الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ عُقِدَ عَقْدُ الْخَلِيفَةِ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ أَخِي السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَكَ وَقِيلَ: ابْنَةُ أَخِيهِ دَاوُدَ، وَاسْمُهَا خَدِيجَةُ، الْمُلَقَّبَةُ أَرْسَلَانَ خَاتُونَ، عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَحَضَرَ هَذَا الْعَقْدَ عَمِيدُ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيُّ وَزِيرُ طُغْرُلْبَكَ، وَنَقِيبُ الْعَلَوِيِّينَ، وَنَقِيبُ الْهَاشِمِيِّينَ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ الدَّامَغَانِيُّ، وَأَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَرَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ ابْنُ الْمُسْلِمَةِ وَهُوَ الَّذِي خَطَبَ الْخُطْبَةَ، وَقَبِلَ الْخَلِيفَةُ الْعَقْدَ، فَلَمَّا كَانَ شَعْبَانُ ذَهَبَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ إِلَى الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ وَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . وَقَدْ أَذِنَ فِي نَقْلِ الْوَدِيعَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى دَارِهِ الْعَزِيزَةِ. فَقَالَ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ. فَذَهَبَتْ أُّمُّ الْخَلِيفَةِ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ لِاسْتِدْعَاءِ الْعَرُوسِ، فَجَاءَتْ مَعَهَا، وَفِي خِدْمَتِهَا الْوَزِيرُ عَمِيدُ الْمُلْكِ وَالْحَشَمُ، فَدَخَلُوا دَارَهُ، وَشَافَهَ الْخَلِيفَةَ ابْنُ عَمِّهَا يَسْأَلُ مُعَامَلَتَهَا بِاللُّطْفِ وَالْإِحْسَانِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَبَّلَتِ الْأَرْضُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِرَارًا، فَأَدْنَاهَا إِلَيْهِ، وَأَجْلَسَهَا إِلَى جَانِبِهِ، وَأَفَاضَ عَلَيْهَا خِلْعَةً سَنِيَّةً وَتَاجًا مِنْ جَوْهَرٍ، وَأَعْطَاهَا مِنَ
الْغَدِ مِائَةَ ثَوْبٍ دِيبَاجًا، وَقَصَبَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَطَاسَةَ ذَهَبٍ قَدْ نَبَتَ فِيهَا الْجَوْهَرُ وَالْيَاقُوتُ وَالْفَيْرُوزَجُ، وَأَقْطَعَهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ عَمَلِ الْفُرَاتِ اثْنَيْ عَشْرَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ بِبِنَاءِ دَارِ الْمُلْكِ الْعَضُدِيَّةِ، فَخَرِبَتْ مَحَالٌّ كَثِيرَةٌ فِي عِمَارَتِهَا، وَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ أَخْشَابًا كَثِيرَةً بِسَبَبِهَا مِنْ دُورِ الْأَتْرَاكِ وَالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَبَاعُوهُ عَلَى الْخَبَّازِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ وَخَوْفٌ وَنَهْبٌ كَثِيرٌ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ عَقِبَ ذَلِكَ فَنَاءٌ عَظِيمٌ بِحَيْثُ دُفِنَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِغَيْرِ غَسْلٍ وَلَا تَكْفِينٍ، وَغَلَتِ الْأَشْرِبَةُ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْضَى كَثِيرًا، وَاغْبَرَّ الْجَوُّ، وَفَسَدَ الْهَوَاءُ، وَكَثُرَ الذُّبَابُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ ": وَعَمَّ هَذَا الْوَبَاءُ وَالْغَلَاءُ مَكَّةَ وَالْحِجَازَ وَدِيَارَ بَكْرٍ وَالْمَوْصِلَ وَبِلَادَ الرُّومِ وَخُرَاسَانَ وَالْجِبَالَ وَالدُّنْيَا كُلَّهَا. هَذَا لَفَظُهُ فِي " الْمُنْتَظَمِ ". قَالَ: وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنْ مِصْرَ أَنَّ ثَلَاثَةً مِنَ اللُّصُوصِ نَقَبُوا بَعْضَ الدُّورِ، فَوُجِدُوا عِنْدَ الصَّبَاحِ مَوْتَى ; أَحَدُهُمْ عَلَى بَابِ النَّقْبِ، وَالثَّانِي عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ، وَالثَّالِثُ عَلَى الثِّيَابِ الْمُكَوَّرَةِ.
وَفِيهَا أَمَرَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ بِأَنْ تُنْصَبُ أَعْلَامٌ سُودٌ فِي الْكَرْخِ، فَانْزَعَجَ أَهْلُهُ لِذَلِكَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَذِيَّةِ لِلرَّافِضَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُدَافِعُ عَنْهُمْ عَمِيدُ الْمُلْكِ
الْكُنْدُرِيُّ وَزِيرُ طُغْرُلْبَكَ.
وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، وَارْتَفَعَتْ سَحَابَةٌ تُرَابِيَّةٌ، فَأَظْلَمَتِ الدُّنْيَا، وَاحْتَاجَ النَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ إِلَى السُّرُجِ فِي النَّهَارِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " وَفِيهَا فِي الْعَشْرِ الثَّانِي مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ ظَهَرَ وَقْتَ السَّحَرِ نَجْمٌ لَهُ ذُؤَابَةٌ طُولُهَا فِي رَأْيِ الْعَيْنِ نَحْوٌ مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَفِي عَرْضِ نَحْوِ الذِّرَاعِ، وَلَبِثَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ إِلَى النِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ ثُمَّ اضْمَحَلَّ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ طَلَعَ مِثْلُ هَذَا بِمِصْرَ فَمُلِكَتْ. وَكَذَلِكَ بَغْدَادُ لَمَّا طَلَعَ فِيهَا هَذَا مُلِكَتْ وَخُطِبَ بِهَا لِلْمِصْرِيِّينَ.
وَفِيهَا أُلْزِمَ الرَّوَافِضُ بِتَرْكِ الْأَذَانِ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَأُمِرُوا أَنْ يُنَادِيَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الصُّبْحِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ: الصَّلَاةُ خَيْرُ مِنَ النَّوْمِ، مَرَّتَيْنِ، وَأُزِيلَ مَا كَانَ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِهِمْ وَمَشَاهِدِهِمْ وَأَبْوَابِهِمْ مِنْ كِتَابَةِ: مُحَمَّدٌ وَعْلِيٌّ خَيْرُ الْبَشَرِ. وَدَخَلَ الْمُنْشِدُونَ مِنْ بَابِ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكَرْخِ، فَأَنْشَدُوا بِفَضَائِلِ الصَّحَابَةِ فِي مَدَائِحَ لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّوْءَ الْأَوَّلَ اضْمَحَلَّ ; كَانَتْ بَنُو بُوَيْهِ تُقَوِّيهِمْ وَتَنْصُرُهُمْ، فَزَالُوا وَبَادُوا، وَأَذْهَبَ اللَّهُ دَوْلَتَهُمْ، وَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الْأَتْرَاكِ السَّلْجُوقِيَّةِ يُحِبُّونَ السُّنَّةَ وَيُوَالُونَ أَهْلَهَا، وَيَعْتَرِفُونَ بِرِفْعَةِ قَدْرِهَا، وَيَرْفَعُونَ مَحَلَّهَا، وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ أَبَدًا عَلَى طُولِ الْمَدَى.
وَأَمَرَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ وَزِيرَ الْخِلَافَةِ لِلْوَالِي بِقَتْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَلَّابِ شَيْخِ الْبَزَّازِينَ بِبَابِ الطَّاقِ ; لِمَا كَانَ يَتَظَاهَرُ بِهِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الرَّفْضِ، فَقُتِلَ وَصُلِبَ عَلَى بَابِ دُكَّانِهِ، وَهَرَبَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ وَنُهِبَتْ دَارُهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا جَاءَ الْبَسَاسِيرِيُّ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - إِلَى الْمَوْصِلِ وَمَعَهُ نُورُ الدَّوْلَةِ دُبَيْسُ، فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَاقْتَتَلَ مَعَ صَاحِبِهَا قُرَيْشٍ وَنَصَرَهُ قُتُلْمِشُ ابْنُ عَمِّ طُغْرُلْبَكَ وَهُوَ جَدُّ مُلُوكِ الرُّومِ، فَهَزَمَهُمَا الْبَسَاسِيرِيُّ، وَأَخَذَ الْبَلَدَ قَهْرًا، فَخَطَبَ بِهَا لِلْمِصْرِيِّينَ الْفَاطِمِيِّينَ، وَأَخْرَجَ كَاتِبَهُ مِنَ السِّجْنِ - وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ، فَقُتِلَ - وَكَذَلِكَ خُطِبَ لِلْمِصْرِيِّينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْكُوفَةِ وَوَاسِطٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْبِلَادِ، وَعَزَمَ طُغْرُلْبَكُ الْمَلِكُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْمَوْصِلِ لِمُنَاجَزَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ، فَنَهَاهُ الْخَلِيفَةُ عَنِ الْخُرُوجِ، ذَلِكَ لِضِيقِ الْحَالِ وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، فَخَرَجَ بِجَيْشِهِ قَاصِدًا الْمَوْصِلَ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمَةٍ، وَمَعَهُ الْفِيَلَةُ وَالْمَنْجَنِيقَاتُ، وَكَانَ جَيْشُهُ لِكَثْرَتِهِمْ يَنْهَبُونَ الْقُرَى، وَرُبَّمَا سَطَوْا عَلَى بَعْضِ الْحَرِيمِ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى السُّلْطَانِ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَبَعَثَ يَعْتَذِرُ بِكَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنَامِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَأَعْرَضُ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ: يُحَكِّمُكَ اللَّهُ فِي الْبِلَادِ، ثُمَّ لَا تَرْفُقُ بِخَلْقِهِ وَلَا تَخَافُ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ عز وجل؟! فَاسْتَيْقَظَ مَذْعُورًا، وَأَمَرَ وَزِيرَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي الْجَيْشِ بِالْعَدْلِ، وَأَنْ لَا يَظْلِمَ أَحَدٌ أَحَدًا. وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنَ الْمَوْصِلِ فَتَحَ دُونَهَا بِلَادًا، ثُمَّ فَتَحَهَا وَسَلَّمَهَا إِلَى أَخِيهِ دَاوُدَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ بَكْرٍ، فَفَتَحَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً هُنَالِكَ.
وَفِيهَا ظَهَرَتْ دَوْلَةُ الْمُلَثَّمِينَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَأَظْهَرُوا إِعْزَازَ الدِّينِ وَكَلِمَةِ الْحَقِّ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ بِالْمَغْرِبِ، مِنْهَا سِجِلْمَاسَةُ وَأَعْمَالُهَا وَالسُّوسُ، وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَوَّلُ مُلُوكِ الْمُلَثَّمِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ. وَقَدْ أَقَامَ بِسِجِلْمَاسَةُ إِلَى أَنْ تُوَفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَوَلِيَ