الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فمن امرأته عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأَبُو الأعور السلمي، وحبيب بن مسلم، وَذُو الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بن الخطاب، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ، وَحَمْزَةُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَرُبَّمَا اقْتَتَلَ النَّاسُ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِكَمَالِهِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ ابن عَبَّاسٍ عَنْ أَمْرِ عَلِيٍّ لَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ وَدَخَلَ الْمُحَرَّمُ تَدَاعَى النَّاسُ لِلْمُتَارَكَةِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ فِيهِ حَقْنُ دِمَائِهِمْ، فَكَانَ مَا سنذكره
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مُتَوَاقِفٌ هُوَ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنه، كُلٌّ مِنْهُمَا فِي جُنُودِهِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ صِفِّينَ بِالْقُرْبِ مِنَ الْفُرَاتِ شَرْقِيِّ بِلَادِ الشَّامِ، وَقَدِ اقْتَتَلُوا فِي مُدَّةِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ كُلَّ يَوْمٍ، وَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ رُبَّمَا اقْتَتَلُوا مَرَّتَيْنِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَالْمَقْصُودُ أنه لما دخل شهر المحرم تحاجز القوم رجاء أن يقع بينهم مهادنة وموادعة يؤول أَمْرُهَا إِلَى الصُّلْحِ بَيْنَ النَّاسِ وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ، فَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنْ أبى مخنف مالك حدثني سعيد بن الْمُجَاهِدِ الطَّائِيُّ عَنْ مُحِلِّ بْنِ خَلِيفَةَ أَنَّ عليا بعث عدي بن حاتم ويزيد ابن قيس الأرحبي، وشبيث بن ربعي وزياد بن حفصة إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ- وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى جَانِبِهِ- قَالَ عَدِيٌّ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ يَا مُعَاوِيَةُ فَإِنَّا جِئْنَاكَ نَدْعُوكَ إِلَى أَمْرٍ يَجْمَعُ اللَّهُ به كلمتنا وأمرنا، وتحقن به الدماء، ويأمن به السبل، ويصلح ذَاتُ الْبَيْنِ، إِنَّ ابْنَ عَمِّكَ سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُهَا سَابِقَةً، وَأَحْسَنُهَا فِي الْإِسْلَامِ أَثَرًا وَقَدِ اسْتَجْمَعَ لَهُ النَّاسُ وَقَدْ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ بِالَّذِي رَأَوْا فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ غَيْرُكُ وَغَيْرُ مَنْ معك من شيعتك، فَانْتَهِ يَا مُعَاوِيَةُ لَا يُصِبْكَ اللَّهُ وَأَصْحَابَكَ مثل يَوْمَ الْجَمَلِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَأَنَّكَ إِنَّمَا جئت مهددا ولم تأت مصلحا، هيهات والله يا عدي، كلام وَاللَّهِ إِنِّي لِابْنُ حَرْبٍ، لَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنَّكَ لِمِنَ الْمُجْلِبَيْنِ عَلَى ابْنِ عَفَّانَ، وَإِنَّكَ لَمِنْ قَتَلَتِهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِهِ، وَتَكَلَّمَ شبيث بن ربعي وزياد بن حفصة فَذَكَرَا مِنْ فَضْلِ عَلِيٍّ وَقَالَا: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةُ وَلَا تُخَالِفْهُ فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا رأينا رجالا قَطُّ أَعْمَلَ بِالتَّقْوَى، وَلَا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَجْمَعَ لِخِصَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا مِنْهُ. فَتَكَلَّمَ مُعَاوِيَةُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالطَّاعَةِ، فأما الجماعة فمعنا هِيَ، وَأَمَّا الطَّاعَةُ فَكَيْفَ أُطِيعُ رَجُلًا أَعَانَ عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ؟ وَنَحْنُ لَا نَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا نَتَّهِمُهُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَوَى قَتَلَتَهُ، فَيَدْفَعَهُمْ إِلَيْنَا حَتَّى نَقْتُلَهُمْ ثُمَّ نَحْنُ نُجِيبُكُمْ إِلَى الطَّاعَةِ والجماعة. فقال له شبيث بْنُ رِبْعِيٍّ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةَ، لَوْ تمكنت من عمار أكنت قاتله بعثمان؟ قال معاوية: لَوْ تَمَكَّنْتُ مِنَ ابْنِ سُمَيَّةَ مَا قَتَلْتُهُ بعثمان، ولكنى كنت قتلته بغلام عثمان. فقال له شبيث بْنُ رِبْعِيٍّ: وَإِلَهِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ لَا تَصِلُ إِلَى قَتْلِ عَمَّارٍ حَتَّى تَنْدُرَ الرُّءُوسُ
عَنْ كَوَاهِلِهَا، وَيَضِيقُ فَضَاءُ الْأَرْضِ وَرَحْبُهَا عَلَيْكَ. فقال مُعَاوِيَةُ: لَوْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ كَانَتْ عَلَيْكَ أَضْيَقَ. وَخَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَذَهَبُوا إلى على فأخبروه بما قال. وبعث معاوية حبيب بن مسلمة الهفرى، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ، وَمَعْنَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ الْأَخْنَسِ إِلَى عَلِيٍّ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَبَدَأَ حَبِيبٌ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ خَلِيفَةً مَهْدِيًّا عَمِلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَثَبَتَ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَاسْتَثْقَلْتُمْ حَيَاتَهُ، وَاسْتَبْطَأْتُمْ وَفَاتَهُ، فَعَدَوْتُمْ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُمُوهُ فادفع إلينا قتلته إِنْ زَعَمْتَ أَنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ، ثُمَّ اعْتَزِلْ أَمْرَ النَّاسِ فَيَكُونَ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، فَيُوَلِّي الناس أمرهم من جمع عَلَيْهِ رَأْيَهُمْ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَمَا أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ، وَهَذَا الْأَمْرَ وَهَذَا الْعَزْلَ، فَاسْكُتْ فَإِنَّكَ لَسْتَ هُنَاكَ وَلَا بِأَهْلٍ لِذَاكَ. فَقَالَ لَهُ حَبِيبٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَتَرَيَنِّي حَيْثُ تَكْرَهُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَمَا أَنْتَ وَلَوْ أَجَلَبْتَ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ لَا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ، اذْهَبْ فَصَعِّدْ وَصَوِّبْ مَا بَدَا لَكَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ كَلَامًا طَوِيلًا جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَلِيٍّ، وَفِي صِحَّةٍ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَعَنْهُ نَظَرٌ فَإِنَّ فِي مَطَاوِي ذَلِكَ الكلام من عَلِيٍّ مَا يَنْتَقِصُ فِيهِ مُعَاوِيَةَ وَأَبَاهُ، وَإِنَّهُمْ انما دخلوا في الإسلام وَلَمْ يَزَالَا فِي تَرَدُّدٍ فِيهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ قَالَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ: لَا أَقُولُ إِنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا وَلَا ظَالِمًا. فَقَالُوا: نَحْنُ نَبْرَأُ مِمَّنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ:(إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلى من يؤمن بئايتنا فهم مسلمون) ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا يَكُنْ هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِالْجِدِّ فِي ضَلَالَتِهِمْ مِنْكُمْ بِالْجِدِّ فِي حَقِّكُمْ وَطَاعَةِ نَبِيِّكُمْ، وَهَذَا عِنْدِي لَا يَصِحُّ عَنْ على رضى الله عنه. وروى ابن ديزيل من طريق عمرو بْنِ سَعْدٍ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ قُرَّاءَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَقُرَّاءَ أَهْلِ الشَّامِ عَسْكَرُوا نَاحِيَةً وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ مِنْهُمْ عَبِيدَةُ السُّلْمَانِيُّ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عتبة بن مسعود، وغيرهم جاءوا مُعَاوِيَةَ فَقَالُوا لَهُ: مَا تَطْلُبُ؟ قَالَ: أَطْلُبُ بدم عثمان قالوا: فمن تَطْلُبُ بِهِ؟ قَالَ: عَلِيًّا، قَالُوا: أَهْوَ قَتَلَهُ؟ قَالَ:
نَعَمْ! وَأَوَى قَتَلَتَهُ. فَانْصَرَفُوا إِلَى عَلِيٍّ فَذَكَرُوا لَهُ مَا قَالَ فَقَالَ: كَذَبَ! لَمْ أَقْتُلْهُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي لَمْ أَقْتُلْهُ. فَرَجَعُوا إلى معاوية فَقَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ قَتَلَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ أمر رجالا. فرجعوا إلى على فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا قَتَلْتُ وَلَا أَمَرْتُ وَلَا ماليت. فرجعوا فقال معاوية فان كَانَ صَادِقًا فَلْيُقِدْنَا مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، فَإِنَّهُمْ في عسكره وجنده فرجعوا فَقَالَ عَلِيٌّ: تَأَوَّلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِي فِتْنَةٍ وَوَقَعَتِ الْفُرْقَةُ لِأَجْلِهَا وَقَتَلُوهُ فِي سُلْطَانِهِ وليس لي عليهم وسبيل. فَرَجَعُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الأمر على ما يقول فما له أنفذ الْأَمْرَ دُونَنَا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَّا وَلَا ممن هاهنا؟ فرجعوا إلى على فقال على: إنما الناس مع الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَهُمْ شُهُودُ النَّاسِ عَلَى وِلَايَتِهِمْ وأمر دينهم، ورضوا وَبَايَعُونِي، وَلَسْتُ أَسْتَحِلُّ
أَنْ أَدَعَ مِثْلَ مُعَاوِيَةَ يَحْكُمُ عَلَى الْأُمَّةِ وَيَشُقُّ عَصَاهَا، فَرَجَعُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: مَا بَالُ مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَمْ يدخلوا في هذا الأمر؟ فرجعوا فقال على: إنما هذا للبدرين دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَدْرِيٌّ إلا وهو معى، وقد بايعنى وقد رضى، فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ دِينِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، قَالَ: فَأَقَامُوا يتراسلون في ذلك شهر ربيع الآخر وجماديين ويقرعون في غبون ذلك القرعة بعد القرعة ويزحف بعضهم على بعض، ويحجر بينهم القراء، فلا يكون قتال قال: فقرعوا في ثلاثة أشهر خمسة وثمانين قرعة. قَالَ: وَخَرَجَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو أُمَامَةَ فَدَخَلَا على معاوية فقالا له: يا معاوية على م تقاتل هذا الرجل؟ فو الله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاما، وَأَقْرَبُ مِنْكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ. فَقَالَ: أُقَاتِلُهُ عَلَى دَمِ عُثْمَانَ وَأَنَّهُ أَوَى قَتَلَتَهُ، فَاذْهَبَا إِلَيْهِ فَقُولَا لَهُ فَلْيُقِدْنَا مِنْ قَتَلَةِ عثمان ثم أنا أول من بايعه مَنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَذَهَبَا إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَا له ذلك فقال: هؤلاء الذين تريان فَخَرَجَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَقَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَةُ عُثْمَانَ فمن شاء فليرمنا. قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو أُمَامَةَ فَلَمْ يشهدا لهم حربا. قال عمرو بْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ رَجَبٌ وَخَشِيَ مُعَاوِيَةُ أَنْ تُبَايِعَ الْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ عَلِيًّا كَتَبَ فِي سَهْمٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ النَّاصِحِ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ! إِنَّ مُعَاوِيَةَ يُرِيدُ أَنْ يَفْجُرَ عَلَيْكُمُ الْفُرَاتَ لِيُغْرِقَكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ، وَرَمَى بِهِ فِي جَيْشِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَأَخَذَهُ الناس فقرءوه وَتَحَدَّثُوا بِهِ، وَذَكَرُوهُ لِعَلِيٍّ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا مَا لَا يَكُونُ وَلَا يَقَعُ. وَشَاعَ ذَلِكَ، وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ مِائَتَيْ فَاعِلٍ يَحْفِرُونَ فِي جَنْبِ الفرات وبلغ الناس ذلك فتشوش أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ ذَلِكَ وَفَزِعُوا إِلَى عَلِيٍّ فقال: ويحكم! إنه يريد خديعتكم لِيُزِيلَكُمْ عَنْ مَكَانِكُمْ هَذَا وَيَنْزِلَ فِيهِ لِأَنَّهُ خير من مكانه. فقالوا: لا بد من أن نخلي عن هذا الموضع فارتحلوا منه، وجاء معاوية فنزل بِجَيْشِهِ- وَكَانَ عَلِيٌّ آخَرَ مَنِ ارْتَحَلَ- فَنَزَلَ بِهِمْ وَهُوَ يَقُولُ:
فَلَوْ أَنِّي أَطَعْتُ عَصَمْتُ قومي
…
إلى ركن اليمامة أو شآم
وَلَكِنِّي إِذَا أَبْرَمْتُ أَمْرًا
…
يُخَالِفُهُ الطَّغَامُ بَنُو الطَّغَامِ
قَالَ: فَأَقَامُوا إِلَى شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ ثم شرعوا في المقاتلة فَجَعَلَ عَلِيٌّ يُؤَمِّرُ عَلَى الْحَرْبِ كُلَّ يَوْمٍ رَجُلًا وَأَكْثَرُ مَنْ كَانَ يُؤَمِّرُ الْأَشْتَرُ. وَكَذَلِكَ معاوية يُؤَمِّرُ كُلَّ يَوْمٍ أَمِيرًا فَاقْتَتَلُوا شَهْرَ ذِي الْحِجَّةِ بِكَمَالِهِ، وَرُبَّمَا اقْتَتَلُوا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ مَرَّتَيْنِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ رحمه الله: ثُمَّ لَمْ تَزَلِ الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَالنَّاسُ كَافُّونَ عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى انْسَلَخَ الْمُحَرَّمُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ صُلْحٌ، فأمر على ابن أبى طالب يزيد بْنَ الْحَارِثِ الْجُشَمِيَّ فَنَادَى أَهْلَ الشَّامِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَلَا إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ لكم: إني قد استأنيتكم لِتُرَاجِعُوا الْحَقَّ، وَأَقَمْتُ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ فَلَمْ تُجِيبُوا، وإني قد نبذت إِلَيْكُمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ. فَفَزِعَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى أُمَرَائِهِمْ فَأَعْلَمُوهُمْ بما سمعوا المنادي
ينادى فَنَهَضَ عِنْدَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرٌو فَعَبَّيَا الْجَيْشَ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَبَاتَ عَلِيٌّ يُعَبِّي جَيْشَهُ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَجَعَلَ عَلَى خَيْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ، وَعَلَى رَجَّالَتِهِمْ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَعَلَى خَيْلِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَعَلَى رَجَّالَتِهِمْ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَهَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ، وعلى قرائهم سعد بْنَ فَدَكِيٍّ التَّمِيمِيَّ، وَتَقَدَّمَ عَلِيٌّ إِلَى النَّاسِ أن لا يبدءوا واحدا بالقتال حتى يبدأ أهل الشام، وَأَنَّهُ لَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ وَلَا يُكْشَفُ سِتْرَ امْرَأَةٍ وَلَا تُهَانُ، وَإِنْ شَتَمَتْ أُمَرَاءَ النَّاسِ وَصُلَحَاءَهُمْ وَبَرَزَ مُعَاوِيَةُ صُبْحَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَقَدْ جَعَلَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ ابْنَ ذِي الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَعَلَى خَيْلِ دِمَشْقَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَعَلَى رَجَّالَتِهِمُ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَرَوَى ابْنُ دِيزِيلَ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الجعفي عن أبى جعفر الباقر ويزيد بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِمَا.
قَالُوا: لَمَّا بلغ معاوية سير على سَارَ مُعَاوِيَةُ نَحْوَ عَلِيٍّ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ سُفْيَانَ بْنَ عَمْرٍو أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ وَعَلَى الساقة بسر بن أبى أرطاة حتى توافقوا جميعا سائرين إِلَى جَانِبِ صِفِّينَ. وَزَادَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ فَقَالَ: جَعَلَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَعَلَى السَّاقَةِ بُسْرًا، وَعَلَى الْخَيْلِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَجَعَلَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَعَلَى رَجَّالَتِهَا يَزِيدَ بْنَ زَحْرٍ الْعَنْسِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَلَى رَجَّالَتِهَا حَابِسَ بْنَ سَعْدٍ الطَّائِيَّ، وَعَلَى خَيْلِ دِمَشْقَ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ وَعَلَى رَجَّالَتِهِمْ يَزِيدَ بْنَ لَبِيدِ بْنِ كُرْزٍ الْبَجَلِيَّ، وَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ حِمْصَ ذَا الْكَلَاعِ وَعَلَى أَهْلِ فِلَسْطِينَ مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ وَقَامَ مُعَاوِيَةُ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ! وَاللَّهِ مَا أَصَبْتُ الشَّامَ إِلَّا بِالطَّاعَةِ وَلَا أَضْبِطُ حَرْبَ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَّا بِالصَّبْرِ وَلَا أُكَابِدُ أَهْلَ الْحِجَازِ إِلَّا بِاللُّطْفِ، وَقَدْ تَهَيَّأْتُمْ وَسِرْتُمْ لِتَمْنَعُوا الشَّامَ وَتَأْخُذُوا الْعِرَاقَ، وَسَارَ الْقَوْمُ لِيَمْنَعُوا الْعِرَاقَ ويأخذوا الشام ولعمري اما للشام رجال الْعِرَاقِ وَلَا أَمْوَالِهَا، وَلَا لِلْعِرَاقِ خِبْرَةُ أَهْلِ الشام ولا بصائرها، مع أن القوم وبعدهم أعدادهم، وليس بعدكم غيركم فان غلبتموهم لم تغلبوا إلا من أناتكم وَإِنْ غَلَبُوكُمْ غَلَبُوا مَنْ بَعْدَكُمْ وَالْقَوْمُ لَاقُوكُمْ بِكَيْدِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَرِقَّةِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَبَصَائِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَسْوَةِ أَهْلِ مِصْرَ، وَإِنَّمَا يُنْصَرُ غدا من ينصر اليوم واسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا 7: 128 إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ 8: 46 وقد بلغ عليا خطبة معاوية فقام في أصحابه فحرضهم عَلَى الْجِهَادِ وَمَدَحَهُمْ بِالصَّبْرِ وَشَجَّعَهُمْ بِكَثْرَتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ، قَالَ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ أبى جعفر الباقر وزيد بن أنس وغيرهما قالوا:
سار على فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ فِي نَحْوٍ مِنْهُمْ مَنْ أَهْلِ الشَّامِ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ:
أَقْبَلَ عَلِيٌّ فِي مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ فِي مِائَةِ ألف وثلاثين ألفا- رواها ابْنُ دِيزِيلَ فِي كِتَابِهِ- وَقَدْ تَعَاقَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا فَعَقَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعَمَائِمِ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ خَمْسَةَ
صُفُوفٍ وَمَعَهُمْ سِتَّةُ صُفُوفٍ آخَرِينَ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْعِرَاقِ كَانُوا أَحَدَ عَشَرَ صَفًّا أَيْضًا فَتَوَاقَفُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَكَانَ أَمِيرَ الْحَرْبِ يَوْمَئِذٍ لِلْعِرَاقِيِّينَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، وَأَمِيرَ الْحَرْبِ يَوْمَئِذٍ لِلشَّامِيِّينَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَاقْتَتَلُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا ثُمَّ تَرَاجَعُوا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِمْ وَقَدِ انْتَصَفَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَتَكَافَئُوا فِي الْقِتَالِ ثُمَّ أَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَأَمِيرُ حَرْبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، وأمير الشاميين يومئذ أبا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا تَحْمِلُ الْخَيْلُ عَلَى الْخَيْلِ وَالرِّجَالُ عَلَى الرِّجَالُ ثُمَّ تَرَاجَعُوا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِمْ وَقَدْ صَبَرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِلْآخَرِ وَتَكَافَئُوا ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ- وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ- عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ مِنْ نَاحِيَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخَرَجَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي الشَّامِيِّينَ فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا وَحَمَلَ عَمَّارٌ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَأَزَالَهُ عَنْ مَوْقِفِهِ وَبَارَزَ زِيَادُ بْنُ النَّضْرِ الحارثي وكان على الخيالة رَجُلًا فَلَمَّا تَوَاقَفَا تَعَارَفَا فَإِذَا هُمَا أَخَوَانِ مِنْ أُمٍّ، فَانْصَرَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى قَوْمِهِ وَتَرَكَ صَاحِبَهُ، وَتَرَاجَعَ النَّاسُ مِنَ الْعَشِيِّ وَقَدْ صَبَرَ كُلُّ فَرِيقٍ لِصَاحِبِهِ، وَخَرَجَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ- وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ- مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ- وَهُوَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ- وَمَعَهُ جَمْعٌ عَظِيمٌ فخرج إليه في كَثِيرٍ مِنْ جِهَةِ الشَّامِيِّينَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَبَرَزَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَطَلَبَ مِنَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَبْرُزَ إِلَيْهِ فَبَرَزَ إِلَيْهِ؟ فَلَمَّا كَادَا أَنْ يَقْتَرِبَا قَالَ عَلِيٌّ: مَنِ الْمُبَارِزُ؟ قَالُوا محمد ابنك وعبيد الله، فَيُقَالُ إِنَّ عَلِيًّا حَرَّكَ دَابَّتَهُ وَأَمَرَ ابْنَهُ أن يتوقف وتقدم إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ إِلَيَّ قال له: لَا حَاجَةَ لِي فِي مُبَارَزَتِكَ، فَقَالَ: بَلَى، فَقَالَ: لَا! فَرَجَعَ عَنْهُ عَلِيٌّ وَتَحَاجَزَ النَّاسُ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ- وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ- فِي الْعِرَاقِيِّينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَفِي الشَّامِيِّينَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، واقتتل النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَجَعَلَ الْوَلِيدُ يَنَالُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو مِخْنَفٍ وَيَقُولُ: قتلتم خليفتكم ولم تنالوا ما طلبتم، وو الله إِنَّ اللَّهَ نَاصِرُنَا عَلَيْكُمْ.
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَابْرُزْ إِلَيَّ فَأَبَى عَلَيْهِ وَيُقَالُ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَاتَلَ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا بِنَفْسِهِ رضي الله عنه، ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ السادس- وهو يوم الاثنين- وعلى الناس من جهة العراقيين قيس بن سعد، ومن جهة أهل الشام بن ذِي الْكَلَاعِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَيْضًا وَتَصَابَرُوا ثُمَّ تَرَاجَعُوا، ثُمَّ خَرَجَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ فِي اليوم السابع- وهو يوم الثلاثاء وخرج إليه قرنه حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَيْضًا وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدٌ أَحَدًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَعْيَنَ الْجُهَنِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: حَتَّى مَتَى لَا نُنَاهِضُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِأَجْمَعِنَا؟ ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ عَشِيَّةَ الْأَرْبِعَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَقَالَ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي لَا يُبْرَمُ مَا نَقَضَ وَمَا أَبْرَمَ لَمْ يَنْقُضْهُ النَّاقِضُونَ، لَوْ شَاءَ مَا اخْتَلَفَ اثْنَانِ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا تَنَازَعَتِ الْأُمَّةُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَلَا جَحَدَ الْمَفْضُولُ ذَا الْفَضْلِ فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار وألقت بَيْنَنَا فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَنَحْنُ مِنْ رَبِّنَا بمرأى ومسمع
فلو شاء لعجل النقمة وكان منه التعسير حَتَّى يُكَذِّبَ اللَّهُ الظَّالِمَ، وَيُعْلَمَ الْحَقُّ أَيْنَ مَصِيرُهُ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ الْأَعْمَالِ، وَجَعَلَ الْآخِرَةَ عِنْدَهُ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى 53: 31 أَلَا وَإِنَّكُمْ لَاقُوا الْقَوْمِ غَدًا فَأَطِيلُوا اللَّيْلَةَ الْقِيَامَ، وَأَكْثِرُوا تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَأَسْأَلُوا اللَّهَ النَّصْرَ والصبر والقوة بِالْجِدِّ وَالْحَزْمِ وَكُونُوا صَادِقِينَ. قَالَ: فَوَثَبَ النَّاسُ إِلَى سُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ وَنِبَالِهِمْ يُصْلِحُونَهَا قَالَ: وَمَرَّ بالناس وهم كذلك كعب بن جعل التغلبي فرأى ما يصفون فَجَعَلَ يَقُولُ:
أَصْبَحَتِ الْأَمَّةُ فِي أَمْرِ عَجَبْ
…
وَالْمُلْكُ مَجْمُوعٌ غَدًا لِمَنْ غَلَبْ
فَقُلْتُ قَوْلًا صَادِقًا غَيْرَ كَذِبْ
…
إِنَّ غَدًا تَهْلِكُ أَعْلَامُ الْعَرَبْ
قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحَ عَلِيٌّ فِي جُنُودِهِ قَدْ عَبَّأَهُمْ كَمَا أَرَادَ، وَرَكِبَ مُعَاوِيَةُ فِي جَيْشِهِ قَدْ عَبَّأَهُمْ كَمَا أَرَادَ، وَقَدْ أَمَرَ عَلِيٌّ كُلَّ قَبِيلَةِ مَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنْ تكفيه أختها من أهل الشام فتقاتل الناس قِتَالًا عَظِيمًا لَا يَفِرُّ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ وَلَا يَغْلِبُ أَحَدٌ أَحَدًا، ثُمَّ تَحَاجَزُوا عِنْدَ الْعَشِيِّ، وَأَصْبَحَ عَلِيٌّ فَصَلَّى الْفَجْرَ بِغَلَسٍ وَبَاكَرَ الْقِتَالَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ أَهْلَ الشَّامِ فَاسْتَقْبَلُوهُ بِوُجُوهِهِمْ، فقال على فيما رواه ابن مِخْنَفٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَعْيَنَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ: اللَّهمّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَحْفُوظِ الْمَكْفُوفِ الّذي جعلته سقفا لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَجَعَلْتَ فِيهِ مَجْرَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَنَازِلَ النُّجُومِ، وَجَعَلْتَ فِيهِ سِبْطًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لا يسأمون العبادة، ورب الْأَرْضِ الَّتِي جَعَلْتَهَا قَرَارًا لِلْأَنَامِ وَالْهَوَامِّ وَالْأَنْعَامِ، وما لا يحصى مما نرى وما لا نرى مِنْ خَلْقِكَ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَرَبَّ السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَرَبَّ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ الْمُحِيطِ بِالْعَالَمِ، وَرَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتِي جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَادًا وَلِلْخَلْقِ مَتَاعًا، إِنْ أَظَهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ وَالْفَسَادَ وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ، وَإِنْ أَظَهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنِي الشَّهَادَةَ وَجَنِّبْ بَقِيَّةَ أَصْحَابِي مِنَ الْفِتْنَةِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي الْقَلْبِ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَى الْقُرَّاءِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَالنَّاسُ عَلَى رَايَاتِهِمْ فَزَحَفَ بِهِمْ إِلَى الْقَوْمِ، وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ- وَقَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْمَوْتِ- فَتَوَاقَفَ النَّاسُ فِي مَوْطِنٍ مَهُولٍ وَأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ أَمِيرُ مَيْمَنَةِ عَلِيٍّ عَلَى ميسرة أهل الشام وعليها حبيب ابن مَسْلَمَةَ، فَاضْطَرَّهُ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْقَلْبِ، وَفِيهِ معاوية، وقام عبد الله بن بديل خطيبا في الناس يحرّضهم على القتال ويحثهم على الصبر والجهاد، وحرض أمير المؤمنين على الناس على الصبر والثبات والجهاد، وحثهم على قتال أهل الشام، وقام كل أمير في أصحابه يحرضهم، وَتَلَا عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْقِتَالِ مِنْ أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ 61: 4 ثُمَّ قَالَ: قَدِّمُوا الْمُدَارِعَ وَأَخِّرُوا الْحَاسِرَ وَعَضُّوا على الأضراس، فإنه أنكى للسيوف
عن الهام، وألبوا إلى أطراف الرماح فإنه أفوق لِلْأَسِنَّةِ، وَغُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبُطُ لِلْجَأْشِ وَأَسْكُنُ لِلْقَلْبِ، وَأَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ وَأَوْلَى بالوقار، راياتكم لا تميلوها ولا نزيلوها وَلَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه بارز في أيام صِفِّينَ وَقَاتَلَ وَقَتَلَ خَلْقَا حَتَّى ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَتَلَ خَمْسَمِائَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُرَيْبَ بْنَ الصَّبَّاحِ قَتَلَ أَرْبَعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ تم وضعهم تحت قدميه ثم نادى: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَبَرَزَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَتَجَاوَلَا سَاعَةً ثُمَّ ضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَبَرَزَ إِلَيْهِ الْحَارِثُ بْنُ وَدَاعَةَ الْحِمْيَرِيُّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ إِلَيْهِ رواد ابن الْحَارِثِ الْكَلَاعِيُّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ إِلَيْهِ الْمُطَاعُ بن المطلب القيسي فقتله. فتلا على قوله تعالى وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ 2: 194 ثُمَّ نَادَى وَيْحَكَ يَا مُعَاوِيَةُ! ابْرُزْ إِلَيَّ ولا تفنى العرب بيني وبينك، فقال له عمرو بن العاص: اغْتَنِمْهُ فَإِنَّهُ قَدْ أَثْخَنَ بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُقْهَرْ قَطُّ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ قَتْلِي لِتُصِيبَ الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِي، اذْهَبْ إِلَيْكَ! فَلَيْسَ مِثْلِي يُخْدَعُ وَذَكَرُوا أَنَّ عَلِيًّا حَمَلَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَوْمًا فَضَرَبَهُ بِالرُّمْحِ فَأَلْقَاهُ إلى الأرض فبدت سوأته فرجع عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: مَالَكَ يَا أَمِيرَ المؤمنين رجعت عنه؟ فقال: أتدرون ما هو؟
قالوا: لا! قال: هذا عمرو بن العاص تَلَقَّانِي بِسَوْءَتِهِ فَذَكَّرَنِي بِالرَّحِمِ فَرَجَعْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا رَجَعَ عَمْرٌو إِلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ: احْمَدِ اللَّهَ وَاحْمَدِ اسْتَكَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ: ثَنَا يَحْيَى ثَنَا نَصْرٌ ثَنَا عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن نُمَيْرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَسْمَعُ عَلِيًّا وَهُوَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ صِفِّينَ أَمَا تَخَافُونَ مَقْتَ اللَّهِ حَتَّى مَتَى، ثُمَّ انْفَتَلَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا سَمِعْنَا برئيس أصاب بيده مَا أَصَابَ عَلِيٌّ يَوْمَئِذٍ إِنَّهُ قَتَلَ فِيمَا ذَكَرَ الْعَادُّونَ زِيَادَةً عَلَى خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ، يَخْرُجُ فَيَضْرِبُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَنْحَنِيَ ثُمَّ يَجِيءُ فَيَقُولُ مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَقْلَعَهُ وَلَكِنْ يَحْجِزُنِي عَنْهُ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفَقَارِ وَلَا فَتَى إِلَّا عَلِيٌّ» قَالَ: فَيَأْخُذُهُ فَيُصْلِحُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ وَحَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَحَدَّثَنَا يَحْيَى ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ مَنْ حَضَرَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ لَقِيطٍ قَالَ: شَهِدْنَا صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ قَالَ فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ عَلَيْنَا دَمًا عَبِيطًا قَالَ اللَّيْثُ فِي حَدِيثِهِ حَتَّى أَنْ كَانُوا لَيَأْخُذُونَهُ بِالصِّحَافِ وَالْآنِيَةِ قَالَ ابن لهيعة: فتمتلى وَنُهْرِيقُهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُدَيْلٍ كَسَرَ الْمَيْسَرَةَ الَّتِي فِيهَا حَبِيبُ بْنُ مسلمة حتى أضافها إلى الْقَلْبِ فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ الشُّجْعَانَ أَنْ يُعَاوِنُوا حَبِيبًا عَلَى الْكَرَّةِ وَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُهُ بِالْحَمْلَةِ وَالْكَرَّةِ عَلَى ابْنِ بُدَيْلٍ، فَحَمَلَ حَبِيبٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الشُّجْعَانِ عَلَى مَيْمَنَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَزَالُوهُمْ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ وَانْكَشَفُوا عَنْ أَمِيرِهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا زُهَاءُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَانْجَفَلَ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ عَلِيٍّ من تلك القبائل إلا أهل
مكة وَعَلَيْهِمْ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَثَبَتَ رَبِيعَةُ مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَاقْتَرَبَ أَهْلُ الشَّامِ مِنْهُ حَتَّى جَعَلَتْ نِبَالُهُمْ تَصِلُ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ مَوْلًى لِبَنِي أُمَيَّةَ فَاعْتَرَضَهُ مَوْلًى لِعَلِيٍّ فَقَتَلَهُ الْأُمَوِيُّ وَأَقْبَلَ يُرِيدُ عَلِيًّا وَحَوْلَهُ بَنُوهُ الحسن الحسين ومحمد بن حنفية، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى عَلِيٍّ أَخَذَهُ عَلِيٌّ بِيَدِهِ فَرَفَعَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ عَلَى الْأَرْضِ فَكَسَرَ عَضُدَهُ وَمَنْكِبَهِ وَابْتَدَرَهُ الْحُسَيْنُ وَمُحَمَّدٌ بِأَسْيَافِهِمَا فَقَتَلَاهُ فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْحَسَنِ ابْنِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَهُ: مَا منعك أن تصنع كما صنعا فقال: كفيان أَمْرَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَسْرَعَ إِلَى عَلِيٍّ أَهْلُ الشَّامِ فَجَعَلَ عَلِيٌّ لَا يَزِيدُهُ قُرْبُهُمْ مِنْهُ سُرْعَةً فِي مِشْيَتِهِ، بَلْ هُوَ سَائِرٌ عَلَى هِينَتِهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ: يَا أبة لو سعيت أكثر من مشيتك هذه فَقَالَ. يَا بُنَيَّ إِنَّ لِأَبِيكَ يَوْمًا لَنْ يَعْدُوَهُ وَلَا يُبْطِئُ بِهِ عَنْهُ السَّعْيُ وَلَا يُعَجِّلُ بِهِ إِلَيْهِ الْمَشْيُ إِنَّ أَبَاكَ وَاللَّهِ ما يبالي وقع على الموت أو وقع عليه ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا أَمَرَ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ أَنْ يلحق المنهزمين فيردهم فسار فأسرع حتى استقبل المنهزمين من العراق فَجَعَلَ يُؤَنِّبُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ وَيُحَرِّضُ الْقَبَائِلَ وَالشُّجْعَانَ مِنْهُمْ على الكرة فجعل طائفة تتابعه وآخرون يستمرون فِي هَزِيمَتِهِمْ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُ حَتَّى اجتمع عليه خلق عظيم من الناس فجعل لا يلقى قبيلة إِلَّا كَشَفَهَا وَلَا طَائِفَةَ إِلَّا رَدَّهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَمِيرِ الْمَيْمَنَةِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بن بديل ومعه نحو في ثلاثمائة قد ثبتوا في مكانهم فسألوا عن أمير المؤمنين فقالوا حي صالح فالتفوا إليه، فَتَقَدَّمَ بِهِمْ حَتَّى تَرَاجَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَذَلِكَ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ، وَأَرَادَ ابْنُ بُدَيْلٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ فَأَمَرَهُ الْأَشْتَرُ أَنْ يَثْبُتَ مَكَانَهُ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ ابْنُ بُدَيْلٍ، وَحَمَلَ نَحْوَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ وَجَدَهُ وَاقِفًا أَمَامَ أَصْحَابِهِ وَفِي يَدِهِ سَيْفَانِ وَحَوْلَهُ كَتَائِبُ أمثال الجبال، فلما اقترب ابن بديل تقدم إليه جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَقَتَلُوهُ وَأَلْقَوْهُ إِلَى الْأَرْضِ قَتِيلًا، وفر أصحابه منهزمين وأكثرهم مجروح فلما انهزم أصحابه قَالَ مُعَاوِيَةُ لِأَصْحَابِهِ انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِهِمْ، فَجَاءُوا إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ فَتَقَدَّمَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
هَذَا وَاللَّهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ:
أَخُو الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا
…
وَإِنْ شَمَّرَتْ يَوْمًا بِهِ الْحَرْبُ شَمَّرَا
ويحمى إذا ما الموت كان لقاؤه
…
كذلك ذو الأشبال يحمى إذا ما تأمرا
كَلَيْثً هِزَبْرٍ كَانَ يَحْمِي ذِمَارَهُ
…
رَمَتْهُ الْمَنَايَا سهمها فَتَقَطَّرَا
ثُمَّ حَمَلَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيَّ بِمَنْ رَجَعَ مَعَهُ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ فَصَدَقَ الْحَمْلَةَ حَتَّى خَالَطَ الصفوف الخمسة الذين تعاقدوا أَنْ لَا يَفِرُّوا وَهُمْ حَوْلَ مُعَاوِيَةَ، فَخَرَقَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً وَبَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ صَفٌّ، قَالَ الْأَشْتَرُ فَرَأَيْتُ هَوْلًا عَظِيمًا، وَكِدْتُ أَنْ أَفِرَّ فَمَا ثَبَّتَنِي إِلَّا قَوْلُ ابْنُ الْإِطْنَابَةِ وَهِيَ أُمُّهُ مِنْ بَلْقَيْنَ وَكَانَ هُوَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ جَاهِلِيٌّ:
أَبَتْ لِي عِفَّتِي وَأَبَى بَلَائِي
…
وِإِقْدَامِي عَلَى الْبَطَلِ الْمُشِيحِ
وَإِعْطَائِى عَلَى الْمَكْرُوهِ مَالِي
…
وَضَرْبِي هَامَةَ الرَّجُلِ السَّمِيحِ
وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ
…
مَكَانَكِ تُحْمَدِي أو تسريحى
قال: فهذا الَّذِي ثَبَّتَنِي فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ ابْنَ دِيزِيلَ رَوَى فِي كِتَابِهِ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ حَمَلُوا حَمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَمْ يَبْقَ لِأَهْلِ الشَّامِ صَفٌّ إِلَّا أَزَالُوهُ حَتَّى أَفْضَوْا إِلَى مُعَاوِيَةَ فَدَعَا بِفَرَسِهِ لِيَنْجُوَ عَلَيْهِ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: فلما وضعت رجلي في الرِّكَابِ تَمَثَّلْتُ بِأَبْيَاتِ عَمْرِو بْنِ الْإِطْنَابَةِ:
أَبَتْ لي عفتي وأبى بلائي
…
وأخذى الحمل بِالثَّمَنِ الرَّبِيحِ
وَإِعْطَائِي عَلَى الْمَكْرُوهِ مَالِي
…
وَضَرْبِي هَامَةَ الْبَطَلِ الْمُشِيحِ
وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ
…
مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي
قَالَ: فَثَبَتُّ وَنَظَرَ معاوية إلى عمرو بن العاص فَقَالَ: الْيَوْمَ صَبْرٌ وَغَدًا فَخْرٌ، فَقَالَ لَهُ عمرو: صدقت قال معاوية فأصبت خير الدنيا وأنا أرجو أن أصيب خير الْآخِرَةِ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَهُوَ أَمِيرُ الْخَيَّالَةِ لِعَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ ولك إمرة العراق، فطمع فيه، فلما ولى معاوية ولاه العراق فلم يصل إليها خالد رحمه الله، ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا لَمَّا رَأَى الْمَيْمَنَةَ قَدِ اجْتَمَعَتْ رَجَعَ إِلَى النَّاسِ فَأَنَّبَ بَعْضَهُمْ وَعَذَّرَ بَعْضَهُمْ وَحَرَّضَ النَّاسَ وَثَبَّتَهُمْ ثُمَّ تَرَاجَعَ أَهْلُ العراق فاجتمع شملهم ودارت رحى الحرب بينهم وَجَالُوا فِي الشَّامِيِّينَ وَصَالُوا، وَتَبَارَزَ الشُّجْعَانُ فَقُتِلَ خلق كثير من الأعيان من الفريقين ف إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. 2: 156 وقيل ممن قتل في هذا اليوم عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنَ الشاميين، واختلفوا فيمن قتله من العراقيين، وَقَدْ ذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَمَّا خَرَجَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرًا على الحرب أَحْضَرَ امْرَأَتَيْهِ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُطَارِدِ بْنِ حَاجِبٍ التَّمِيمِيِّ وَبَحْرِيَّةَ بِنْتَ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ الشَيْبَانَيِّ- فوقفتا وراءه في راحلتين لينظرا إِلَى قِتَالِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَقُوَّتِهِ، فَوَاجَهَتْهُ مِنْ جَيْشِ العراقيين ربيعة الكوفة وعليهم زياد بن حفصة التميمي، فشدوا عليه شدة رجل واحد فَقَتَلُوهُ بَعْدَ مَا انْهَزَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَنَزَلَتْ ربيعة فضربوا لأميرهم خيمة فبقي طنب منها لَمْ يَجِدُوا لَهُ وَتَدًا فَشَدُّوهُ بِرِجْلِ عُبَيْدِ الله، وجاءت امرأتاه يولولان حَتَّى وَقَفَتَا عَلَيْهِ وَبَكَتَا عِنْدَهُ، وَشَفَعَتِ امْرَأَتُهُ بحرية إلى الأمير فأطلقه لهما فاحتملتاه معهما فِي هَوْدَجِهِمَا وَقُتِلَ مَعَهُ أَيْضًا ذُو الْكَلَاعِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَفِي مَقْتَلِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عمر يقول كعب بن جعل التَّغْلَبِيُّ
أَلَا إِنَّمَا تَبْكِي الْعُيُونُ لِفَارِسٍ
…
بِصِفِّينَ وَلَّتْ خَيْلُهُ وَهْوَ وَاقِفُ
تَبَدَّلَ مِنْ أَسْمَاءَ أَسْيَافَ وَائِلٍ
…
وَكَانَ فَتًى لَوْ أَخْطَأَتْهُ الْمَتَالِفُ
تَرَكْنَ عُبَيْدَ اللَّهِ بِالْقَاعِ ثَاوِيًا
…
تَسِيلُ دَمَاهُ والعروق نوازف