاهر هذا الحديث، ومن قال بالقران ذهب إلي أن معناه استمتع من امرأته بتقديم العمرة علي الحج من أصحابي، فأضاف فعلهم إلي نفسه، لأن فعل من فعل شيئاً بأمره كفعله. أقول: هو نحو قوله تعالي: {يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن} - الكشاف-: خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم الخطاب؛ لأن النبي صلي الله علبه وسلم إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، إظهاراً لتقمه، واعتباراً لترؤسه. قوله:((الحل)) نصب علي المصدر و ((كله)) تأكيد له، أي الحل التام.

الفصل الثالث

الحديث الأول عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((أهللنا أصحاب محمد)) ((مح)): اختلفوا في

هذا، هل هذا هو خاص للصحابة تلك السنة، أم باق لهم ولغيرهم إلي بيوم القيامة، فقال أحمد

ص: 1973

رابعة مضت من ذي الحجة، فأمرنا أن نحل. قال عطاء: قال: ((حلوا وأصيبوا النساء)).

قال عطاء: ولم يعزم عليهم، ولكن أحلهن لهم، فقلنا لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن

نفضي إلي نسائنا، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني. قال: ((قد علمتم إني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا

هديي لحللت كما تحلون، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم اسق الهدي فحلوا)) فحللنا، وسمعنا وأطعنا. قال

ــ

وطائفة من أهل الظاهر: ليس خاصاً، بل هو باق إلي يوم القيامة، فيجوز لكل من أحرم بحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويحلل بأعمالها، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: هو مختص بهم في تلك السنة، لا يجوز بعدها. وإنما أمروا به؛ ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج. واستدل بحديث أبي ذر ((كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة)) يعني فسخ الحج إلي العمرة، وفي كتاب النسائي عن أب بلال ((قلت: يا رسول الله! فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل لنا خاصة))، وأما في حديث سراقة:((ألعامنا هذا أم لأبد؟ فقال: لأبد))، فمعناه يجوز الاعتمار في أشهر الحج والقران. فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث أن العمرة في أشهر الحج جائزة إلي يوم القيامة، وكذلك القران، وأن فسخ الحج إلي العمرة مختص بتلك السنة.

أقول: في هذا الحديث نفسه دليل علي الاختصاص؛ لأن قول جابر: ((أهللنا أصحاب محمد)) معناه أنا معشر أصحاب محمد مخصوصون بالإهلال بالحج إلي آخره. قال في المفصل: وفي كلامهم ما هو علي طريقة النداء ويقصد به الاختصاص لا النداء، وذلك قولهم: نحن نفعل كذا أيها القوم، واللهم اغفر لنا أيتها العصابة، أي نحن نفعل متخصصين من بين الأقوام، واغفر لنا مخصوصين من بين العصائب. وقوله:((في الناس معي)) حال من المفعول، أي كائناً في جملة ناس معي. و ((خالصاً)) أيضاً حال من الحج، و ((وحده)) صفة مؤكدة له، فـ ((خالصاً)) حال موطئة، كقوله تعالي:{قرآناً عربياً} .

قوله: قال عطاء: ((قال: حلوا)) فسر جابر قوله: ((فأمرنا أ، نحل)) بقوله: قال، أي رسول الله صلى الله عليه وسلم:((حلوا))، ثم فسر عطاء تفسير جابر بقوله:((ولم يعزم عليهم)) أي لم يوجب وطنهن، بدليل قوله:((ولكن أحلهن)) أي أباح وطئهن. وقوله: ((إلا خمس)) أي خمس ليال.

قوله: ((فنأي عرفة)) ليس من تمام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو عطف علي مقدر، أي فتنزهنا من ذلك، وقلنا: نأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني، ومن ثمة أشاروا بمذاكيرهم استهجاناً لذلك

الفعل، ولذلك واجههم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:((قد علمتم إني أتقاكم لله)). وكذا قوله: ((سمعنا

ص: 1974