الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِيهَا كَانَتْ فِتْنَةُ الْخَبِيثِ الْبَسَاسِيرِيِّ وَهُوَ أَرْسَلَانُ التُّرْكِيُّ - قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ أَخَا الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ تَرَكَ الْمَوْصِلَ الَّذِي كَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ أَخُوهُ عَلَيْهَا، وَعَدَلَ إِلَى نَاحِيَةِ بِلَادِ الْجَبَلِ، فَاسْتَدْعَاهُ أَخُوهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَصْلَحَ أَمْرَهُ، وَلَكِنْ فِي غُبُونِ ذَلِكَ رَكِبَ الْبَسَاسِيرِيُّ وَمَعَهُ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ أَمِيرُ الْعَرَبِ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَخَذَهَا، وَأَخْرَبَ قَلْعَتَهَا، فَسَارَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ سَرِيعًا مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَاسْتَرَدَّهَا، وَهَرَبَ مِنْهُ الْبَسَاسِيرِيُّ وَقُرَيْشٌ ; خَوْفًا مِنْهُ فَتَبِعَهُمَا إِلَى نَصِيبِينَ وَفَارَقَهُ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ وَعَصَى عَلَيْهِ، وَهَرَبَ إِلَى هَمَذَانَ وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ عَلَيْهِ فَسَارَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ وَرَاءَ أَخِيهِ، وَتَرَكَ عَسَاكِرَهُ وَرَاءَهُ، فَتَفَرَّقُوا، وَقَلَّ مَنْ لَحِقَهُ مِنْهُمْ، وَرَجَعَتْ زَوْجَتُهُ الْخَاتُونُ وَوَزِيرُهُ الْكُنْدُرِيُّ إِلَى بَغْدَادَ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ أَخَاهُ قَدِ اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ طُغْرُلْبَكَ مَحْصُورٌ بِهَمَذَانَ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَاضْطَرَبَتْ بَغْدَادُ، وَأَرْجَفَ النَّاسُ بِأَنَّ الْبَسَاسِيرِيَّ عَازِمٌ عَلَى قَصْدِ بَغْدَادَ، وَأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنَ الْأَنْبَارِ فَقَوِيَ عَزْمُ الْكُنْدُرِيِّ الْوَزِيرِ عَلَى الْمُقَامِ بِبَغْدَادَ، فَأَرَادَتْ الْخَاتُونُ أَنْ تَقْبِضَ عَلَيْهِ، فَتَحَوَّلَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَنُهِبَتْ دَارُهُ، وَقُطِعَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، وَرَكِبَتْ الْخَاتُونُ فِي جُمْهُورِ الْجَيْشِ، وَذَهَبَتْ إِلَى
هَمَذَانَ لِتَنْصُرَ زَوْجَهَا وَسَارَ الْكُنْدُرِيُّ وَمَعَهُ أَنُوشِرْوَانَ بْنُ تُومَانَ وَأُمُّهُ الْخَاتُونُ الْمَذْكُورَةُ، وَمَعَهَا بَقِيَّةُ الْجَيْشِ إِلَى بِلَادِ الْأَهْوَازِ، وَبَقِيَتْ بَغْدَادُ لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَعَزَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى التَّرَحُّلِ عَنْ بَغْدَادَ إِلَى غَيْرِهَا، وَلَيْتَهُ فَعَلَ، ثُمَّ أَحَبَّ دَارَهُ وَالْمُقَامَ مَعَ أَهْلِهِ، فَمَكَثَ فِيهَا اغْتِرَارًا وَدَعَةً، وَلَمَّا خَلَا الْبَلَدُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ قِيلَ لِلنَّاسِ: مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ فَلْيَذْهَبْ حَيْثُ شَاءَ. فَانْزَعَجَ النَّاسُ، وَبَكَى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ، وَعَبَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَبَلَغَتِ الْمِعْبَرَةُ دِينَارًا وَدِينَارَيْنِ لِعَدَمِ الْجِسْرِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَطَارَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ نَحْوُ عَشْرِ بُومَاتٍ مُجْتَمِعَاتٍ يَصِحْنَ صِيَاحًا مُزْعِجًا، وَقِيلَ لِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ: مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ يَرْتَحِلُ مِنْ بَغْدَادَ لِعَدَمِ الْمُقَاتِلَةِ بِهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ.
وَشَرَعُوا فِي اسْتِخْدَامِ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَوَامِّ، وَدُفِعَ إِلَيْهِمُ السِّلَاحُ مِنْ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، دَخَلَ الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَى بَغْدَادَ وَمَعَهُ الرَّايَاتُ الْبِيضُ الْمِصْرِيَّةُ، وَعَلَى رَأْسِهِ أَعْلَامٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: الْإِمَامُ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ أَبُو تَمِيمٍ مَعَدٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَلَقَّاهُ أَهْلُ الْكَرْخِ فَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَجْتَازَ عِنْدَهُمْ، فَدَخَلَ الْكَرْخَ، وَخَرَجَ إِلَى مَشْرَعَةِ الرَّوَايَا، فَخَيَّمَ بِهَا، وَالنَّاسُ إِذْ ذَاكَ فِي ضُرٍّ وَمَجَاعَةٍ شَدِيدَةٍ، وَنَزَلَ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَتَيْ فَارِسٍ عَلَى مَشْرَعَةِ بَابِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ الْبَسَاسِيرِيُّ قَدْ جَمَعَ الْعَيَّارِينَ وَأَطْمَعَهُمْ فِي نَهْبِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَنَهَبَ أَهْلُ الْكَرْخِ دُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِبَابِ
الْبَصْرَةِ وَنُهِبَتْ دَارُ قَاضِي الْقُضَاةِ الدَّامَغَانِيِّ، وَهَلَكَ أَكْثَرُ السِّجِلَّاتِ وَالْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ وَأُبِيعَتْ لِلْعَطَّارِينَ، وَنُهِبَتْ دُورُ الْمُتَعَلِّقِينَ بِالْخَلِيفَةِ، وَأَعَادَتِ الرَّوَافِضُ الْأَذَانَ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَأُذِّنَ بِهِ فِي سَائِرِ جَوَامِعِ بَغْدَادَ فِي الْجُمُعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَخُطِبَ بِبَغْدَادَ لِلْمُسْتَنْصِرِ الْعُبَيْدِيِّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْفَاطِمِيُّ، عَلَى مَنَابِرِ بَغْدَادَ وَضُرِبَتْ لَهُ السِّكَّةُ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَحُوصِرَتْ دَارُ الْخِلَافَةِ، فَحَاجَفَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ الْمُلَقَّبُ بِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْتَخْدِمِينَ دُونَهَا، فَلَمْ يَفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ بِالسَّوَادِ وَالْبُرْدَةِ عَلَى كَتِفِهِ، وَعَلَى رَأْسِهِ اللِّوَاءُ، وَبِيَدِهِ سَيْفٌ مُصَلَّتٌ، وَحَوْلَهُ زُمْرَةٌ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ، وَالْجَوَارِي حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، نَاشِرَاتٍ شُعُورَهُنَّ، مَعَهُنَّ الْمَصَاحِفُ عَلَى رُءُوسِ الرِّمَاحِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْخَدَمُ بِالسُّيُوفِ الْمُسَلَّلَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ أَخَذَ ذِمَامًا مِنْ أَمِيرِ الْعَرَبِ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَزِيرِهِ ابْنِ الْمُسْلِمَةِ فَأَمَّنَهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنْزَلَهُ فِي خَيْمَةٍ، فَلَامَهُ الْبَسَاسِيرِيُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ مَا كَانَ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنْ أَنَّكَ لَا تَسْتَبِدُّ بِرَأْيِ دُونِي وَلَا أَنَا دُونَكَ، وَمَهْمَا مَلَكْنَا فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَاسْتَحْضَرَ الْبَسَاسِيرِيُّ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ مُسْلِمَةَ فَوَبَّخَهُ تَوْبِيخًا، وَلَامَهُ لَوْمًا شَدِيدًا، ثُمَّ ضَرَبَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَاعْتَقَلَهُ مُهَانًا عِنْدَهُ، وَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ دَارَ الْخِلَافَةِ، فَلَا يُحْصَى مَا أَخَذُوا مِنْهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالنَّفَائِسِ وَالدِّيبَاجِ وَالْأَثَاثِ وَالثِّيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوصَفُ.
ثُمَّ اتَّفَقَ رَأْيُ الْبَسَاسِيرِيِّ وَقُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ عَلَى تَسْيِيرِ الْخَلِيفَةِ مِنْ بَغْدَادَ وَتَسْلِيمِهِ إِلَى أَمِيرِ حَدِيثَةِ عَانَةَ - وَهُوَ مُهَارِشُ بْنُ مُجَلِّي الْبَدَوِيُّ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمِّ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ، وَكَانَ رَجُلًا
صَالِحًا - فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ دَخَلَ عَلَى قُرَيْشٍ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَادَ فَلَمْ يَفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَسَيَّرَهُ مَعَ أَصْحَابِهِمَا فِي هَوْدَجٍ إِلَى حَدِيثَةِ عَانَةَ، فَكَانَ عِنْدَ مُهَارِشٍ أَمِيرِهَا حَوْلًا كَامِلًا، وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَحُكِيَ عَنِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كُنْتُ بِحَدِيثَةِ عَانَةَ قُمْتُ لَيْلَةً إِلَى الصَّلَاةِ، فَوَجَدْتُ فِي قَلْبِي حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ، ثُمَّ دَعَوْتُ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا سَنَحَ لِي، ثُمَّ قُلْتُ: اللَّهُمَّ أَعِدْنِي إِلَى وَطَنِي، وَاجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَهْلِي وَوَلَدِي، وَيَسِّرِ اجْتِمَاعَنَا، وَأَعِدْ رَوْضَ الْأُنْسِ زَاهِرًا، وَرَبْعَ الْقُرْبِ عَامِرًا، فَقَدْ قَلَّ الْعَزَاءُ، وَبَرِحَ الْخَفَاءُ، قَالَ: فَسَمِعْتُ قَائِلًا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ يَقُولُ: نَعَمْ نَعَمْ. فَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ يُخَاطِبُ آخَرُ، ثُمَّ أَخَذْتُ فِي السُّؤَالِ وَالِابْتِهَالِ، فَسَمِعْتُ ذَلِكَ الصَّائِحَ يَقُولُ: إِلَى الْحَوْلِ، إِلَى الْحَوْلِ. فَعَلِمْتُ أَنَّهُ هَاتِفٌ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِمَا جَرَى الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَكَانَ كَذَلِكَ، خَرَجَ مِنْ دَارِهِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَرَجَعَ إِلَيْهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَقَدْ قَالَ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي مَقَامِهِ بِالْحَدِيثَةِ شِعْرًا يَذْكُرُ فِيهِ حَالَهُ، فَمِنْهُ:
خَابَتْ ظُنُونِي فِيمَنْ كُنْتُ آمُلُهُ
…
وَلَمْ يَجُلْ ذِكْرُ مَنْ وَالَيْتُ فِي خَلَدِي
تَعَلَّمُوا مِنْ صُرُوفِ الدَّهْرِ كُلُّهُمُ
…
فَمَا أَرَى أَحَدًا يَحْنُو عَلَى أَحَدِ
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
مَا لِي مِنَ الْأَيَّامِ إِلَّا مَوْعِدٌ
…
فَمَتَى أَرَى ظُفْرًا بِذَاكَ الْمَوْعِدِ
يَوْمِي يَمُرُّ وَكُلَّمَا قَضَّيْتُهُ
…
عَلَّلْتُ نَفْسِي بِالْحَدِيثِ إِلَى غَدِ
أَحْيَا بِنَفْسٍ تَسْتَرِيحُ إَلَى الْمُنَى
…
وَعَلَى مَطَامِعِهَا تَرُوحُ وَتَغْتَدِي
وَأُمًّا الْبَسَاسِيرِيُّ وَمَا اعْتَمَدَهُ فِي بَغْدَادَ فَإِنَّهُ رَكِبَ يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى، وَأَلْبَسَ الْخُطَبَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ الْبَيَاضَ، وَعَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابِهِ كَذَلِكَ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْأَلْوِيَةُ الْمُسْتَنْصِرِيَّةُ وَالْمَطَارِدُ الْمِصْرِيَّةُ، وَخَطَبَ لِلْمُسْتَنْصِرِ الْفَاطِمِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ، وَالرَّوَافِضُ فِي غَايَةِ السُّرُورِ، وَالْأَذَانُ فِي سَائِرِ بِلَادِ الْعِرَاقِ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَانْتَقَمَ الْبَسَاسِيرِيُّ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ بَغْدَادَ انْتِقَامًا عَظِيمًا، وَغَرَّقَ خَلْقًا مِمَّنْ كَانَ يُعَادِيهِ، وَبَسَطَ عَلَى آخَرِينَ الْأَرْزَاقَ وَالْعَطَايَا.
وَمَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أُحْضِرَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ الْمُسْلِمَةِ الْمُلَقَّبُ بِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، وَطُرْطُورٌ مِنْ لِبْدٍ أَحْمَرَ، وَفِي رَقَبَتِهِ مِخْنَقَةٌ مِنْ جُلُودٍ كَالتَّعَاوِيذِ، فَأُرْكِبَ جَمَلًا وَطِيفَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، وَخَلْفَهُ مَنْ يَصْفَعُهُ بِقِطْعَةٍ مِنْ جِلْدٍ، وَحِينَ اجْتَازَ بِالْكَرْخِ نَثَرُوا عَلَيْهِ خُلْقَانَ الْمُدَاسَاتِ، وَبَصَقُوا فِي وَجْهِهِ، وَلَعَنُوهُ وَسَبُّوهُ، وَأُوقِفَ بِإِزَاءِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءِ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنَ التَّطْوَافِ بِهِ فِي مَحَالِّ الْبَلَدِ، وَأُعِيدَ إِلَى الْمُعَسْكَرِ، فَأُلْبِسَ جِلْدَ ثَوْرٍ بِقَرْنَيْهِ، وَعُلِّقَ بِكَلُّوبٍ فِي شِدْقَيْهِ، وَرُفِعَ إِلَى الْخَشَبَةِ حَيًّا، فَجَعَلَ يَضْطَرِبُ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، فَمَاتَ رحمه الله، وَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ أَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانِي سَعِيدًا وَأَمَاتَنِي شَهِيدًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ بَرَدٌ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْغَلَّاتِ، وَقُتِلَ بَعْضُ الْفَلَّاحِينَ، وَزَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَزُلْزِلَتْ بَغْدَادُ فِي شَوَّالٍ قَبْلَ الْفِتْنَةِ بِشَهْرٍ