المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالي - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٦

[الطيبي]

الفصل: ‌(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالي

ثلاثة [أيام]، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه)) رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدرامي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح [2714]

[وهذا الباب خال عن الفصل الثالث].

(14) باب حرم مكة حرسها الله تعالي

الفصل الأول

2715 -

عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: ((لا هجرة؛

ــ

قوله: ((فمن تعجل)) ((قض)): ((تعجل)) جاء لازما ومتعديا، فإن عديته فمفعوله محذوف، والمعنى فمن تعجل النفر في يومين، أي في آخر اليومين الأولين من أيام التشريق، فلا إثم عليه ولا حرج، ومن تأخر إلي اليوم الثالث فلا إثم عليه، أي التقديم والتأخير سواء في الجواز وعدم الحرج، ليس في التعجيل ترك واجب، ولا في التوقف والتأخير ارتكاب بدعة وزيادة علي المشروع، مع أن التأخير أفضل. ((تو)): ذكر أهل التفسير أن أهل الجاهلية كانوا فئتين: إحداهما: ترى المتعجل آثما، والأخرى: ترى المتأخر آثما؛ فورد التنزيل بنفي الحجر عنهما.

باب حرم مكة حرسها الله تعالي

الحرم الممنوع نه: إما بتسخير إلهي، وإما بمنع شرعي، وإما بمنع من جهة العقل، وإما من جهة من يرتسم أمره. والحرم سمي حرما لتحريم الله تعالي فيه كثيرا مما ليس بمحرم في غيره من المواضع، وكذلك الشهر الحرام.

الفصل الأول

الحديث الأول عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((لا هجرة)) ((تو)): كانت الهجرة إلي المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضا علي المؤمن المستطيع؛ ليكون في سعة من أمر دينه فلا يمنعه عنه مانع، ولينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله وإظهار دينه، فينحاز إلي حزب الحق وأنصار دعوته، ويفارق الفريق الباطل؛ فلا يكثر سوادهم، إلي غير ذلك من المعإني الموجبة لكمال الدين. فلما فتح مكة وأظهره الله علي الدين كله، أعلمهم بأن الهجرة المفروضة قد انقطعت، وأن السابقة بالهجرة بعد الفتح قد انتهت، وأن ليس لأحد بعد ذلك أن ينال فضيلة الهجرة إليه، ولا أن ينازع المهاجرين في مراتبهم وحقوقهم.

وقوله: ((لا هجرة)) أي لم تبق هجرة، ولكن بقي الجهاد، فينالون بذلك الأجر والفضل

ص: 2040

ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)). وقال يوم فتح مكة: ((إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلي يوم القيامة، وإنها لم يحل

ــ

والغنيمة. وفيه تنبيه علي أنهم إذا حرصوا علي الجهاد وأحسنوا النية، أدركوا الكثير مما فاتهم بفوات الهجرة. وفي قوله:((لا هجرة)) تنبيه علي الرخصة في ترك الهجرة، يعني إلي المدينة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم. فأما الهجرة التي تكون من المسلم لصلاح دينه فإنها باقية مدى الدهر.

((مح)): فيه إظهار معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن مكة تبقى دار الإسلام بعد الفتح، لا يتصور منها الهجرة. وقال أصحابنا: معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازاً ظاهراً، انقطعت [بفتحه] * ومضت؛ لأن الإسلام قوي وعز عزاً ظاهراً بخلاف ما قبله، لكن لكم طريق إلي تحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة، وذلك بالجهاد ونية الخير في كل شيء.

أقول: قوله: ((ولكن جهاد ونية)) عطف علي محل مدخول ((لا)) والمعنى أن الهجرة من الأوطان إما هجرة إلي المدينة للفرار من الكفار ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإما إلي الجهاد في سبيل الله، وإما إلي غير ذلك من تحصيل الفضائل، كطلب العلم وابتغاء فضل الله من التجارة وما شاكلهما؛ فانقطعت الأولي وبقيت الأخريان، فاغتنموهما ولا تقاعدوا عنهما، فإذا استنفرتم فانفروا.

((نه)): الجهاد محاربة الكفار، وهو المبالغة واستفراغ ما في الوسع من قول أو فعل. يقال: جهد الرجل في الشيء، إذا جد فيه وبالغ، وجاهد في الحرب مجاهدة وجهادا. والاستنفار الاستنجاد والاستنصار، أي طلب منكم النصرة فأجيبوا وانصروا خارجين إلي الإعانة.

قوله: ((حرمه الله يوم خلق السموات)) ((قض)): معناه أن تحريمه أمر قديم وشريعة سالفة مستمرة، ليس مما أحدثه أو اختص بشرعه. ويحتمل أن يراد به التأقيت، أي إنما خلف هذه الأرض حين خلقها محرمة، والتوفيق بينه وبين ما أورده في الباب التالي له عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن إبراهيم حرم مكنة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة حراما ًما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تخبط فيها شجرة إلا لعلف)) أن يقال: إسناد التحريم إلي إبراهيم عليه السلام من حيث إنه مبلغه ومنهيه؛ فإن الحاكم بالشرائع والأحكام كلها هو الله تعالي، والأنبياء يبلغونها، ثم إنها كما تضاف إلي الله تعالي من حيث إنه الحاكم بها، تضاف إلي الرسل؛ لأنها تسمع منهم وتبين علي لسانهم. فلعله لما رفع البيت المعمور إلي السماء وقت الطوفان، أو انطمست العمارة التي بناها آدم عليه السلام، والكعبة الآن في محلها علي اختلاف الروايات اندرست حرمتها وصارت شريعة متروكة منسية إلي أن أحياها إبراهيم عليه السلام، فرفع قواعد البيت ودعا الناس إلي الحج، وحد الحرم وبين حرمته.

((مح)): قيل: معناه أنه تعالي كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السموات الأرض، أن إبراهيم سيحرم مكة بأمر الله تعالي.

ص: 2041

القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلي يوم

ــ

قوله: ((بحرمة الله)) ((نه)): أي بتحريمه، وقيل: الحرمة الحق بالحق المانع من تحليله.

أقول: الفاء في قوله: ((فهو)) جزاء شرط محذوف، أي إذا كان الله كتب في اللوح المحفوظ تحريمه، ثم أمر إبراهيم عليه السلام بتبليغه وإنهائه؛ فأنا أيضا أبلغ ذلك وأنهيه إليكم، وأقول: فهو حرام بحرمة الله.

وقول: فهو حرام بحرمة الله.

قوله: ((ولم يحل لي إلا ساعة)) ((حس)): أراد به ساعة الفتح، أبيحت له إراقة الدم فيها دون الصيد وقطع الشجر ونحوهما. ويحتج به من ذهب إلي أن مكة فتحت عنوة لاصلحا، وهم أصحاب أبي حنيفة. وتأوله غيرهم علي معنى أنه أبيح له أن يدخلها من غير إحرام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دخلها وعليه عمامة سوداء. وقال أيضاً: لا يجوز أن يباح له إراقة دم حرام في تلك الساعة، بل إنما أبيح له إراقة دم كان مباحاً خارج الحرم، فحرمه دخول الحرم، فصار الحرم في حقه بمنزلة الحل في تلك الساعة. واختلفوا فيمن ارتكب خارج الحرم ما يوجب القتل عليه، ثم دخل الحرم، هل يحل قتله فيه؟ فذهب جماعة إلي أنه يحل ذلك. قالوا: إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارا بدم ولا فارا بسرقة.

((قص)): قوله ((لم يحل القتال فيه لأحد قبلي)) لا يدل علي أنه قاتل فيه وأخذه عنوة؛ فإن حل الشيء لا يستلزم وقوعه؛ فلا حجة للأوزاعي وأصحاب أبي حنيفة. أقول: والحاصل أن الفتح عنوة يقتضي نصب الحرب عليهم والقتال بالرمي بالمنجنيق والسهم، والطعن بالرمح وضرب السيف، ولم يقع ذلك، وإن كان حلالا؛ وأما قتل من استحق القتل خارج الحرم في الحرم، فليس من معنى العنوة في شيء. ((مظ)): وفائدة الخلاف أن من قال: فتحت عنوة، أنه لا يجوز بيع دور مكة ولا إجارتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل وقفاً ما أخذه من الكفار من العقار. ومن قال: فتح صلحاً جوز بيعها وإجارتها؛ لأنها مملوكة لأصحابها.

أقول: وكرر قوله: ((فهو حرام بحرمة الله))؛ لينيط به غير ما أناط به أولا من قوله: ((لا يعضد شوكه)) إلي آخره. ((نه)): ((لا يعضد)) لا يقطع، يقال: عضدت الشجر أعضده أي قطعت.

والعضد بالتحريك المعضود. وذكر الشوك دال علي منع قطع سائر الأشجار بالطريق الأولي.

((حس)): المؤذي من الشوك كالعوسج؛ فلا بأس بقطعه كالحيوان المؤذي. وظاهر الحديث يوجب تحريم قطع أشجار الحرم علي العموم، سواء غرسها الآدميون أو نبتت من غير غرس، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وإذا قطع شيئاً منها فعلية الجزاء عند أكثرهم، وإن كان القاطع حلالا، وإليه ذهب الشافعي، فعلية في الشجرة الكبيرة بقرة وفي الصغيرة شاة. ((مح)): يجوز عند الشافعي ومن وافقه رعي البهائم في كلا الحرم. وقال أبو حنيفة وأحمد ومحمد: لا يجوز.

ص: 2042

القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاها.

فقال العباس: يارسول الله! إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم؟ فقال:((إلا الإذخر)) متفق عليه.

2716 -

وفي رواية لأبي هريرة: ((لا يعضد شجرها، ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد)).

ــ

قوله: ((ولا ينفر صيده)) ((نه)): يقال نفر ينفر نفوراً ونفاراً إذا فر وذهب. ((مح)): هذا تصريح بتحريم الإزعاج وتنحيه الصيد من موضعه؛ فإن نفره عصى سواء تلف أم لا، لكن إن تلف في نفاره قبل السكون ضمن. ونبه بالتنفير علي الإتلاف ونحوه؛ لأنه إذا حرم التنفير فالإتلاف أولي.

قوله: ((ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها)) ((حس)): اللقطة- بفتح القاف، والعامة تسكنها- ما يلتقط. اختلفوا في لقطة الحرم، فذهب قوم إلي أنه ليس لواجدها غير التعريف أبدا، ولا يملكها بحال ولا يستنفقها ولا يتصدق بها حتى يظفر بصاحبها. بخلاف لقطة سائر البقاع، وهو أظهر قولي الشافعي. وذهب الأكثرون إلي أنه لا فرق بين لقطتي الحل والحرم، وقالوا: معنى قوله: ((إلا من عرفها)) عرفها كما يعرفها في سائر البقاع حولا كاملا، حتى لا يتوهم متوهم أنه إذا نادى عليها وقت الموسم، فلم يظهر مالكها جاز له أن يتملكها. ((تو)): الوجه هو الأول؛ لأن الكلام ورد مورد بيان الفضائل المختصة بها كتحريم صيدها وقطع شجرها وحصد خلاها.

وإذا سوى بين لقطة الحرم ولقطة غيره من البلاد، وجدنا ذكر حكم اللقطة في هذا الحديث خالياً عن الفائدة.

قوله: ((ولا يختلي خلاها)) ((نه)) الخلا- مقصوراً- النبات الرقيق ما دام رطبا ً واختلاؤه قطعة، وأخلت الأرض كثر خلاها، وإذا يبس فهو حشيش. ((فا)): حقه أن يكتب بالياء ويثنى خليان.

((حس)): ولا بأس بقطع الحشيش والشجر اليابسين كالصيد الميت [يقطه]. ويكره علي مذهب الشافعي نقل تراب الحرم وإخراج الحجارة عنه لتعلق حرمة الحرم بها، ولا يكره نقل ماء زمزم للتبرك.

قوله: ((إلا الإذخر)) ((نه)): هو بكسر الهمزة حشيشة طيبة الرائحة، يسقف بها فوق الخشب، وهمزته زائدة. ((مح)): هذا محمول علي أنه صلى الله عليه وسلم أوحي إليه في الحال باستثناء الإذخر وتخصيصه من العموم، أو أوحي إليه قبل ذلك أنه إن طلب أحد استثناء شيء فاستثن، أو أنه اجتهد في الجميع. قوله:((لقينهم)) ((نه)): القين واحد القيون وهو الحداد والضائغ. قوله: ((إلا منشد)) ((نه)): المنشد هو المعرف، وأما طالبها فهو ناشد، وأصل النشد والإنشاد رفع الصوت.

ص: 2043

2717 -

وعن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يحل لأحدكم أن يحمل بكمة السلاح)) رواه مسلم.

2718 -

وعن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلي رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل وقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال: ((اقتله)) متفق عليه.

ــ

الحديث الثاني عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((لا يحل)). ((مح)): قال القاضي عياض: هذا محمول عند أهل العلم علي حمل السلاح لغير ضرورة ولا حاجة، فإذا احتيج إليه جاز. وهو مذهب مالك والشافعي وعطاء. وكرهه الحسن البصري تمسكا بظاهر الحديث.

وحجه الجمهور دخول النبي صلى الله عليه وسلم عام عمرة القضاء بما شرطه من السلاح في القراب، ودخوله صلى الله عليه وسلم عام الفتح متأهبا للقتال.

الحديث الثالث عن أنس رضي الله عنه: قوله: ((المغفر)) في الغريبين: المغفر والغفارة وقاية للرأس ينتفع بها المتسلح، وأصل الغفر التغطية. قوله:((جاء رجل)) ((تو)): هو فضلة بن عبيد أبو برزة الأسلمي. قوله: ((إن ابن خطل)) ((مح)): قالوا: إنما أمر بقتله؛ لأنه كان قد ارتد عن الإسلام وقتل ملسما كان يخدمه، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسبه، وكان له قينتان تغنيان بهجاء المسلمين. فإن قيل: وفي حديث آخر ((من دخل المسجد فهو آمن)) فكيف قتله وهو متعلق بأستار الكعبة؟ فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم استثناه وابن أبي سرح.

وفي هذا الحديث حجة لمالك والشافعي وموافقيهما في جواز إقامة الحدود والقصاص في حرم مكة، وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وتأول هذا الحديث بأنه قتله في الساعة التي أبيحت له.

وأجاب أصحابنا بأنها إنما أبيحت ساعة الدخول، حتى استولي عليها وأذعن أهلها، وإنما قتل ابن خطل بعد ذلك. وقيل: اسم ابن خطل عبد العزيز، وقيل: عبد الله، وقيل: غالب. قال أهل السير: قتله سعيد بن حريب.

الحديث الرابع عن جابر رضي الله عنه: قوله: ((عمامة سوداء)) ((مح)): قال القاضي عياض: وجه الجميع بين هذا الحديث والحديث السابق ((وعلي رأسه المغفر)) أنه صلى الله عليه وسلم دخل أولا وعلي رأسه المغفر، ثم بعد إزالة المغفر وضع العمامة، يدل عليه قوله:((خطب للناس وعليه عمامة سوداء))، لأن الخطبة كانت عند باب الكعبة. وفي قوله:((بغير إحرام)) دليل لمن يجوز الدخول

ص: 2044

2720 -

وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((] غزوا جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وأخرهم)). قلت: يا رسول الله! وكيف يخسف بأولهم وأخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال:((يخسف بأولهم وأخرهم، ثم يبعثون علي نياتهم)) متفق عليه.

2721 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة)) متفق عليه.

2722 -

وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:((كإني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً)) رواه البخاري.

ــ

بغير إحرام إذا لم يرد نسكا، سواء كان دخوله لحاجة تتكرر كالحطاب والسقاء والصياد وغيرهم، أم لا كالتاجر والزائر وغيرهما. وهذا أصح القولين للشافعي. وفيه جواز لباس الثياب السود في الخطبة، وإن كان البيض أفضل.

الحديث الخامس عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((فإذا كانوا ببيداء)) ((نه)): البيداء المفازة التي لا شيء فيها، وهي في هذا الحديث اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة. قوله:((أسواقهم)) ((نه)): السوقة من الناس الرعية، ومن دون الملك، وكثير من الناس يظنون أن السوقة أهل الأسواق. ((مظ)): الأسواق إن كان جمع سوق فتقديره: فيهم أهل أسواقهم، وإن كان جمع سوقه فلا حاجة إلي التقدير. ((ومن ليس منهم)) أي من ليس ممن يقصد تخريب الكعبة، بل هم الضعفاء والأسارى. أقول: فالعطف في ((ومن ليس منهم)) للتفسير والبيان. قوله: ((ثم يبعثون علي نياتهم)) أي يخسف الكل بشؤم الأشرار، ثم إنه تعالي يعامل مع كل منهم في المحشر بحسب نيته وقصده، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

الحديث السادس والسابع عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((ذو السويقتين)) ((نه)): السويقة تصغير الساق، وهي مؤنثة؛ فلذلك ظهرت التاء في تصغيرها، وإنما صغر الساقين؛ لأن الغالب علي سوق الحبشة الدقة [والحموشة]، أي يخربها رجل من الحبشة له ساقان دقيقتان. أقول: لعل السر في التصغير أن مثل هذه الكعبة المعظمة المحرمة، يهتك حرمتها مثل هذا الحقير الدميم الضعيف الخلقة. ينصر هذا التأويل الحديث الذي يتلوه ((كإني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا))؛ لأنه استحضار لتلك الحالة العجيبة الغريبة في الذهن تعجباً وتعجيبا للغير، نحوه قوله تعالي:{ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم} في وجه.

ص: 2045

الفصل الثاني

2723 -

عن يعلي بن أمية، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه)) رواه أبو داود. [2723]

2724 -

وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: ((ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك)). رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب إسناداً. [2724]

ــ

قوله: ((أسود أفحج)) ((نه)) الفحج تباعد ما بين الفخذين، وهو بتقديم الحاء علي الجيم، وفي إعرابه وجوه. ((تو)): حالان عن خبر ((كأن)) وإن لم يكن بفعل فإنه مشبه به، وإذا قيد منصوبة أو مرفوعة بالحال، كان تقييدا باعتبار معناه الذي أشبه الفعل أقول: وفيه نظر؛ لأنهما إذا كان حالين من خبر كأن وذو الحال إما المستقر المرفوع أو المجرور، ولا يجوز الأول لأن المعنى يأباه كل الإباء؛ فتعين الثاني، فالعامل هو متعلق الخبر.

((مظ)): هما بدلان من الضمير المجرور، وفتحا؛ لأنهما غير منصرفين، وعلي التقديرين يلزم إضمار قبل الذكر، اللهم إلا أن يقال: إن الضمير المجرور راجع إلي المذكور في حديث أبي هريرة. والأولي أن يقال: إنه ضمير مبهم يفسره ما بعده كقولك: ربه رجل. وقوله تعالي: {فقضاهن سبع سموات} - الكشاف-: يجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بـ ((سبع سموات))، ونصبه علي التمييز. و ((حجرا حجرا)) حال، كقولهم: بوبته بابا بابا.

الفصل الثاني

الحديث الأول عن يعلي: قوله: ((احتكار الطعام)) هو اشتراء القوت في حالة الغلاء؛ ليبيع إذا اشتد غلاؤه، فهو في سائر البلاد حرام، وفي مكة أشد تحريماً. و ((الإلحاد)) الميل عن الحق إلي الباطل. قال الله تعالي:{ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} . وإنما سماه ظلما؛ لأنه واد غير ذي زرع؛ فالواجب علي الناس أن يجلبوا إليها الأرزاق؛ لتتسع عليهم، كما قال الله تعالي:{وارزقهم من الثمرات} ، فمن اجتهد في تضييقهم بالاحتكار فقد ظلمهم، ووضع الشيء في غير موضعه.

ص: 2046

2725 -

وعن عبد الله بن عدي بن حمراء [رضي الله عنه]، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً علي الحزورة. فقال: ((والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي الله، ولولا إني أخرجت منك ما خرجت)). رواه الترمذي وابن ماجه. [2725]

ــ

الحديث الثاني والثالث عن عبد الله: قوله: ((الحزورة)) ((نه)): هو موضع بمكة عند باب الحناطين، وهو بوزن قسورة، قال الشافعي: الناس يشددون الحزورة والحديبية وهما مخففتان.

((تو)): في مجمع الأمثال للميدإني أن وكيع بن سلمة بن زهير بن إياد – وكان ولي أمر البيت بعد جرهم- بني صرحاً بأسفل مكة، وجعل فيه سلما يرقى فيه، ويزعم أنه يناجي الله فوق الصرح، وكان علماء العرب يرون أنه صديق من الصديقين. وكان قد جعل في صرحه ذلك أمة يقال لها: حزورة، وبها سمين حزورة مكة. أقول: قال في الحديث السابق: ((وأحبك إلي)) وفي هذا ((أحب أرض الله إلي الله)) نسب المحبة إلي نفسه أولا؛ لأنه مسقط رأسه، وموضع حل تمائمه. قال الأسدي:

أحب بلاد الله ما بين منعج

إلي وسلمى أن يصوب سحابها

بلاد بها حل الشباب تمائمي وأول أرض مس جلدي ترابها

ومن ثم من الله تعالي عليه بقوله: {إن الذي فرض عليك القرآن لرآدك إلي معاد} .

قيل: نزلت عليه صلى الله عليه وسلم حين بلغ الجحفة في مهاجرته، وقد اشتاق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم، فنزل جبريل، فقال له: أتشتاق إلي مكة؟ قال: ((نعم))، فأوحاها إليه. وأما نسبته إلي الله تعالي ثإنيا؛ فلأنه حرم الله تعالي المعظم {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} .

قوله: ((ما سكنت غيرك)) ((مظ)): قاله يوم فتح مكة. قال الشيخ أبو حامد في الإحياء: فلما عاد صلى الله عليه وسلم إلي مكة استقبل الكعبة وقال: ((إنك لخير أرض الله- الحديث)) وقيل: أراد بقوله: {لرآدك إلي معاد} رده إليها يوم فتح مكة. ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن، ومرجعاً له اعتداد؛ لغلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقهره لأهلها، ولظهور عز الإسلام وأهله، وذل الشرك وحزبه.

ص: 2047

الفصل الثالث

2726 -

عن أبي شريح العدوي، أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلي مكة: ائذن لي أيها الأمير! أحدثك قولاً به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به: حمد لله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماُ، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول

ــ

الفصل الثالث

الحديث الأول عن أبي شريح: قوله: ((يبعث البعوث)) وهي جمع بعث بمعني مبعوث الجماعة من الجند الذي يرسله الأمير إلي قتال وفتح بلاد. قوله: ((قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم) صفة للمصدر الذي هو بمعنى التحديث، و ((قام)) بمعنى القول، وإنما يقال: قام به إذا كان لذلك القول شأن وتفخيم.

((غب)): كثير من الأفعال التي حث الله علي توفية حقه ذكره بلفظ الإقامة كقوله تعالي: {يقيمون الصلاة} ، {ولو أنهم أقاموا التوراة} {وأقيموا الوزن بالقسط} وكذا قوله:((سمعته أذناي)) صفة أخرى. ((مح)): أراد بهذا كله المبالغة في تحقيق حفظه إياه. أقول: وإنما يقال هذا في أمر يعظم مناله ويعثر الوصول إليه. فيؤكد السمع بالأذن والحفظ بالقلب والإبصار بالعين؛ ليؤذن بنيله وتحققه. و ((حمد لله)) بيان لقوله: ((تكلم)).

قوله: ((ولم يحرمها الناس)) ((مح)): أي إن تحريمها بوحي الله، لاباصطلاح الناس عليه بغير أمر الله. أقول: إنما وصف قوله: ((لامرئ)) بالإيمان؛ ليشعر بالعلية، يعني من شأن المؤمن بالله أن لا يخالف أمر الله، ولا يحل ما حرمه الله.

قوله: ((فإن أحد ترخص)) ((ترخص)) مفسر لرافع ((أحد))، كقوله تعالي:{وإن أحد من المشركين استجارك} . وقوله: ((فقولوا)) جواب الشرط، والجملة من الجواب العتيد الذي هيئ قبل مساس الحاجة إليه، فهو أقطع للخصم وأرد لشغبة؛ ولهذا أدرج النظار في أثناء مناظرتهم العمل بالمقتضى الذي هو كذا السالم عن معارضة كذا، فيسلقون دار المعارض قبل الخصم له، فلما سمع عمرو ذلك، رده بقوله: أنا أعلم بذلك منك، يعني صح سماعك وحفظك، وإيرادك المعارضة علي الخصم، لكن ما فهمت المعنى المراد من المقاتلة، فإن ذلك

ص: 2048

الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقولوا له: إن الله قد أذن لرسوله، ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب)) فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح! إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارا بدم، ولا فارا بخربة. متفق عليه، وفي البخاري: الخربة: الجناية.

2727 -

وعن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها، فإذا ضيعوا ذلك هلكوا)) رواه ابن ماجه. [2727]

ــ

الترخص كان بسبب الفتح عنوة، وليس بسبب قتل من استحقه خارج الحرم، والذي أنا بصدده من القبيل الثاني لا من الأول، فكيف تنكر علي؟ فهو من القول بالموجب. ((مح)): كان ذلك البعث من عمرو بن سعيد إلي مكة لقتال ابن الزبير، وفيه دلالة لمن يقول: فتحت مكة عنوة، وتأويله عند من قول: فتحت صلحا، أنه صلى الله عليه وسلم دخلها متهيئاً للقتال لو احتاج إليه. وقد سبق بيانه في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

و ((الخربة)) تروى بفتح الخاء وإسكان الراء، هذا هو المشهور. ويقال: بالضم، وأصلها سرقة الإبل، وتطلق علي كل جناية. وفي صحيح البخاري أنها البلية. وقال الخليل: هي الفساد في الدين، من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض. وقيل: هي العيب انتهي كلامه.

فإن قلت: قوله: ((لي)) علي التكلم في قوله: ((وإنما أذن لي)) بعد قوله: ((بقتال رسول الله)) هل يسمى التفاتا؟ قلت: لا؛ لأن السياق في قوله: ((بقتال رسول الله)) حكاية قول المترخص، وسياق هذا البيان الأول الذي تضمنه جواب المترخص، وقضية الالتفات والانتقال من صيغة إلي أخرى تقتضي اتحاد السياق. ويجوز أن يكون التفاتا إذا قدر: فإن ترخص أحد بقتالي، فوضع ((رسول الله)) موضعه تجريدا.

الحديث الثاني عن عياش: قوله: ((هذه الحرمة)) إن كان المشار إليه قد سبق من ذكر حرم الله تعالي، إما بقرينة المقام أو الكلام فلا مقال فيه، وإن كان ما في ذهن المتكلم، فيجب بيانه بعد ذلك، كما في قوله تعالي:{هذا فراق بيني وبينك} وقولك: هذا أخوك. اللهم إلا أن يقال: إن الحرمة المعظمة المعهودة عند العرب قاطبة هي حرمة بيت الله وبلده الحرام؛ ولذلك جعل مقيسا عليه ومشبها به، كما مر مراراً.

ص: 2049