المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(3) باب دخول مكة والطواف - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٦

[الطيبي]

الفصل: ‌(3) باب دخول مكة والطواف

عطاء: قال جابر: فقدم علي من سعايته فقال: بم أهللت؟ قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فأهد وامكث حراماً)) قال: وأهدى له علي هدياً، فقال سراقة بن مالك بن جعشم: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ قال: ((لأبد)). رواه مسلم.

2560 -

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع مضين من ذي الحجة. أو خمس، فدخل علي وهو غضبان فقلت: من أغضبك يا رسول الله! أدخله الله النار. قال: ((أو ما شعرت إني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون، ولو إني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحل كما حلوا)). رواه مسلم.

(3) باب دخول مكة والطواف

الفصل الأول

2561 -

عن نافع، قال: إن ابن عمر كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى

ــ

وأطعنا)) بعد التحليل، ويوضحه الحديث الذي بعده. قوله:((من سعايته)) ((نه)): أي توليه استخراج الصدقات من أربابها، وبه سمي عامل الصدقات الساعي.

الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((من أغضبك)) ((من)) يجوز أن تكون شرطية، وجوابه ((أدخله الله))، وأن تكون استفهامية علي سبيل الإنكار. وقوله:((أدخله الله)) علي هذا لا يكون إلا الدعاء بخلاف الأول، فإنه يحتمل الدعاء والإخبار. ((مح)): وإنما غضب صلى الله عليه وسلم لهتك حرمة الشرع، وترددهم في قبول حكمه، وتوقفهم في أمره، وقد قال الله تعالي:{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} . وفيه دلالة علي استحباب الغضب عند هتك حرمة الدين، وجواز الدعاء علي المخالف. ((حتى أشتريه)) هي بمعنى كي، و ((أشتريه)) منصوب به.

باب دخول مكة والطواف

الفصل الأول

الحديث الأول عن نافع: قوله: ((بذي طوى)) اسم بئر في طريق المدينة. ((مح)): هو بفتح

ص: 1975

يصبح ويغتسل ويصلي، فيدخل مكة نهاراً، وإذا نفر منها مر بذي طوى وبات بها حتى يصبح، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، متفق عليه.

2562 -

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلي مكة دخلها من أعلاها، وخرج من أسفلها متفق عليه.

2563 -

وعن عروة بن الزبير، قال: قد حج النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرتني عائشة أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ، ثم طاف بالبيت، ثم لم تكن عمرة ثم حج أبو بكر، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة. ثم عمر. ثم عثمان مثل ذلك. متفق عليه.

ــ

الطاء وضمها وكسرها والفتح أفصح وأشهر، وهي موضع بقرب مكة، وتصرف، وفيه استحباب دخول مكة نهاراً ليرى البيت ويدعو، والاغتسال بذي طوى لدخولها، أو يقدر بقدرها من لم يكن في طريقها. قوله:((فيدخل)) الرواية بالنصب، ((والفاء)) للتعقيب، ((وحتى)) بمعنى كي، أي بات بها ليجمع بين هذه الأشياء، وإنما أتى بحرف التعقيب ليؤذن بالترتيب في مدخوله. ويجوز فيه الرفع، ((والفاء)) للسببية، ((وحتى)) بمعنى إلي أن، وهذا الوجه وإن كان ظاهراً، ولكن الأول أدق معنىً لاستدعاء الحصر بـ ((ما)) و ((إلا)) تخصيص البيتوتة بذي طوى وأنه لم يكن إلا لتلك الأغراض. وفيه: أن الخصال الثلاث الأول كالمقدمات للأخيرة، ومستتبعات لها.

قوله: ((ويذكر)) عطف علي خبر ((كان))، أي كان يذكر، أي كان ابن عمر يجمع بين هذه الأفعال، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها.

الحديث الثاني عن عائشة رضي الله عنها: قوله: ((دخلها من أعلاها)) ((مح)): قيل: إنما فعل صلى الله عليه وسلم هذه المخالفة في طريقه داخلاً وخارجاً، للفأل بتغير الحال إلي أكمل منه، كما فعل في العيد، وليشهد له الطريقان، وليتبرك أهلها به. ويستحب عندنا دخول مكة من الثنية العليا، والخروج من السفلي، ولا فرق بين أن تكون هذه الثنية علي طريقه كالمدني، أو لا تكون كاليمني، [وهكذا] يستحب أن يخرج من بلده من طريق ويرجع من أخرى.

الحديث الثالث عن عروة رضي الله عنه: قوله: ((فأخبرتني)) الفاء فيه كالتفصيل للمجمل،

فأخبر عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حج، ثم فصله بإخبار عائشة رضي الله عنها، ونظيره قوله تعالي:

{إن فاءوا} بعد قوله تعالي: {للذين يؤلون من نسائهم} قوله: ((إنه توضأ)) ((مح)): فيه

ص: 1976

2564 -

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم سعى ثلاثة أطواف ومشى أربعة، ثم سجد سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة. متفق عليه.

2565 -

وعنه، قال: رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلي الحجر ثلاثاً، ومشى أربعاً، وكان يسعى ببطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة. رواه مسلم.

ــ

دليل إثبات الوضوء للطواف، وفد أجمعت الأمة علي شرعيته، لكن اختلفوا في أنه واجب وشرط لصحته أم لا؛ فقال الجمهور من الفقهاء: هو شرط لصحته، وقال أبو حنيفة: مستحب، وليس بشرط، واحتج الجمهور بهذا الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، ثم قال صلى الله عليه وسلم:((لتأخذوا عني مناسككم))، وفي حديث ابن عباس في الترمذي وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام))، ولكن الحديث في رفعه ضعف، ويحصل به الدلالة مع أنه موقوف؛ لأنه قول صحابي انتشر بلا مخالفة، فهو حجة علي الصحيح. ((مظ)): قال أبو حنيفة: إن طاف محدثاً، أو مكشوف العورة، أو متنجساً لزمه الإعادة، فإن لم يعد حتى خرج من مكة لزمه دم، وصح طوافه.

قوله: ((ثم لم تكن عمرة)) ((كان)) تامة، أي ثم لم توجد بعد الطواف عمرة. ((مح)): قال القاضي عياض: في جميع النسخ ((لم يكن غيره)) بالغين المعجمة والياء، وهو تصحيف، وصوابه ((لم تكن عمرة))، كأن هذا رد لمن يأل عن فسخ الحج إلي العمرة، واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجة الوداع، فأعلمه أن البي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك بنفسه، ولا من جاء بعده. قلت: وفي قوله: ((تصحيف)) نظر، بل هو صحيح رواية ومعنى؛ لأن الكلام إذا كان رداً، ورد العام بتناول الخاص، يعني ثم لم يكن بعد الطواف غيره، أي لم يغير الحج ولم ينقله ويفسخه إلي غيره، لا عمرة ولا قران- انتهي كلامه. فظهر من هذا أن قوله:((ثم لم تكن عمرة)) إلي آخره من كلام عروة بن الزبير.

الحديث الرابع عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إذا طاف)) ((إذا)) شرطية خبر ((كان))، وجزاؤه ((سعى)) و ((أول)) ظرف سعى قدم عليه، و ((ثلاثة)) منصوب صفة لمصدر محذوف، وقوله:((ثم يطوف)) أتى بالفعل المضارع استحضاراً لتلك الحالة، المعنى أنه صلى الله عليه وسلم إذا طاف سعى أول قدومه ثلاث أطواف. وقوله:((ثم سجد سجدتين)) أي صلي ركعتين. ((شف)): فيه دلالة علي استحباب الرمل في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم، والهينة في الأربعة الأخيرة.

ص: 1977

2566 -

وعن جابر، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه، ثم مشى علي يمينه، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً. رواه مسلم.

2567 -

وعن الزبير بن عربي، قال: سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر. فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله. رواه البخاري.

2568 -

وعن ابن عمر، قال: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمإنيين. متفق عليه.

2569 -

وعن ابن عباس، قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع علي بعير، يستلم الركن بمحجن. متفق عليه.

2570 -

وعنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت علي بعير، كلما أتى علي الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر. رواه البخاري.

ــ

الحديث الخامس إلي السابع عن الزبير رضي الله عنه: قوله: ((يستلمه ويقبله)) ((فا)): هو افتعل من السلمة بكسر اللام، وهي الحجر، وهو أن يتناوله بلمس أو تقبيل، أو إدراك بعصا. أقول: فقوله: ((يقبله)) قرينة دالة علي حصول هذا النوع من الاستلام، أو جمع بين النوعين منه.

الحديث الثامن عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((إلا الركنين اليمإنيين)) ((مح)): واللغة الفصيحة المشهورة تخفيف الياء، وفيه لغة أخرى بالتشديد، فمن خفف قال: هذه نسبة إلي اليمن، والألف عوض من إحدى يائي النسب، فتبقى الياء الأخرى مخففة، ولو شددت لجمع بين العوض والمعوض، والركنان اليمإنيان هما الركن الأسود والركن اليمإني، وإنما قيل لهما: اليمإنيان للتغليب، كما قيل: الأبوان، والعمران، والقمران، والركنان الآخران يقال لهما: الشاميان، والركنان الأسود واليمإني فيهما فضيلتان، إحداهما: كونهما من بناء إبراهيم، والثانية: كون الحجر في أحدهما، وليس في الآخرين ذلك، فلا يقبلان ولا يستلمان. والقادر علي تقبيل الحجر الأسود لا يقتصر علي تقبيل اليد، وإذا عجز جاز الاقتصار، ويستحب عندنا أن يستلمه ثم يقبله، ثم يضع جبهته عليه، وبه قال الجمهور من الصحابة والتابعين، وانفرد مالك، فقال: السجود عليه بدعة. ((شف)): وإنما لم يستلم النبي صلى الله عليه وسلم من الأركان الأربعة إلا الركنين اليمإنيين؛ لأنهما بقيا إلي الآن علي بناء إبراهيم عليه السلام، دون الشاميين، فإنهما ما بقيا علي بنائه عليه السلام، وكذا عن المظهر.

الحديث التاسع إلي الحادي عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((بمحجن)) ((نه)):

ص: 1978

2571 -

وعن أبي الطفيل، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن. رواه مسلم.

2572 -

وعن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج. فلما كنا بسرف طمثت، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال:((لعلك نفست؟)) قلت: نعم. قال: ((فإن ذلك شيء كتبه الله علي بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج؛ غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) متفق عليه.

ــ

هو عصا معقفة الرأس كالصولجان، والميم زائدة. ((قض)) فيه دليل علي جواز الطواف راكباً، والمشي فيه أفضل، وإنما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع؛ لأن الناس غشوه، وازدحموا عليه، فركب ليشرف لهم ويراه القريب والبعيد، وأن الطائف إذا عسر عليه الاستلام باليد، فله الاستلام بسوط ونحوه.

((تو)): لما كان من حق الملوك علي من ينتابهم من الوفود، أن يقبلوا أيمانهم، وكان الحجر للبيت بمثابة اليد اليمنى، شرع التقبيل للوافدين إليه إقامة لشرط التعظيم، فإن منع مانع فالسنة فيه أن يشير إليه بيده، ثم يقبل يده، والمعنى: إني رمت التقبيل فحجزني عنه حاجز، فها أنا أقبل اليد التي تشرفت بالإشارة إليك مكان ما قد فاتني، وقد وجد في تقبيل النبي صلى الله عليه وسلم المحجن من التعظيم ما لا يوجد في تقبيل اليد نفسها؛ لأنه أبلغ في بيان القصد.

الحديث الثاني عشر عن عائشة: قوله: ((لا نذكر)) أي لم يخطر ببالنا غير الحج.

وقوله: ((غير أن لا تطوفي)) استثناء من المفعول به، و ((لا)) زائدة لتأكيد النفي. قوله:((بسرف)) ((مح)): هو- بفتح السين المهملة وكسر الراء- ما بين مكة والمدينة بقرب مكة علي أميال منها، قيل: ستة أميا أو أكثر إلي اثني عشر ميلاً، وقوله:((طمثت)) هو بفتح الطاء وكسر الميم، أي حضت و ((نفست))، أي حضت- بفتح النون وضمها- والفتح أفصح، وأما الولادة فيقال فيه: نفست بالضم لا غير.

وقوله: ((هذا شيء كتبه الله علي بنات آدم)) تسلية لها وتخفيف، أي ليست مختصة به، بل كل بنات آدم مبتلاة به. وفي قوله:((فافعلي ما يفعل الحاج)) دليل علي أن الحائض والنفساء والمحدث والجنب يصح منهم جميع أفعال الحج، وأقواله وهيئاته، إلا الطواف. واختلفوا في علة المنع من الطواف، فمن شرط الطهارة للطواف، كمالك والشافعي وأحمد، قال: العلة في بطلان طواف الحائض عدم الطهارة، ومن لم يشترطها كأبي حنيفة قال: العلة فيه كونها ممنوعة من اللبث في المسجد.

ص: 1979

2573 -

وعن أبي هريرة، قال: بعثني أبو بكر في الحجة التي أمره النبي صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط، أمره أن يؤذن في الناس:((ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان)). متفق عليه.

الفصل الثاني

2574 -

عن المهاجر المكي، قال: سئل جابر عن الرجل يرى البيت يرفع يديه. فقال قد حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله. رواه الترمذي، وأبو داود.

2575 -

وعن أبي هريرة، قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة، فأقبل إلي الحجر، فاستلمه، ثم طاف بالبيت، ثم أتى الصفا فعلاه حتى ينظر إلي البيت، فرفع يديه، فجعل يذكر الله ما شاء ويدعو. رواه أبو داود. [2575]

ــ

الحديث الثالث عشر عن أبي هريرة رضي الله عنه: قوله: ((أمره أن يؤذن)) الضمير راجع إلي الرهط باعتبار اللفظ، ويجوز أن يكون لأبي هريرة علي الالتفات. قوله:((يوم النحر)) فيه دليل علي أن المراد بالحج الأكبر في قوله تعالي: {وأذان من الله ورسوله إلي الناس يوم الحج الأكبر} يوم النحر؛ لأن فيه معظم المناسك.

قوله: ((ألا لا يحج بعد العام مشرك)) ((مح)): هو من قوله تعالي: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} والمراد بالمسجد الحرام حرم الله، فلا يمكن مشرك من دخوله ولو جاء في رسالة، أو أمر مهم، بل يخرج إليه من يقضي الأمر المتعلق به، ولو دخل خفية ومات، نبش وأخرج من الحرم. وإنما منع طواف العريان لما كانت الجاهلية عليه، وعن طاوس: كان أحدهم يطوف بالبيت عرياناً، وإن طاف وهي عليه ضرب، وانتزعت منه؛ لأنهم قالوا: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها. وقيل: تفاؤلاً ليتعروا من الذنوب، كما تعروا من الثياب.

الفصل الثاني

الحديث الأول عن المهاجر: قوله: ((عن الرجل)) أي عن حال الرجل، و ((يرى البيت)) حال من ((الرجل)))) ويرفع)) حال أخرى إما مترادفة، أو متداخلة. ((مظ)): وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة إلي هذا، وقال أحمد وسفيان الثوري: يرفع اليدين من رأي البيت ويدعو.

ص: 1980

2576 -

وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((الطواف حول البيت مثل الصلاة؛ إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير)). رواه الترمذي، والنسائي، والدارمي، وذكر الترمذي جماعة وقفوه علي ابن عباس [2576].

2577 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم)). رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح. [2577]

ــ

الحديث الثاني والثالث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((إلا أنكم)) يجوز أن يكون الاستثناء متصلاً، أي الطواف كالصلاة، في الشرائط من الطهارة وستر العورة ونحوهما إلا في التكلم ويجوز أن يكون منقطعاً أي الطواف مثل الصلاة لكن رخص لكم التكلم فيه؛ لأن عادتكم التكلم. ودليل الترخيص قوله صلى الله عليه وسلم:((فلا يتكلمن إلا بخير)) أي إذا كان لابد من الكلام، فلا يتكلمن إلا بخير.

الحديث الرابع عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((الحجر الأسود)) ((قض)): لعل هذا الحديث جار مجرى التمثيل، والمبالغة في تعظيم شأن الحجر، وتفظيع أمر الخطايا والذنوب، والمعنى أن الحجر لما فيه من الشرف والكرامة، وما فيه من اليمن والبركة، يشارك جواهر الجنة، فكأنه نزل منها، وإن خطايا بني آدم تكاد تؤثر في الجماد، فتجعل المبيض منها مسوداً، فكيف بقلوبهم؟ أو لأنه من حيث أنه مكفر للخطايا، محاء للذنوب، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يزاحم علي الركنين، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن مسحهما كفارة للخطايا))، كأنه من الجنة، ومن كثرة تحمله أوزار بني آدم، صار كأنه كان ذا بياض شديد فسودته الخطايا. هذا، واحتمال إرادة الظاهر غير مدفوع عقلاً، ولا سمعاً. والله أعلم بالحقائق.

((مظ)): في الحديث فوائد، منها امتحان إيمان الرجل، فإن كان كامل الإيمان يقبل هذا فلا يتردد، وضعيف الإيمان يتردد، والكافر ينكر، ومنها التخويف، فإن الرجل إذا علم أن الذنوب تسود مسح الحجر يحترز من الذنب، كيلا يسود بدنه بشؤمه. ومنها التحريض علي التوبة، ومنها الترغيب في مسح الحجر لينالوا بركته، فتنتقل ذنوبهم من أبدانهم إليه.

الحديث الخامس عن ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: ((ليبعثنه الله)) ((قض)): شبه خلق

ص: 1981

2578 -

وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر: ((والله ليبعثنه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، يشهد علي من استلمه بحق)). رواه الترمذي، وابن ماجه والدارمي. [2578]

2579 -

وعن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب)). رواه الترمذي [2579]

ــ

الحياة والنطق فيه بعد أن كان جماداً لا حياة فيه، بنشر الموتى وبعثها، وذلك لا امتناع فيه، فإن الأجسام متساوية في الجسمية، وقبول الأعراض التي منها الحياة والنطق، والله سبحانه قادر علي جميع الممكنات، لكن الأغلب علي الظن أن المراد منه تحقيق ثواب المستلم، وأن سعيه لا يضيع، وأن أجره لا يفوت عنه. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه:((أذن وارفع صوتك؛ فإنه لا يسمع صوتك حجر ولا مدر إلا شهد ل كبه يوم القيامة)). والمراد من المستلم الحق، من استلم اقتفاء لأثره وامتثالاً لأمره.

أقول: يشهد للوجه الأول شهادة لا ترد تصدير الكلام بالقسم، وتأكيد الجواب بالنون، لئلا يظن خلاف الظاهر. و ((علي)) في ((يشهد علي من استلمه)) مثلها في قوله تعالي:{ويكون الرسول عليكم شهيداً} أي رقيباً حفيظاً عليكم، يزكيكم في شهادتكم علي الناس؛ فالمعنى يحفظ علي من استلم أحواله شاهداً ومزكياً له، ويجوز أن يتعلق بقوله:((يشهد)) أي يشهد بحق علي من استلمه بغير حق، كالكافر والمستهزئ، ويكون خصمه يوم القيامة، ويشهد بحق لمن استلمه بحق كالمؤمن المعظم حرمته.

الحديث السادس عن ابن عمر رضي الله عنهما: قوله: ((ياقوتتان)) ((مظ)): لما كان الياقوت من أشرف الأحجار، ثم كان بعد ما بين ياقوت هذه الدار الفإنية وياقوت الجنة أكثر ما بين الياقوت وغيره من الأحجار، أعلمنا أنهما من ياقوت الجنة؛ لنعلم أن المناسبة الواقعة بينهما وبين الأجزاء الأرضية في الشرف والكرامة، والخاصية المجعولة بينهما، كما بين ياقوت الجنة وسائر الأحجار. وذلك مما لا يدرك بالقياس.

أقول: قد سبق مراراً أن هذا النوع من الكلام ليس بتشبيه، ولا استعارة، وإنما هو من وادي

قولهم: القلم أحد اللسإنين، فـ ((من)) في ((من ياقوت الجنة)) بيإنية، فإذن الياقوت نوعان:

ص: 1982

2580 -

وعن عبيد بن عمير: أن ابن عمر كان يزاحم علي الركنين زحاماً ما رأيت أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزاحم عليه. قال: إن أفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن مسحهما كفارة للخطايا)) وسمعته يقول: ((من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه كان كعتق رقبة)). وسمعته يقول: ((لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة وكتب له بها حسنة)). رواه الترمذي [2580].

2581 -

وعن عبد الله بن السائب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما بين الركنين: ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)) رواه أبو داود. [2581]

2582 -

وعن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني بنت أبي تجراة، قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين، ننظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي وسمعته يقول:((اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي)). رواه في ((شرح السنة)) ورواه أحمد مع اختلاف.

ــ

متعارف وغير متعارف، وهذا من غير المتعارف، ولذلك أثبت له ما ليس للمتعارف، من إضاءة ما بين المشرق والمغرب. وبهذا ظهر أن قول من قال: إن الحجر الأسود ليس من الجنة ضعيف. قوله: ((طمس الله نورهما)) ((مظ)): أي أذهب الله نورهما؛ ليكون إيمان الناس بكونهما حقاً ومعظماً عند الله إيماناً بالغيب، ولو لم يطمس نزرهما، لكان الإيمان بهما إيماناً بالشهادة، والإيمان الموجب للثواب هو الإيمان بالغيب.

الحديث السابع عن عبيد الله بن عمير. قوله: ((يزاحم علي الركنين)) عدى بـ ((علي)) تضميناً لمعنى الغلبة، أي كان يغالب الناس علي الركنين زحاماً عظيماً. قوله:((إن أفعل فإني سمعت)) قال معتذراً، أي إنكاركم علي سبب إخباري إياكم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل علي الإنكار قوله:((ما رأيت أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزاحم عليه)). قوله: ((فأحصاه)) أي من طاف بهذا البيت حق طوافه، بأن يوفي سننه، وآدابه، وواجباته، من الطهارة، وستر العورة، والصلاة، ويستمر عليه أسبوعاً، أي سبع مرات كان كذا.

الحديث الثامن والتاسع عن صفية: قوله: ((كتب عليكم السعي)) أي فرض عليكم السعى،

ص: 1983

2583 -

وعن قدامة بن عبد الله بن عمار، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة علي بعير، لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك. رواه في ((شرح السنة)). [2583]

2584 -

وعن يعلي بن أمية، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت مضطبعاً ببرد أخضر. رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي. [2584]

2585 -

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت ثلاثاً، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها علي عواتقهم اليسرى. رواه أبو داود. [2585]

ــ

ومن لم يسع لم يصح حجه عند الشافعي ومالك وأحمد رضي الله عنهم، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: هو تطوع. الكشاف: اختلف في السعي، فمن قائل: هو تطوع بدليل رفح الجناح، ويروى ذلك عن أنس وابن عباس وابن الزبير، وعن أبي حنيفة أنه واجب، وليس بركن، وعلي تاركه دم، وعند مالك والشافعي هو ركن لهذا الحديث.

الحديث العاشر عن قدامة: قوله: ((لا ضرب)) أي لا ضرب هناك، ولا طرد، ولا قول ((إليك إليك))، كما هو من عادة الملوك والجبابرة، و ((إليك)) هنا من أسماء الأفعال، معناه تنح عني.

أقول: في هذا الكلام رائحة تعريض بمن كان يفعل بين يديه هذه الأفعال، وإلا كان الراوي مستغنياً عن هذا الإخبار، لأنه كان من المعلوم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان مبرأ من هذا.

الحديث الحادي عشر والثاني عشر عن يعلي: قوله: ((مضطبعاً)) ((نه)): الضبع بسكون الباء وسط العضد، وقيل: هو ما تحت الإبط، والاضطباع أن يأخذ الإزار أو البرد، فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن، ويلقي طرفيه علي كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره، وسمي بذلك، لإبداء الضبعين ويقال: للإبط الضبع للمجاورة. قيل: إنما فعل ذلك إظهاراً للتشجيع كالرمل في الطواف.

ص: 1984

الفصل الثالث

2586 -

عن ابن عمر، قال: ما تركنا استلام هذين الركنين: اليمإني والحجر في شدة ولا رخاء منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما. متفق عليه.

2587 -

وفي رواية لهما: قال نافع: رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.

2588 -

وعن أم سلمة، قالت: شكوت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أشتكي. فقال: ((طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)) فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلي جنب البيت يقرأ بـ {والطور وكتاب مسطور} متفق عليه.

2589 -

وعن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبل الحجر ويقول: إني لأعلم أنك حجر ما تنفع ولا تضر، ولولا إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ما قبلتك. متفق عليه.

ــ

الفصل الثالث

الحديث الأول والثاني عن أم سلمة رضي الله عنها: قوله: ((إني أشتكي)) مفعول شكوت أي شكوت مرضي. ((نه)): الشكو، والشكوى، والشكاة، والشكاية المرض.

قوله: ((يصلي إلي جنب البيت)) أي مستقبلاً إلي جنبه. ((مح)): كانت هذه الصلاة صلاة الصبح.

الحديث الثالث عن عابس: قوله: ((إنك حجر)) اعلم أتهم ينزلون نوعاً من أنواع الجنس بمنزلة جنس آخر باعتبار اتصافه بصفة مختصة به؛ لأن تغاير الصفات بمنزلة التغاير في الذات، فقوله:((أعلم أنك حجر)) شهادة له بأنه من هذا الجنس، وقوله:((ما تنفع ولا تضر)) تقرير وتأكيد بأنه حجر كسائر الأحجار. وقوله: ((لولا إني رأيت)) إلي آخره إخراج له من الجنس باعتبار تقبيله صلى الله عليه وسلم.

((مح)): إنما قال ذلك؛ لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين ألفوا عبادة الأحجار

وتعظيمها، ورجاء نفعها وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها، فخاف رضي الله عنه أن يراه

بعضهم يقبله فيفتتن به، فبين أنه لا يضر ولا ينفع بذاته، وإنما كان امتثال ما شرع فيه ينفع باعتبار

الجزاء والثواب، وليشيع في الموسم فيشتهر في البلدان المختلفة. وفيه الحث علي الاقتداء

ص: 1985