الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَدُوٌّ- وَكَانَ مُعَاوِيَةُ حَازِمًا أَيْضًا- فَكَتَبَ إِلَيْهِ بما صَمَّمَ عَلَيْهِ: إِنِّي مَعَ عَلِيٍّ إِذْ هُوَ أَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنْكَ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ بن أبى سفيان يئس منه ورجع ثم أشاع بعض أهل الشام أن قيس بن سعد يُكَاتِبُهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَيُمَالِئُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ، وروى ابن جرير أنه جاء من جهته كتاب مزور بمبايعته معاوية والله أعلم بصحته. ولما بلغ ذلك عليا فاتهمه وكتب له أَنْ يَغْزُوَ أَهْلَ خِرِبْتَا الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ البيعة، فبعث إليه يعتذر إليه بأنهم عدد كثير، وَهُمْ وُجُوهُ النَّاسِ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنْ كُنْتَ إنما أمرتنى بهذا لتختبرنى لأنك اتهمتنى، فَابْعَثْ عَلَى عَمَلِكَ بِمِصْرَ غَيْرِي، فَبَعَثَ عَلِيٌّ على إمرة مصر الأشتر النخعي، فسار إليها الأشتر النخعي فَلَمَّا بَلَغَ الْقُلْزُمَ شَرِبَ شَرْبَةً مِنْ عَسَلٍ فَكَانَ فِيهَا حَتْفُهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الشَّامِ فَقَالُوا: إِنَّ للَّه جُنْدًا مِنْ عَسَلٍ، فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا مَهْلِكُ الْأَشْتَرِ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى إِمْرَةِ مِصْرَ، وَقَدْ قِيلَ وهو الأصح إن عليا ولى محمد بن أبى بكر بَعْدَ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، فَارْتَحَلَ قَيْسٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ رَكِبَ هُوَ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ إِلَى عَلِيٍّ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ فَعَذَرَهُ عَلِيٌّ، وَشَهِدَا مَعَهُ صِفِّينَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، فلم يزل محمد بن أبى بكر بمصر قائم الأمر مهيبا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، حَتَّى كَانَتْ وَقْعَةُ صِفِّينَ، وَبَلَغَ أهل مصر خبر معاوية ومن معه من أهل الشام على قتال أهل العراق، وصاروا إلى التحكيم فطمع أَهْلُ مِصْرَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ واجترأوا عَلَيْهِ وَبَارَزُوهُ بِالْعَدَاوَةِ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَدْ بَايَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْقِيَامِ بِطَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ حِينَ أَرَادُوا حَصْرَهُ لِئَلَّا يَشْهَدَ مَهْلِكَهُ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُتَعَتِّبًا عليه بسبب عزله له عن ديار مصر وتوليته بدله عَلَيْهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فتسرح عن المدينة على تغضب فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنَ الْأُرْدُنِّ، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ صَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَبَايَعَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
فصل في وَقْعَةِ صِفِّينَ [بَيْنَ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، وَبَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ
قَدْ تَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ. أَنَّهُ قَالَ:
«هَاجَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَاتُ الألوف فَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْهُمْ مِائَةٌ، بَلْ لَمْ يَبْلُغُوا ثَلَاثِينَ» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خلد قَالَ لِشُعْبَةَ إِنَّ أَبَا شَيْبَةَ رَوَى عَنِ الْحَكَمِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: «شَهِدَ صِفِّينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ سَبْعُونَ رَجُلًا، فَقَالَ: كَذَبَ أَبُو شَيْبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ ذَاكَرْنَا الْحَكَمَ فِي ذَلِكَ فَمَا وَجَدْنَاهُ شَهِدَ صِفِّينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ غَيْرَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ؟ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ شَهِدَهَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَكَذَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ. قَالَهُ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي
كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَةِ- وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ أَنَّهُ قَالَ: أما إن رجالا من مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ لَزِمُوا بُيُوتَهُمْ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ فَلَمْ يَخْرُجُوا إِلَّا إِلَى قُبُورِهِمْ] [1] وَأَمَّا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَإِنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ وَشَيَّعَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ لَمَّا أَرَادَتِ الرُّجُوعَ إِلَى مَكَّةَ، سَارَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الكوفة قال أبو الكنود عبد الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدٍ فَدَخَلَهَا عَلِيٌّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ فَقِيلَ لَهُ: انْزِلْ بِالْقَصْرِ الْأَبْيَضِ، فقال: لا! إن عمر بن الخطاب كَانَ يَكْرَهُ نُزُولَهُ فَأَنَا أَكْرَهُهُ لِذَلِكَ، فَنَزَلَ فِي الرَّحْبَةِ وَصَلَّى فِي الْجَامِعِ الْأَعْظَمِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَحَثَّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَنَهَاهُمْ عَنِ الشَّرِّ، وَمَدَحَ أَهْلَ الْكُوفَةِ فِي خُطْبَتِهِ هَذِهِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- وَكَانَ عَلَى هَمَذَانَ مِنْ زَمَانِ عُثْمَانَ- وَإِلَى الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ- وَهُوَ عَلَى نِيَابَةِ أذربيجان من زمان عثمان- أن يأخذا البيعة على من لك من الرعايا ثُمَّ يُقْبِلَا إِلَيْهِ، فَفَعَلَا ذَلِكَ. فَلَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ رضي الله عنه أَنْ يَبْعَثَ إِلَى مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه يَدْعُوهُ إِلَى بَيْعَتِهِ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ودا، فآخذ لك منه البيعة، فَقَالَ الْأَشْتَرُ: لَا تَبْعَثْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَوَاهُ مَعَهُ. فَقَالَ على:
دعه، وبعثه وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى مُعَاوِيَةَ يُعْلِمُهُ بِاجْتِمَاعِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى بَيْعَتِهِ، وَيُخْبِرُهُ بِمَا كَانَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ جَرِيرُ بن عبد الله أعطاه الكتاب فطلب مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَرُءُوسَ أَهْلِ الشَّامِ فَاسْتَشَارَهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُبَايِعُوا حَتَّى يَقْتُلَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، أَوْ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَاتَلُوهُ وَلَمْ يُبَايِعُوهُ حَتَّى يقتل قتلة عثمان بن عفان رضى الله عنه. فَرَجَعَ جَرِيرٌ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالُوا، فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين ألم أنهك أَنْ تَبْعَثَ جَرِيرًا؟ فَلَوْ كُنْتَ بَعَثْتَنِي لَمَا فَتَحَ مُعَاوِيَةُ بَابًا إِلَّا أَغْلَقْتُهُ. فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ: لَوْ كُنْتَ ثَمَّ لَقَتَلُوكَ بِدَمِ عُثْمَانَ. فقال الأشتر: والله لو بعثني لم يعننى جَوَابُ مُعَاوِيَةَ وَلَأُعْجِلَنَّهُ عَنِ الْفِكْرَةِ، وَلَوْ أَطَاعَنِي قبل لَحَبَسَكَ وَأَمْثَالَكَ حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فقام جرير مغضبا وأقام بِقَرْقِيسِياءَ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُهُ بِمَا قَالَ وَمَا قِيلَ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُهُ بالقدوم عليه. وخرج أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ الْكُوفَةِ عَازِمًا عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الشَّامِ فَعَسْكَرَ بِالنُّخَيْلَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ أَبَا مَسْعُودٍ عُقْبَةَ ابن عامر الْبَدْرِيَّ الْأَنْصَارِيَّ وَكَانَ قَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ بِأَنْ يُقِيمَ بِالْكُوفَةِ وَيَبْعَثَ الْجُنُودَ وَأَشَارَ آخَرُونَ أن يخرج فيهم بِنَفْسِهِ، وَبَلَغَ مُعَاوِيَةَ أَنَّ عَلِيًّا قَدْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ فَاسْتَشَارَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَقَالَ لَهُ: اخرج أنت أيضا بِنَفْسِكَ، وَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي النَّاسِ فَقَالَ: إِنَّ صَنَادِيدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ قَدْ تَفَانَوْا يَوْمَ الْجَمَلِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ عَلِيٍّ إلا شرذمة قليلة من الناس، ممن قتل، وقد قتل
[1] زيادة من نسخة طوپ قبو بالآستانة.
الخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فاللَّه اللَّهَ فِي حَقِّكُمْ أَنْ تُضَيِّعُوهُ، وَفِي دمكم أن تُطِلُّوهُ، وَكَتَبَ إِلَى أَجْنَادِ الشَّامِ فَحَضَرُوا، وَعُقِدَتِ الْأَلْوِيَةُ وَالرَّايَاتُ لِلْأُمَرَاءِ، وَتَهَيَّأَ أَهْلُ الشَّامِ وَتَأَهَّبُوا، وَخَرَجُوا أَيْضًا إِلَى نَحْوِ الْفُرَاتِ مِنْ نَاحِيَةِ صفين- حيث يكون مقدم عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَسَارَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِمَنْ مَعَهُ من الجنود مِنَ النُّخَيْلَةِ قَاصِدًا أَرْضَ الشَّامِ. قَالَ أَبُو إسرائيل عن الحكم ابن عيينة: وكان في جيشه ثَمَانُونَ بَدْرِيًّا وَمِائَةٌ وَخَمْسُونَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. رَوَاهُ ابْنُ دِيزِيلَ.
وَقَدِ اجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِرَاهِبٍ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا ذَكَرَهُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ فِي كِتَابِهِ فِيمَا رَوَاهُ عن يحيى ابن عَبْدِ اللَّهِ الْكَرَابِيسِيِّ عَنْ نَصْرِ بْنِ مُزَاحِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنِي مُسْلِمٌ الْأَعْوَرُ عَنْ حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ قَالَ: لَمَّا أَتَى عَلِيٌّ الرقة نزل بمكان يقال له البلبخ عَلَى جَانِبِ الْفُرَاتِ فَنَزَلَ إِلَيْهِ رَاهِبٌ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَقَالَ لِعَلِيٍّ: إِنَّ عِنْدَنَا كِتَابًا تَوَارَثْنَاهُ عَنْ آبَائِنَا كَتَبَهُ أَصْحَابُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عليهما السلام، أَعْرِضُهُ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ! فقرأ الراهب الكتاب.
فَبَكَى عَلِيٌّ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي لَمْ يَجْعَلْنِي عِنْدَهُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، وَالْحَمْدُ للَّه الَّذِي ذَكَرَنِي عِنْدَهُ فِي كُتُبِ الْأَبْرَارِ. فَمَضَى الرَّاهِبُ مَعَهُ وَأَسْلَمَ فَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ حَتَّى أُصِيبَ يَوْمَ صِفِّينَ، فَلَمَّا خَرَجَ الناس يطلبون قتلاهم قال على: اطلبوا الراهب، فوجدوه قتيلا، فَلَمَّا وَجَدُوهُ صَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ. وَقَدْ بَعَثَ عَلِىٌّ بَيْنَ يَدَيْهِ زِيَادَ بْنَ النَّضْرِ الْحَارِثِيَّ طَلِيعَةً فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، وَمَعَهُ شريح بن هاني، فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَسَارُوا فِي طَرِيقٍ بَيْنَ يَدَيْهِ غَيْرِ طَرِيقِهِ، وَجَاءَ عَلِيٌّ فَقَطَعَ دِجْلَةَ مِنْ جِسْرِ مَنْبِجٍ وَسَارَتِ الْمُقَدِّمَتَانِ، فَبَلَغَهُمْ أَنَّ معاوية قد ركب في أهل الشام ليلتقى أمير المؤمنين عليا فهموا بلقياه فَخَافُوا مِنْ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَعَدَلُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ وَجَاءُوا لِيَعْبُرُوا مِنْ عَانَاتَ فَمَنَعَهُمْ أَهْلُ عَانَاتَ فَسَارُوا
فَعَبَرُوا مِنْ هِيتَ ثُمَّ لَحِقُوا عَلِيًّا- وَقَدْ سَبَقَهُمْ- فَقَالَ عَلِيٌّ: مُقَدِّمَتِي تَأْتِي مِنْ وَرَائِي؟ فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِمَا جَرَى لَهُمْ، فَعَذَرَهُمْ ثُمَّ قَدَّمَهُمْ أَمَامَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَنْ عَبَرَ الْفُرَاتَ فَتَلَقَّاهُمْ أَبُو الْأَعْوَرِ عَمْرُو بْنُ سُفْيَانَ السُّلَمِىُّ فِي مُقَدِّمَةِ أَهْلِ الشَّامِ فَتَوَاقَفُوا، وَدَعَاهُمْ زِيَادُ بْنُ النَّضْرِ أَمِيرُ مُقَدِّمَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، إلى البيعة فَلَمْ يُجِيبُوهُ بِشَيْءٍ فَكَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ بِذَلِكَ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ أَمِيرًا، وَعَلَى ميمنته زياد، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ شُرَيْحٌ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ إليهم بقتال حتى يبدءوه بِالْقِتَالِ، وَلَكِنْ لِيَدْعُهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَإِنِ امْتَنَعُوا فَلَا يُقَاتِلْهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوهُ وَلَا يَقْرَبْ مِنْهُمْ قُرْبَ مَنْ يُرِيدُ الْحَرْبَ، ولا يبتعد منهم ابتعاد من يهاب الرجال، ولكن صابرهم حتى آتينك فَأَنَا حَثِيثُ السَّيْرِ وَرَاءَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فتحاجزوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ حَمَلَ عليهم أبو الأعور السلمي وَبَعَثَ مَعَهُ بِكِتَابِ الْإِمَارَةِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ مَعَ الحارث بن جهمان الْجُعْفِيِّ، فَلَمَّا قَدِمَ الْأَشْتَرُ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ امْتَثَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ عَلِيٌّ، فَتَوَاقَفَ هُوَ وَمُقَدِّمَةُ معاوية وعليها أبو الأعور السلمي فثبتوا له واصطبروا لهم سَاعَةً ثُمَّ انْصَرَفَ أَهْلُ الشَّامِ عِنْدَ الْمَسَاءِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ تَوَاقَفُوا أَيْضًا وَتَصَابَرُوا فَحَمَلَ الْأَشْتَرُ فَقَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُنْذِرِ التَّنُوخِيَّ- وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ أَهْلِ الشَّامِ- قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ ظَبْيَانُ بْنُ عُمَارَةَ التَّمِيمِيُّ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَمَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو الْأَعْوَرِ بِمَنْ مَعَهُ، فَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِمْ وَطَلَبَ الْأَشْتَرُ مِنْ أَبِي الْأَعْوَرِ أَنْ يُبَارِزَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ أَبُو الْأَعْوَرِ إِلَى ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ رَآهُ غَيْرَ كفء له في ذلك والله أعلم. وتحاجز الْقَوْمُ عَنِ الْقِتَالِ عِنْدَ إِقْبَالِ اللَّيْلِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي، فَلَمَّا كَانَ صَبَاحُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَقْبَلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي جُيُوشِهِ، وَجَاءَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه فِي جُنُودِهِ، فتواجه الفريقان وتقابل الطائفتان فباللَّه الْمُسْتَعَانُ، فَتَوَاقَفُوا طَوِيلًا. وَذَلِكَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: صِفِّينَ وَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ عَدَلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَارْتَادَ لِجَيْشِهِ مَنْزِلًا، وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ سَبَقَ بِجَيْشِهِ فَنَزَلُوا على مشرعة الماء في أسهل موضع وأفسحه، فلما نزل عَلِيٌّ نَزَلَ بَعِيدًا مِنَ الْمَاءِ، وَجَاءَ سَرَعَانُ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِيَرِدُوا مِنَ الْمَاءِ فَمَنَعَهُمْ أَهْلُ الشام، فوقع بينهم مقاتلة بسبب ذلك، وقد كان معاوية وَكَّلَ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَشْرَعَةٌ سِوَاهَا، فَعَطِشَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ عَطَشًا شَدِيدًا فَبَعَثَ عَلِيٌّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ الْكِنْدِيَّ فِي جَمَاعَةٍ لِيَصِلُوا إِلَى الْمَاءِ فَمَنَعَهُمْ أُولَئِكَ وقال: مُوتُوا عَطَشًا كَمَا مَنَعْتُمْ عُثْمَانَ الْمَاءَ، فَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ سَاعَةً، ثُمَّ تَطَاعَنُوا بِالرِّمَاحِ أُخْرَى، ثُمَّ تَقَاتَلُوا بِالسُّيُوفِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَمَدَّ كُلَّ طائفة أهلها، حتى جاء الأشتر النخعي من ناحية العراقيين وعمرو بن العاص من ناحية الشاميين، واشتدت الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ، وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ- وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفِ بْنِ الْأَحْمَرِ الْأَزْدِيُّ- وَهُوَ يُقَاتِلُ.
خَلُّوا لَنَا مَاءَ الْفُرَاتِ الْجَارِي
…
أَوِ اثْبُتُوا بجحفل جرار
لكل قرم مشرب تيار
…
مطاعن برمحه كرار
ضراب هامات العدي مِغْوَارِ
ثُمَّ مَا زَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يَكْشِفُونَ الشَّامِيِّينَ عَنِ الْمَاءِ حَتَّى أَزَاحُوهُمْ عَنْهُ وَخَلَّوْا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى الْوُرُودِ حَتَّى صَارُوا يَزْدَحِمُونَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ لَا يُكَلِّمُ أحد أحدا، ولا يؤذى إنسان إِنْسَانًا. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَمَرَ أَبَا الْأَعْوَرِ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ وَقَفَ دُونَهَا بِرِمَاحٍ مُشْرَعَةٍ، وَسُيُوفٍ مُسَلَّلَةٍ، وَسِهَامٍ مُفَوَّقَةٍ، وَقِسِيٍّ مُوَتَّرَةٍ، فَجَاءَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ عَلِيًّا فَشَكَوْا إِلَيْهِ ذَلِكَ فَبَعَثَ صَعْصَعَةَ بْنَ صُوحَانَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّا جِئْنَا كَافِّينَ عَنْ قِتَالِكُمْ حَتَّى نُقِيمَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ، فَبَعَثْتَ إِلَيْنَا مُقَدَّمَتَكَ فَقَاتَلَتْنَا قبل أن نبدأكم، ثم هذه أخرى قد منعونا الماء، فلما بلغه ذلك قال معاوية للقوم:
ماذا يريدون؟ فقال عمر وخلّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَلَيْسَ مِنَ النَّصَفِ أَنْ نَكُونَ رَيَّانِينَ وَهُمْ عِطَاشٌ، وَقَالَ الْوَلِيدُ: دَعْهُمْ يَذُوقُوا مِنَ الْعَطَشِ مَا أَذَاقُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ حِينَ حَصَرُوهُ فِي دَارِهِ، وَمَنَعُوهُ طَيِّبَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سعد بن أبى سرج: امْنَعْهُمُ الْمَاءَ إِلَى اللَّيْلِ فَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى بِلَادِهِمْ. فَسَكَتَ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ لَهُ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ: مَاذَا جَوَابُكَ؟ فَقَالَ: سَيَأْتِيكُمْ رَأْيِي بَعْدَ هذا، فلما رجع صعصعة فأخبر الخبر ركب الْخَيْلُ وَالرِّجَالُ، فَمَا زَالُوا حَتَّى أَزَاحُوهُمْ عَنِ الماء ووردوه قهرا، ثم اصطلحوا فيما بينهم على ورود الماء، وَلَا يَمْنَعُ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْهُ. وَأَقَامَ عَلِيٌّ يَوْمَيْنِ لَا يُكَاتِبُ مُعَاوِيَةَ وَلَا يُكَاتِبُهُ مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ دَعَا عَلِيٌّ بَشِيرَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ وسعيد بن قيس الهمدانيّ وشبيث بن ربعي السهمي فقال: ايتوا هَذَا الرَّجُلَ فَادْعُوهُ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَاسْمَعُوا مَا يَقُولُ لَكُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ عَمْرٍو: يَا مُعَاوِيَةُ! إِنَّ الدُّنْيَا عَنْكَ زَائِلَةٌ، وَإِنَّكَ رَاجِعٌ إِلَى الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ مُحَاسِبُكُ بِعَمَلِكَ، وَمُجَازِيكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تَفَرِّقَ جَمَاعَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَهَا بَيْنَهَا. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ هَلَّا أَوْصَيْتَ بِذَلِكَ صَاحِبَكُمْ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ صَاحِبِي أَحَقُّ هَذِهِ الْبَرِيَّةِ بِالْأَمْرِ فِي فَضْلِهِ وَدِينِهِ وَسَابِقَتِهِ وَقَرَابَتِهِ، وَإِنَّهُ يَدْعُوكَ إِلَى مُبَايَعَتِهِ فَإِنَّهُ أَسْلَمُ لَكَ فِي دُنْيَاكَ، وخير لك في آخرتك. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَيُطَلُّ دَمُ عُثْمَانَ؟ لَا وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَدًا، ثُمَّ أَرَادَ سَعِيدُ بن قيس الهمدانيّ أن يتكلم فبدره شبيث بْنُ رِبْعِيٍّ فَتَكَلَّمَ قَبْلَهُ بِكَلَامٍ فِيهِ غِلْظَةٌ وَجَفَاءٌ فِي حَقِّ مُعَاوِيَةَ، فَزَجَرَهُ مُعَاوِيَةُ وَزَبَرَهُ في افتياته على من هو أشرف منه، وكلامه بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَأُخْرِجُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَصَمَّمَ عَلَى الْقِيَامِ بِطَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ الَّذِي قُتِلَ مَظْلُومًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَأَمَرَ عَلِيٌّ بالطلائع والأمراء أن تتقدم للحرب، وجعل على يؤمر على كل قوم من الْحَرْبِ أَمِيرًا، فَمِنْ أُمَرَائِهِ عَلَى الْحَرْبِ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ- وَهُوَ أَكْبَرُ مَنْ كَانَ يَخْرُجُ لِلْحَرْبِ- وحجر ابن عدي، وشبيث بن ربعي، وخالد بن المعتمر وزياد بن النضر، وزياد بن حفصة، وَسَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَيْسُ بن سعد، وكذلك كان معاوية يبعث على الحرب كل يوم أميرا،