الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
ٍ فِيهَا كَانَ الْغَلَاءُ وَالْفَنَاءُ مُسْتَمِرَّيْنِ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ بِحَيْثُ خَلَتْ أَكْثَرُ الدُّورِ وَسُدَّتْ عَلَى أَهْلِهَا أَبْوَابُهَا بِمَا فِيهَا، وَأَهْلُهَا فِيهَا مَوْتَى، وَصَارَ الْمَارُّ فِي الطَّرِيقِ لَا يَلْقَى إِلَّا الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ، وَأَكَلَ النَّاسُ الْجِيَفَ وَالْمِيَاتَ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ، وَوُجِدَ مَعَ امْرَأَةٍ فَخْذُ كَلْبٍ قَدِ اخْضَرَّ وَأَرْوَحَ، وَشَوَى رَجُلٌ صَبِيَّةً فِي الْأَتُونِ وَأَكَلَهَا فَقُتِلَ، وَسَقَطَ طَائِرٌ مَيِّتٌ مِنْ سَطْحٍ، فَاحْتَوَشَهُ خَمْسَةُ أَنْفُسٍ، فَاقْتَسَمُوهُ وَأَكَلُوهُ. وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنْ بُخَارَى أَنَّهُ مَاتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمِنْ مُعَامَلَتِهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ إِنْسَانٍ، وَأُحْصِيَ مَنْ مَاتَ فِي هَذَا الْوَبَاءِ إِلَى أَنْ كُتِبَ هَذَا الْكِتَابُ - يَعْنِي الْوَارِدَ مِنْ بُخَارَى - بِأَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ إِنْسَانٍ، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، فَلَا يَرَوْنَ إِلَّا أَسْوَاقًا فَارِغَةً وَطُرُقَاتٍ خَالِيَةً، وَأَبْوَابًا مُغْلَقَةً، حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. قَالَ: وَجَاءَ الْخَبَرُ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ وَتِلْكَ الْبِلَادِ بِالْوَبَاءِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ إِلَّا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ: وَوَقَعَ وَبَاءٌ بِالْأَهْوَازِ وَأَعْمَالِهَا وَبِوَاسِطٍ
وَالنِّيلِ وَالْكُوفَةِ وَطَبَّقَ الْأَرْضَ، وَكَانَ أَكْثَرَ سَبَبِ ذَلِكَ الْجُوعُ، حَتَّى كَانَ الْفُقَرَاءُ يَشْوُونَ الْكِلَابَ، وَيَنْبُشُونَ الْقُبُورَ، وَيَشْوُونَ الْمَوْتَى وَيَأْكُلُونَهُمْ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ شُغْلٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا غَسْلُ الْأَمْوَاتِ وَتَجْهِيزُهُمْ وَدَفْنُهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ تُحْفَرُ الْحُفَيْرَةُ، فَيُدْفَنُ فِيهَا الْعِشْرُونَ وَالثَّلَاثُونَ، وَكَانَ الْإِنْسَانُ يَكُونُ قَاعِدًا فَيَنْشَقُّ قَلْبُهُ عَنْ دَمِ الْمُهْجَةِ، فَيَخْرُجُ إِلَى الْفَمِ مِنْهُ قَطْرَةٌ، فَيَمُوتُ الْإِنْسَانُ مِنْ وَقْتِهِ، وَتَابَ النَّاسُ، وَتَصَدَّقُوا بِأَكْثَرِ أَمْوَالِهِمْ، وَأَرَاقُوا الْخُمُورَ وَكَسَرُوا الْمَعَازِفَ وَتَصَالَحُوا، وَلَزِمُوا الْمَسَاجِدَ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَقَلَّ دَارٌ يَكُونُ فِيهَا خَمْرٌ إِلَّا مَاتَ أَهْلُهَا كُلُّهُمْ.
وَدُخِلَ عَلَى مَرِيضٍ لَهُ سَبْعَةُ أَيَّامٍ فِي النَّزْعِ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى مَكَانٍ فَوَجَدُوا فِيهِ خَابِيَةً مِنْ خَمْرٍ، فَأَرَاقُوهَا فَمَاتَ مِنْ فَوْرِهِ بِسُهُولَةٍ.
وَمَاتَ رَجُلٌ بِمَسْجِدٍ، فَوُجِدَ مَعَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا أَحَدٌ، فَتُرِكَتْ فِي الْمَسْجِدِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ لَا يُرِيدُهَا أَحَدٌ، فَدَخَلَ أَرْبَعَةٌ فَأَخَذُوهَا، فَمَاتُوا عَلَيْهَا.
وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ يَشْتَغِلُ عَلَيْهِ سَبْعُمِائَةِ مُتَفَقِّهٍ، فَمَاتَ وَمَاتُوا كُلُّهُمْ إِلَّا اثْنَىْ عَشَرَ نَفَرًا مِنْهُمْ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَمَّا اصْطَلَحَ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيٍّ مَعَ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ، فَوَجَدَهَا خَرَابًا لِقِلَّةِ أَهْلِهَا، فَأَرْسَلَ رَسُولًا مِنْهُ إِلَى بَعْضِ النَّوَاحِي، فَتَلَقَّاهُ طَائِفَةٌ، فَقَتَلُوهُ وَأَكَلُوهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ احْتَرَقَتْ قَطِيعَةُ عِيسَى، وَسُوقُ الطَّعَامِ، وَالْكَنِيسُ، وَأَصْحَابُ السَّقْطِ، وَبَابُ الشَّعِيرِ، وَسُوقُ الْعَطَّارِينَ، وَسُوقُ الْعَرُوسِ، وَالْأَنْمَاطِ، وَالْخَشَّابِينَ، وَالْجَزَّارِينَ، وَالتَّمَّارِينَ، وَالْقَطِيعَةِ، وَسُوقُ مُحَوَّلٍ، وَنَهْرُ الدَّجَاجِ، وَسُوَيْقَةُ غَالِبٍ وَالصَّفَّارِينَ وَالصَّبَّاغِينَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَهَذِهِ مُصِيبَةٌ أُخْرَى مَا بِالنَّاسِ مِنَ الْغَلَاءِ وَالْفَنَاءِ.
وَفِيهَا كَثُرَ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ، وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ جِهَارًا، وَكَبَسُوا الدُّورَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَكُبِسَتْ دَارُ أَبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ مُتَكَلِّمِ الشِّيعَةِ، وَأُحْرِقَتْ كُتُبُهُ وَمَنَابِرُهُ وَدَفَاتِرُهُ الَّتِي كَانَ يَسْتَعْمِلُهَا فِي بِدْعَتِهِ، وَيَدْعُو إِلَيْهَا أَهْلَ نِحْلَتِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا دَخَلَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ بَغْدَادَ عَائِدًا إِلَيْهَا مِنَ الْمَوْصِلِ وَقَدْ تَسَلَّمَهَا وَاسْتَعَادَهَا مِنَ الْبَسَاسِيرِيِّ وَسَلَّمَهَا إِلَى أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ، فَأَحْسَنَ فِيهِمُ السِّيرَةَ، وَحَسُنَتْ مِنْهُ الْعَلَانِيَةُ وَالسَّرِيرَةُ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ، فَتَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَأَحْضَرَ لَهُ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ خِلْعَةً مِنَ الْخَلِيفَةِ فَرَجِيَّةً مُجَوْهَرَةً فَلَبِسَهَا،
وَقَبَّلَ الْأَرْضَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَ دَارَ الْخِلَافَةِ، وَقَدْ رَكِبَ إِلَيْهَا فَرَسًا مِنْ مَرَاكِبِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ إِذَا هُوَ عَلَى سَرِيرٍ طُولُهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ، وَعَلَى كَتِفَيْهِ الْبُرْدَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ، ثُمَّ أُجْلِسَ عَلَى سَرِيرٍ دُونَ سَرِيرِ الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ قَالَ الْخَلِيفَةُ لِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ: قُلْ لَهُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَامِدٌ لِسَعْيِكَ، شَاكِرٌ لِفِعْلِكَ، آنِسٌ بِقُرْبِكَ، وَقَدْ وَلَّاكَ جَمِيعَ مَا وَلَّاهُ اللَّهُ مِنْ بِلَادِهِ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا وَلَّاكَ، وَاجْتَهِدْ فِي عِمَارَةِ الْبِلَادِ، وَإِصْلَاحِ الْعِبَادِ، وَنَشْرِ الْعَدْلِ، وَكَفِّ الظُّلْمِ. فَفَسَّرَ لَهُ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ مَا قَالَهُ، فَقَامَ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَقَالَ: أَنَا خَادِمُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَبْدُهُ، وَمُتَصَرِّفٌ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَمُتَشَرِّفٌ بِمَا أَهَّلَنِي لَهُ، وَاسْتَخْدَمَنِي فِيهِ، وَمِنَ اللَّهِ أَسْتَمِدُّ الْمَعُونَةَ وَالتَّوْفِيقَ. ثُمَّ أَذِنَ الْخَلِيفَةُ فِي أَنْ يَنْهَضَ لِلُبْسِ الْخِلْعَةَ، فَقَامَ إِلَى بَيْتٍ فِي ذَلِكَ الْبَهْوِ، فَأُفِيضَ عَلَيْهِ سَبْعُ خِلَعٍ وَتَاجٌ، ثُمَّ عَادَ فَجَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ بَعْدَ مَا قَبَّلَ يَدَ الْخَلِيفَةِ، وَرَامَ تَقْبِيلَ الْأَرْضِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّاجِ، فَأَخْرَجَ الْخَلِيفَةُ سَيْفًا فَقَلَّدَهُ إِيَّاهُ وَخَاطَبَهُ بِمَلِكِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَأُحْضِرَتْ ثَلَاثَةُ أَلْوِيَةٍ، فَعَقَدَ مِنْهَا الْخَلِيفَةُ بِيَدِهِ لِوَاءً يُقَالُ لَهُ: لِوَاءُ الْحَمْدِ، وَأُحْضِرَ الْعَهْدُ فَسُلِّمَ إِلَى الْمَلِكِ، وَأَوْصَاهُ الْخَلِيفَةُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقِيَامِ بِالْحَقِّ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وَقُرِئَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ، ثُمَّ نَهَضَ فَقَبَّلَ يَدَ الْخَلِيفَةِ، وَوَضَعَهَا عَلَى عَيْنَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْحِجَابُ وَالْجَيْشُ بِكَمَالِهِ، وَجَاءَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالتَّهْنِئَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِتُحَفٍ عَظِيمَةٍ ; مِنْهَا خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَمْسُونَ غُلَامًا أَتْرَاكًا بِمَرَاكِبِهِمْ