الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَسِلَاحِهِمْ وَمَنَاطِقِهِمْ، وَخَمْسُمِائَةِ ثَوْبٍ أَنْوَاعًا، وَأَعْطَى رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَخَمْسِينَ قِطْعَةَ قُمَاشٍ.
وَفِيهَا قَبَضَ صَاحِبُ مِصْرَ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَازُورِيِّ، وَأَخَذَ خَطَّهُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأُحِيطَ عَلَى ثَمَانِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْوَزِيرُ فَقِيهًا حَنَفِيًّا، يُحْسِنُ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ يُثْنِي عَلَيْهِ وَيَمْدَحُهُ.
[مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنَ الْمُطَهِّرِ بْنِ زِيَادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَنْوَرَ بْنِ أَسْحَمَ بْنِ أَرْقَمَ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غَطَفَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ بَرِيحِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ تَيْمِ اللَّهِ بْنِ أَسَدِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ تَغْلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ التَّنُوخِيُّ الشَّاعِرُ
الْمَشْهُورُ بِالزَّنْدَقَةِ، اللُّغَوِيُّ، صَاحِبُ الدَّوَاوِينِ وَالْمُصَنَّفَاتِ فِي الشِّعْرِ وَاللُّغَةِ، وُلِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ
غُرُوبِ الشَّمْسِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَصَابَهُ جُدَرِيٌّ وَلَهُ أَرْبَعٌ أَوْ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ، فَذَهَبَ بَصَرُهُ، وَقَالَ الشِّعْرَ وَلَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ أَوْ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَدَخَلَ بَغْدَادَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا طَرِيدًا مُنْهَزِمًا ; لِأَنَّهُ قَالَ شِعْرًا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ دِينِهِ وَعِلْمِهِ وَعَقْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
تَنَاقُضٌ مَا لَنَا إِلَّا السُّكُوتُ لَهُ
…
وَأَنْ نَعُوذَ بِمَوْلَانَا مِنَ النَّارِ
يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ فُدِيَتْ
…
مَا بَالَهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ
يَقُولُ: الْيَدُ دِيَتُهَا خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ، فَمَا لَكُمْ تَقْطَعُونَهَا إِذَا سَرَقَتْ رُبْعَ دِينَارٍ. وَهَذَا مِنْ قِلَّةِ عَقْلِهِ، وَعَمَى بَصِيرَتِهِ ; وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا جُنِيَ عَلَيْهَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ دِيَتُهَا كَثِيرَةً ; لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنِ الْعُدْوَانِ، وَأَمَّا إِذَا جَنَتْ بِالسَّرِقَةِ فَيُنَاسِبُ أَنْ تَقِلَّ قِيمَتُهَا ; لِيُنْزَجَرَ عَنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَتُصَانَ أَمْوَالُ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ ثَمِينَةً لَمَّا كَانَتْ أَمِينَةً، فَلَمَّا خَانَتْ هَانَتْ. وَلَمَّا عَزَمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَخْذِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ هَرَبَ وَرَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، فَكَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ.
وَكَانَ يَوْمًا عِنْدَ الْخَلِيفَةِ ; وَكَانَ الْخَلِيفَةُ يَكْرَهُ الْمُتَنَبِّي، وَيَضَعُ مِنْهُ، وَكَانَ أَبُو الْعَلَاءِ يُحِبُّ الْمُتَنَبِّي وَيَرْفَعُ مِنْ قَدْرِهِ وَيَمْدَحُهُ، فَجَرَى ذِكْرُ الْمُتَنَبِّي فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَذَمَّهُ الْخَلِيفَةُ، فَقَالَ أَبُو الْعَلَاءِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَنَبِّي إِلَّا قَصِيدَتُهُ الَّتِي أَوَّلُهَا.
لَكِ يَا مَنَازِلُ فِي الْقُلُوبِ مَنَازِلُ
لَكَفَاهُ ذَلِكَ. فَغَضِبَ الْخَلِيفَةُ، وَأَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ بِرِجْلِهِ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ: أَخْرِجُوا عَنِّي هَذَا الْكَلْبَ. وَقَالَ الْخَلِيفَةُ: أَتَدْرُونَ مَا أَرَادَ هَذَا الْكَلْبُ مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ، وَذِكْرِهِ لَهَا؟ أَرَادَ قَوْلَ الْمُتَنَبِّي فِيهَا:
وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ
…
فَهْيَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنِّي كَامِلُ
وَإِلَّا فَالْمُتَنَبِّي لَهُ قَصَائِدُ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا. وَهَذَا مِنْ فَرْطِ ذَكَاءِ الْخَلِيفَةِ، حَيْثُ تَنَبَّهَ لِهَذَا.
وَقَدْ كَانَ الْمَعَرِّيُّ أَيْضًا مِنَ الْأَذْكِيَاءِ، وَمَكَثَ الْمَعَرِّيُّ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا وَلَا لَبَنًا وَلَا بَيْضًا وَلَا شَيْئًا مِنْ حَيَوَانٍ، عَلَى طَرِيقَةِ الْبَرَاهِمَةِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّ رَاهِبًا اجْتَمَعَ بِهِ فِي بَعْضِ الصَّوَامِعِ ; آوَاهُ اللَّيْلُ إِلَيْهِ، فَشَكَّكَهُ فِي دِينِهِ. وَكَانَ يَتَقَوَّتُ بِالنَّبَاتِ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يَأْكُلُ الْعَدَسَ وَيَتَحَلَّى بِالدِّبْسِ وَبِالتِّينِ، وَلَا يَأْكُلُ بِحَضْرَةِ أَحَدٍ، وَيَقُولُ: أَكْلُ الْأَعْمَى عَوْرَةٌ. وَكَانَ فِي غَايَةِ الذَّكَاءِ الْمُفْرِطِ عَلَى مَا ذُكِرَ. وَأَمَّا مَا يُنْقَلُ عَنْهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَكْذُوبَةِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ أَنَّهُ وُضِعَ تَحْتَ سَرِيرِهِ دِرْهَمٌ، فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ السَّمَاءُ قَدِ انْخَفَضَتْ مِقْدَارَ دِرْهَمٍ أَوِ ارْتَفَعَتِ الْأَرْضُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ وَهُوَ كَذِبٌ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ مَرَّ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِمَكَانٍ فَطَأْطَأَ
رَأْسَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَمَا هَاهُنَا شَجَرَةٌ! فَلَمْ يُوجَدْ، ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا أَصْلُ شَجَرَةٍ كَانَتْ هُنَاكَ قَدِيمًا قَدِ اجْتَازَ بِهَا مَرَّةً، فَأَمَرَهُ مَنْ كَانَ مَعَهُ بِمُطَأْطَأَةِ رَأْسِهِ هُنَاكَ فَاسْتَحْضَرَهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَهَذَا أَيْضًا لَا يَصِحُّ وَهُوَ كَذِبٌ. وَكَذَلِكَ مَا شَاكَلَ هَذَا مِنَ الْكَذِبِ الْبَحْتِ وَلَكِنْ كَانَ ذَكِيًّا، وَلَمْ يَكُنْ زَكِيًّا.
وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ أَكْثَرُهَا فِي الشِّعْرِ، وَفِي بَعْضِ أَشْعَارِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى زَنْدَقَةٍ وَانْحِلَالٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْتَذِرُ عَنْهُ وَيَقُولُ: كَانَ فِي الْبَاطِنِ مُسْلِمًا، وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَمَا الَّذِي كَانَ يُلْجِئُهُ أَنْ يَقُولَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا يُكَفِّرُهُ بِهِ النَّاسُ؟ قَالَ: وَالْمُنَافِقُونَ مَعَ قِلَّةِ عَقْلِهِمْ وَعِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ أَجْوَدُ سِيَاسَةً مِنْهُ ; حَافَظُوا عَلَى قَبَائِحِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا أَظْهَرَ الْكُفْرَ الَّذِي تَسَلَّطَ بِهِ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ بَاطِنَهُ كَظَاهِرِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رَأَيْتُ لِأَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ كِتَابًا سَمَّاهُ " الْفُصُولَ وَالْغَايَاتِ فِي مُعَارَضَةِ السُّورِ وَالْآيَاتِ "، عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي آخِرِ كَلِمَاتِهِ، وَهُوَ فِي نِهَايَةِ الرَّكَاكَةِ وَالْبُرُودَةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَعْمَى بَصَرَهُ وَبَصِيرَتَهُ. قَالَ: وَقَدْ نَظَرْتُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى " لُزُومَ مَا لَا يَلْزَمُ ". ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ أَشْعَارِهِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِهْتَارِهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا كَانَ لَا يَحْظَى بِرِزْقِكَ عَاقِلٌ
…
وَتَرْزُقُ مَجْنُونًا وَتَرْزُقُ أَحْمَقَا
فَلَا ذَنْبَ يَا رَبَّ السَّمَاءِ عَلَى امْرِئٍ
…
رَأَى مِنْكَ مَا لَا يَشْتَهِي فَتَزَنْدَقَا
وَقَوْلُهُ:
وَهَيْهَاتَ الْبَرِيَّةَ فِي ضَلَالٍ
…
وَقَدْ نَظَرَ اللَّبِيبُ لِمَا اعْتَرَاهَا
تَقَدَّمَ صَاحِبُ التَّوْرَاةِ مُوسَى
…
وَأَوْقَعَ فِي الْخَسَارِ مَنِ افْتَرَاهَا
فَقَالَ رِجَالُهُ وَحْيٌ أَتَاهُ
…
وَقَالَ النَّاظِرُونَ بَلِ افْتَرَاهَا
وَمَا حَجِّي إِلَى أَحْجَارِ بَيْتٍ
…
كُئُوسِ الْخَمْرِ تُشْرَبُ فِي ذَرَاهَا
إِذَا رَجَعَ الْحَلِيمُ إِلَى حِجَاهُ
…
تَهَاوَنَ بِالْمَذَاهِبِ وَازْدَرَاهَا
وَقَوْلُهُ:
هَفَتِ الْحَنِيفَةُ وَالنَّصَارَى مَا اهْتَدَتْ
…
وَيَهُودُ حَارَتْ وَالْمَجُوسُ مُضَلَّلَهْ
اثْنَانِ أَهْلُ الْأَرْضِ ذُو عَقْلٍ بِلَا
…
دِينٍ وَآخَرُ دَيِّنٌ لَا عَقْلَ لَهْ
وَقَوْلُهُ:
فَلَا تَحْسَبْ مَقَالَ الرُّسْلِ حَقًّا
…
وَلَكِنْ قَوْلُ زُورٍ سَطَّرُوهُ
فَكَانَ النَّاسُ فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ
…
فَجَاءُوا بِالْمُحَالِ فَكَدَّرُوهُ
وَقُلْتُ أَنَا فِي مُعَارَضَةِ هَذَا:
فَلَا تَحْسَبْ مَقَالَ الرُّسْلِ كِذْبًا
…
وَلَكِنْ قَوْلُ حَقٍّ بَلَّغُوهُ
وَكَانَ النَّاسُ فِي جَهْلٍ عَظِيمٍ
…
فَجَاءُوا بِالْبَيَانِ فَأَذْهَبُوهُ
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
إِنَّ الشَّرَائِعَ أَلْقَتْ بَيْنَنَا إِحَنًا
…
وَأَوْرَثَتْنَا أَفَانِينَ الْعَدَاوَاتِ
وَهَلْ أُبِيحُ نِسَاءُ الرُّومِ عَنْ عُرُضٍ
…
لِلْعُرْبِ إِلَّا بِأَحْكَامِ النُّبُوَّاتِ
وَقَوْلُهُ:
وَمَا حَمْدِي لِآدَمَ أَوْ بَنِيهِ
…
وَأَشْهَدُ أَنَّ كُلَّهُمُ خَسِيسُ
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
أَفِيقُوا أَفِيقُوا يَا غُوَاةُ فَإِنَّمَا
…
دِيَانَاتُكُمْ مَكْرٌ مِنَ الْقُدَمَاءِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْضًا:
صَرْفُ الزَّمَانِ مُفَرِّقُ الْإِلْفَيْنِ
…
فَاحْكُمْ إِلَهِي بَيْنَ ذَاكَ وَبَيْنِي
أَنْهَيْتَ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ تَعَمُّدًا
…
وَبَعَثْتَ أَنْتَ لِقَبْضِهَا مَلَكَيْنِ
وَزَعَمْتَ أَنَّ لَهَا مَعَادًا ثَانِيًا
…
مَا كَانَ أَغْنَاهَا عَنِ الْحَالَيْنِ
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
ضَحِكْنَا وَكَانَ الضِّحْكُ مِنَّا سَفَاهَةً
…
وَحُقَّ لِسُكَّانِ الْبَسِيطَةِ أَنْ يَبْكُوا
تُحَطِّمُنَا الْأَيَّامُ حَتَّى كَأَنَّنَا
…
زُجَاجٌ وَلَكِنْ لَا يَعُودُ لَهُ سَبْكُ
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
أُمُورٌ تَسْتَخِفُّ بِهَا حُلُومٌ
…
وَمَا يَدْرِي الْفَتَى لِمَنِ الثُّبُورُ
كِتَابُ مُحَمَّدٍ وَكِتَابُ مُوسَى
…
وَإِنْجِيلُ ابْنِ مَرْيَمَ وَالزَّبُورُ
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
قَالَتْ مُعَاشِرُ لَمْ يَبْعَثْ إِلَهُكُمُ
…
إِلَى الْبَرِيَّةِ عِيسَاهَا وَلَا مُوسَا
وَإِنَّمَا جَعَلُوا الرَّحْمَنَ مَأْكَلَةً
…
وَصَيَّرُوا دِينَهُمْ فِي النَّاسِ نَامُوسًا
وَذُكِرَ لَهُ أَشْيَاءُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكُلُّ قِطْعَةٍ مِنْ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ وَانْحِلَالِهِ وَزَنْدَقَتِهِ وَضَلَالِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوْصَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَى قَبْرِهِ:
هَذَا جَنَاهُ أَبِي عَلَيَّ
…
وَمَا جَنَيْتُ عَلَى أَحَدْ
مَعْنَاهُ أَنَّ أَبَاهُ بِتَزَوُّجِهِ لِأُمِّهِ أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ، حَتَّى صَارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى
مَا إِلَيْهِ صَارَ، وَهُوَ لَمْ يَجْنِ عَلَى أَحَدٍ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ، قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَقْلَعَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ وَتَابَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ قَالَ قَصِيدَةً يَعْتَذِرُ فِيهَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَيَتَنَصَّلُ مِنْهُ، وَهِيَ الْقَصِيدَةُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
يَا مَنْ يَرَى مَدَّ الْبَعُوضِ جَنَاحَهَا
…
فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ الْأَلْيَلِ
وَيَرَى مَنَاطَ عُرُوقِهَا فِي نَحْرِهَا
…
وَالْمْخُّ فِي تِلْكَ الْعِظَامِ النُّحَّلِ
امْنُنْ عَلَيَّ بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا
…
مَا كَانَ مِنِّي فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ، عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً إِلَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَدْ رَثَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَتَلَامِذَتِهِ، وَأُنْشِدَتْ عِنْدَ قَبْرِهِ ثَمَانُونَ مَرْثَاةً، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ فِي مَرْثَاتِهِ:
إِنْ كُنْتَ لَمْ تُرِقِ الدِّمَاءَ زَهَاَدَةً
…
فَلَقَدْ أَرَقْتَ الْيَوْمَ مِنْ جَفْنِي دَمَا
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَؤُلَاءِ إِمَّا جُهَّالٌ بِأَمْرِهِ، وَإِمَّا ضُلَّالٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَطَرِيقَتِهِ. وَقَدْ رَأَى بَعْضُهُمْ فِي النَّوْمِ رَجُلًا ضَرِيرًا عَلَى عَاتِقَيْهِ حَيَّتَانِ مُدَلَّيَتَانِ إِلَى صَدْرِهِ رَافِعَتَانِ رُءُوسَهُمَا، وَهُمَا يَنْهَشَانِ مِنْ لَحْمِهِ، وَهُوَ يَسْتَغِيثُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: هَذَا الْمَعَرِّيُّ الْمُلْحِدُ. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " فَرَفَعَ فِي نَسَبِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ مِنَ التَّصَانِيفِ كُتُبًا كَثِيرَةً، وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ وَقَفَ عَلَى الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْمِائَةِ مِنْ كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِ " الْأَيْكِ وَالْغُصُونِ ".
وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِ " الْهَمْزِ وَالرِّدْفِ "، وَأَنَّهُ أَخَذَ الْعَرَبِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ، وَاشْتَغَلَ بِحَلَبَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ النَّحْوِيِّ، وَأَخَذَ عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، وَالْخَطِيبُ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ التِّبْرِيزِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مَكَثَ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يَأْكُلُ اللَّحْمَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحُكَمَاءِ، وَأَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يَكْتُبَ عَلَى قَبْرِهِ:
هَذَا جَنَاهُ أَبِي عَلَيَّ
…
وَمَا جَنَيْتُ عَلَى أَحَدْ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَا أَيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِاعْتِقَادِ الْحُكَمَاءِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِيجَادُ الْوَلَدِ وَإِخْرَاجُهُ إِلَى هَذَا الْوُجُودِ جِنَايَةٌ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِلْحَوَادِثِ وَالْآفَاتِ.
قُلْتُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنِ اعْتِقَادِ الْحُكَمَاءِ إِلَى آخِرِ وَقْتٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يُقْلِعْ عَنْ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَبَوَاطِنِهَا. وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ عَيْنَهُ الْيُمْنَى كَانَتْ نَاتِئَةً، وَعَلَيْهَا بَيَاضٌ، وَالْيُسْرَى غَائِرَةٌ، وَكَانَ نَحِيفًا، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ أَشْعَارِهِ الْجَيِّدَةِ أَبْيَاتًا، فَمِنْهَا قَوْلُهُ:
لَا تَطْلُبَنَّ بَآلَةٍ لَكَ رُتْبَةً
…
قَلَمُ الْبَلِيغِ بِغَيْرِ جَدٍّ مَغْزَلُ
سَكَنَ السِّمَاكَانَ السَّمَاءَ كِلَاهُمَا
…
هَذَا لَهُ رُمْحٌ وَهَذَا أَعْزَلُ
الْأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ، إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَابِدٍ النَّيْسَابُورِيُّ
الْحَافِظُ الْوَاعِظُ الْمُفَسِّرُ، قَدِمَ دِمَشْقَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الْحَجِّ، فَسَمِعَ بِهَا وَذَكَّرَ النَّاسَ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ تَرْجَمَةً عَظِيمَةً، وَأَوْرَدَ لَهُ أَشْيَاءَ حَسَنَةً مِنْ أَقْوَالِهِ وَشِعْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا لَمْ أُصِبْ أَمْوَالَكُمْ وَنَوَالَكُمْ
…
وَلَمْ آمُلِ الْمَعْرُوفَ مِنْكُمْ وَلَا الْبِرَّا
وَكُنْتُمْ عَبِيدًا لِلَّذِي أَنَا عَبْدُهُ
…
فَمِنْ أَجْلِ مَاذَا أُتْعِبُ الْبَدَنَ الْحُرَّا
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَتَرَدَّدُ وَأَنَا بِمَكَّةَ فِي الْمَذَاهِبِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: عَلَيْكَ بِاعْتِقَادِ أَبِي عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.