الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَتَّى رَقَّ لَهُ وَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا مِسْكِينُ أَلَا تَأْكُلُ؟ وَأَتَاهُ بِطَعَامٍ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آكُلَ إِلَّا بِزَمْزَمَةٍ، فَقَالَ لَهُ: كُلْ وَأَنَا أُزَمْزِمُ لَكَ، فَسَأَلَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمُزَمْزِمٍ، فَلَمَّا ذَهَبَ يَطْلُبُ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَسَاوِرَةِ شَمُّوا رَائِحَةَ الْمِسْكِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَأَنْكَرُوا رَائِحَةَ الْمِسْكِ مِنْهُ فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي رَجُلًا مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَعَرَفُوهُ وَقَصَدُوهُ مَعَ الطَّحَّانِ وَتَقَدَّمَ الطَّحَّانُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهَمَّ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ فَعَرَفَ يَزْدَجِرْدُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ خُذْ خَاتَمِي وَسِوَارِي وَمِنْطَقَتِي وَدَعْنِي أَذْهَبُ مِنْ هَاهُنَا، فَقَالَ لَا، أَعْطِنِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَأَنَا أُطْلِقُكَ، فَزَادَهُ إِحْدَى قرطيه من أذنه فلم يقبل حتى يعطيه أربعة دراهم أخرى، فَهُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ دَهَمَهُمُ الْجُنْدُ فَلَمَّا أَحَاطُوا بِهِ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ قَالَ: وَيْحَكُمْ لَا تَقْتُلُونِي فَإِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى قَتْلِ الْمُلُوكِ عَاقَبَهُ اللَّهُ بِالْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا هُوَ قَادِمٌ عَلَيْهِ، فَلَا تَقْتُلُونِي وَاذْهَبُوا بِي إِلَى الْمَلِكِ أَوْ إِلَى الْعَرَبِ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَحْيُونَ مِنْ قَتْلِ الْمُلُوكِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَسَلَبُوهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُلِيِّ فَجَعَلُوهُ فِي جِرَابٍ وَخَنَقُوهُ بِوَتَرٍ وَأَلْقَوْهُ فِي النَّهْرِ فَتَعَلَّقَ بِعُودٍ فَأَخَذَهُ أُسْقُفٌ- واسمه إيليا- فنحن عليه مما كَانَ مِنْ أَسْلَافِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا بِبِلَادِهِمْ، فَوَضَعَهُ فِي تَابُوتٍ وَدَفَنَهُ فِي نَاوُوسٍ، ثُمَّ حَمَلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُلِيِّ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَفُقِدَ قُرْطٌ مِنْ حُلِيِّهِ فَبَعَثَ إِلَى دهقان تلك البلاد فأغرم ذَلِكَ. وَكَانَ مُلْكُ يَزْدَجِرْدَ عِشْرِينَ سَنَةً، مِنْهَا أَرْبَعُ سِنِينَ فِي دَعَةٍ، وَبَاقِي ذَلِكَ هَارِبًا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، خَوْفًا مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ الْفُرْسِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِقَوْلِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لتنفقن كنوزهما في سبيل اللَّهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ كِتَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مزقه، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقَ كُلَّ مُمَزَّقٍ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ ابْنُ عَامِرٍ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً كَانَ قَدْ نَقَضَ أَهْلُهَا مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الصُّلْحِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا فَتَحَ عَنْوَةً، وَمِنْ ذَلِكَ مَا فَتَحَ صُلْحًا، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمَدَائِنِ وَهِيَ مَرْوُ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ، وَقِيلَ عَلَى سِتَّةِ آلَافِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه.
ثم دخلت سنه ثنتين وثلاثين
وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بِلَادَ الرُّومِ حَتَّى بَلَغَ الْمَضِيقَ- مَضِيقَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ- وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ عَاتِكَةُ، وَيُقَالُ فاطمة بنت قرطة بْنِ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ عَلَى جَيْشٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْزُوَ الْبَابَ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ نَائِبِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ بِمُسَاعَدَتِهِ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ بَلَنْجَرَ فَحَصَرُوهَا وَنُصِبَتْ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقُ وَالْعَرَّادَاتُ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ بَلَنْجَرَ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ وَعَاوَنَهُمُ التُّرْكُ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا- وَكَانَتِ التُّرْكُ تَهَابُ
قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ- حَتَّى اجترأوا عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ الْتَقَوْا مَعَهُمْ فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن ربيعة- وكان يقال له ذو النون- وانهزم المسلمون فافترقوا فرقتين، ففرقة ذهبت إلى بِلَادِ الْخَزَرِ، وَفِرْقَةٌ سَلَكُوا نَاحِيَةَ جِيلَانَ وَجُرْجَانَ، وَفِي هَؤُلَاءِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ. وَأَخَذَتِ التُّرْكُ جَسَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ- وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَشُجْعَانِهِمْ- فَدَفَنُوهُ فِي بِلَادِهِمْ فَهُمْ يَسْتَسْقُونَ عِنْدَهُ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَمَّا قُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ اسْتَعْمَلَ سَعِيدُ بْنُ العاص على ذلك الفرع سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأَمَدَّهُمْ عُثْمَانُ بِأَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَتَنَازَعَ حَبِيبُ وَسَلْمَانُ فِي الْإِمْرَةِ حَتَّى اخْتَلَفَا، فَكَانَ أَوَّلَ اخْتِلَافٍ وَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ، حَتَّى قَالَ فِي ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَهُوَ أَوْسٌ:
فَإِنْ تَضْرِبُوا سَلْمَانَ نَضْرِبْ حَبِيبَكُمْ
…
وَإِنْ تَرْحَلُوا نَحْوَ ابْنِ عَفَّانَ نَرْحَلِ
وَإِنْ تُقْسِطُوا فَالثَّغْرُ ثَغْرُ أَمِيرِنَا
…
وَهَذَا أَمِيرٌ فِي الكتائب مقبل
ونحن ولاة الثغر كما حُمَاتَهُ
…
لَيَالِيَ نَرْمِي كُلَّ ثَغْرِ وَنُنْكِلِ
وَفِيهَا فتح ابن عامر مروالروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان. فأما مروالروذ فبعث إليهم أبو عَامِرٍ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ فَحَصَرَهَا فَخَرَجُوا إِلَيْهِ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى كَسَرَهُمْ فَاضْطَرَّهُمْ إِلَى حِصْنِهِمْ، ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى مَالٍ جَزِيلٍ وَعَلَى أَنْ يَضْرِبَ عَلَى أَرَاضِي الرَّعِيَّةِ الْخَرَاجَ، وَيَدَعَ الْأَرْضَ الَّتِي كان اقتطعها كِسْرَى لِوَالِدِ الْمَرْزُبَانِ، صَاحِبِ مَرْوَ، حِينَ قَتَلَ الْحَيَّةَ الَّتِي كَانَتْ تَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ وَتَأْكُلُهُمْ، فَصَالَحَهُمُ الْأَحْنَفُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابَ صُلْحٍ بِذَلِكَ، ثُمَّ بَعَثَ الْأَحْنَفُ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ إِلَى الْجُوزَجَانِ فَفَتَحَهَا بَعْدَ قِتَالٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ، قُتِلَ فِيهِ خَلْقٌ مِنْ شُجْعَانِ المسلمين، ثم نصروا فقال في ذلك أبو كُثَيِّرٌ النَّهْشَلِيُّ قَصِيدَةً طَوِيلَةً فِيهَا:
سَقَى مُزْنَ السَّحَابِ إِذَا اسْتَهَلَّتْ
…
مَصَارِعَ فِتْيَةٍ بِالْجُوزَجَانِ
إِلَى القصرين من رستاق حوط
…
أَبَادَهُمُ هُنَاكَ الْأَقْرَعَانِ
ثُمَّ سَارَ الْأَحْنَفُ مِنْ مروالروذ إِلَى بَلْخَ فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى صَالَحُوهُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ ألف، واستناب ابن عمه أسيد بن المشمس عَلَى قَبْضِ الْمَالِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ يُرِيدُ الْجِهَادَ، وداهمه الشِّتَاءُ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:
مَا تَشَاءُونَ؟ فَقَالُوا: قَدْ قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ:
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ
…
وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ
فَأَمَرَ الْأَحْنَفُ بِالرَّحِيلِ إِلَى بَلْخَ فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةَ الشتاء، ثم عاد إلى عَامِرٍ فَقِيلَ لِابْنِ عَامِرٍ مَا فُتِحَ عَلَى أَحَدٍ مَا فُتِحَ عَلَيْكَ، فَارِسُ وَكِرْمَانُ وَسِجِسْتَانُ وعامر خُرَاسَانَ، فَقَالَ: لَا جَرَمَ، لَأَجْعَلَنَّ شُكْرِي للَّه عَلَى ذَلِكَ أَنْ أُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ مَوْقِفِي هَذَا مُشَمِّرًا فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا قدم على