الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2455 -
وعن أبي سعيد الخدري، قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله! هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر. قال: ((نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا)). قال: فضرب الله وجوه أعدائه بالريح، [و] هزَم اللهُ بالريح. رواه أحمد. [2455]
2456 -
وعن بريدة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل السوق قال: ((بسم الله، اللهم إني أسألك خير هذه السوق، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها صفقةً خاسرةً)). رواه البيهقي في ((الدعوات الكبير)). [2456]
(8) باب الاستعاذة
الفصل الأول
2457 -
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)). متفق عليه.
ــ
الحديث الرابع إلي السادس عن أبي سعيد رضي الله عنه: قوله: ((فقد بلغت القلوب الحناجر)) كناية عن شدة الأمر وبلوغه غايته. وقوله: ((فهزم الله بالريح)) الظاهر يقتضي أن يقال: فانهزموا بها، فوضع المظهر موضع المضمر؛ ليدل به علي أن الريح كانت سبباً مستقلاً لهزمهم، كقوله تعالي:{فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا علي الذين ظلموا رجزاً} يدل ((عليهم)) ليشعر بأن ظلمهم كان سبباً لإنزال الرجز، وأقحم لفظة ((الله))؛ ليدل به علي قوة ذلك السبب.
الحديث السابع عن بريدة رضي الله عنه: قوله: ((هذه السوق)) الجوهري: السوق يذكر ويؤنث. قوله: ((صفقة)) ((نه)): الصفق في الأسواق التبايع، فإن المتبايعين يضع أحدهما يده في يد الآخر، وهي المرة من التصفيق باليدين، ووصف الصفقة بالخاسرة من الإسناد المجازي؛ لأن صاحبها خاسر بالحقيقة.
باب الاستعادة
العوذ الالتجاء إلي الغير، والتعلق به، يقال: عاذ فلان بفلان، ومنه قوله {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} .
2458 -
وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال)). متفق عليه.
2459 -
وعن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ
بك من الكسل والهرم، والمغرم والمأثم، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، وفتنة النار، وفتنة
القبر، وعذاب القبر، ومن شر فتنة الغنى، و [من] شر فتنة الفقر، ومن شر فتنة
ــ
الفصل الأول
الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من جهد البلاء)) ((حس)): جهد البلاء هي الحالة التي يمتحن بها الإنسان، ويشق عليه بحيث يتمنى فيها الموت، ويختاره عليها. قوله:((ودرك الشقاء)) ((نه)): الدرك اللحاق والوصول إلي الشيء، يقال أدركته إدراكاً ودركاً، ومنه الحديث ((لو قال: إن شاء الله، لم يحنث وكان دركاً له في حاجته)). والشماتة فرح العدو تنزل ببلية بمن يعاديه، يقال: شمت به يشمت فهو شامت، وأشمته غيره.
قوله: ((وسوء القضاء)) عن بعضهم: هو ما يسوء الإنسان، ويوقعه في المكروه، علي أن لفظ السوء منصرف إلي المقضي عليه دون القضاء. ((مح)): يدخل في سوء القضاء السوء في الدين والدنيا، والبدن والمال والأهل، وقد يكون ذلك في الخاتمة. وأما ((درك الشقاء)) فكذلك. وأما ((جهد البلاء)) فروي عن ابن عمر أنه فسره بقلة المال وكثرة العيال.
الحديث الثاني عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((وضلع الدين)) في الغريبين: يعني ثقله حتى يميل صاحبه عن الاستواء والاعتدال، والضلع الاعوجاج، وزاد في النهاية: يقال: ضلع ضلعاً –بالتحريك- وضلع –بالفتح- يضلع ضلعاً –بالتسكين- أي مال، وسبق شرح الحديث في الباب السابق.
الحديث الثالث عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((وفتنة النار)) أي فتنة تؤدي إلي عذاب النار وإلي عذاب القبر؛ لئلا يتكرر إذا فسرنا بالعذاب. قوله: ((ومن شر فتنة الغنى)) ((قض)): فتنة الغنى البطر والطغيان، والتفاخر به، وصرف المال في المعاصي، وما أشبه ذلك، و ((فتنة الفقر)) الحسد علي الأغنياء، والطمع في أموالهم، والتذلل لهم بما يتدنس به عرضه، وينثلم به دينه، وعدم الرضا علي ما قسم الله، إلي غير ذلك مما لا تحمد عاقبته. أقول: الفتنة إن فسرت بالمحنة والمصيبة، فنشرها أن لا يصبر الرجل علي لأوائها، ويجزع منها، وإن فسرت بالامتحان
المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي كما ينقَّ الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)). متفق عليه.
2460 -
وعن زيد بن أرقم، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، و [من] نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)). رواه مسلم.
ــ
والاختيار، فشرها أن لا يحمد في السراء، ولا يصبر في الضراء، وبقية الحديث قد انقضى تفسيره في باب أدعية الصلاة، لاسيما قوله:((اغسل خطاياي بماء الثلج)).
الحديث الرابع عن زيد رضي الله عنه: قوله: ((اللهم آت نفسي تقواها)) ينبغي أن تفسر التقوى بما يقابل الفجور في قوله تعالي: {فألهمها فجورها وتقواها} وهي الاحتراز عن متابعة الهوى، وارتكاب الفجور والفواحش؛ لأن الحديث كالتفسير والبيان للآية، فدل قوله:((آت)) علي أن الإلهام في الآية هو خلق الداعية الباعثة علي الاجتناب عن المذكورات، وقوله:((زكها أنت خير من زكاها)) علي أن إسناد التزكية إلي النفس في الآية، هو نسبة الكسب إلي العبد لا خلق الفعل، كما زعمت المعتزلة؛ لأن الخيرية تقتضي المشاركة بين كسب العبد، وخلق القدرة فيه.
وقوله: ((أنت وليها ومولاها)) استئناف علي بيان الموجب، وأن إيتاء التقوى وتحصيل التزكية فيها إنما كان؛ لأنه هو متولي أمرها وربها ومالكها، فالتزكية إن حملت علي تطهير النفس عن الأفعال والأقوال والأخلاق الذميمة، كانت بالنسبة إلي التقوى مظاهر ما كان ممكناً في الباطن، وإن حملت علي الإنماء والإعلاء بالتقوى، كانت تحلية بعد التخلية؛ لأن المتقي شرعاً من اجتنب النواهي، وأتى الأوامر. وعن بعض العارفين: تقوى البدن الكف عما لا يتيقن حله، وتقوى القلب عما سوى الله تعالي في الدارين، وعدم الالتفات إلي غيره.
قوله: ((من علم لا ينفع)) ((مظ)): أي علم لا أعمل به ولا أعلمه، ولا يبدل أخلاقي وأقوالي
وأفعالي، أو علم لا يحتاج إليه في الدين، ولا في تعلمه إذن شرعي. قوله: ((ومن نفس
2461 -
وعن عبد بن عمر، قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك)). رواه مسلم.
2462 -
وعن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل)). رواه مسلم.
2463 -
وعن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:((اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)). متفق عليه.
ــ
لا تشبع ((تو)): فيه وجهان: أحدهما أنها لا تقنع بما آتاها الله ولا تفتر عن الجمع حرصاً، والأخر أن يراد به النهمة وكثرة المال. قوله:((لها)) الضمير عائد إلي الدعوة، و ((اللام)) زيادة، وفي جامع الأصول ((ودعوة لا تستجاب)) وليس فيه ((لها)).
الحديث الخامس عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((وتحول عافيتك)) ((مظ)): أي من تبدل ما رزقتني من العافية إلي البلاء. فإن قلت: ما الفرق بين الزوال والتحويل؟ قلت: الزوال يقال في شيء كان ثابتاً في شيء ثم فارقه. والتحويل تغيير الشيء وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغير: قيل: حال الشيء يحول حولاً، وباعتبار الانفصال: قيل: حال بيني وبين كذا: وحولت الشيء فتحول: غيرته إما بالذات وأما بالحكم فمعنى زوال النعمة ذهابها من غير بدل، وتحويل العافية إبدال الصحة بالمرض، والسلام بالبلاء. [الحديث السادس عن عائشة رضي الله عنها] قوله:((وشر ما لم أعمل)) ((شف)): قيل استعاذ من أن يعمل في مستقبل الزمان ما لا يرضاه الله، فإنه لا مأمن لأحد من مكر الله، {فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}. وقيل: من أن يصير معجباً بنفسه في ترك القبائح، وسأله أن يرى ذلك من فضل ربه.
الحديث السابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((أن تضلني)) متعلق بـ ((أعوذ)) أي من أن تضلني، وكلمة التوحيد معترضة لتأكيد العزة.
الفصل الثاني
2464 -
عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الأربع: من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع)). رواه أحمد، وأبو داود،
وابن ماجه. [2464]
ــ
الفصل الثاني
الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((وعلم لا ينفع)) أي علم لا يهذب أخلاقه الباطنة، فيسري منها إلي الأفعال الظاهرة، ويفوز بها إلي الثواب الآجل. وأنشد:
يا من تقاعد عن مكارم خلقه
…
ليس التفاخر بالعلوم الزاخرة
من لم يهذب علمه أخلاقه
…
لم ينتفع بعلومه في الآخرة
قال أبو طالب المكي رحمه الله: وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من نوع من العلوم، كما استعاذ من الشرك والنفاق، ومساوئ الأخلاق، والعلم الذي لم يقرن بالتقوى، فهو باب من الدنيا والهوى.
وقال الشيخ أبو حامد: إن العلم من صفات الله تعالي، فكيف يكون مذموماً؟ اعلم أن العلم لا يذم لعينه، وإنما يذم لأحد أسباب ثلاثة: الأول أن يكون مؤدياً إلي ضرر إما بصاحبه، وإما بغيره، كعلم السحر والطلسمات، فإنهما لا يصلحان إلا للإضرار بالخلق، والوسيلة إلي الشر شر، والثاني أن يكون مضراً بصاحبه في ظاهر الأمر، كعلم النجوم فإنه كله مضرة وأقل المضرة فهي أنه خوض في فضول لا يعني، وتضييع العمر الذي هو أنفس بضاعة الإنسان بغير فائدة غاية الخسران، الثالث الخائض في علم لا يستقل به الخائض فيه، فإنه مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليها، وكالبحث عن الأسرار الإلهية، إذ تطلع الفلاسفة والمتكلمون عليها، ولم يستقلوا بها، ولا يستقل بها ولا بالوقوف علي طرف بعضها إلا الأنبياء والأولياء، فيجب كف الناس عنها، وردهم إلي ما نطق الشرع به.
قوله: ((ومن دعاء لا يسمع)) ((نه)): أي لا يستجاب ولا يعتد به، فكأنه غير مسموع، يقال: اسمع دعائي، أي أجب؛ لأن غرض السائل الإجابة والقبول. اعلم أن في كل من القرائن ما يشعر بأن وجوده مبني علي غايته، وأن الغرض منه تلك الغاية، وذلك أن تحصيل العلم إنما هو للانتفاع بها، فإذا لم ينتفع لا يخلص منه كفافاً، بل يكون وبالاً، ولذلك استعاذ منه، وأن القلب إنما خلق لأن يتخشع لبارئه، وينشرح لذلك الصدر، ويقذف النور فيه، فإذا لم يكن
2465 -
ورواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو. والنسائي عنهما. [2465]
2466 -
وعن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من خمس: من الجبن، والبخل، وسوء العمر، وفتنة الصدر، وعذاب القبر. رواه أبو داود، والنسائي. [2466]
2467 -
وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:((اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة والذلة، وأعوذ من أن أظلم أو أظلم)) رواه أبو داود، والنسائي [2467].
ــ
كذلك كان قاسياً، فيجب أن يستعاذ منه، قال تعال:{فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} ، وأن النفس إنما يعتد بها إذا تجافت عن دار الغرور، وأنابت إلي دار الخلود، والنفس إذا كانت منهومة لا تشبع، حريصة علي الدنيا، كانت أعدى عدو المرء، فأول شيء يستعاذ منه هي، وعدم استجابة الدعاء دليل علي أن الداعي لم ينتفع بعلمه، ولم يخشع قلبه ولم تشبع نفسه.
الحديث الثاني عن عمر رضي الله عنه: قوله: ((وفتنة الصدر)) ((شف)): قيل: هي موته وفساده، وقيل: ما ينطوي عليه الصدر من حسد، وغل، وخلق سيء، وعقيدة غير مرضية. أقول: فتنة الصدر هي الضيق المشار إليه في قوله تعالي: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعَّد إلي السماء} وهي الإنابة إلي دار الغرور التي هي سجن المؤمن، والتجافي عن دار الخلود، التي عرضها كعرض السماء.
الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أعوذ بك من الفقر)) ((غب)): أصل الفقر
كسر فقار الظهر، والفقر يستعمل علي أربعة أوجه: الأول: وجود الحاجة الضرورية، وذلك علم للإنسان
ما دام في دار الدنيا، بل عام للموجودات كلها، وعليه قوله تعالي:{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلي الله} .
والثاني: عدم المقتنيات، وهو المذكور في قوله تعالي:{للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله} و {إنما الصدقات للفقراء} . الثالث: فقر النفس وهو الشره، وهو المقابل بقوله:((الغنى غنى النفس)) والمعني بقولهم: من عدم القناعة لم يفده
المال غنى. الرابع: الفقر إلي الله تعالي المشار إليه بقوله: ((اللهم اغنني بالافتقار إليك، ولا تفقرني
2468 -
وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:((اللهم إني أعوذ بك من الشقاق، والنفاق، وسوء الأخلاق)). رواه أبو داود، والنسائي [2468].
2469 -
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة ". رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه [2469].
ــ
بالاستغناء عنك)) وإياه عني تعالي بقوله: {رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير} ، ويقال: افتقر فهو مفتقر وفقير، ولا يكاد يقال: فقر وإن كان القياس يقتضيه. أقول: والمستعاذ منه في الحديث هو القسم الثالث.
((خط)): إنما استعاذ صلى الله عليه وسلم من الفقر الذي هو فقر النفس لا قلة المال. قال القاضي عياض: وقد تكون استعاذته من فقر المال، والمراد الفتنة من احتماله، وقلة الرضي به، ولهذا قال:((فتنة الفقر)) ولم يقل: الفقر، وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيح في فضل الفقر. قوله:((والقلة)) ((تو)): القلة تحمل علي قلة الصبر أو قلة العدد، ولا خفاء أن المراد منها القلة في أبواب الخير وخصال الخير؛ لأنه كان يؤثر الإقلال في الدنيا، ويكره الاستكثار من الأغراض الفإنية.
الحديث الرابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من الشقاق)) –في الغريبين-: أراد بـ ((الشقاق)) الخلاف؛ لأن كل واحد منهما يكون في شق أي ناحية، والشقاق العداوة، ومنه قوله تعالي:{في عزة وشقاق} . والنفاق أن تظهر لصاحبك خلاف ما تستره وتضمره. وقوله: ((وسوء الأخلاق)) من عطف العام علي الخاص. وفيه إشعار بأن الشقاق والنفاق أعظمهما؛ لأن سريان ضررهما إلي الغير.
الحديث الخامس عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((من الجوع)) ((قض)): الجوع الألم الذي يجده
الإنسان من خلو المعدة. و ((الضجيع)) المضاجع، استعاذ منه؛ لأنه يمنع استراحة البدن، ويحلل المواد المحمودة
بلا بدل، ويشوش الدماغ، ويثير الأفكار الفاسدة والخيالات الباطلة، ويضعف البدن عن القيام بوظائف الطاعات. و ((الخيانة)) نقيض الأمانة، و ((البطانة)) ضد الظهارة، وأصلها في الثوب، فاتسع فيما يستبطن الرجل من أمره،
فيجعله بطانة حاله. أقول: خص ((الضجيع)) بـ ((الجوع))؛ لينبه علي أن المراد بالجوع الذي يلازمه ليلاً ونهاراً،
ومن ثم حرم الوصال، ومثله يضعف الإنسان عن القيام بوظائف العبادات، ولاسيما بقيام التهجد، و ((البطانة))
2470 -
وعن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:((اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجذام، والجنون، ومن سيئ الأسقام)). رواه أبو داود، والنسائي. [2470]
2471 -
وعن قطبة بن مالك، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال والأهواء)). رواه الترمذي. [2471]
2472 -
وعن شتير بن شكل بن حميد، عن أبيه، قال: قلت: يا نبي الله!. علمني تعويذاً أتعوذ به. قال: ((قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، وشر بصري، وشر لسإني، وشر قلبي، وشر منيي)). رواه أبو داود،
والترمذي، والنسائي. [2472]
2473 -
وعن أبي اليسر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: ((اللهم إني أعوذ بك
ــ
بـ ((الخيانة))؛ لأنها ليست كالجوع الذي يتضرر به صاحبه فحسب، بل هي سارية إلي الغير، فهي وإن كانت بطانة لحاله، لكن يجرى سريانه إلي الغير مجرى الظهارة.
الحديث السادس عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((سيئ الأسقام)) الإضافة ليست بمعنى ((من)) كما في قولك: خاتم فضة، بل هي من إضافة الصفة إلي الموصوف، أي الأسقام السيئة. ((تو)): لم يستعذ بالله من سائر الأسقام؛ لأن منها ما إذا تحامل الإنسان فيه علي نفسه بالصبر خفت مئونته وعظمت مثوبته، كالحمى والصداع والرمد، وإنما استعاذ من السقم المزمن، فينتهي بصاحبه إلي حالة يفر منها الحميم ويقل دونها المؤانس والمداوى، مع ما يورث من الشين، فمنها الجنون الذي يزيل العقل فلا يأمن صاحبه القتل، ومنها البرص والجذام، وهما العلتان المزمنتان مع ما فيهما من القذارة والبشاعة، وتغيير الصورة، وقد اتفقوا علي أنهما معديان إلي الغير.
الحديث الثامن عن شتير: قوله: ((تعويذاُ)) أي ما تعوذ به، -الجوهري-: العوذة والمعاذة والتعويذ كلها بمعنى. قوله: ((من منيي)) ((مظ)): أي من شر غلبة منيي، حتى لا أقع في الزنى والنظر إلي المحارم.
الحديث التاسع عن أبي اليسر: قوله: ((أعوذ بك من الهدم)) ((قض)): الهدم –بالسكون-
من الهدم وأعوذ بك من التردي، ومن الغرق، والحرق، والهرم، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك من أن أموت لديغاً)) رواه أبو داود، والنسائي وزاد في رواية أخرى:((والغم)). [2473]
2474 -
وعن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أستعيذ بالله من طمع يهدي إلي طبع)). رواه أحمد، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)). [2474]
2475 -
وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلي القمر، فقال:((يا عائشة! استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب)). رواه الترمذي. [2475]
2476 -
وعن عمران بن حصين، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: ((يا حصين كم تعبد اليوم إلهاً؟)) قال أبي: سبعة: ستاً في الأرض، وواحداً في السماء. قال:((فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟)) قال: الذي في السماء. قال: ((يا حصين! أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك)) قال: فلما أسلم حصين قال: يا رسول الله! علمني الكلمتين اللتين وعدتني فقال: ((قل اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي)). رواه الترمذي. [2476]
ــ
سقوط البناء ووقوعه علي الشيء، وروى بالفتح وهو اسم ما انهدم منه. و ((التردي)) السقوط من عال، كالتدهده من شاهق جبل، والسقوط في بئر. و ((الغرق)). بالتحريك مصدر غرق في الماء، و ((الحرق)) بالتحريك ((النار)) وإنما استعاذ من الهلاك بهذه الأسباب مع ما فيه من نيل الشهادة؛ لأنها مجهدة مقلقة لا يكاد الإنسان يصبر عليها ويثبت عندها، فلعل الشيطان ينتهز منه فرصة فيحمله علي ما يخل بدينه، ولأنه بعد فجأة، وهو أخذة الأسف علي ما مر في كتاب الجنائز. أقول: ولعله صلى الله عليه وسلم استعاذ منها لأنها في الظاهر مصائب ومحن وبلاء كالأمراض السابقة المستعاذ منها، وأما ترتب الثواب –ثواب الشهادة- عليها، فللتنبيه علي أن الله تعالي يثيب المؤمن علي المصائب
كلها حتى الشوكة التي يشاكها، ولأن الفرق بين الشهادة الحقيقية وبين هذه أنها متمنى كل مؤمن ومطلوبه،
وقد يجب عليه توخي الشهادة والتحري فيها بخلاف التردي والغرق والحرق ونحوها فإنها يجب الاحتراز عنها
ولو سعى فيها عصى. قوله: ((من أن يتخبطني)) ((تو)) الأصل في التخبط أن يضرب البعير الشيء بخف يده فيسقط، والمعنى: أعوذ بك أن يمسني الشيطان عند الموت بنزغاته التي تزل الأقدام وتصارع العقول والأحلام. قوله
ــ
((لديغاً)) فعيل بمعنى مفعول، واللدغ يستعمل في ذوات السموم من حية وعقرب وغير ذلك. قوله ((أن أموت في سبيلك مدبراً)) عبارة عن الفرار عن الزحف حيث لا يجوز الزحف هذا وما أشبه ذلك تعليم الأمة، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز له الفرار وكذا تخبط الشيطان وغير ذلك من الأمراض المزمنة المشوهة للخلق.
الحديث العاشر عن معاذ رضي الله عنه: قوله (من طمع يهدي)((قض)): الهداية: الإرشاد إلي لشيء والدلالة عليه، ثم اتسع فيه فاستعمل بمعنى الإدناء من الشيء والإيصال إليه. والطبع بالتحريك: العيب، وأصله الدنس الذي بعرض السيف، والمعنى: أعوذ بالله من طمع يسوقني إلي شين في الدين وإزراء بالمروءة. قوله: الهداية هنا بمعنى الدلالة الموصلة إلي البغية واردة علي سبيل التمثيل لأن الطبع الذي هو بمعنى الرين سبب عن كسب الآثام. قال تعالي: {كلا بل ران علي قلوبهم ما كانوا يكسبون} فلما جعل متسببا عن الطمع الذي هو نزوع النفس إلي الشيء شهوة له جعل كالمرشد والهادي إلي مكان سحيق، فيتخذ إلهه هواه، وهو المعني بالرين، فاستعمل الهدى فيه علي سبيل الاستعارة تهكماً.
الحديث الحادي عشر عن عائشة رضي الله عنها قوله: ((الغاسق إذا وقب)) ((قض)) الغاسق: الليل إذا غاب الشفق واعتكر ظلامه من غسق يغسق إذا أظلم، وأطلق هاهنا علي القمر لأنه يظلم إذا كسف، ووقوبه: دخوله في الكسوف واسوداده، وإنما استعاذ من كسوفه لأنه من آيات الله الدالة علي حدوث بلية، ونزول نازلة.
أقول: يؤيد هذا التأويل حديث أبي موسى في الكسوف قال: فقام النبي فزعاً يخشى أن تكون الساعة، ثم قال:((هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتم من ذلك شيئاً فافزعوا إلي ذكر الله ودعائه واستغفاره))، ولأن اسم الإشارة في الحديث كوضع اليد في التعيين، وتوسيط ضمير الفعل بينه وبين الخبر المعرف يدل علي أن المشار إليه هو القمر لا غير وتفسير الغاسق بالليل يأباه سياق الحديث كل الإباء؛ ولأن دخول الليل نعمة من نعم الله تعالي، ومن الله بها علي عباده في كثير من الآيات، قال تعالي:{وجعل لكم الليل لتسكنوا فيه} {فلما جن عليه الليل رأي كوكباً قال هذا ربي} وقال الشاعر:
وكم لظلام الليل عندك من يد
…
تخبر أن المانوية تكذب
الحديث الثاني عشر عن عمران: قوله: ((إلهاً)) تمييز لـ ((كم)) الاستفهامية، وقد فصل بينهما ظاهراً، وأما من حيث المعنى فلا فصل؛ إذ أن رتبة المفعول هو التأخر عن الفعل.
2477 -
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا فزع أحدكم في النوم، فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره)) وكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ منهم كتبها في صك ثم علقها في عنقه. رواه أبو داود، والترمذي، وهذا لفظه. [2477]
2478 -
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الله الجنة ثلاث مرات، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة. ومن استجار من النار ثلاث مرات؛ قالت النار: اللهم أجره من النار)). رواه الترمذي، والنسائي. [2478]
ــ
قوله: ((ستاً من الأرض)) المذكور في التنزيل ((يغوث، ويعوق، ونسراً، واللات، والمناة، والعزى)) والله أعلم بالمراد، ومن ثم قال:((ستاً)) لأن المميزات كلها مؤنثة، وإنما ألحق التاء بـ ((سبعة)) لاشتماله علي الإله الذي في السماء علي زعمه، فغلب جانب التذكير، ولهذا لم يقل: واحدة في السماء.
قوله: ((فأيهم تعد)) ((الفاء)) جزاء شرط محذوف، أي إذا كان كذلك، فإذا حزبك أمر فأيهم تخصه وتلتجئ إليه إذا نابتك نائبة، وحدثت حادثة؟ قال تعالي:{وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} وهذا الأسلوب يسمى في علم البديع بالمذهب الكلامي، فلما أكرمه وأقر قال:((الذي في السماء)) أتبعه بقوله: ((أما إنك لو أسلمت)) وهذا من باب إرخاء العنان والكلام المنصف؛ لأن من حق الظاهر بعد إقراره أن يقال له: أسلم ولا تعاند. وأما الإشارة إلي الاستعاذة من شر النفس، فإيذان بأن اتخاذ تلك الآلهة ليس إلا هوى النفس الأمارة بالسوء، وأن المرشد إلي الطريق الحق والدين القويم هو الله تعالي.
الحديث الثالث عشر والرابع عشر عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((قالت الجنة)) قول الجنة والنار يجوز أن يكون حقيقة ولا بعد فيه، كما في قوله تعالي:{وتقول هل من مزيد} ، ويجوز أن تكون استعارة، شبه استحقاق العبد بوعد الله ووعيده الجنة والنار في تحققهما وثبوتهما بنطق الناطق، كأن الجنة مشتاقة إلي السائل داعية دخوله، والنار نافرة عنه داعية له بالبعد عنها، فأطلق الفول وأراد التحقيق والثبوت، وفي وضع ((الجنة والنار)) موضع ضمير المتكلم تجريد ونوع من الالتفات. ويجوز أن يقدر مضاف، أي قالت خزنة الجنة وخزنة النار، فالقول إذن حقيقي.
الفصل الثالث
2479 -
عن القعقاع: أن كعب الأحبار قال: لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حماراً. فقيل له: ما هن؟ قال: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وذرأ وبرأ. رواه مالك. [2479]
ــ
الفصل الثالث
الحديث الأول عن القعقاع: قوله: ((حماراً)) لعله أراد أن اليهود سحرته، ولولا استعاذتي بهذه الكلمات لتمكنوا من أن يقلبوا حقيقتي لبغضهم إياي حيث إني أسلمت، أو لتمكنوا من إذلالي وتوهيني كالحمار، فإنه مثل في الذلة، قال:
ولا يقيم علي ضيم يراد به
…
إلا الأذلان عير الحي والوتد
قوله: ((لا يجاوزهن بر ولا فاجر)) يشعر بأن المراد بـ ((كلمات)) علم الله الذي ينفد البحر قبل نفاده في قوله: {قل لو كان البحر مداداً} الآية، لأن معنى التكرير في قوله:((بر ولا فاجر)) وتكرير حرف التأكيد للاستيعاب، كما في قوله تعالي:{ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} . ولو أريد بـ ((كلمات الله التامات)) القرآن يؤول بأن البر والفاجر من المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، لا يتجاوزان ما لهما وما عليهما من الوعد والوعيد، والثواب والعقاب. وغير ذلك، يؤيده قوله تعالي:{وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} لأن الصدق ملائم للوعد والوعيد، والخبر من القصص، وبناء الأولين والآخرين مما سبق ومما سيأتي. والعدل موافق للأمر والنهي، والثواب والعقاب، وما أشبه ذلك.
((حس)): وفي أمثال هذا الحديث مما جاء فيه الاستعاذة بكلمات الله، دليل علي أن كلام الله غير مخلوق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بها، كما استعاذ بالله في قوله:((أعوذ بالله)) وبصفاته في قوله: {برب الناس ملك الناس} وبعزة الله وقدرته، ولم يكن يستعيذ بمخلوق عن مخلوق. وبلغني عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه استدل بها علي أن القرآن غير مخلوق؛ لأنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص. قوله:((خلق)) أي قدر أو أنشأ، و ((برأ)) أي جعل الخلقة مبرأة من التفاوت، فخلق كل عضو علي ما ينبغي كونه، و ((ذرأ)) أي بث الذراري في الأرض.