الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر النسائي:
1 - تأويل قوله عز وجل {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}
التأويل: تفعيل من أوّل الشيء، يؤوله، تأويلًا، وتأوّله؛ إذا ردّه إلى أصله، وثلاثيه آل يؤول، أوْلًا، ومآلًا -إذا رجع- والأوْل الرجوع، وتأويل الكلام تفسيره وبيان المراد منه، ومنه قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في عمرة القضاء، وهو آخذ بخطام ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دخل مكة:
خلوا بني الكفار عن سبيله
…
اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله
فالمراد: على تأويل رؤيا الرسول عليه الصلاة والسلام أو القرآن الذي نزل بمقتضاها وهو قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} ، الآية وهذا هو الغالب في استعماله في القرآن، وقال الجوهري: التأويل تفسير ما يؤول إليه الشيء، وقد أوّلته تأويلًا وتأولته بمعنى، ومنه قول الأعشى:
على أنها كانت تأول حبها
…
تأول ربعي السقاب فأصحبا
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: إن التأويل، والمعنى، والتفسير واحد. وقال بعضهم: التفسير، والتأويل معناهما واحد بحسب عرف الاستعمال، والصحيح تغايرهما، وقال الراغب: التفسير أعم من التأويل، وأكثر استعماله في الألفاظ، وأكثر استعمال التأويل في المعاني كتأويل الرؤيا، وأكثر استعماله في الكتب الإلهية، والتفسير يستعمل فيها، وفي غيرها، والتفسير أكثر ما
يستعمل في مفردات الألفاظ، والتأويل أكثر ما يستعمل في الجمل، اهـ.
قلت: من استعماله في الرؤيا قول عاتكة بنت عبد المطلب بعد وقعة بدر لما ظهر مصداق رؤياها التي رأتها قبل الوقعة وهي أن رجلًا دخل المسجد فَنَادى: يا آل غُدَر، قوموا إلى مصارعكم في ثلاث، فكذّبوها حتى قال أبو جهل:"يا بني هاشم أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، ثم قال: ها نحن سنتربص بكم ثلاثًا فإن كان ما قالت حقًا فسيكون وإلا كتبنا عليكم أنكم أكذب أهل بيتٍ في العرب" فقالت:
ألمّا تكن رؤياي حقًا ويأتكم
…
[بتأويلها] فَل من القوم هارب
وقال الله تقدست أسماؤه حكايته عن يوسف عليه السلام: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} .
وعند الأصوليين التأويل: صرف اللفظ عن المعنى المتبادر منه الذي يسمونه الظاهر إلى معنى مرجوح، وينقسم عندهم إلى مقبول، ومردود، وتلاعب. فالمقبول ما كان الصارف فيه صحيحًا، والمردود: ما كان في ظن المستدل صحيحًا، وهو في نفس الأمر فاسد، والتلاعب: ما كان لغير دليل.
قوله عز وجل: من العزة وهي القوة، والشدة، والرفعة، والغلبة وَعَزّهُ غلبه، ومنه قوله سبحانه:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} . وقوله: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} وقولهم في المثل: من عَزّ بزّ، أي من غلب سلب. وقول الخنساء تنعي إخوتها:
كأن لم يكونوا حمىً يتقى
…
إذ الناس إذ ذاك من عزَّ بزّا
أي من غلب سلب، وقول جرير في عبد الملك بن مروان:
يعُزُّ على الطريق بمنكبيه
…
كما ابترك الخليع على القداح
أي يغلب عليها، ومنه قوله تعالى:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أي غلبني والهاء في قول المصنف: "قوله" ترجع إلى الله تعالى، ولم يتقدم ذكر لفظ الجلالة لأنه في قلب كل إنسان حاضر، فهو بمثابة المذكور، فهو كقوله تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مع أن الضمير قد يعود إلى غير مذكور كما قال تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} .
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} . هذا صدر آية التيمم وتمامها {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}.
الكلام عليها ينحصر في أمور:
الأول: في ابتداء المصنف الكتاب بها في بدء كتاب الطهارة كما فعل البخاري رحمه الله بدأ بها في كتاب الطهارة، وذلك مناسب من وجوه:
1 -
التبرك في مبدأ الكلام بكلام الله تعالى.
2 -
أن الأصل في الاستدلال على الأحكام الشرعيّة كتاب الله تعالى أولًا وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام ثانيًا.
3 -
أن أكثر أحكام الطهارة ينبني على هذه الآية الكريمة ويتفرع عنها، فالكلام على الطهارة بيان لمعنى الآية الكريمة، ولهذا أَوْرَدَ المصنف في شرحها جميع أحاديث الطهارة شرحًا لها كما يأتي.
الثاني: سبب نزولها:
ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره -وهي غزوة المريسيع، والصحيح أنها كانت في سنة ست من الهجرة كما يأتي بيانه في شرح الحديث إن شاء الله، وهي غزوة بني المصطَلقِ من خزاعة، والمريسيع اسم ماءٍ لهم كانوا عليه بالساحل من ناحية قُدَيد، قالت عائشة: حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فذكرت الحديث قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسَيد بن الحُضَير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
وهذا السبب متفق على أنه سبب النزول، وأن التيمم لم يكن شرع قبل ذلك كما يأتي إن شاء الله تعالى.
غير أنه أشكل على العلماء أي الآيتين تعني عائشة رضي الله عنها؟ أهي: هذه، أم آية النساء؟ . وذلك لأن آية النساء فيها ما يدل على أنها متقدمة على غزوة المريسيع، لأن فيها ذكر تحريم الصلاة في حال السكر، وذلك قبل تحريم الخمر، وتحريم الخمر مختلف فيه فقيل: كان في حصار بني النضير، وذلك سنة أربع من الهجرة وقيل: بعد بدرٍ، وقبل أحدٍ، وذلك كله قبل نزول آية
التيمم في غزوة المريسيع وهي التي كانت فيها قصة الإفك، وفي سياق حديث الإفك قالت: كان يعرفني قبل نزول آية الحجاب تعني صفوان، ونزول الحجاب صبيحة عرس النبي صلى الله عليه وسلم بزينب، وذلك بعد مقتل بني قريظة في آخر سنة خمسٍ، فتعيَّن كونها سنة ست كما قال خليفة بن خياط.
ولهذا الاختلاف قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: وهي معضلة ما وجدت لدائها من دواءٍ عند أحدٍ، وهما آيتان فيهما ذكر التيمم إحداهما في النساء، والأخرى في المائدة، فلا نعلم أية آية عنت عائشة؟ وآية التيمم المذكورة في حديث عائشة النازلة كانت عند فقد العِقد في غزوة المريسيع قال خليفة بن خياط: سنة ست، وقال غيره سنة خمس، وليس بصحيح، وحديثها يدلّ على أنّ التيمم قبل ذلك لم يكن معلومًا ولا معمولًا به، فالله أعلم كيف كانت حال من عدم الماء وحانت عليه الصلاة، فإحدى الآيتين مُبَيِّنَة والأخرى زائدة عليها، وإحداهما سفريَّة، والأخرى حضريّة، ولما كان أمرًا لا يتعلق به حكم خبأه الله ولم يَتَيسَّر بيانه على يدي أحدٍ، ولقد عجبت من البخاري بوّب في كتاب التفسير في سورة النساء على الآية التي ذكر فيها التيمم، وأدخل حديث عائشة فقال:"وإن كنتم مرضى أو على سفر". وبوّب في سورة المائدة فقال: باب "فلم تجدوا ماءً" وأدخل حديث عائشة بعينه وإنما أراد أن يدل على أن الآيتين تحتمل كل واحدة منهما قصة عائشة وأراد فائدة أشار إليها هي أن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} إلى هذا الحد نزل في قصة علي وأن ما وراءها قصة أخرى، وحكم آخر لم يتعلق بها شيء منه، فلما نزلت في وقت آخر قرنت بها، والذي يقتضيه هذا الظاهر عندي أن آية الوضوء يذكر التيمم فيها في المائدة، وهي النازلة في قصة عائشة. وكان الوضوء مفعولًا غير متلو فكمل ذكرهُ، وعقب بذكر بدله واستوفيت النواقض فيه ثمّ أعيدت من قوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} إلى آخر الآية في سورة النساء مركبة على قوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} حتى تكمل تلك الآية في سورة النساء جاء بأعيان مسائلها كمال هذه ويتكرر البيان وليس لها نظير في القرآن، والذي يدل على أن آية عائشة هي آية المائدة أن المفسرين بالمدينة اتفقوا على أن المراد بقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} يعني من النوم، وكان ذلك في قصة عائشة والله أعلم اهـ.
قال الفقير إليه تعالى كاتب الحروف: فتحصل من هذا أن الراجح أنها آية المائدة إلا أن طرفًا منها ألحق بآية النساء، فإذًا تقَرَّر من هذا أن آية المائدة هي التي نزلت في شأن عائشة، وذكر فيها الوضوء ليكون مفروضًا بالقرآن كما كان مفروضًا بالسنة، وليرتب عليه بدله، وتذكر أسبابه، وهي أسباب بدله أيضًا، وأن آخر آية النساء تأخر نزوله عن أولها حتى كان بعد نزول آية المائدة، ثم قرن بأول الآية لتتم الفائدة هنالك تمامها في المائدة.
فهذا ما صح في سبب نزول الآية، وهو يؤيد القول بأن ذكر الوضوء لم يكن أول بيان وجوبه لأنه كان معلومًا قبل ذلك، ولكن ليرتب عليه البدل كما تقدم.
وقد ورد في سبب نزول آخر آية النساء أن الصحابة -رضوان الله عليهم- أصابتهم جراحة، ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. ورَجَّح القرطبي أن آية التيمم آية النساء لعدم ذكر الوضوء فيها، ويردّه ما تقدم.
قال العيني: وقد ذكر الحميدي في جمعه حديث عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة فذكر القصة، وفيها فنزلت:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
قلت: وهو نص في موضع النزاع.
الثالث: توضيح معاني ألفاظها وبيان مفرداتها:
قوله: (يا) حرف نداء للقريب والبعيد، وقيل: يختص بالبعيد حقيقة أو حكمًا وقيل: للقريب وقيل: بينهما وبين المتوسط، وهو عند بعضهم أصل حروف النداء، ولهذا يختص بأمور: منها: أنه لا يقدر عند الحذف منها غيره نحو {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} ، {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ}. ومنها: أنه يختص بنداء لفظ الجلالة نحو -يا الله- ومنها: أنه لا يستعمل في الاستغاثة غيره، وفي الندبة إمّا بالواو، أو به عند أمن اللبس.
ومنها: أنه يختص بنداء أيها، وأيتها كما قال بعضهم نحو:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ} .
وقوله: (أي): اسم يتوصل به لنداء ما فيه أل، وذلك أحد معانيه التي يأتي لها في اللغة، وهي "خمسة". الثاني: أن تكون شرطية نحو {أَيًّا مَا تَدْعُوا} الثالث: أن تكون استفهامية نحو "أي الفريقين" والرابع: أن تكون موصولة نحو {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} ، وقول الشاعر:
إذا ما لقيت بني مالك
…
فسَلِّم على أيهم أفضل
الخامس: أن تكون بمثابة الصفة، فتكون بعد النكرة صفة نحو: لقيت رجلًا أي رجل، وتكون حالًا بعد المعرفة نحو:"لقيت محمدًا أي رجل" وهي في النداء وصلة كما تقدم؛ إلا عند الأخفش؛ فإنه يرى أنها موصولة، وصَدْرُ صلتها ضمير محذوف، وهو العائد فيكون التقدير "يا من هم الذين آمنوا" و"يا من هو الرجل".
وقوله: "ها": للتنبيه، وهو أحد معانيه، فتدخل على أربعة أشياء:
الأول: ضمير الرفع المخبر عنه باسم الإشارة نحو {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} .
والثاني: اسم الإشارة غير المختصة بالبعيد نحو: "هذا".
الثالث: نعت أي في النداء، كما هنا، ونحو: يا أيها الرجل، وهي هنا واجبة للتنبيه على أنه المقصود بالنداء، وعند بعضهم أنها عوض عما تضاف إليه أي. وفي لغة بني أسد يجوز فيها حذف الألف، ويجوز فيها ضم الهاء إتباعًا كما في قراءة ابن عامر {أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} . {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ} ، والضم للإتباع، وذكر بعضهم أنها عوض عن تكرير حرف النداء لأن الأصل في "يا أيها الرجل" يا أي يا الرجل.
الرابع: اسم الجلالة في القسم؛ منه قول الصديق رضي الله عنه في حديث أبي قتادة في صحيح مسلم في قصة سلب القتيل يوم حنين: لاها الله إذا لا يعمد إلى أسدٍ من أسود الله ينافح عن الله ورسوله؛ فيعطي سلبه أصيبع من قريش. . . الحديث، وتكون بقطع الهمزة، ووصلها مع حذف الألف، وإثباتها.
وقوله: ({الَّذِينَ}): اسم موصول قيل إنه جمع مفرده الذي، وهو الذي مشى عليه ابن مالك في ظاهر قوله:
جمع الذي الأولى الذين مطلقًا
وهو الراجح. واحتج له بأنه جاء على صفة جمع المذكر، ولهذا رفعَه
بعضهم بالواو كما قال ابن مالك:
وبعضهم بالواو رفعًا نطقًا
وهي لغة هذيل كما في قول بعضهم:
نحن الذون صبّحوا الصباحا
…
يوم النخيل غارة ملحاحا
ورجح العيني رحمه الله: أنّه اسم دال على الجمع، وليس بجمع، واحتج بأنّه أخص من مفرده لأنّ مفرده يكون للعاقل، وغيره، وهو لا يكون إلا للعاقل والمشهور الأول، وقد جاء الذي بمعنى الذين كما يأتي المفرد بمعنى الجمع كما في قول الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
…
هم القوم كل القوم يا أم خالد
وهو هنا إما صفة لـ"أي"، وهو الجاري على ألسنة المعربين، وفيه وجه آخر وهو أنه نعت لموصوف محذوف التقدير: أيها القوم الذين آمنوا، أو الناس الذين آمنوا، والخطاب بالذين لجماعة الذكور، ويدخل فيه في عرف الشرع الإناث؛ إما لأنهم مخاطبون على ألسنة الذكور، أو لأنهم تبع للذكور في أغلب الأمور.
وقوله: ({ءَامَنُوا}): صلة الموصول، وأصل هذا اللفظ أن يراد به وصف جماعة الذكور كما تقدم، والإيمان في اللغة: التصديق ومنه قول أبناء يعقوب لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} . ولكنه في عرف الشرع: مخصوص بالتصديق الجازم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى فيكون على ذلك له حقيقة لغوية، وحقيقة شرعية، وهذا أصله في الشرع كما في حديث جبريل المشهور فإنه لمّا سأله صلى الله عليه وسلم بقوله: أخبرني عن الإيمان قال: "أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره، وشره" الحديث، وجاء في الشرع مرادًا به الصلاة، وهي من أعماله، ولوازمه كما في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي صلاتكم إلى بيت المقدس، كما جاء مرادًا به سائر وظائف الشرع في قوله:"الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". لأن من شرط صحة التصديق مطابقة الجوارح للقلب بالعمل كما سيأتي. ويطلق على مراقبة الرب كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" الحديث، فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن لا يكفر أحد بذنب من هذه الأعمال، ولا
غيرها من الكبائر ما عدا الشرك بالله، والخلاف في ترك الصلاة عمدًا، فالمراد أنه ساعة الزنا ترفع من قلبه عظمة الرب فينقص إيمانه بذلك، فكأنه غير مصدق بمشاهدته له ساعة التلبس بالمعصية ولو استشعر مراقبته لما غشيها، ومنهم من جعل المراد بالنفي نفي الكمال، وهو يرجع إلى ما قدمناه والله أعلم.
قوله: ({إِذَاَ}): كلمة تأتي في العربية لمعنيين أحدهما: أن تكون للمفاجأة فتختص بالجمل الإسمية، ولا يصدر بها الكلام، ولا تفتقر إلى الجواب، نحو: خرجت فهذا الصديق بالباب. وقال سبحانه: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} ، الثاني: أن تكون ظرفًا لما يستقبل من الزمن كما هنا فتكون متضمنة معنى الشرط، وتفتقر إلى الجزاء غير أنها لا يجزم بها وسمع الجزم بها في الشعر في قول الشاعر:
استغن ما أغناك ربك بالغنى
…
وإذا تصبك خصاصة فتحمّل
وتختص بالجمل الفعلية، فإن وليها اسم قدر الفعل بينها، وبينه كما في قوله سبحانه:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} التقدير إذا انشقت السماء، وقد أشار ابن مالك إلى ذلك بقوله:
وألزموا إذا إضافة إلى
…
جمل الأفعال كهن إذا اعتلى
وأكثر أهل العربية على أنّ العامل فيها جواب الشرط، وأن الجملة بعدها في محل جر بالإِضافة إليها، كما دل عليه البيت السابق، واعترض بعضهم على ذلك بقول زهير:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى
…
ولا سابقًا شيئًا إذا كان جائيا
وزعم بعضهم: أن الجملة هي التي تعمل فيها، ورُدَّ بأن المضاف إليها لا يعمل في المضاف، وأجابوا عن ذلك بأنها حينئذٍ لا تكون مضافة كما أنها إذا جزمت لا تكون مضافة، وذكر ابن هشام أنها قد تخرج عن الشرطية كما في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} والواقعة بعد القسم كما في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} على ما هو مقرر في موضعه من كتب العربية.
وقوله: ({قُمْتُمْ}): من القيام الذي هو ضد الجلوس، ويقال قام إلى الشيء إذا نهض لفعله، أو سعى لكن يعدى في السعي بفي فيقال: قام فيه،
والقيام المصدر، والقوم، والقامة قال الراجز:
قد قمت ليلي فتقبّل قومتي .... وصمت يومي فتقبّل صومتي
أدعوك يا رب من النار التي
…
أعددت للكفار في القيامة
وقوله: ({إِلَى الصَّلَاةِ}): إلى حرف جر ترد في العربية لمعان عدة ذكرها ابن هشام فعدّها ثمانية، وأصلها لمنتهى الغاية الزمانية نحو {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} والمكانية نحو {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} وهي هنا يحتمل أن تكون بمعنى اللام أي للصلاة، ويحتمل أن تكون للغاية.
والمراد هنا أردتم القيام إلى الصلاة؛ لأن الدخول في الصلاة لا يكون إلا بعد الوضوء، فالقيام للدخول فيها ليس مرادًا هنا وإنما المراد إرادته، قال البيضاوي:(عبّر عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها للإيجاز، والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يعزم عليها، ويبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، أو إذا قصدتم الصلاة؛ لأن التوجه إلى الشيء، والقيام إليه قصد له). اهـ.
وقد ترد هذه الصيغة وهي دخول إذا على الفعل الماضي، والمراد القصد إلى الشيء لا حصوله بالفعل، وهو هنا من إطلاق المسبب، وإرادة السبب؛ كقوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي: أردت قراءته، وقوله عليه الصلاة والسلام:"لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله" وقوله: "إذا دخل أحدكم الخلاء فليقل بسم الله""إذا أكلت فسمِّ الله"؛ لأن الإِنسان لا يقوم إلى الدخول في الصلاة إلا وهو متوضئ، ومن هذا القبيل حديث أنس عند البخاري:"تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة"، بدليل أنه لما قيل كم كان بين السحور والأذان؟ قال:"قدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية"، والصلاة أصلها في وضع اللغة الدعاء ومنه قول الأعشى:
وقابلها الريح في دنها
…
وصلى على دنها وارتسم
وقول الآخر:
صلى على عزة الرحمن وابنتها
…
ليلى وصلى على جاراتها الأخر
قال جرير:
وإن الذي أعطى الخلافة أهلها
…
بنى لي في قيس وخندف مفخرا
منابر ملك كلها مضريّة
…
يصلي علينا من أعرناه منبرا
وأخذه بشار فقال:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
…
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة
…
ذرى منبر صلى علينا وسلما
وفي التنزيل {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أي ادع لهم، وفي الحديث في فضل الصلاة:"فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه مادام في مصلَّاهُ" الحديث. أي فتستغفر له وتدعو له، وهي في عرف الشرع:(العبادة ذات الركوع والسجود) سميت بذلك إما لأن من أفْعَالها الدعاء، وإما مشتقة من الصلا الذي هو الظهر لأن المصلي يثني ظهره، وإما من الصلوين وهما إما العرقان المكتنفان الظهر، وإما جانبا عجم الذنب، ويشهد له قول الراجز:
لا أضع الدلو ولا أصلي
…
حتى أرى جلتها تولي
يعني: أنه لا يضع الدلو، ولا يوليها صلويه حتى تشرب؛ فتصد عن الماء.
وقوله: ({فَاَغْسِلُوا}): الفاء واقعة في جواب الشرط، وخطاب المذكر هنا يدخل فيه الإناث كما تقدم بيانه، واغسلوا أمر من الغسل: غسل الشيء يغسله، غَسلًا وغُسلًا، بالفتح والضم مصدران، وقيل بالفتح المصدر، وبالضم اسم للاغتسال، ويقال غُسُلًا بضمتين، قال الكميت يصف حمار وحش أصابه المطر:
تحت الألاءة في نوعين من غسل
…
باتا عليه بتسجال وتقطار
وهو في عرف الشرع: "إمرار الماء على الجسد" إذا لم يكن فيه نجاسة فإن كانت فلابد من إزالتها بالماء، وعند مالك رحمه الله في المشهور عنه لابد من إمرار اليد مع الماء ويسمى هذا عندهم بالدلك، ولا يشترط عند غيره، قال القرطبي رحمه الله:(ولابد في غسل الوجه من نقل الماء إليه وإمرار اليد عليه وهذه حقيقة الغسل عندنا .. قال: وقال غيرنا: إنما عليه إجراء الماء وليس عليه دلك بيده، ولا شك أنه إذا انغمس الرجل في الماء حتى غمر وجهه ويديه، ولم يدلك يقال غسل وجهه ويديه، ومعلوم أنه لا يعتبر في ذلك غير حصول الاسم فإذا حصل كفى) اهـ.
ولابد من مغسولٍ به، وهو الماء ولكنه معلوم فحذف للعلم به.
وقوله: ({وُجُوهَكُمْ}): الوجوه جمع وجه مشتق من المواجهة، وهي المقابلة، وحكى الفراء حي الوجوه وحي الأجوه بالهمز فيقال: الوجوه،
والأجوه، وذكر ابن السكيت إن ذلك يفعل كثيرًا في الواو إذا انضمت؛ أي أنها تقلب همزة في اللغة، وهو مأخوذ من المواجهة، وهي المقابلة، وهو عضو مشتمل على أعضاءٍ وله طول وعرض، فحده طولًا من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، وهما عظما الحنك، ويسميان الفكين، وعليهما منابت الأسنان السفلى، وهذا في حق من لا لحية له كالأمرد، والكوسج، وأما من له لحية فيغسل ما استرسل من الشعر إلى آخر لحيته، وحده عرضًا من الأذن إلى الأذن، وقال بعضهم: حد الوجه من منابت الشعر المعتاد، إلى آخر الذقن وعرضًا ما بين الأذنين، والأنزع والأصلع يغسلان مقدار حد منبت الشعر المعتاد، والأغم كذلك، وقدّره بعض الفقهاء بمقدار أربع أصابع، وليس من الوجه عند الأكثرين داخل الفم والأنف، وكذلك داخل العينين، وروي عن بعض الصحابة أنه كان يفعل ذلك أي يغسل داخل عينيه فَعَمِيَ من أجل ذلك في آخر عمره، كما روي عن ابن عمر، وليس منه أيضًا الأذنان على الصحيح خلافًا لمن قال إنهما من الوجه بدليل ما ثبت في دعاء السجود: سجد وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق سمعه وبصره، قال: فجعلهما للوجه بإضافتهما له، وهذا لا يلزم لأن الإضافة تكون للمجاور والمصاحب كما تكون في الجزء من الشيء، وبينت السنة أن الأكمل في الغسل أن يكون ثلاثًا كما يأتي بيانه، وأن الزيادة عليها إسراف، وأن الاقتصار على الواحدة، وعلى الاثنتين من الغسلات جائز كما يأتي إن شاء الله.
واختلفوا في تخليل اللحية: فمنهم من أوجبه، ومنهم من أوجبه في الخفيفة دون الكثيفة في الوضوء، وفيهما في الغسل، ومنهم من أوجبه في الكثيفة، دون الخفيفة عكس الأول.
قوله: ({وَأَيْدِيكُمْ}): جمع يد وهي الجارحة، والصحيح فيها أنها من الأصابع إلى المنكب، فهي لفظ مشترك يحتاج إلى البيان، وهي من الأسماء التي حذف لامها، وأصلها يدي على وزن فعل بسكون العين، فحذفت الياء تخفيفًا ونقلت حركتها إلى الدال، وتجمع على أيد، ويدي جمع قلة، وهو الأصل في هذا الجمع من فعل كفلس، وأفلس، وفلوس، ولا يجمع فعل بالتحريك هذا الجمع إلا في أحرف يسيرة مثل جبل، وأجبل، وزمن، وأزمن، وعصا، وأعص، ومثل هذا من الأسماء التي على حرفين محذوفة اللام لا يرد
لامها إلا في التثنية، والجمع والتصغير. قال مضرس بن ربعي الأسدي:
فطرت بمنصلي في يعملاتٍ
…
دوامي الأيد يخبطن السريحا
ويجمع الأيدي على أياد كأكرع، وأكارع كما قال الشاعر، وهو جندل بن المثنى الطهوي يصف الثلج:
كأنه بالصحصحان الأنجل
…
قطن سخام بأيادٍ غزّل
وقال الآخر:
فأما واحد فكفاك مثلي
…
فمن ليد تطاوحها الأيادي
والصحيح: أنها تطلق على الجارحة من الأصابع إلى المنكب، وقيل من الأصابع إلى الكف، ويشهد للأول كون عمار تيمم إلى المنكب وقال: تيممنا إلى المناكب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعموم الآية في قوله:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وهو عربي فصيح حجة في اللغة، فثبت بذلك أن الاسم يتناول العضو إلى المنكب، وكان الإطلاق يقتضي ذلك؛ لكن لما ورد التحديد في الآية إلى المرافق كانت غاية في المغسول تقتضي إسقاط ما بعدها من العضو، ولولا ذلك لتناول اللفظ بإطلاقه سائر العضو المسمى بهذا الاسم والله أعلم.
قوله: {إِلَى الْمَرَافِقِ} : تقدم الكلام على "إِلَى" عند قوله: {إِلَى الصَّلَاةِ} والمرفق بفتح الميم، وكسر الفاء، وبالعكس، وهو مجتمع طرف الساعد، والعضد قال العيني:(الأول: اسم الآلة كالمحلب والثاني: اسم المكان ويجوز فيه فتح الميم والفاء على أن يكون مصدرًا أو اسم مكان على الأصل) وقال الأصمعي: المرفق من الإنسان، والدابة بكسر الفاء، والمرفق الأمر الرفيق بفتحها، وقيل: إن الفتح أقيس، والكسر أكثر في مرفق اليد، والغاية داخلة إما على أن ذلك هو الأصل عند من يراه، أو على قول من قال إنها إن كانت من جنس المغيا دخلت وإلا لم تدخل، وهي هنا من جنس المغيا لاسيما وقد بينت السنة دخولها في الأحاديث الصحيحة في صفة الوضوء.
قوله: ({وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}): قال في اللسان: (المسح إمرارك يدك على الشيء السائل، أو المتلطخ تريد إذهابه بذلك كمسحك رأسك من الماء، وجبينك من الرشح، مسح، يمسحه، مسحًا، ومسحه، وتمسح منه، وبه، وقد يطلق المسح مرادًا به الغسل وفي الحديث: "أنه تمسح وصلى" أي توضأ) ا. هـ. قال
ابن الأثير: يقال للرجل إذا توضأ قد تمسح، والمسح يكون مسحًا باليد، ويكون غسلًا، وفي الحديث:"لما مسحنا البيت أحللنا" أي طفنا به، لأن من طاف بالبيت مسح الركن، فصار اسمًا للطواف، ويقال أيضًا مسح بالركن كما في قوله:
ولما قضينا من منى كل حاجةٍ
…
ومسَّح بالأركان من هو ماسح
وشدّت على حدب المطايا رحالنا
…
ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا .... وسألت بأعناق المطي الأباطح
ومنه قول قيس بن الأسلت:
قوموا فصلوا ربكم وتمسحوا
…
بأركان هذا البيت بين الأخاشب
قال ابن العربي: (المسح إمرار اليد على الممسوح خاصة، وهو في الوضوء عبارة عن إيصال الماء على الآلة الممسوح بها، والغسل عبارة عن إيصال الماء إلى المغسول، وهذا معلوم من ضرورة اللغة). اهـ.
وقوله: ({بِرُءُوسِكُمْ}): الرؤوس جمع رأسٍ في الكثرة وفي جمع القلة أرؤس قال الشاعر:
بضربٍ بالسيوف رؤوس قومٍ
…
أزلنا هامهن عن المقيل
قال في اللسان: (رأس كل شيء أعلاه والجمع في القلة أرؤس، وآراس على القلب، ورؤوس في الكثرة، ولم يقلبوا هذه، ورؤس على الحذف، قال امرؤ القيس:
فيومًا إلى أهلي ويومًا إليكم
…
ويومًا أحط الخيل من رؤس أجبال) اهـ.
قال القرطبي رحمه الله: وأما الرأس فهو عبارة عن الجملة التي يعرفها الناس ضرورة ومنها الوجه، فلما ذكره الله عز وجل في الوضوء، وعيّن الوجه للغسل بقي باقيه للمسح، ولو لم يذكر الغسل للزم مسح جميعه، إلى أن قال: ووضح بما ذكرناه أن الأذنين من الرأس خلافًا للزهري رحمه الله حيث يقول: هما من الوجه، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا القول وأنه يستدل له بقوله صلى الله عليه وسلم في دعاء سجود التلاوة:"وشق سمعه وبصره" فأضاف السمع إلى الوجه، وتقدم الجواب عن ذلك، وخلافًا أيضًا لقول الشعبي حيث قال: ما أقبل منهما من الوجه، وظاهرهما من الرأس، وهو قول الحسن، وإسحاق، قال القرطبي: وحكاه ابن أبي هريرة عن الشافعي، واستدلوا لكون الجملة المذكورة يشملها اسم الرأس بقول الشاعر:
إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري
…
وغودر عند الملتقى ثمَّ سائري
والباء في قوله: "برؤوسكم" قيل: إنها مؤكدة زائدة، والمعنى وامسحوا رؤوسكم، وقيل: دخولها هنا كدخولها في التيمم في قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} أي أنها في ذلك المحل دلت على التعميم، ولم يختلفوا في وجوب تعميم الوجه وذلك يرد قول من قال إنها للتبعيض، وحينئذ يقوى كونها للإلصاق، أو الدلالة على ممسوح به، وقيل: إنما دخلت لتفيد معنى، وهو أن المسح لغة لا يقتضي ممسوحًا به، والغسل لغة يقتضي مغسولًا به، فلو قال: امسحوا رؤوسكم؛ لأجزأ إمرار اليد من غير ماء، ولا غيره كما هو الأصل في المسح، فدخلت الباء لتفيد ممسوحًا به، وهو الماء فكأنه قال: وامسحوا برؤوسكم الماء، وذلك في اللغة يحتمل وجهين: إما أن يكون على القلب؛ كما في قول خفاف بن ندبة السلمي يصف شفتي امرأةٍ فشبهها بنواحي ريش الحمام:
كنواح ريش حمامةٍ نجديةٍ
…
ومسحت باللثتين عصف الإِثمد
فإن الممسوح هو اللثتان، والممسوح به عصف الإِثمد، فتقدير البيت: ومسحت بعصف الإِثمد اللثتين، وإما على الاشتراك في الفعل، والتساوي في نسبته كما قال الأخطل:
مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت
…
نجران أو بلغت سوآتهم هجر
وجوّز بعضهم أن تكون للتبعيض، قال ابن العربي رحمه الله:(ظن بعض الشافعية، وبعض حشوية النحوية أن الباء للتبعيض، إلى أن قال: ولا يجوز لمن شد أطرافًا من العربية أن يظن ذلك، وإن كانت ترد في موضع لا يحتاج إليها لربط الفعل بالاسم فليس ذلك إلا لمعنى تقول: مررت بزيد؛ فهذا لإلصاق الفعل بالاسم، ثم تقول: مررت زيدًا، فيبقى المعنى، وفي ذلك خلاف) اهـ.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في ذكر أحكام الآية ما يتعلق بالمسألة في المسح لكل الرأس، أو بعضه.
وذكر ابن هشام في المغني: أن من معاني الباء التبعيض عند الأصمعي والفارسي، والقتبي، وابن مالك، ونسب إلى الكوفيين، وذكر أنهم جعلوا منه {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} أي منها، ومنه قول الهذلي:
شربن بماءٍ البحر ثم ترفعت
…
متى لججٍ خضر لهن نتيج
ومنه أيضًا قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
فلثمت فاها آخذًا بقرونها
…
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
قال ابن هشام: ومنه: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} والظاهر أن الباء فيهن للإلصاق، وقيل: هي في آية الوضوء للاستعانة، وأن في الكلام حذفًا، وقلبًا فإن "مسح" يتعدى إلى المزال عنه بنفسه، وإلى المزيل بالباءِ، فالأصل: امسحوا رؤوسكم بالماء، وذكر البيت السابق كنواح ريش. إلخ، وهذا يوافق القول في دخولها لإفادة المعنى المتقدم ذكره.
وقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} : الأرجل جمع رجل، وهي من الحيوان، والإنسان من الفخذ إلى القدم، ولهذا قيدت في الغسل كما حصل في اليد، وهذا اللفظ جاء على وزن جمع القلة، واستغنوا به عن جمع الكثرة فلم يسمع فيه، واختلف العلماء في قراءة هذه اللفظة، وبِحَسب اختلافهم في القراءة اختلفوا في المعنى، فقرأها نافع، وعبد الله بن عامر، وعلي الكسائي، وحفص عن عاصم بالنصب معطوفة على المغسول، وذلك يتخرج على وجهين: أحدهما: أنه من المؤخر في اللفظ المقدم في المعنى، والأصل: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين؛ ولكن محافظة على ترتيب أعضاء الوضوء قدّم الرأس على الأرجل.
والوجه الثاني: أن يكون على تقدير فعل محذوف هو الناصب، والتقدير: امسحوا برؤوسكم، واغسلوا أرجلكم، وعطفه على المجرور سائغ؛ لأن العرب تنسق الشيء على الشيء، والعامل مختلف، وقد دل التحديد على الغسل فلزم تقدير العامل المناسب كما في قوله:"علفتها تبنًا وماء باردًا" أي وسقيتها، وقوله:
يا ليت زوجك في الوغى
…
متقلدًا سيفًا ورمحًا
أي: وحاملًا رمحًا، وقول لبيد:
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت
…
بالجلهتين ظباؤها ونعامها
والنعام لا يطفل؛ وإنما يبيض فالتقدير: وباض نعامها.
وهذان الوجهان عند من يرى أن فرض الرجلين هو الغسل، وهم الجمهور كما سيأتي بيانه في أحكام الآية إن شاء الله تعالى. وقرأ ابن كثير
المكي، وأبو عمرو بن العلاء البصري، وحمزة الكوفي، وأبو بكر عن عاصم "وأرجلِكم" بالجر، وتتخرج هذه القراءة على أنه معطوف على رؤوسكم، وهذا محتمل لأمرين: أما من يرى أن حكمهما المسح فالأمر ظاهر في حقه، غير أن منهم من يرى أنه مسح بمعنى الغسل الخفيف، أو أنه غسل لابد فيه من المسح باليد كما سيأتي إن شاء الله.
وأما على قول من يرى أن فرضهما الغسل، فيتخرج على ما قدمنا من تقدير عامل مناسب بعد قوله "برؤوسكم" أي: واغسلوا أرجلكم على حد قوله "وباض نعامها". وعلى أن المسح غسل فهو وإن عطف على مسح الرأس فهو مغاير له بقرينة التحديد المذكور بالكعبين، وفيه وجه آخر وهو أنه مجرور بالجوار كما في قولهم:"هذا جُحْرُ ضب خربٍ"، وقول امرئ القيس:
كأنَّ ثبيرًا في عرانين وبله
…
كبير أناس في بجاد مزمل
فإن "خرب" نعت للجحر، وهو مرفوع، و"مزمّل" نعت لكبير، وهو مرفوع، ومثله قول زهير بن أبي سلمى:
لمن الديار بقنة الجحر
…
أقوين من حجج ومن شهر
لعب الزمان بها وغيرها
…
بعدي سوافي المور والقطر
ورد هذا من وجهين: أحدهما: أن الجر بالجوار في الجملة لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، حتى أطلق بعضهم عليه أنه لحن يغتفر في ضرورة الشعر. والثاني: أنه لا يكون إلا مع أمن اللبس، ووجه ثالث: وهو أنه لا يكون في العطف، والبيت السابق يدل على خلاف هذا الوجه الأخير. قالوا: فلا يجوز تخريج القرآن عليه، وسيأتي تفصيل أقوالهم، ومذاهبهم في الكلام على الأحكام.
قال الألوسي -رحمه الله تعالى- -بعد حكايته تضعيف الجر بالجوار أي في الجواب عن الوجه الأول-: (إن إمامَي النحاة الأخفش، وأبا البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها جوّزوا الجر بالجوار، وقالوا بوقوعه في الكلام الفصيح كما ستسمعه إن شاء الله. ولم ينكره إلَاّ الزجاج وإنكاره مع ثبوته في كلامهم يدل على قصور تتبعه، ومن هنا قالوا: المثبت مقدم على النافي، وعن الثاني: لا نسلّم أنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس، ولا نقل في ذلك عن النحاة في
الكتب المعتمدة؛ نعم قال بعضهم: شرط حسنه عدم الالتباس مع تضمن نكتة، وهو هنا كذلك؛ لأن الغاية دلت على أن هذا المجرور ليس بممسوح؛ إذ المسح لم يوجد مغيا في كلامهم ولذا لم يغيَّ آية التيمم وإنما يغيَّ في الغسل ولذا غُيَّ في الآية) اهـ.
قال كاتب الحروف -عفا الله عنه-: وقد صرحوا به في النعت كما سبق في الأمثلة، وكقوله تعالى:{عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} و {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} فإن "محيطًا وأليمًا" نعتان لعذاب، وهو غير مجرور جُرَّ كل منهما على الجوار، ومنه قول ذي الرمة:
تريك سنة وجه غيرِ مقرفة
…
ملساء ليس بها خال ولا ندب
فإن "غير" مجرور بالجوار، وهو نعت لسنة المنصوب على المفعولية فهو كبيت امرئ القيس السابق.
وفي التوكيد كقول الشاعر:
يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلِّهم
…
أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب
فكلِّهم بالجر، وهي توكيد لذوي المنصوب جرّت بالجوار، ومن أمثلته في العطف مع ما تقدم قوله تعالى:{وَحُورٍ عِينٍ} في قراءة الكسائي، وحمزة والمفضل عن عاصم بالجر؛ فإنها عطف على "ولدان" في قوله تعالى:{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)} وهو فاعل ولكنهم قرؤوها بالجر لمجاورتها أكواب وأباريق، والحور لا يطاف بها. وكقول زهير:
لم يبق إلا أسير غير منفلت
…
وموثق في حبال القد مجنوب
فموثق على هذه الرواية مجرورة بالجوار لمنفلت مع أنها معطوفة على "أسير" المرفوعة، ومثله قول امرئ القيس:
فظل طهاة اللحم من بين منضج
…
صفيف شواء أو قدير معجل
فإن "معجل" مجرور على أنه صفة لقدير، وإنما جرّ "قدير" بالجوار؛ فإنه معطوف على صفيف، وهو مفعول لمنضج، وإن جوّز فيه غير هذا الوجه فهو ضعيف، وفيه تكلف بتقدير محذوف.
فهو كما ترى ثبت في النعت، والعطف، والتوكيد.
قوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} تقدم أن إلى تكون للغاية زمانية كانت أو مكانية، وأن ابن هشام ذكر أنها تأتي لثمانية معان: الأول: ما تقدم، الثاني: المعية وحمل عليه قوله هنا -إلى الكعبين-، والثالث: التبيين، وهي المبيِّنة لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد بُغْضًا، أو حبًا من فعل تعجب، أو اسم تفضيل نحو:{السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} ، الرابع: مرادفة اللام نحو الأمر إليك، أي: لك، الخامس: مرادفة "في" كقول النابغة:
فلا تتركني بالوعيد كأنني
…
إلى الناس مطليّ به القار أجرب
أي في الناس، وقيل منه قوله تعالى:{لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي فيه، السادس: الابتداء كقول الشاعر:
تقول وقد عاليت بالكور فوقها
…
أيسقى فلا يروى إلى ابن أحمرا
أي من.
السابع: موافقة "عند" كقوله:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره
…
أشهى إليَّ من الرحيق السلسل
أي: عندي، الثامن: التوكيد، وهي الزائدة وجعل الفراء منه قراءة من قرأ:{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} بفتح الواو أي تهواهم.
والكعبان هما العظمان الناتئان في مفصل الساق المتصلان بالساق يكتنفانه، خلافًا لمن زعم أنهما العظمان الصغيران المنبطحان على ظهر القدم، وكونهما اللذين على طرف الساق الأسفل هو الصحيح، كما دل عليه حديث النعمان بن بشير في تسوية الصفوف:"فرأيت الرجل يلصق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبته، وكعبه بكعبه" وقال صلى الله عليه وسلم: "ما زاد على الكعبين ففي النار" يعني من الإِزر.
وهو في كلام العرب المرتفع العالي، ولهذا يقولون لثدي الجارية أول ما يرتفع كعب ثديها فهي كاعب، قال عمر بن أبي ربيعة:
فكان مجني دون من كنت أتقى
…
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
والكعبة البيت الحرام قيل: سمي بذلك لأنه مرتفع عن السيل لأنه كان على ربوة في بطن الوادي. وقيل: لأنه مربع، والعرب تسمي البيت المربع مكعبًا ولذا قيل للغرفة كعبة، وتقدم الخلاف في الغاية هل تدخل أم لا؟ وعلى
التفسير الذي ذكرناه، وهو أن "إلى" بمعنى "مع" فهي داخلة قطعًا، لاسيّما والسنة قد دلّت على ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} : "إن" لها معان: الأول: أن تكون حرف شرط يفتقر إلى جواب وجزاء، ويجزم فعلين، وجوابها قوله "فتيمموا". الثاني: أن تكون نافية نحو: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} وقد اجتمعت الشرطية والنافية في قوله تعالى: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} الأولى: شرطية، والثانية: نافية. الثالث: المخففة من الثقيلة، كل واحدة منهما تدخل على الجملة الاسمية والفعلية، مع إهمال المخففة من الثقيلة، الرابع: أن تكون زائدة كقول النابغة:
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه
…
إذن فلا رفعت سوطي إليَّ يدي
"والواو" في قوله: -وإن كنتم جنبًا- عاطفة على المقدر المحذوف عند الأكثرين كما تقدم أي: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا إلخ، وإن كنتم حال القيام جنبًا فاطّهروا إلخ، والعطف أحد معانيها، وهي تفيد التشريك في الحكم وما بعدها في الإعراب مثل ما قبلها، والمعطوف بها يكون سابقًا كما في قوله سبحانه:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} ، ولاحقًا كما في قوله عز من قائل:{إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} واجتمعا في قوله تعالى: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} الآية، ويكون مصاحبًا كما في قوله:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} وقد بيّن ذلك ابن مالك رحمه الله بقوله:
فاعطف بواوٍ سابقًا أو لاحقًا
…
في الحكم أو مصاحبًا موافقًا
وتكون للحال، وتكون للاستئناف، ويكون ما بعدها مرفوعًا نحو: جاء زيد والشمس طالعة، وقوله تعالى:{لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} على قراءة الرفع، الأولى للحال، والثانية للاستئناف، وفي الحالتين يرفع ما بعدها، وتكون للمعية ولعطف الفعل على اسم خالص فينتصب ما بعدها في الحالتين، الأول: نحو سار الأمير والجيش، والثاني: نحو قوله:
ولبس عباءةٍ وتقر عيني
…
أحب إليَّ من لبس الشفوف
والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة، وتكون للقسم، وتكون واو ربّ، وفي كل منهما يجر ما بعدها، وذكر ابن هشام معاني أُخر هذا أهمها، وفي بعضها تعقب.
وقوله: "جنبًا" الجنب لا يثنّى ولا يجمع لأنه على وزن المصدر كالقرب والبعد، وربما خففوه فقالوا: جنب، وقد قرأ كذلك قوم، قال الفراء يقال: جنب الرجل، وأجنب من الجنابة، وقيل يجمع الجنب في لغةٍ على جنبون وأجناب، وجنبات كما يثنى على جنبان، مثل عنق، وأعناق، وطنب، وأطناب، وذلك أنهم جمعوهُ جمع تكسير على أفعال كبطل وأبطال، وجبل وأجبال، إجراء للمصدر مجرى الاسم، ومن قال للواحد جانب، قال في الجمع جناب كراكب وركاب، والأصل البعد؛ لأن الجنب يبعد بالجنابة عن الصلاة، ونحوها مما تشترط له الطهارة، قال علقمة بن عبدة:
وفي كل حيٍ قد خبطت بنعمةٍ
…
فحق لشأس من نداك ذنوب
فلا تحرمني نائلًا عن جنابةٍ
…
فإني امرؤ وسط الديار غريب
فقوله: عن جنابةٍ أي: عن بعدٍ، وذكر ابن دقيق العيد عن الإِمام الشافعي أنه قال:(إنما سمي الجنب من المخالطة، ومن كلام العرب: أجنب الرجل إذا خالط امرأته) اهـ كأنها مشتقة من القرب أي: وضع الجنب بالجنب؛ لأن الغالب حصولها من ذلك، والجنابة في الشرع حصول أحد أمرين: إيلاج الحشفة أو قدرها من مقطوعها في الفرج، أو إنزال المني بشهوة معتادة، سواء كان ذلك في اليقظة أو في النوم، كان ذلك من مباح، أو حرام، ويقال للمني جنابة كما في حديث عائشة رضي الله عنها:"كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم" الحديث.
وقوله: {فَاطَّهَّرُوا} : جواب الشرط من الطهارة التي هي النظافة الحسية والمعنوية، وطهر، يطهر صار طاهرًا، وتطهَّر إذا فعل ذلك بنفسه؛ كما في قوله تعالى:{حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} والمعنوية كقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وقولهم: طاهر الثياب إذا كان بعيدًا عن المعرة؛ كما قالوا دنس الثياب إذا كان بالعكس. قال امرؤ القيس:
ثياب بني عوف طهارى نقية
…
وأوجههم عند المشاهد غران
وأصل اطّهروا: تطهروا، أدغمت التاء في الطاء، وجيء بهمزة الوصل لأجل سكون أوله، والتطهر تفعل من استعمال المطهر، وهو الماء، ولهذا كان ابن مسعود، وعمر رضي الله عنهما لا يريان للجنب التيمم كما سيأتي إن شاء الله، وقيل: إنهما رجعا عن ذلك، وقوله:{فَاطَّهَّرُوا} مفسَّر بقوله في النساء: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} بين أن المراد بقوله اطهروا اغتسلوا.
وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} جمع مريض كقتلى جمع قتيل، والمرض: خروج البدن عن حد الاعتدال إلى الانحراف في الصحة، وغلبة بعض الطبائع على بعضها، وهو صادق بالقليل، والكثير الذي يخاف معه التلف، أو يخاف تأخر برء أو حدوث ضررٍ مبيح للتيمم، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في أحكام الآية.
وحدّ المرض بعض أهل اللغة بأنه إظلام الطبيعة بعد صفائها، واعتدالها. مرض -كفرح- مرضًا، ومرْضًا فهو مرض، ومريض، ومارض، والأنثى مريضة، والجمع مِراض، ومرضى، ومراضى. قال جرير:
قتلننا بعيونٍ زانها مرض
…
وفي المراض لنا شجو وتعذيب
وقال:
رأى الناس البصيرة فاستقاموا
…
وبينت المراض من الصحاح
قال سيبويه: المرض من المصادر المجموعة كالشغل، والعقل، قالوا: أشغال، وعقول، وقد يعبر بالمرض عن فساد القلب؛ كما في قوله تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} سواء كان المرض موجودًا بالفعل، أو يتوقع حصوله باستعمال الماء، ولفظ الآية لا يعطي إلا الأول وهو أن يكون المرض حصل بالفعل، ولكن دلت السنة على أن الخوف من حصوله إذا غلب على الظن حدوثه باستعمال الماء أو تحقق ذلك؛ كما في حديث عمرو بن العاص الثابت في السنن؛ فإنه لما صلى بأصحابه بالتيمم، وهو جنب، وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال: إني سمعت الله عز وجل يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} الحديث، وسيأتي الكلام عليه في أحكام الآية.
وقوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} : "أو" حرف عطف ذكر لها النحويون معانٍ أبلغوها إلى اثني عشر، وذكر ابن هشام رحمه الله أنها موضوعة لأحد الشيئين، أو الأشياء، وقد تخرج إلى معنى بل، أو معنى الواو، وأما بقية المعاني فتستفاد من غيرها. الأول من معاني "أو": الشك كقوله تعالى: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} والثاني: التخيير، وعلامتها أن تقع بعد الطلب، وقبل ما لا يجوز جمعه، كقولك: تزوج هندًا، أو أختها. الثالث: الإبهام نحو {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ}. الرابع: الإباحة، وتكون بعد الطلب، وقبل ما يجوز فيه الجمع نحو: تعلم الفقه أو النحو، وإذا دخلت عليها لا الناهية امتنع فعل الجميع نحو:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} قلت: لأنها صارت بمعنى واو العطف. الخامس: الجمع المطلق أي مرادفة الواو في التشريك، كما في قول توبة:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر
…
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقول جرير:
جاء الخلافة أو كانت له قدرًا
…
كما أتى ربّه موسى على قدر
أي وكانت له قدرًا. السادس: الإضراب، ومنه على قول بعضهم:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أي بل يزيدون على خلاف في ذلك. السابع: التقسيم نحو: الكلمة اسم، أو فعل، أو حرف، وقد قيل إنها هنا لمجرد التفريع الخالي من الشك، والإِبهام، والتخيير نحو {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} ونحو {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} قالوا: وأما التقسيم فالواو فيه أكثر. الثامن: أن تكون بمعنى "إلا" في الاستثناء كقول الشاعر:
وكنت إذا غمزت قَنَاة قوم
…
كسرت كعوبها أو تستقيما
أي إلا أن تستقيم، وجعل منه {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}. والتاسع: بمعنى إلى، وهي في هذين الموضعين ينصب الفعل المضارع بعدها كما هو مقرر في النحو، وذلك كقول الشاعر:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى
…
فما انقادت الآمال إلا لصابر
أي إلى أن أدرك المنى. العاشر: التقريب، ومعناه تقريب الزمن بين المذكور قبلها، وبعدها نحو:"ما أدري أسَلَّمَ أو ودّع" أي: كان وداعه قريبًا من سلامه. الحادي عشر: الشرطية، ومثّلوا له بقولك: لأضربنه عاش، أو مات، المعنى إن عاش، وإن مات. الثاني عشر: التبعيض، ومثّلوا له بالآية السابقة في التفريع وهي قوله تعالى:{كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} ، وتعقبه ابن هشام.
وقوله: {عَلَى} تكون اسمًا بمعنى فوق، وذلك إذا دخلت "من" عليها، كقول الشاعر، وهو عمرو العقيلي:
غدت من عليه بعدما تم ظِمْؤها
…
تصل وعن قيض بزيزاء مجهل
وهو أحد معانيها.
الثاني: وهو الأكثر أن تكون حرفًا، ولها معانٍ أحدها: الاستعلاء نحو: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} . الثاني: المصاحبة نحو {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} . الثالث: المجاوزة فتكون بمعنى عن، نحو قول الشاعر:
إذا رضيت عليَّ بنو قشير
…
لعمر الله أعجبني رضاها
أي: عني، الرابع: التعليل فتكون بمعنى اللام كقوله تعالى: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي: لأجل هدايته لكم، الخامس: الظرفية فتكون بمعنى في، نحو {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} أي: في حين غفلة، السادس: أن تكون بمعنى من، نحو:{إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} أي من الناس، السابع: معنى الباء نحو: اركب على اسم الله، ومنه:{حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ} على قراءة التخفيف، أي: بأن لا أقول، الثامن: أن تكون زائدة، ومنه قوله:
إن الكريم وأبيك يعتمل
…
إن لم يجد يومًا على من يتكل
أي: من يتكل عليه، فحذف عليه، وزاد على.
وقيل: منه قول حميد:
أبى الله إلا أن سرحة مالكٍ
…
على كل أفنان العضاه تروق
وقول الهذلي:
فوالله لا أنسى قتيلًا رزئته
…
بجانب قوسي ما بقيت على الأرض
على أنها تعفو الكلوم وإنما
…
نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
الشاهد في قوله: على أنها، وقول ابن الدمينة:
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا
…
على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع
…
إذا كان من تهواه ليس بذي ود
وهي في الآية تحتمل المصاحبة، أو العلو المعنوي.
وقوله: {أَوْ} تقدم الكلام عليها، وهي هنا للتقسيم.
وقوله: {سَفَرٍ} : يقال على سفر، وعلى جناح سفر إذا كان متلبسًا به، وهذا عام يشمل السفر الطويل، والقصير، فإن لم يكن مع المسافر الماء الكافي لشُرْبهِ، أو لوضوئه، أو غسله إن كان جنبًا؛ فإنه يتيمم كما سيأتي إن شاء الله.
وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ} : تقدم الكلام على أو، ومعانيها، وهي هنا للتقسيم كالتي قبلها. واحد: أصله وحد فالهمزة فيه مبدلة مِنَ الواو، ومنه قولهم: واحد، وقد جاء على الأصل كما في قول النابغة الذبياني:
كأنّ رحلي وقد زال النهار بنا
…
بذي الجليل على مستأنسٍ وحد
يصف حمار الوحش.
و"من" في قوله "منكم" للبيان.
وقوله: {مِنَ الْغَائِطِ} : مِنْ: الظاهر أنها تحتمل البيان، والتَّبعيض، والغائط: أصله المطمئن من الأرض؛ غير أنهم كانوا ينتابونه لذلك؛ لأن العرب لم تكن تتخذ الكنف في البيوت، ومن عادتها في الكلام أن تكني عن الشيء الذي يستقبح ذكره، فكنّوا عما يخرج من الإنسان أحيانًا بالغائط، حتى صار كأنه اسم لما يخرج من بولٍ وعذرة.
قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يعني: أو باشرتم النساء بأيديكم، وقيل: هو الجماع ولكنه جاء على طريق الكناية، وأصل اللمس هو المباشرة للبدن بدون حائل، وأكثر ما يستعمل في اللمس باليد، ومنه قوله سبحانه:{فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} وقال الشاعر:
لمست بكفي كفَّه أبتغي الغنى
…
ولم أدر أن الجود من كفّه يعدي
وحمله على الجماع مع كونه خروجًا عن الأصل فيه أيضًا التكرار مع قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} .
وقد أجيب عن ذلك بأن التكرار ليبيّن أنه ينوب فيه التراب عن الماء كالحدث الأصغر، وهذا القول وإن نصره ابن جرير فقد ذهب الجمهور إلى خلافه، وإنما نصره ابن جرير لما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يقبّل، ولا يتوضأ" من رواية عائشة، وأم سلمة. قال كاتب الحروف -عفا الله عنه-: وذلك لا يعين أن يكون المراد هنا الجماع لاحتمال أن يكون قبل نزول الآية، أو يكون من خصوصياته صلى الله عليه وسلم مع أن المعروف في ذلك أنه يقبل وهو صائم، وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: أيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه. وسيأتي حكم اللمس المترتب على هذا الخلاف إن شاء الله في أحكام الآية، وما يتعلق بالصوم في بابه، والحديث سيأتي الكلام عليه، وأنه ضعيف.
والنساء: جمع امرأة لا واحد له من لفظه، والمرأة لا جمع له من لفظه،
كما يجمع المرء على القوم، وقيل: إن النساء جمع نسوة، ونسوان فهو جمع الجمع، ونسوة جمع امرأة.
وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا} أي: طلبتم الماء، فلم تجدوا ماء، والفاء عاطفة، وفيها معنى الفاء الفصيحة؛ لأنها تدل على محذوف، و"لم" حرف وضع لنفي المضارع وجزمه، وقلبه في المعنى للمضي، كما في قوله تعالى:{لَمْ يَلِدْ} ، وربما دخلت عليه فلم تجزمه إما ضرورة، وإما لغة كما في قول الشاعر:
لولا فوارس من ذهلٍ وإخوتهم
…
يوم الصليفاء لم يوفون بالجار
وحكي النصب بها، قرأ بعضهم {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} و"تجدوا" من الوجود الذي هو ضد العدم، أي: تتحصلوا على ماء للتطهر به.
وقوله: {فَتَيَمَّمُوا} أي اقصدوا صعيدًا، من قولهم: تيمم الشيء، ويمَّمه: إذا قصد إليه، ومنه قول امرئ القيس:
ولما رأت أن الشريعة همها
…
وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج
…
يفيء عليها الظل عرمضها طامي
وقول عامر بن مالك ملاعب الأسنة:
يممته الرمح صدرًا ثم قلت له
…
هذي البسالة لا لعب الزحاليق
قال ابن السكيت: (تيمموا صعيدًا طيبًا، أي اقصدوا لصعيدٍ طيب، ثم كثر استعمالهم لهذه الكلمة حتى صار التيمم اسمًا علمًا لمسح الوجه، واليدين بالتراب) اهـ. والصعيد وجه الأرض، من: صعد، إذا ظهر، وعلا؛ لأن أصل الكلمة من الظهور، والعلو، ومنه قيل للأمر الشاق: صعدًا، وصعودًا. قال القرطبي:(صعيدًا طيبًا، الصعيد وجه الأرض كان عليه تراب أم لا، قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج. وقال الزجاج: لا أعلم فيه خلافًا بين أهل اللغة. قال تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} -أي أرضًا غليظة لا تنبت شيئًا- وقال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}) اهـ. قلت: ومنه قول ذي الرمة يصف ولد الظبي ينزعج من نومه لا يدري أين يقصد، شبّهه بالسكران:
كأنه بالضحى ترمي الصعيد به
…
دبابة في عظام الرأس خرطوم
والخرطوم من أسماء الخمر، قال الزجاج: (إنما سمي صعيدًا لأنه نهاية
ما يصعد من الأرض، وجمع الصعيد صعدات، اهـ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"ولخرجتم إلى الصعدات: تجأرون إلى الله بالبكاء" والصعدات: الطرق على وجه الأرض) اهـ. وقال الشافعي: (الصعيد التراب المنبت وهو الطيب قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ}). وسيأتي ما ينبني على هذا الخلاف في الصعيد من الأقوال في جواز التيمم بجميع الأرض أو بعضها، عند الكلام على الأحكام إن شاء الله. ومما يدل على أنه وجه الأرض على أي حال كان وأن الإنبات ليس شرطًا فيه تسميته صلى الله عليه وسلم للمدينة بطيبة، وطابة، وغالب أرضها سبخة، وحجارة سوداء فوصفها بالطيب يدل على أنها يتيمم بترابها، وقال ابن جرير رحمه الله:({فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} أي فإن لم تجدوا أيها المؤمنون إذا قمتم إلى الصلاة، وأنتم مرضى مقيمون، أو على سفر أصحاء، أو قد جاء أحد منكم من قضاء حاجته، أو جامع أهله في سفره: ماءً، {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فتعمدوا، واقصدوا وجه الأرض طيبًا يعني طاهرًا نظيفًا غير قذر ولا نجس، جائزًا لكم حلالًا، فاضربوا بأيديكم الصعيد الذي تيممتموه وتعمدتموه؛ فامسحوا بوجوهكم، وأيديكم منه ما عَلِقَ بأيديكم منه أي: من الصعيد) اهـ.
أحكام الآية الكريمة:
هذه الآية الكريمة عظيمة الموقع في الدين، وهي من أعظم آيات الأحكام وأكثرها مسائل، وأهمها لاشتمالها على أحكام الطهارة، وهي شطر الإيمان كما في الحديث:"الطهور شطر الإيمان".
قال ابن العربي رحمه الله: (قال بعض العلماء: إن فيها ألف مسألة. قال: واجتمع أصحابنا بمدينة السلام فتتبعوها فبلّغوها ثمانمائة مسألة، ولم يقدروا أن يبلغوها الألف. قال: وهذا التتبع إنما يليق بمن يريد طرق استخراج العلوم من خبايا الزوايا). اهـ.
قال مؤلفه -عفا الله عنه-: وقد استوعبت هذه الآية الكريمة أركان الوضوء الأربعة المتفق عليها غسلًا، ومسحًا، وظاهرها العموم في القيام لكل صلاة فرضًا كانت، أو نفلًا، وسائر حالات المصلي، وسيأتي الكلام على ذلك كما أنها قد تضمنت النية عند بعضهم كما سنبينه، ومراعاة النظم القرآني فيها يقتضي وجوب الترتيب بين الأعضاء المذكورة لاسيما عند من يقول إن
تقديم ذكر مسح الرأس على غسل الرجلين من أجل المحافظة على الترتيب، وقد خالف في ذلك أبو حنيفة رحمه الله، وبعض المالكية كما يأتي.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} . تقدم أن لفظ "الذين آمنوا"، وإن كان بلفظ الجمع المذكر لكن يدخل فيه الإناث؛ إما أن ذلك على سبيل التغليب، أو على رأي من يرى أنهن يتناولهن خطاب الشرع بهذا اللفظ، إما بقرينة عند من لا يرى دخولهن إلا بها، أو بدونها عند من يقول بتناول اللفظ لهن شرعًا، وهو خلاف عند الأصوليين معروف. ويستدل للدخول بقوله سبحانه:{وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} ، {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} ، {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} ، ونحو ذلك، وله نظائر في السنة. وقوله:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} تقدم أن قوله "إذا قمتم" أي: أردتم القيام، أو إذا قصدتم الصلاة؛ لأن التوجه إلى الشيء، والقيام إليه قصد له على طريق ذكر الملزوم وإرادة اللازم؛ لأن قصد الصلاة من لوازم القيام لها. وفي ذلك أقوال:
القول الأول: قال الجمهور: إن هذا عام في سائر الحالات. ولكن المراد به الخصوص على تقدير الحال المحذوفة، وهي: وأنتم محدثون، والدليل على هذا الحذف أمران:
الأمر الأول: اشتراط الحدث في التيمم كما سيأتي في قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، وقد شرط في هذا البدل الحدث كما سيأتي، فاقتضى ذلك اشتراط الحدث في المبدل منه، وإلا لم يكن بدلًا؛ لأن البدل لا يخالف المبدل منه في الشروط، والأسباب.
الأمر الثاني: أن السنة صريحة في أن الوضوء إنما يجب للصلاة مع الحدث، فهو سببه الموجب له كحديث "صلاته يوم الفتح الصلوات بوضوء واحد" وكذا "صلى يوم الخندق العصر والمغرب بوضوء واحد"، كما هو ثابت في صحيح مسلم من حديث بريدة:"أنه صلى الصلوات بوضوء واحدٍ يوم الفتح"، وحديث سويد بن النعمان:"أنه صلى العصر والمغرب بوضوء واحد بالصّهباء من أرض خيبر"، وهو متفق عليه. وحديث أنسٍ:"أنه كان يتوضأ لكل صلاةٍ"، فالراوي قال لأنس: كيف كنتم تصنعون أنتم؟ قال: "كنا نتوضأ وضوءًا واحدًا". أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، وأن الصحابة كانوا
على خلاف ذلك، وحديث أبي هريرة:"لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" وهو حديث صحيح فهو سببه الموجب له، وقد حكى غير واحدٍ من المفسِّرين الإجماع على أن وجوب الوضوء على المحدث، دون غيره.
وقال بعضهم: المحذوف المقدر هنا شرط والتقدير: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا إلخ إن كنتم محدثين، لمناسبته ما بعده وهو:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} .
القول الثاني: قال بعضهم: "إذا قمتم إلى الصلاة" باقٍ على عمومه، ولكن اختلفوا في ذلك على أقوال أيضًا:
أولًا: منهم من قال: إنَّه باقٍ على عمومه؛ لكنه محمول على الندب. فيشمل سائر حالات القائم، وسائر الصلاة، فيندب لكل قائم إليها أن يتوضأ. ويستدلون بحديث أنس السابق، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لذلك كان طلبًا للفضل كما كان يفعله ابن عمر، وعلي، وهو مروي عن الخلفاء. وسيأتي عن علي:"أنه توضأ وضوءًا خفيفًا وقال: هذا وضوء من لم يحدث"، ويروى عن ابن عمر: وضوء على وضوء نور. على نور وقد رجّح هذا القول إمام المفسرين بلا مدافعة محمَّد بن جرير الطبري رحمه الله.
قال مُقيّده -عفا الله عنه-: وحينئذ يكون وجوب الوضوء على المحدث مأخوذًا من السنة، ويؤيد هذا اتفاقهم على أن الوضوء كان مفروضًا قبل نزول الآية فهو واجب لأن الصلاة فرضت قبلها، فهو واجب على المحدث عند القيام إلى الصلاة، وإن اختلفوا هل وجوبه بالحدث، أو بالقيام إلى الصلاة، أو مجموع الأمرين، والصحيح: أن الوجوب بالقيام إلى الصلاة بشرط الحدث فالحدث موجب.
ثانيًا: وقال آخرون: إنه كان واجبًا لكل صلاة فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث، فكان هذا في أول الأمر، ثم نسخ. وربما استدلوا بحديث رواه أحمد، وأبو داود، وابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم، والبيهقي عن عبد الله بن حنظلة الغسيل:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة، طاهرًا كان أو غير طاهر، فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث"، ولا يتم الاستدلال به على أنه كان واجبًا لما تقدم عن أنس وسويد وغيرهما، كقصة الجمع يوم الخندق، ولأن فيه دعوى نسخ القرآن بالسنة.
قلت: ويحتمل أن الآية دلت على وجوبه فخصصت السنة منه في كان على طهر، فدلت الأحاديث على عدم وجوبه عليه، وبقي في حق المحدث، ويكون استِحْبابُه مع الطهارة مأخوذًا من السنة أيضًا.
ثالثًا: وقال آخرون: إنه على عمومه لكنه على الندب في حق المتطهر والوجوب في حق المحدث، قال الألوسي:(استبعد؛ لإجماعهم على أن الوجوب مستفاد من الآية، مع الاحتياج إلى التخصيص بغير المحدثين من غير دليل) اهـ.
القول الثالث: وقال آخرون: إن المراد بالآية القيام من النوم فقط، وهو مروي عن مالك رواه عن زيد بن أسلم، وهو مروي أيضًا عن السدي، وبنوا عليه أن في الآية تقديمًا، وتأخيرًا، والتقدير عندهم:"إذا قمتم إلى الصلاة أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم، وإن كنتم جنبًا فاطهروا، وإن كنتم مرضى" إلخ.
القول الرابع: وقال آخرون: إن هذه الآية نزلت رخصة للنبي صلى الله عليه وسلم، ورفعًا لما كان يفعله من الوضوء لكل شيء يريده، كما روي في حديث ابن حنظلة الغسيل، وهذا عندي أضعف الأقوال.
القول الخامس: وقال آخرون: الآية عامة، وهي على عمومها، والوضوء واجب عند القيام لكل صلاة، ولو كان طاهرًا، وهو مروي عن داود الظاهري، ولكنه من الضعف بمكان لمصادمته للأحاديث "الصحيحة" ويعترض عليه بقول بعضهم: إن الصيغة لا تقتضي التكرار، فلهذا قال بعضهم: إن هذه الآية بمنزلة المجمل الذي لا يتم الاحتجاج به إلا بعد بيان المراد منه.
قال مُقَيِّده -عفا الله عنه-: وذلك نظرًا إلى احتمال هذه الوجوه كلها، ولكن يشكل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله"، فإن ظاهره أن الوضوء واجب بهذه الآية التي أحال عليها صلى الله عليه وسلم، وأن ظاهرها مراد بدون التوقف على البيان، وتقدير المحذوف في الآية.
قال أبو بكر بن الجصاص الحنفي بعد ذكره للأحاديث التي تدل على عدم وجوب الوضوء لكل صلاة: (فثبت بما قدمنا أن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ؛ غير موجب للوضوء لكل صلاةٍ، وغير مستعملٍ على حقيقته، وأن فيه محذوفًا تعلق به إيجاب الطهارة، وأنه بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان، لا
يصح الاحتجاج به بعمومه؛ إلَاّ فيما قام الدليل على مراده) اهـ.
وتقدم حكاية إجماعهم على أن الوجوب مستفاد منها، أما كون فرضه أولًا بها فلا، لأنه تقدم أنه كان مفروضًا بالسنة أو أنها أفادت فرضه بالقرآن.
قال مقيده -عفا الله عنه-: الراجح عندي والله أعلم أنها من العام الذي أريد به الخصوص، أو أنها دلت على الوجوب، وخصصت السنة من لم يكن محدثًا للصلاة؛ والقول بأن الأمر فيها للندب، والسنة الثابتة قبلها، وبعدها دليل على وجوب الوضوء على المحدث وجيه.
وقوله: "إذا قمتم إلى الصلاة" استدل به من قال بوجوب النية في الوضوء وهم الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد، ومن أدلتهم عموم قوله:(إنما الأعمال بالنيات)، قال البخاري: دخل فيه الإيمان، والوضوء إلى أن قال:(ولكن جهاد ونية)، ولأن الوضوء عبادة مستقلة، وقد صحت الأحاديث كما سيأتي بأنه يكفر الخطايا كحديث أبي هريرة:"فإذا غسل يديه خرجت الخطايا" إلخ.
ووجه الاستدلال من الآية أن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} ، أي: وقصدتم الصلاة فاغسلوا، دليل على أن الغسل المذكور لقصد الصلاة. وقد تقدم أن المراد إذا أردتم القيام، والإرادة هي النية، فدلت الآية على أنه غسل مراد به الصلاة، وإن كان موجبه الحدث، فإرادتها هي نيتها فوجب عند الغسل لها. قال ابن العربي في تحقيق ذلك:(وخالف في ذلك أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- معتمدًا على أنه وسيلة كغسل النجاسة، فلا يفتقر إلى النية). اهـ. وقد تقدم أن الأحاديث دلت على أنه قربة مستقلة، وهي غير معقولة المعنى فتتعين لها النية، لأن تخصيص هذه الأعضاء بالغسل، دون سائر البدن لا تتعقل علته، فدل ذلك على أنه تعبدي.
وقد جمعت هذه الآية الكريمة أركان الوضوء المتفق عليها غسلًا ومسحًا، وهي الوجه واليدان إلى المرفقين، والرأس، والرجلان كما بيّنت أسباب الحدث المتفق عليها في الطهارة الصغرى، وسبب الطهارة الكبرى، وبدل الطهارة بنوعيها عند تعذرها بفقد الماء، أو العجز عن استعماله، كما ستراه إن شاء الله تعالى. وإليك بيان ذلك:
أولًا: فقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} تقدم الكلام على الوجه وحدّه وأنه مشتق من المواجهة، وهي المقابلة وأن الفاء هنا واقعة في جواب الشرط. واختلف العلماء في كونها مفيدة للترتيب أو لا، فالصحيح في مذهب مالك، وهو قول الشافعي أنّها تفيد الترتيب وذلك هو الأصل في العطف بها، وبنوا عليه القول بوجوب الترتيب، بين أعضاء الوضوء؛ إذ الأصل أنها تدل على التعقيب والاتصال، كما قال ابن مالك -رحمه الله تعالى- في ألفيته:
والفاء للترتيب باتصال
…
وثم للترتيب بانفصال
قالوا: وهي هنا كذلك رتبت غسل الوجه على إرادة القيام إلى الصلاة، فاقتضى ذلك أن يكون ما بعده مرتبًا عليه، وعورض بأن محل دلالتها على الترتيب في الجواب إذا كان الجواب شيئًا واحدًا، وأما إذا كان مجموع أشياء فالمطلوب حصول الكل كما هنا، فلا تدل حينئذٍ على الترتيب، وأجيب بأنه وإن كان مجموع أشياء، فإن الترتيب مستفاد من الأول اتفاقًا، والمعطوف عليه بتقدير إعادة الفاء فيحصل المراد بذلك. وهذا على قول الجمهور، وهو الصحيح في أن الواو لا تفيد الترتيب، وأما على رأي بعض الكوفيين القائلين إن الواو تفيد الترتيب، فلا إشكال لكنه مذهب مرجوح. وذهب الإِمام أبو حنيفة -وهو قول لبعض المالكية- إلى أن الترتيب غير واجب، وأجابوا عن قول الجمهور في الفاء بما تقدم، والصحيح وجوبه لثبوت السنة الصحيحة به. فالدليل على وجوبه أمران:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ دائمًا، ويعلم الصحابة الوضوء، وقد استفاض النقل عنه بكيفية الوضوء التي لا يشك، ولا يرتاب من وقف على ما ورد فيها في ثبوتها، ولم ينقل عنه إلَّا الترتيب، ولو كان التنكيس جائزًا لفعله ولو مرة ليبين الجواز كما كان يفعل في مثله. وحيث لم يثبت ذلك عنه ولا عن أحد من أصحابه كان عدم الثبوت أقوى دليلًا على عدم جوازه لمخالفته لفعله، لاسيما عند من يرى أن فعله للوضوء مبين للإجمال فيه.
ثانيًا: إن مراعاة النظم القرآني تقتضي الترتيب، لأن السنة دلت على أن الإنسان ينبغي أن يراعي ترتيبه. ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الصفا قرأ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ثم قال: "نبدأ بما بدأ الله به" وفي
رواية أنه قال: "إِبدؤوا" بصيغة الأمر، والحديث وإن كان في السعي لكنه في الجملة يدل على مراعاة نظم القرآن، وأن ذلك الذي ينبغي للمسلم، والعبرة بعموم اللفظ عند الأكثرين، وهذا بيِّن إن شاء الله تعالى.
فمجرد دعوى عدم إفادة الفاء للترتيب لا تصلح لمعارضة ما ذكر، والله أعلم. وتقدم الكلام على الغسل، والمراد منه هنا إسالة الماء على المغسول. واشترط مالك إمرار اليد على المغسول مع الماء، أو بعده، وهل هو واجب مستقل، أو هو واجب ليتحقق وصول الماء إلى البدن المغسول؟ فيه وجهان. ومما هو مجمل في الآية الكريمة، وبيّنته السنة عدد الغسلات، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الكمال في ذلك ثلاث تستوعب كل واحدة منها جميع الفرض من المغسول، وأن الواحدة تجزئ، واثنتين تجزئان كذلك، وأن الإسراف منهي عنه، سواء كان في صب الماء، أو في زيادة الغرفات، كما بينت السنة البدء باليمين في اليدين، وفي الرجلين. وتقدم الكلام على تحديد الوجه، وأنه العضو المعروف. قال بعض العلماء: فيه أربع طرق للعلم: الأذنان، والعينان؛ لأن بها يحصل العلم؛ والإِدراك للقلب كما قال بشار بن برد:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
…
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم
…
الأذن كالعين تُوْفي القلب ما كانا
قلت: والخامس من طرق العلم في الوجه: الأنف لأنه حاسة الشم فيؤدي إلى القلب كالسمع. وقد اتفقوا على وجوب تعميم الوجه بحده السابق بيانه بالماء، واختلفوا في سبعة أشياء مما يتعلق بالوجه: وهي داخل الفم، وباطن الأنف، وباطن العينين، والبياض الذي بين الأذن، والعذار، وما أقبل من الأذنين والمسترخي من شعر اللحية، وغسل البشرة تحت شعر اللحية، والعارض. فأما داخل الفم، وباطن الأنف: فذهب الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه إلى أن غسلهما واجب. وهو قول عطاء، والزهري، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وابن المبارك، قالوا: من ترك المضمضة، والاستنشاق أعاد الصلاة لأن الأمر بالمضمضة، والاستنشاق ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكونا داخلين في غسل الوجه المأمور به؛ فقد ثبت النص بالأمر بهما، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والرواية الثانية عن أحمد: وجوبهما في الغسل من الجنابة، دون الوضوء من الحدث الأصغر، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، وأهل الرأي. والرواية الثالثة: وجوب الاستنشاق وحده، وهو قول ابن المنذر، وأبي ثور، قالوا: يعيد الصلاة من ترك الاستنشاق، وروي نحوه عن مجاهد. والجمهور على أن الأمر بهما للندب لأنهما ليسا داخلين في مسمى الوجه المأمور بغسله في الآية، وما عدا المأمور به في الآية مما وردت به السنة يحمل على الندب، بدليل حديث الأعرابي المسيء صلاته حيث قال له:(توضأ كما أمرك الله) فأحاله على الآية الكريمة، فلو لم تكن مستوعبة للواجب في الوضوء لما صحت إحالته عليها، ولأنه عدّهما من خصال الفطرة، وهي السنة.
وأما باطن العينين: فالعلماء سلفًا، وخلفًا على عدم وجوب غسلهما؛ إلَّا ما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما كانا يدخلان الماء في مؤقيهما. وقد قيل إن ذلك يسبّب العمى اهـ.
قال ابن العربي: (إنه لولا الاتفاق على عدم الوجوب ومشقة ذلك لكان الواجب غسلهما) اهـ. ولم يصرح فيما أعلم أحد بوجوب ذلك لا عنهما ولا عن غيرهما، فالظاهر أنه شيء كانا يريانه كما كان أبو هريرة يتوضأ إلى الإبط. وقد ذكر الألوسي عن أنس، وأم سلمة، وعمَّار، ومجاهد، وابن جبير: أنهم أوجبوا غسلهما، وأنهما من الوجه، والله أعلم بصحة ذلك؛ لأنه لم يذكر له سندًا، ولا من أين أخذه.
وأما ما أقبل من الأذنين: فقد تقدم عن الزهري القول بأنه من الوجه، والجمهور على خلاف ذلك، وأنهما يمسحان؛ إما مع الرأس، وإما مسحًا مستقلًا، وظاهرهما وباطنهما في ذلك سواء.
وأما البياض الذي بين الأذن، والعذار: فقد اختلفوا فيه: فروى ابن وهب عن مالك أنه ليس من الوجه، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال بما رواه ابن وهب عن مالك، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هو من الوجه، وغسله واجب، ونحوه قول الشافعي، وأحمد. قلت: وهو الراجح إن شاء الله، واختار ابن العربي، والقاضي عبد الوهاب من المالكية أنه يستحب غسله ولا يجب، والمشهور عند المالكية الوجوب كالجمهور.
وأما تخليل اللحية: فذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة إلى أنها تخلل في الوضوء إذا كانت خفيفة تظهر البشرة تحتها، وأما إذا كانت كثيفة فإنها تخلل في الغسل، ولا يجب تخليلها في الوضوء، وهذا قول مالك في وجوب تخليل الكثيفة في الغسل. وذكر القرطبي أن مالكًا سئل عن تخليل اللحية في الوضوء؟ فقال: إنه ليس من أمر الناس، وهذا محمول على الكثيفة. وعن ابن عبد الحكم: إن التخليل واجب، وقال ابن خُوَيْز منداد: إن الفقهاء اتفقوا على أن التخليل غير واجب في الوضوء -يعني في اللحية الكثيفة. قال ابن عبد البر: الأحاديث الواردة في تخليل النبي صلى الله عليه وسلم لحيته كلها ضعيفة اهـ.
وقد عرفت أن هذا محمول على الكثيفة في الوضوء وأما الخفيفة في الوضوء والكثيفة في الغسل، فلا تدخل في ذلك لأنهم يرون تخليل الخفيفة لظهور البشرة منها، بخلاف الكثيفة، فإنها لما كست الوجه نابت مناب ظاهر الوجه، فوجب غسل شعرها دون تخليل ما تحتها، لأنها سترته؛ فكأن الفَرْضَ انتقل إليها. وقد تقدم أن مالكًا قال بتخليلها في الغسل، كما يأتي إن شاء الله.
وأما المسترخي من شعر اللحية: فذهب الإِمام أبو حنيفة في المشهور عنه إلى أن الواجب غسل ربعه كما هو مذهبه في الرأس، والقول الثاني: إنه يغسل ما حاذى محل الفرض منها، والثالث: لأبي يوسف غسل الجميع، وهو قول محمَّد، وهو الصحيح عندهم، وذكر صاحب البدائع عن ابن شجاع أنهم رجعوا عما سوى هذا القول. وهو الظاهر من قول أحمد، والذي عليه أصحابه، والشافعي، ومالك. قال ابن عبد البر:(من جعل اللحية كلها واجبًا جعلها وجهًا؛ لأن الوجه مأخوذ من المواجهة، والله قد أمر بغسل الوجه أمرًا مطلقًا، لم يخص صاحب لحية من أمرد، فوجب غسلها بظاهر القرآن لأنها بدل من البشرة) اهـ.
قال مؤلفه -عفا الله عنه-: وهذا هو الصحيح لأنها لما سترت البشرة صارت هي ظاهر الوجه، فدخلت في المأمور بغسله، وفي رواية عن الشافعي مثل إحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وهي أن يغسل منها ما حاذى البشرة، وسترها دون غيره. قال ابن عبد البر: من لم يوجب غسل ما انسدل من اللحية، ذهب إلى أن الأصل المأمور بغسله البشرة، فوجب غسل ما ظهر فوق البشرة، وما انسدل من
اللحية ليس تحته ما يجب غسله، فيكون غسل اللحية بدلًا منه والله أعلم.
تنبيه:
لو حلق شعره، أو شيئًا منه بعد الوضوء، أو الغسل لا يضر ذلك طهارته كما لو قص أظافيره، وروي عن ابن جرير الطبري: أنه يعيد الوضوء وسائر الفقهاء على خلافه في ذلك اهـ.
تنبيه آخر:
ومما ينخرط في معنى الآية الكريمة أن قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} دل على مغسول به، وهو الماء الباقي على خلقته لأنَّهُ الأصل في التطهير، قال تعالى:{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وقال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} فهو أصل الطهور، ويدخل ماء البحر لقوله صلى الله عليه وسلم:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته" ولقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فشرط في إباحة التيمم عدم وجود الماء، دون غيره من سائر المائعات، فهو دليل على أنها غير صالحة للغسل المأمور بغسله للصلاة بها، خلافًا لمن أجاز الوضوء بالنبيذ كالإمام أبي حنيفة في نبيذ التمر، واحتج بحديث ابن مسعود، وهو من الأحاديث التي عرف عند أهل الحديث أنها غير ثابتة قال ابن قدامة:(راويه أبو زيد مجهول عند أهل الحديث لا يعرف له غير هذا الحديث ولا يعرف بصحبة عبد الله، قاله الترمذي وابن المنذر. وقد سئل ابن مسعود هل كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال: "ما كان معه منا أحد"، رواه أبو داود. وروى مسلم بإسناده عن ابن مسعود: لم أكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، ووددت أني كنت معه) اهـ. وقد روى عن علي القول بذلك، ولا يثبت عنه، وروي أيضًا عن الحسن، وعكرمة، والأوزاعي، ومثله عن إسحاق، ولا يثبت شيء من ذلك. والعجب من أبي بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي الجصاص في أحكامه رحمه الله فإنه قال:(إن الآية دلت على جواز الوضوء بالنبيذ لعدم تعيين المغسول به) فسبحان من حبب إلى كل إنسان ما يميل إليه من الأقوال، وإلا فبأي وجه يقول هذا، وهو مردود بأنه إذا احتملت الآية جواز الوضوء بالنبيذ لا يكون ذلك إلا بعد تسليم احتمالها للوضوء بكل مائع طاهر كاللبن، والخل، والعسل المحلول، وعصير الليمون، والبرتقال، والتفاح، وغير ذلك من كل مائع طاهر؛ إذ لا فرق
في احتمال الغسل بذلك مع احتمال الغسل بالنبيذ، ومثله في العجب، أو أكثر قوله:(إن الآية دلت على عدم وجوب الترتيب) خلافًا لقول الجمهور فيها -على ما تقدم بيانه- من أن الترتيب هو المروي عنه صلى الله عليه وسلم، فهو بيان مجمل الواجب فعله في الآية فيجب اتباعه، فسبحان من لم يجعل العصمة إلا للرسل.
تنبيه:
ويؤخذ من وجوب غسل الوجه، واستيعابه بالماء، وكذلك من الأحاديث الدالة على طلب إسباغ الوضوء وفضله، أنه لابد أن يتناول في الغسل شيئًا زائدًا على المغسول مما جرت العادة بأنه لا يتم تحقق الاستيعاب إلَّا به، وأما تعمد الزيادة على الفرض فهي غير مشروعة عند الجمهور لما قدمنا من أن الوضوء متلقى من النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنه أنه زاد على المفروض عليه، وذهب الشافعية إلى أنه يستحب تمسكًا بما أوّلوا به إطالة الغرة من حديث:"من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل"، وبحديث أبي هريرة لما توضأ إلى الإبط. وسيأتي أنه لم يسند ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل أخبر أنه تأول حديث "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء"، وتأويل الصحابي إذا خالفه غيره لا يكون حجة، لاسيما والمروي عنه صلى الله عليه وسلم خلافه. وأما إطالة الغرة: فإن الجمهور على أن المراد بها إكثار الوضوء، لأنه محل الفضل كما سيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله وبه الثقة، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قوله: ({وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}): أي: واغسلوا أيديكم إلى المرافق. تقدم الكلام على مدلول اليد، والمرفق في اللغة، والمراد هنا وجوب غسل هذا العضو من الإنسان إلى الغاية المذكورة، وقد اختلف العلماء في دخول الغاية فمنهم من قال: هي غير داخلة كما تقول: قرأت من أول القرآن إلى سورة كذا وكذا، فالسورة غير داخلة في المقروء، وقيل: داخلة كما تقول: قرأت الصحيفة إلى آخرها، وذكر القصة إلى آخرها، وقال قوم: إن الغاية إن كانت من جنس المغيا دخلت، وإلَّا لم تدخل، وهي هنا من جنس المغيا، والذي يظهر لي -والله أعلم- أن الاستقراء دل على دخولها أحيانًا، وعدم دخولها في بعض الأحيان، والكل صحيح؛ فإذن الأمر محتمل للدخول وعدمه، فيرجع إلى القرائن والأدلة الخارجة عن مجرد اللفظ، وهي دالة على دخولها هنا لصحة ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهي
إما داخلة على قول من يقول إنها دخلت بالغاية، أو هي داخلة بمقتضى فعله في الوضوء، فقد ثبت عنه أنه أدار الماء على مرفقيه، فهو -كما تقدم- بيان مجمل ما أوجب الله من ذلك فوجب اتباعه، ولاسيما أن القول بدخولها أحوط في الدين لحصول القطع باستيعاب الفرض بغسلها، ولذا قال الألوسي:(قال الشافعي: لا أعلم خلافًا في أن المرافق يجب غسلها، ولذا قيل: إلى بمعنى مع كما في قوله تعالى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} أي مع قوتكم وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}). اهـ. وقال ابن قدامة: (وأكثر العلماء على أنه يجب إدخال المرفقين في الغسل، منهم: عطاء، ومالك، والشافعي، وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال بعض أصحاب مالك، وابن داود: لا يجب، وحكي ذلك عن زفر؛ لأن أمره بالغسل إليهما وجعلهما غايته بحرف إلى، وهو لانتهاء الغاية فلا يدخل المذكور بعده كقوله تعالى: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} قال: ولنا ما روى جابر بن عبد الله: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه"، وهذا بيان الغسل المأمور به في الآية) اهـ .. ثم ذكر نحوًا مما تقدم من أن "إلى" تكون بمعنى "مع". قال كاتب الأحرف -عفا الله عنه-: وهذا بيّن لمن أنصف والله أعلم، والاستدلال بقوله:{إِلَى اللَّيْلِ} لا يتم في مثل هذا؛ لاختلاف الحالتين، فإن الغاية هنالك ليست من المغيا، بل هي مخالفة له، وقد بين قبلها أن الأكل والشرب والجماع مباح لهم في الليل بقوله:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الآية.
وقوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} تقدم الكلام على معنى المسح، ومعنى الباء في شرح مفردات الآية، فالباء هنا قيل: إنها زائدة كما تقدم، لأن الفعل يتعدى بنفسه. وتقدم أن بعضهم قال: إن زيادتها لإفادة معنى هو الدلالة على ممسوح به وهو الماء أي: امسحوا الماء برؤوسكم؛ لأنها لو لم تذكر لصح أن يقال: إن إمرار اليد على الرأس هو المطلوب، ولو بدون ماء لصدق اسم مسح الرأس عليه، وقيل: الباء للإلصاق، وهو المعنى المتفق عليه للباء، وقيل: للتبعيض ودلالتها عليه مختلف فيها، ولذلك اختلفوا في مسح الرأس، فمن قال إنها للتبعيض قال يكفي مسح بعض الرأس، وقد تقدم أن ابن مالك نقل ذلك فيها، وذكر الألوسي أن نقله عن أبي علي في "التذكرة" ويستشهد له بقول الهذلي:
شربن بماء البحر ثم ترفعت
…
متى لجج خضرٍ لهن نَئِيجُ
أي شربن من ماء البحر وأُنكر ذلك، وجوّز بعضهم أن يكون معنى مستعارًا فيها بماء، وقد أنكر ابن قدامة هذا المعنى في الباء فقال:(قولهم: إن الباء للتبعيض غير صحيح ولا تعرف العرب ذلك، قال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه) اهـ. قلت: وهو محجوج بما تقدم عن ابن مالك، وهو إمام في الفن، وقيل: إن العرف نقلها للتبعيض. والذين قالوا إنها للتبعيض، وهم الشافعي، ومن وافقه، وأبو حنيفة، ومن وافقه اختلفوا في القدر الذي يجوز الاقتصار عليه من الرأس. فقال الشافعي: الواجب أقل ما يصدق عليه اسم المسح، وأما أبو حنيفة فهو وإن كان يرى التبعيض؛ لكنه يرى أن الكمية التي يجب أن تمسح مجملة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الناصية وعلى العمامة كما في حديث المغيرة عند مسلم، وغيره، وحديث أنس الذي رواه أبو داود، وسكت عليه:(رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ، وعليه عمامة قطرية فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه)، وبمرسل عطاء:(أنه صلى الله عليه وسلم توضأ، فحسر العمامة ومسح مقدم رأسه، أو قال: ناصيته) والناصية ربع الرأس، والمرسل عنده حجة ومقدم الرأس عنده بمثابة الربع. ولا يخفى أن هذه النصوص ليس فيها تحديد الربع، ولا الثلث، ولا غير ذلك بالنص حتى يكون حدًا فاصلًا في مقدار الممسوح، وغاية ما فيها أنها دلت على أن المسح وقع على بعض الرأس، وهو محتمل لأن يكون اقتصر عليه، وأن يكون أتم على العمامة، وجعلها بمثابة الجبيرة، وأن يكون اقتصر على بعض الرأس، دون العمامة، وأصح الثلاثة حديث المغيرة فالاحتجاج بما ذكر فيه أبين، وفي بعض رواياته: ومسح بناصيته، وفيها مثل ما في الآية من الاحتمال للتبعيض، وغيره، وعلى هذين المذهبين مذهب الشافعي، وأبي حنيفة ليس عندهم في الآية إجمال في المسح، وإن كان قول أبي حنيفة قد يقال فيه إن الذي تمسك به كالبيان، وهذا هو المشهور في مذهبهم، وفيه قول بأنه يجزئ ثلاثة أصابع، ولهذا قال بعضهم: إن الإنسان قد يتوضأ، ولا يحتاج عندهم إلى مسح رأسه لأن هذا المقدار غالبًا يحصل غسله مع الوجه، وهم لا يشترطون النية ولا الترتيب، فلا يحتاج إلى مسح الرأس، وأغرب منه أنه لو بلّت السحاب ذلك المقدار أثناء الوضوء أجزأه عندهم لما تقدم، ولا يخفى ما فيه.
وذهب مالك وأحمد في الرواية الصحيحة عنده إلى أن الواجب مسح
الرأس كله؛ لأن الباء عندهم إما زائدة، وإما للإلصاق، واحتمالها للمعاني المتقدمة يجعلها مجملة، ولهذا مثّل بها الأصوليون للإجمال في الحروف، فيحتاج إلى البيان من السنة، والذي في السنة مسح الرأس كله؛ إلَّا أن أحمد جوّز المسح على العمامة المحنكة، وهي التي تدار تحت الحنك، دون المقطوعة، ووجه ذلك عنده أنها هيئة عمائم العرب، وفي نزعها مشقة، والتي لها عذبة اختلف قوله فيها: فمرة أجاز المسح عليها؛ لأنها تخالف عمائم أهل الذمة، ومرة منع ذلك، وعنده قول بأن من مسح الأكثر أجزأه؛ لأنه بمثابة الكل، وروي عنه قدر الناصية يجزئ. قال ابن قدامة:(الظاهر عن أحمد رحمه الله في حق الرجل وجوب مسح الكل، وأما المرأة فيجزئها مسح مقدم رأسها كما روي عن عائشة أنها كانت تمسح مقدم رأسها). قلت: ولا أعلم خلافًا بين العلماء في أن مسح الكل في الوضوء أتم، وأكملُ، وإنما الخلاف في أقل ما يجزئ، وقد اتفق مالك، والشافعي، وأكثر السلف على عدم جواز المسح على العمامة بدون مسح شيء من الرأس، وقد تقدم قول أحمد بالجواز إذا كانت محنكة، وممن قال بجواز الاقتصار على بعض الرأس: الحسن، والثوري والأوزاعي، ونقل عن سلمة بن الأكوع مسح مقدم الرأس، وعن ابن عمر مسح اليافوخ، ذكر ذلك ابن قدامة بدون سند.
وإذا تأملت ما تقدم علمت أن الأَولى مسح الرأس كله؛ لأنها الحالة المتفق عليها، والثابتة من فِعلِه صلى الله عليه وسلم في أكثر الأوقات، وهي أحوط في العبادة؛ لأن الاتفاق حاصل على إجزائها وفضلها، بخلاف غيرها والله أعلم.
تنبيه:
الجمهور على أن مسح الرأس مرة واحدة، وأكثر الأحاديث في صفة الوضوء مصرحة بذلك تدل عليه، وقال الشافعي، وأصحابه بتكرار المسح، وعمدتهم في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا، ثلاثًا، فقالوا: إن هذا يشمل الغسل والمسح، وهذا محتمل لولا التصريح في بعض الروايات، بل في أكثرها بمرة واحدة، ولعل ذلك يأتي في شرح الأحاديث إن شاء الله، مع أن "ثلاثًا، ثلاثًا" صادق بفعل ذلك في البعض، فلا يكون نصًا على محل النزاع؛ لاسيما أن المسح مبني على التخفيف، وقد اتفقوا على عدم التكرار في المسح للتيمم -والله أعلم-.
قوله -جل ذكره-: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فيها ثلاث قراءات: قرأ نافع وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم -هؤلاء من السبعة-، ويعقوب -من الثلاثة- بالنصب عطفًا على وجوهكم، أو على أيديكم على الخلاف المعروف في علم العربية أن العطف إذا كان بعد أكثر من واحدٍ هل يكون عطفًا على الأول، أو على الأخير، وكل ذلك يقتضي غسل الرجلين، غير أن فيه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة غير اعتراضية، وهو عند القائلين به هنا للمحافظة على ترتيب الأعضاء، فهو حجة للقائلين بالترتيب على وجوب الترتيب، أو هو معطوف على محل المجرور بالباء في قوله:"برؤوسكم" فإنه في محل نصب بامسحوا، ولاسيما عند من يرى أن الباء زائدة، إذ التقدير عنده "امسحوا رؤوسكم" غير أنه يحتاج إلى أن يقول إن المسح، والغسل يعطف أحدهما على الآخر لصحة إطلاق المسح على الغسل كما سيأتي، أو أن الكلام فيه محذوف دل عليه السياق، وهو فعل يناسب المقام أي: اغسلوا أرجلكم، كما تقدمت الإِشارة إلى مثله في قول لبيد رضي الله عنه:
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت
…
بالجلهتين ظباؤها ونعامها
والنعام لا يطفل، فخرج الكلام على:"وباض نعامها"، وقد استبعد بعضهم العطف على محل الجار، والمجرور، فقال: إنه بعيد لفظًا، ومعنىً، ولعله أراد بذلك عدم تذرّع الشيعة إلى مذهبهم في المسح بهذا الوجه، وإلَّا فالعطف على محل المجرور ثابت كما قال ابن مالك رحمه الله:
وجر ما يتبع ما جر ومن
…
راعى في الاتباع المحل فحسن
القراءة الثانية: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم بالجر وهاتان القراءتان متواترتان، وقرأ الحسن بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي:"وأرجلكم كذلك فاغسلوا" وهذه القراءة، وهي الثالثة شاذة. ومن أجل هذا الاختلاف في القراءة اختلف الناس في الرجلين، فروي عن ابن عباس، وأنس بن مالك، وعكرمة، والشعبي، وأبي جعفر محمَّد بن علي الباقر -رحمة الله على الجميع- أن حكمهما المسح، وهو مذهب الإمامية من الشيعة، وقال الجمهور من الفقهاء، والمفسرين، والمحدثين: إن فرضهما الغسل، قال ابن العربي رحمه الله: (اتفق العلماء على وجوب غسلهما، وما علمت
من ردّ ذلك سوى الطبري من المسلمين، والرافضة من غيرهم) اهـ.
قلت: تقدمت نسبة ذلك لمن نسب إليهم، وسيأتي الطعن في نسبته إليهم في كلام الألوسي -رحمه الله تعالى-.
وقال داود: يجب الجمع بينهما.
قلت: هذا يشبه قول الطبري؛ لأنه عبارة عن غسل الرجل بالماء، واشتراط المسح باليد مع الماء عليها. وسيأتي أن هذا هو مذهب الطبري، ولا معنى للجمع بينهما إلَّا ذلك.
قال كاتب الحروف -عفا الله عنه-: ومن العجب نسبة العلماء المسح للإمام محمَّد بن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- مع أن الذي يدل عليه كلامه في تفسيره المشهور عند الكلام على هذه الآية إنما هو الجمع بين الغسل، والمسح باليد فإنه قال -رحمه الله تعالى- بعد أن نقل عن ابن عباس:(قوله: الوضوء غسلتان ومسحتان. وعن الشعبي أنه قال: ألا ترى أن التيمم يمسح ما كان مغسولًا ويترك ما كان ممسوحًا، وعن قتادة قوله: افترض الله غسلتين، ومسحتين. فقال: والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه (1) في التيمم، فإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقا اسم ماسح غاسل، لأن غسلهما إمرار الماء عليهما، أو إصابتهما بالماء، ومسحهما إمرار اليد، أو ما قام مقام اليد عليهما، فإذا فعل ذلك بهما فهو غاسل ماسح، وذلك من احتمال المسح المعنيين اللذين وصفت من العموم، والخصوص اللذين أحدهما مسح بعض، والآخر مسح بالجميع.
اختلفت قراءَة القراء في قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} فنصبها بعضهم توجيهًا منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل، وإنكارا منه المسح عليهما، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم مسحهما) يعني غسلهما بالماء، لأنه الوارد في الأحاديث، وسيأتي توضيح ذلك في كلامه -رحمه الله تعالى- لأنه يعبر عن تعميم العضو بالماء بالمسح، والغسل لما يراه من إطلاق المسح على الغسل، ثم قال -رحمه الله تعالى- وإيانا: (وخفضها بعضهم توجيهًا منه ذلك إلى أن فرضهما
(1) بالتراب.
المسح، ولما قلناه في تأويل ذلك أنه معنيّ به عموم مسح الرجلين بالماء؛ كره من كره للمتوضئ إدخال رجليه في الماء، دون مسحهما باليد، أو بما قام مقام اليد)، ثم نسب إنكار ذلك أي: إدخالهما في الماء مع عدم مسحهما باليد إلى ابن عمر، وأسند عن ابن طاوس أنه سئل عن ذلك فقال: ما أعد ذلك طائلًا، يعني أنه لا يراه يجزئه حتى يمسحهما بيده، مع إدخالهما في الماء ثم قال:(وأجاز ذلك من أجازه يعني إدخالهما في الماء، بدون إمرار اليد توجيهًا منه إلى أنه معنيّ به الغسل)، ونسبه إلى الحسن البصري، ثم قال رحمه الله وإيانا-:(فإذا كان في المسح المعنيان اللذان وصفنا من عموم الرجلين بالماء، وخصوص بعضهما، وكان صحيحًا بالأدلة الدالة التي سنذكرها بعد، أن المراد في الآية من مسحهما العموم، وكان لعمومهما بذلك معنى الغسل والمسح، تبيّن صواب القراءتين أعني النصب، والخفض في الأرجل؛ لأن في عموم الرجلين بمسحهما بالماء غسلهما، وفي إمرار اليد، أو ما قام مقام اليد عليهما مسحهما، فوجه قراءة من قرأ ذلك نصبًا لما في ذلك من معنى عمومهما بإمرار الماء عليهما، ووجه صواب من قرأ ذلك خفضًا لما وصف من جمع المسح المعنيين اللذين وصفت، ولأنه بعد قوله {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}) ثم ذكر -رحمه الله تعالى-: أن الدليل على وجوب التعميم بالماء قوله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار".
قال: (فلو كان المسح لبعض القدم مجزئًا عن عمومها بذلك لما كان لها الويل بترك ما ترك مسحه بالماء) اهـ. فانظر -رحمك الله- ما أبعد هذا مما ينسب إلى هذا العالم الجليل؛ فإنه لا يجزئ عنده الماء إلا بالمسح باليد مع الماء، وهذا معنى الدلك عند المالكية.
قلت: ويشبه أن يكون ما نسب إلى داود، والناصر للحق: من الجمع بين الأمرين هو معنى قوله رحمه الله من الجمع بين الغسل بالماء، مع إمرار اليد، وهكذا ما روى هو، وغيره عن موسى بن أنس أنَّ أباه كان إذا مسح الرجلين بلّهما بالماء، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر -رحمه الله تعالى- حديث أوس بن أبي أوس قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ومسح على نعليه، ثم قام فصلى"، والرواية الثانية عن أوس:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فتوضأ، ومسح على قدميه" ثم
أجاب عنه بأنه محمول على أن الوضوء كان من غير حدث، كما روى مثله عن علي، وقال: هذا وضوء من لم يحدث؛ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل، ثم ذكر حديث حذيفة:"أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال عليها قائمًا، ثم دعا بماء، فتوضأ، ومسح على نعليه". وتعقبه بأن الثقات الحفاظ من أصحاب الأعمش حدثوا به عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائمًا، ثم توضأ ومسح على خفيه"، ثم ذكر عدة طرق لهذا الحديث على هذا الوجه الصوابِ من أن المسح على الخفين، لا على النعلين، ثم قال: ولم ينقل هذا الحديث عن الأعمش غير جرير بن أبي حازم، ولو لم يخالف في ذلك مخالف لوجب التثبيت فيه لشذوذه، فكيف والثقات من أصحاب الأعمش يخالفونه، ثم ذكر أنه لو صح لاحتمل المسح على النعلين فوق الجوربين.
قال كاتب الحروف -عفا الله عنه-: يحتمل أنه عبر عن الخفين بالنعلين تجوزًا لتتفق الروايتان عن حذيفة، أعني رواية جرير بن أبي حازم عن حذيفة ورواية غيره عن حذيفة، فإذا تأملت -رحمنا الله وإياك- كلام هذا الإِمام تبيّن لك بُعده عن ما ينسب إليه، وأنه لا يقول بالمسح على المعنى الذي يفهمه عنه الناس، وينسبونه إليه، بل هو لا يرضى بالماء وحده؛ إلا بإمرار اليد معه، فيجمع بذلك المسح، والغسل.
قال القرطبي رحمه الله: (قال ابن عطية: "وذهب قوم ممن يقرأ بالكسر إلى أن المسح في الرجلين هو الغسل"، وهو الصحيح، فإن لفظ المسح مشترك يطلق بمعنى المسح، ويطلق بمعنى الغسل).
ثم أسند عن أبي زيد الأنصاري قال: (المسح في كلام العرب يَكون مسحًا، ويكون غسلًا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ، فغسل أعضاءه قد تمسح. ويقال: "مسح الله ما بك" أي: غسلك، وطهّرك من الذنوب)، قال:(فإذا ثبت بالنقل عن العرب أن المسح يكون بمعنى الغسل ترجح قول من قال: إن المراد بقراءة الخفض قراءة النصب التي لا احتمال فيها) اهـ. أي: أن المعنى في قراءة الخفض المحتملة مبيّن بقراءة النصب لتتفق القراءتان، فقد تبيّن بهذا عدم صواب القول بالمسح على الرجلين في الوضوء المسح المتعارف بدون غسل، وضعف عزوه لمن عزي له، ولهذا بيّن الألوسي رحمه الله زيف نسبته لمن نسب
إليهم فقال رحمه الله وإيانا برحمته الواسعة- في كتابه "روح المعاني" بعد نقله كلام "الفخر الرازي" في بحث طويل يحتوي على تدقيق، وتحقيق جليل قال:
(وما تزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس، وأنس بن مالك -رضي الله عن الجميع-، وغيرهما كذب مفترى عنهم، فإن أحدًا منهم ما روي ذلك عنه بطريق صحيح أنه جوّز المسح؛ إلَّا ابن عباس رضي الله عنهما فإنه قال على طريق التعجب: لا نجد في كتاب الله إلا المسح، ولكنهم أبوا إلَّا الغسل، ومراده أن ظاهر الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل) ففي كلامه إشارة إلى أن قراءة الجر مؤولة متروكة الظاهر بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية، وعكرمة، والشعبي "زور وبهتان". قال:(وكذلك نسبة الجمع إلى الحسن، أو التخيير بينهما، ومثله نسبة التخيير إلى ابن جرير صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلقة، ورواها بعض أهل السنة ممن لا يُميز الصحيح من السقيم من الأخبار بلا تحقيق، ولا سند واتسع الخرق على الراقع، ولعل محمَّد بن جرير القائل بالتخيير هو محمَّد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب الإيضاح لمسترشد في الإمامة لا أبو جعفر محمَّد بن جرير بن غالب الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسيره هو الغسل فقط لا المسح، ولا التخيير ولا الجمع).
قلت: قوله: "ولا الجمع" ولا معنى للجمع هنا إلَّا ما قال به ابن جرير مِن أَنَّ الغسل مع إمرار اليد هو المطلوب كما تقدم قريبًا قال: (ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه، ولا حجة لهم في دعوى المسح، سوى هذا الذي روي عن علي وهو: "أنه مسح وجهه، ويديه، ومسح رأسه، ورجليه، وشرب فضل طهوره قائمًا" ثم قال: "إن الناس يزعمون أن الشرب قائمًا لا يجوز، وإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع ما صنعت، وهذا وضوء من لم يحدث) قال: (لأن الكلام في وضوء المحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف) ثم ذكر أشياء مما يحتج به الشيعة. وقال: (من وقف على حال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم) ثم قال: (ولو فرض أن حكم الله تعالى المسح كما يزعمون فالغسل يكفي عنه أي: وهو لا يكفي عن الغسل) اهـ. فتبين بهذا أن الحق في المسألة
أنه ليس في الرجلين إلَّا الغسل كما هو المبين في السنة، وأن المفسرين يردون قراءة الخفض على قراءة النصب بالحمل على أحد الوجوه السابقة، إلَّا أن يكون على الرجلين خفان كما سيأتي في الأحاديث إن شاء الله، وقد حمل بعض المفسرين قراءة الخفض على الجر بالجوار، وقد تقدم ذلك، كما حمله بعضهم على ما إذا كان على القدم خف أو جورب، والله أعلم.
و"إلى" هنا للغاية، وفي دخول ما بعدها في المفروض أو عدم دخوله خلاف تقدم في المرفقين، و"الكعبان": تثنية كعب، وهما العظمان الناتئان من الجانبين عند مفصل الساق، والقدم المتصلان بالساق خلافًا لمن زعم أنهما المنبطحان على ظهر القدم عند مقعد الشراك، ويدل على أنهما اللذان في طرف الساق أن التسمية تدل على الارتفاع، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الثوب:"ما زاد على الكعبين ففي النار" وعلى القول بأن الغاية تدخل في المغيا، أو أنها تدخل إذا كانت من جنسه فهما داخلان، وعلى القول الآخر فالصحيح دخولهما بالسنة كما في المرافق، سواءً بسواء. ويأتي الكلام على مسح الخفين، وأن من شرطه أن يكونا ساترين لمحل الفرض في الغسل. وإلى هنا تم الكلام على أحكام الوضوء، وهو الطهارة الصغرى، ولم تذكر الآية ما يتعلق بالتسمية، والسواك وسيأتي حكمهما إن شاء الله تعالى.
ثم شرع في ذكر الطهارة "الكبرى" وحيث إن الفرض فيها شيء واحد، وهو تعميم البدن بالماء ذكرت مجملة فقال:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} تقدم الكلام على مفردات هذه الجملة وأن الجنب المتصف بالجنابة، وأن الجنابة: اسم للمنيّ كما في حديث عائشة رضي الله عنهما: "كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وتقدم أن المراد خروج المني بشهوة منامًا، أو يقظة من ذكر كان أو أنثى بطريق الحلال، أو بطريق الحرام، فهو في جميعٍ هذه الحالات موجب للغسل. قال بعض العلماء: لما كان الغسل معلوما عندهم اكتفى بذكره، والوضوء لم يكن معروفًا، فذكر بالتفصيل، وهذا يحتمل، ويحتمل غيره، وقد قيل: إن هذه الجملة متقدمة عن محلها، وأن الأصل:"وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم مرضى. . . إلخ".
وألحقت السنة بخروج المني إيلاج الحشفة في الفرج كما تقدم، وهذه هي الطهارة الكبرى. ومثل الجنابة خروج الحيض، والنفاس كما يأتي إن شاء الله
تعالى. وبعدما ذكرت الطهارة بنوعيها ذكر سبحانه وتعالى نواقضها، وهي موجباتها، ولم يكن للجنابة سبب إلَّا خروج المني، أو الإيلاج كما سيأتي في الحديث، فاكتفى في البيان لسببها بقوله: جنبًا؛ لأنه قد عرف أن الجنابة في حكم الشيء الواحد أعني سببها، وهذا عند من لا يقول إن المراد بقوله "لامستم النساء" جامعتم، وأما من يقول بذلك فهو ذكر للسبب الثاني للغسل الذي هو الإيلاج.
ثم ذكر سبحانه وتعالى البدل من الماء في حالتي العجز عنه: إما عن تحصيله، وإما عن استعماله -كما سنبيّنه إن شاء الله- فعبر عن الأولى بالحالة التي يغلب حصولها فيها فقال:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} لأن العجز عن استعمال الماء في الغالب إنما يكون سببه المرض، وإن كان قد يحصل بغيره كالخوف المانع من استعماله من عدو، أو سبع، وكذلك العجز عن تناوله، وعدم وجود من يناوله، ولكن هذه حالات نادرة، وحالة المرض أكثر، وأغلب، وتقدم أن المرض انحراف البدن عن حالة الاعتدال، والصحة، فظاهر الآية أنه إنما يمنع إذا كان متصفًا به، ولكنهم ألحقوا به خوف حدوثه كما في حديث عمرو لما صلى بأصحابه بالتيمم، وهو جنب، وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم:(سمعت الله يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} ولو اغتسلت لَمِتُّ) فأقره على ذلك. والخوف أيضًا يكون خوف زيادة مرض، أو حدوث ضرر كالمجدور يخاف على عينيه وكذلك خوف تأخر البرء.
وقوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ، أي: مسافرين، والحالة الثانية من حالات تعذر الماء: فقده، فأشار إليها بالحالة أيضًا التي هي مظنتها والغالب حصولها فيها، وهي السفر، والظاهر هنا أنه شامل للسفر الطويل، والقصير والجائز، وغير الجائز. وقد اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من حمل اللفظ على ظاهره، ولم يفرق بين المباح وغيره، ومنهم من قال: إنَّ السفر إذا لم يكن مباحًا لا ينبغي أن يرخص لصاحبه، وهذا مذهب مرجوح، والتحقيق أن الرخص المنوطة بالسفر نوعان: نوع ليس في تركه إلا حرمان المسافر من الرخصة، وهذا يناسب القول بمنع صاحبه من الرخصة، وذلك كالقصر للصلاة، والفطر للصائم فينبغي أن يقيد الترخيص بهذا بكون السفر مباحًا. وقسم لو لم يفعله المسافر لأوقعه تركه في ذنب أعظم من ذنب سفره في الغالب، فهذا لا ينبغي أن يمنع منه، وهو التيمم عند فقد
الماء؛ لأن نتيجة ذلك أن يترك الصلاة فيرتكب ما هو أعظم من عصيانه بالسفر، وكذلك أكل الميتة للمضطر؛ فإنه لو تركها قتل نفسه فمثل هذا لا ينبغي أن يمنع منه بحجة أن السفر، غير مباح؛ لأنه يقع في معصية أعظم من معصية سفره في الغالب.
ثم شرع في ذكر أسباب الطهارة فقال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ، قيل:"أو" هنا بمعنى الواو؛ لأنها قد ترد لذلك كقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} أي وكفورًا، وقوله:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أي: ويزيدون.
وقول الشاعر:
كانوا ثمانين أو
…
زادوا ثمانية
فإن المعنى: وزادوا ثمانية، وقيل على بابها، فعلى الأول: فالكلام شروع في بيان النواقض، وعلى الثاني: فالعطف على قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} أي: أو كنتم جاء أحد منكم بشيء من الأحداث غير الجنابة، وقيل: المراد بذلك بيان حكم المقيم الصحيح الفاقد للماء، فذكر المرض المانع من استعمال الماء والسفر المسبب لفقده في الغالب، وحكم المحدث المقيم إذا فقد الماء. وتقدم أن الغائط كناية عن قضاء الحاجة للإنسان من البول، والخارج من المخرج، ويندرج في حكم البول حكم المَذْي، والودي (وهو ماء يخرج بأثر البول) ويندرج تحت الخارج من المخرج الريح، وقرأ ابن مسعود (الغيط) فهو بمعنى الغائط، وجوّز بعضهم أنه في الأصل مصدر أصله الغوط، فقلبت واوه ياءً.
فهذه الأحداث المتفق على نقضها للطهارة، واشتراط وجود بعضها لوجوب الطهارة على القائم للصلاة، وبقي مما اختلفوا فيه (النوم)، وتقدم قول من قال إن الآية نزلت بسببه، ولبيان وجوب الوضوء منه، وخروج غير الخارج المعتاد كالدود، والبلل من السبيلين، وكذلك خروج البول، والغائط من مخرج غير السبيلين، أو خروجهما على غير المعتاد، وكذلك خروج غيرهما من النجاسة من سائر البدن غير المخرجين، والقهقهة، وسيأتي الكلام على ذلك كله، وكذلك الإغماء، والجنون، وأما اللمس فهو مذكور هنا على الخلاف فيه، وبقي أيضًا من المختلف فيه لمس الذكر، وكل هذه الأمور ستأتي إن شاء الله في شرح الأحاديث في باب الطهارة من الكتاب.
قال بعض العلماء: تقدير الكلام: محدثين حدثًا غير معتاد يعني قوله: {جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ، ضرب لهم مثلًا لسائر الأحداث التي هي في الحكم مثله، فصار تقدير الآية: إن كنتم جنبًا، أو محدثين بالخارج {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} مسستموهن عند من يحمل الملامسة على المس، وهو أكثر فيها من الجماع. وقرأ حمزة، والكسائي (لمستم)، وهي أقرب إلى معنى المس، فتكون الآية من قوله:{أَوْ جَاءَ} كلها في نواقض الوضوء، ويكون موجب الجنابة لم يذكر إما لأنه معلوم عند الناس لكونه محصورًا في أمرين فقط، وهذا هو قول الجمهور، وإما على قول من يقول إن الملامسة هنا هي الجماع وإنها بيان لسبب الغسل كما بيّن سبب الوضوء، وهو مروي عن ابن عباس ونسب إلى علي رضي الله عنه، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله وبنى عليه قوله بأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء، وعلى القول الأول فهو ناقض. لكن اختلف القائلون به فذهب الشافعي إلى أن النقض يحصل بمجرد ملاقاة البدن للبدن بدون حائل، وذهب مالك وأحمد إلى أنه لا يحصل إلا بقصد الشهوة أو وجودها، لأنه وإن كان عامًا فقد جاء في السنة ما يخصصه، كما يأتي بيانه إن شاء الله.
وجواب الشرط في قوله (إن كنتم): قوله: (فتيمموا)، ولا مفهوم للسفر لما قدمنا من أنه حالة هي الغالب أنها تسبب فقد الماء، والنص إذا خرج مخرج الغالب لا يعتبر مفهومه، ففاقد الماء في الحضر كفاقده في السفر، وسيأتي بيان ذلك في موضعه من كتاب الطهارة إن شاء الله. قال ابن العربي:(حقيقة اللمس إلصَاقُ الجارحة بالشيء، وهو عرف في اليد لأنها آلته الغالبة، وقد يستعمل كناية عن الجماع، وقالت طائفة: اللمس هنا الجماع، وقالت طائفة أخرى هو اللمس المطلق لغة أو شرعًا. فأمَّا اللغة فقد قال المبرد: لمستم وطئتم ولامستم قبَّلتهم لأنها لا تكون إلا من اثنين، والذي يكون بقصد وفعل من المرأة هو التقبيل، فأما الوطء فلا عمل لها فيه إلا المطاوعة، قال أبو عمر: الملامسة الجماع واللمس لسائر الجسد) قلت: وهذا يوافق ما قدمنا أن اللمس أقرب إلى معنى المس. قال: (وهذا كله استقراء لا نقل فيه عن العرب، وحقيقته أنه كله سواء وأن لمستم محتمل للمعنيين جميعًا كقوله: "لامستم" ولذلك لا يشترط لفعل الرجل شيء من فعل المرأة) قلت: وهذا فيه رد لقول المبرد في التفرقة السابقة
قال: (وقد قال ابن عباس: إن الله حيي كريم يعفو ويكني، وقد كنى باللمس عن الجماع، وقال ابن عمر: قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة، وكذلك قال ابن مسعود وهو كوفي، فما بال أبي حنيفة خالفه، ولو كان معنى القراءتين مختلفًا لجعلنا لكل قراءة حكمها وجعلناهما بمنزلة آيتين، ولم يناقض ذلك، وهذا تمهيد المسألة ويكمله ويؤكده ويوضحه أن قوله: "ولا جنبًا" أفاد الجماع) أي: لأنه معروف عندهم أنه يسبب الوصف بالجنابة (وأن قوله تعالى: "أو جاء أحد منكم من الغائط" أفاد الحدث وأن قوله: "أو لامستم" أفاد اللمس والقبلة فصارت ثلاث جمل لثلاثة أحكام. قال: وهذا غاية في العلم والإِعلام، ولو كان المراد باللمس الجماع لكان تكرارًا وكلام الحكيم ينزه عنه) اهـ. قلت: ومما يؤيد أن اللمس أصله غير الجماع قوله صلى الله عليه وسلم لماعز الأسلمي رضي الله عنه لما اعترف بالزنا: لعلك قبلت أو لمست، وقول عائشة رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا فيقبّل ويلمس. وفي حديث أبي هريرة: وزنا اليد اللمس.
وقد يعترض على ما تقدم بأن يقال: "قولكم إن كنتم جنبًا" ذكر للجنابة بدون ذكر سببها، فلما ذكر الله سبب الحدث، بقوله (أو جاء أحد منكم من الغائط) وهو سبب الحدث، ذكر سبب الجنابة وكنى عنه بالملامسة كما كنى عن الأول بالغائط؟ والجواب عن هذا الاعتراض بأن يقال:
إن حمل اللمس على عمومه يشمل النوعين فهو سبب للطهارتين، وهو أبلغ لأنه يفيد أن مجرد اللمس ينقض الوضوء ونقضه بالجماع أولى، كما أن الجماع غاية نهاية اللمس وأعظمه، فيوجب غاية الطهر وأعظمه وهو الغسل، وهذا أولى والله أعلم.
وقد تقدم أن الإِمام الشافعي يقول: بأن اللمس ينقض مطلقًا بوجود لذة أو عدمها وعدم قصدها، فهو عنده ناقض بنفسه لا يتوقف بعد حصوله على شيء زائد لأنه يفضي إلى خروج المذي ونحوه، كالحال في الجماع يفضي إلى خروج المني، فكما أن حصول الجماع ناقض بهذا السبب ولا يتوقف الغسل بعده على غيره، فكذلك اللمس عنده ناقض للطهارة الصغرى من غير توقف على شيء زائد. وراعى مالك وأحمد في المشهور عنه أنه وإن كان لم يقيد في الآية بشيء، ولكن ثبتت السنة بأن النبي صلى الله عليه وسلم لمس في الصلاة ولمسته عائشة فيها ولم يقطعها،
واتفقوا على أن لمس ذوات المحارم لا ينقض الوضوء، وليس هناك ما يصلح أن يكون علة لعدم النقض في هذه الحالات أولى من ربط النقض بالشهوة، فإن وجدت أو قصدت انتقض الوضوء وإلّا فلا. وذهب الأوزاعي -رحمه الله تعالى- إلى أن اللمس إن كان باليد نقض وإذا كان بغيرها لا ينقض، واستدل بقوله تعالى:{فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} فرأى أن حقيقته باليد دون غيرها.
قلت: ومثله قول الشاعر:
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى
…
ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى
…
أفدت وأعداني فبددت ما عندي
فأناط الحكم باليد دون غيرها لأنه رآه حقيقة فيها.
لكن قد تقدم أن علماء العربية لم يتفقوا على شيء في تخصيص اللمس وأن المدار في ذلك على العرف، وأن إطلاقه على جميع ما فسّر به صحيح، فلا يخص باليد والله تعالى أعلم.
ثم ذكر سبحانه وتعالى الشرط المكمل لشروط استعمال البدل فقال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} والمراد بعدم الوجود: عدم القدرة على الطهارة به الشامل لفقده من أصله، ولوجود مانع يمنع من استعماله.
قال القاضي أبو بكر بن العربي -رحمه الله تعالى- (قال علماؤنا: فائدة الوجود: الاستعمال والانتفاع بالقدرة عليهما فمعنى قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فلم تقدروا عليه، لتضمن ذلك الوجوه المتقدمة المذكورة فيها، وهي المرض والسفر. فإن المريض واجد للماء صورة، ولكنه لما لم يتمكن من استعماله لضرورة صار عادمًا له حكمًا، فالمعنى الذي يجمع نشر الكلام: فلم تقدروا على استعمال الماء، وهذا يعم المرض والصحة إذا خاف من أخذ الماء لصًا أو سبعًا، ويجمع الحضر والسفر، وهذا هو العلم الصريح والفقه الصحيح والأصول بالتصحيح. ألا ترى أنه لو وجده بزائد على قيمته جعله معدومًا حكمًا وقيل له يتيمم، فتبين أن المراد الوجود الحكمي لا الوجود الحسي) اهـ. قوله: {مَاءً} قد تقدم الكلام عليه. قال ابن العربي رحمه الله: (قال أبو حنيفة: هذا نفي في نكرة وهو يعم حكمًا، فيكون مفيدًا جواز الوضوء بالماء المتغير لانطباق اسم الماء عليه) اهـ. وأجاب -رحمه الله تعالى- عن هذا القول
بقوله: (واعلموا أن النفي في النكرة يعم كما قلتم، لكن في الجنس فهو عام في كل ماء من سماء أو عين أو بئر أو نهر أو بحر عذب أو ملح، فأما غير الجنس فهو المتغير فلا يدخل، كما لا يدخل ماء الباقلاء وماء الورد) اهـ.
قلت: تقدم نظير هذا قول ابن الجصاص: إن عدم تعيين المغسول به يدل على صحة الوضوء بالنبيذ، وتقدم الكلام عليه. ثم ذكر قول الشافعي رحمه الله أنه إذا وجد ماء لا يكفيه لأعضاء الوضوء كلها، أنه يستعمله فيما كفاه ويتيمم لباقيه قال:(فخالف مقتضى اللغة وأصول الشريعة، ثم ذكر أن الله أمر بغسل أعضاء الوضوء من الحدث وغسل الجسد من الجنابة، ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فاقتضى ذلك الماء الذي يقوم له مقام ما تقدم الأمر فيه والتكليف به، فإن آخر الكلام مربوط بأوله وجعل هذا وجه مخالفته لمقتضى اللغة. قال وأما مخالفته للأصول؛ فليس في الشريعة موضع يجمع فيه بين الأصل والبدل)، اهـ. وقد صحت السنة في الوضوء بماء البحر وروي عن ابن عمر أنه قال: لا يتوضأ به، لأنه ماء نار أو لأنه طبق جهنم أو لأنه عذب به فلا يصلح للقربة، أصله النهي عن الوضوء بماء الحجر -وهي أرض ثمود- إلا من بئر الناقة وقد دلهم عليها على سبيل المعجزة، وذلك لأنها أرض عذاب، لكن صحت فيه السنة فلم يبق فيه مجال للتعليل المذكور ولا غيره. وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم قال فيه:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، ويذكر عن ابن عباس أنه طهور الملائكة إذا نزلوا توضؤوا منه وإذا صعدوا توضؤوا منه. وإذا كان المراد بكونه عذابًا أنه عذّب به فرعون، فهو غير عام في سائر البحار، وإن أريد ما قيل من أن ماء البحر بقية من الطوفان في عهد نوح، فيمكن حينئذٍ وصفه بأنه ماء عذاب، لولا ورود السنة كما تقدم.
ثم ذكر سبحانه البدل بقوله: {فَتَيَمَّمُوا} أي اقصدوا واتخذوه إمامًا لكم، وقد تقدم الكلام على ذلك من حيث اللغة. وقد استدل الإِمام أبو حنيفة رحمه الله بالأمر بالقصد في التيمم على وجوب النية فيه، لأنه يرى أن النية هي القصد لفظًا ومعنى، وهو لا يرى وجوب النية في الوضوء على ما قدمت، مع أنه تقدم أن غيره يستدل بالآية على وجوب النية، حيث إنهم فسروا {إِذَا قُمْتُمْ} بقولهم: معناه إذا قصدتم القيام للصلاة، فاقتضى ذلك أن غسل المأمور بغسله من أجلها، وذلك معنى النية أن يكون غسل الأعضاء المذكورة لها، وتعقب
قوله هنا: بأن القصد وإن كان هو النية لكنه هنا المراد الأمر باستعماله بدل الماء، فليس فيه إلا ما في قوله {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، وقوله {فَاطَّهَّرُوا} .
وقوله: {صَعِيدًا طَيِّبًا} : تقدم الكلام عليه لغة في الكلام على المفردات في الآية. وفي تعيين المراد منه أربعة أقوال:
الأول: وجه الأرض، وبه قال مالك ومن وافقه.
والثاني: الأرض المستوية.
الثالث: الملساء.
الرابع: التراب، قاله ابن عباس وهو قول الشافعي.
والظاهر أن الدليل يقوي أنه وجه الأرض، وقد تقدم ذلك. وإنما خصه الشافعي بالتراب والله أعلم لما في إحدى روايات حديث الخصائص:"جعلت لي الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا"، فالتنصيص على التربة يرى أنه مقيد لإطلاق الأرض، وكذلك ما يأتي من قوله في الباء في بوجوهكم. وقد تقدم شواهد صحة القول بكونه وجه الأرض، وهو الذي يقتضيه الاشتقاق لأنه مِنْ: صعد إذا ارتفع وظهر، وصريح اللغة يقتضيه وسواء كان رملا أو ترابًا أو حجرًا أو غير ذلك، ويؤيده النظر حيث إنها رخصة للمحافظة على الصلاة، ولو قيدت بالتراب لكان كثير من أهل الصحارى ولاسيما أهل الرمال التي لا يوجد فيها الغبار، لا حظ لهم في هذه الرخصة وكذلك الأماكن السبخة، وقد قال تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} كما سيأتي بيانه. ومن سافر في كثير من أنحاء المعمورة أدرك أن قصر الجواز على التراب فيه حرج كبير، وتفويت لحق كثير من المسلمين في هذه الرخصة العامة. وقوله:{طَيِّبًا} صفة لصعيد، واختلفوا في المراد بها فقيل: النظيف وقيل: المنبت: وقيل: الطاهر وقيل: الحلال، وأصحها القول بأنه الطاهر، وذلك لأن الطيب والخبث نسبيان والمناسب هنا هو الطاهر. فأما القول بأنه منبت وهو الذي اختاره الشافعي فيستدل له بقوله تعالى:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} وفيه نظر لما قدمنا من أن وصف الطيب أمر نسبي، ولأنه لا يلزم من إطلاقه الطيب على البلد الذي يخرج نباته بإذن ربه، أن لا يستحق الوصف بالطيب غيره على وجه آخر، فلا تنحصر فيه صفة الإنبات، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"هذه طيبة هذه طابة"، ومعلوم أن وصف الطيب شملها وأكثرها حجارة وحرار سوداء صلبة. وهذا الخلاف ينبني
عليه جواز التيمم على كل أجزاء الأرض، أو تخصيص بعضها بالجواز دون بعض. فذهب مالك إلى جوازه على جميع الأرض ولو كان حجارة، وهو مذهب الإِمام أبي حنيفة والثوري والطبري، فأجازوه على جميع ما صعد على وجه الأرض ولو كان معدنًا، ما لم يكن فضة خالصة أو ذهبًا خالصًا وما لم يكن المعدن منقولًا، وما عدا ذلك جميعه جائز، وأجازوه على الحجر المنقول كالجدار ونحوه. وحديث أبي جهيم يدل عليه، واختلفوا في التراب المنقول وقالوا: هذا هو الموافق لقوله {صَعِيدًا} وحملوا قوله {طَيِّبًا} على أن المراد به طاهرًا. . .
وقال الشافعي وأحمد ووافقهما أبو يوسف: الصعيد التراب المنبت وهو الطيب قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} ، وما لا ينبت لا يكون طيبًا كما تقدم، فلا يجوز التيمم عندهم على غيره. وقال الشافعي: لا يقع الصعيد إلَّا على تراب ذي غبار. وعن علي: هو التراب، ومثله عن الخليل قال: تيمم بالصعيد أي أخذ من غباره. قال الكيا الطبري: (واشترط الشافعي أن يعلق التراب باليد -إلى أن قال- ولا شك أن لفظ الصعيد ليس نصًا فيما قاله الشافعي) اهـ. قلت: وقد تقدم ما يدل على قول الكيا هذا، ولكن الذي يتمسك به الشافعي في هذا قوله عليه الصلاة والسلام:"وتربتها لنا طهورًا"، قال القرطبي:(قالوا هذا من باب المطلق والمقيد، قال: وليس كذلك وإنما هو من باب النص على بعض أشخاص العموم -يعني- أفراده كما في قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} قال: وقد حكى أهل اللغة أن الصعيد اسم لوجه الأرض كما ذكرنا، وهو نص القرآن كما بيّنا، وليس بعد بيان الله وقال عليه الصلاة والسلام: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك) اهـ. قلت: وقد استدل الإِمام أبو بكر محمَّد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله بقوله عليه الصلاة والسلام: "أُرِيتُ دارَ هجرتكم، أُرِيتُ سبخة ذات نخل بين لابتين" فإنه قال في صحيحه: (باب إباحة التيمم بتراب السباخ ضد قول من زعم من أهل عصرنا أن التيمم بالسبخة غير جائز) ا. هـ وقول هذه المقالة يقود إلى أن التيمم بالمدينة غير جائز إذ أرضها سبخة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنها طيبة وأنها طابة. ثم ذكر حديث عائشة في الهجرة الطويل الثابت في الصحيح، من طريق يونس عن الزهري عن عروة عنها فذكر الحديث وفيه:"أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين". قال: (ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أريت سبخة ذات
نخل وسباخ" بعد إعلامه إياهم أنها دار هجرتهم، وجميع المدينة كانت هجرتهم؛ دلالة على أن جميع المدينة سبخة، ولو كان التيمم غير جائز على سبخة على ما توهمه بعض أهل عصرنا أنه من البلد الخبيث بقوله:{وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} لكان قود هذه المقالة -أي ما تقود إليه يعني لازمها- أن أرض المدينة خبيثة لا طيبة. قال: وهذا قول بعض أهل العناد لما ذم أهل المدينة، فقال: إنها خبيثة. فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سماها طيبة وطابة مع إعلامه إياهم أنها سبخة، وفي هذا ما أبان أن التيمم بالسباخ جائز) اهـ. فهذا الاستدلال منه رحمه الله بما ذكر على أن هذا القول باطل لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها طيبة وطابة، فلو سلمنا هذا القول لكانت على مقتضاه خبيثة، وللزم أن أهلها خارجون من هذه الرخصة التي نزلت عليهم وبسببهم ما داموا فيها، ولا يخفى بطلان ذلك.
وأما كيفية المسح ومقدار الممسوح وعدد الضربات: فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن الواجب المسح إلى المرفقين، ويكون ذلك بضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين، ونسب ذلك إلى ابن عمر وابنه سالم والحسن. واحتج أهل هذا القول بما رواه البيهقي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة للكفين إلى المرفقين". وروى الشافعي عن الأعرج عن ابن الصمة قال: "مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد علي، حتى قام إلى الجدار فحَتَّه بعصا كانت معه، ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد علي". قلت: وهذا منقطع بين الأعرج عبد الرحمن وبين ابن الصمة، فإنه لم يسمعه منه، وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة، وسيأتي الحديث. والمروي عن عمير هذا؛ ليس فيه ذكر الحك ولا ذكر المرفقين، وإنما قال: أقبل على الجدار فوضع يده على الحائط، فمسح بوجهه ويديه ثم رد. وسيأتي حديثه إن شاء الله وتمام الكلام على المسألة، وأن الأدلة ومقتضى عموم الرخصة ورفع الحرج؛ يقتضي جواز التيمم على سائر وجه الأرض: ترابًا كان أو غيره، وقصرها على نوع من التراب فيه الحرج الذي نفاه الله في الآية الكريمة وغيرها، ومن جال في البلدان يدرك ذلك ضرورة، فإن بعض الجهات تكون أرضها رمالًا لا يعرف فيها الغبار، فلو منع التيمم عليهم مع كثرة من يسكنها من أهل الصحارى؛ لكان ذلك من أشد الحرج عليهم.
وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أي ما يريد بتشريعه لما شرعه لكم ليجعل عليكم حرجًا، أي ضيقًا وشدة في دينكم كما قال:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وأصل الحرج: الضيق والشدة، فالحرج -محركًا- هو المكان الضيق أو أضيق الضيق، وهو اسم للشجر المجتمع، وهو الغيضة لضيقها، والحرجة: الشجرة في وسطه لا تصل إليها الآكلة من الدواب، وهي واحدته وتجمع على أحراج وحرجات، كلما في قول الشاعر:
أيا حرجات الحي حين تحملوا
…
بذي سلم لا جادكن ربيع
ورجل حرَج وحِرج ضيق الصدر، وبهما قرئ:{يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} وقيل: بالفتح في صدره ضيق وبالكسر اسم فاعل، ومثله دنف ودنف ووحد ووحد. ويسمى الإثم والحرام حرجًا لأنه يجعل الإنسان في ضيق من أمر دينه، وهو بهذا المعنى هو المراد هنا، وقد جعله ابن الأثير فيه من المجاز كما ذكره صاحب التاج، والحارج الآثم ومنه قول الشاعر:
يا ليتني حظيت غير حارج
…
أم حبي قد حبا أو دارج
ويسمى السرير الذي يحمل عليه المريض والميت حرجًا، قال امرؤ القيس:
فإما تريني في رحالة جابر
…
على حرج كالقر تخفق أكفاني
ويسمى شجار الخشب الذي يشد بعضه إلى بعض، ويوضع على نعش النساء: حرجًا، قال عنترة يصف ظليمًا يتبعه رئاله ويفرش جناحيه تحته:
يتبعن قلة رأسه وكأنه
…
حرج على نعش لهن مخيم
وكان الواجب أن يكون الكلام على هذا في أول شرح الآية، ولكنه تأخر سهوًا، و"من" في قوله:{مِنْ حَرَجٍ} صلة لتوكيد عموم النفي، وقوله {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} أي من الذنوب باستعمال المطهر الذي أمركم به وهو الوضوء، كما في حديث أبي هريرة وحديث عثمان وكلاهما في الصحيح، وكما في حديث الصنابحي عند مالك والمصنف وغيرهما، وسيأتي ذلك. وقيل من الحدث والجنابة، أو لتستحقوا اسم الطهارة التي يوصف بها أهل الطاعة. وقرأ سعيد بن المسيب {لِيُطْهِرَكُمْ} وهي بمعنى الأولى، مثل قولهم نجّاه وأنجاه.
وقوله: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي: بالترخيص في التيمم عند المرض والسفر، وقيل: بتبيين الشرائع، وقيل: بغفران الذنوب، وقيل: بدخول الجنة والنجاة من النار، وهذا هو الضالة المنشودة والغرض المقصود بالذات وما سواه وسائل إليه ولفظ النعمة مفرد في معني الجمع لأن المراد الجنس، كما قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} أي نِعَم الله، فكذلك هاهنا يتم نعمته أي: نعمه عليكم، فيدخل فيها جميع ما ذكر. وقوله:{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: ولكي تشكروا نعم الله عليكم بإقبالكم على طاعته واجتنابكم لمعصيته، فإن حقيقة الشكر: الاستعانة بالنعمة على أداء حق المنعم، ولهذا عرّفه بعضهم: بأنه صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه به فيما خلق من أجله.
تنبيه:
في خاتمة هذه الآية إشارة إلى فضيلة التَّطهُر وكونه عبادة، كما في حديث أبي مالك الأشعري في صحيح مسلم:"الطهور شطر الإيمان". قال ابن العربي رحمه الله: (وهو أصل الدين وطهارة المسلمين) اهـ. وفي حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: "إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن" الحديث، وحديث عثمان رضي الله عنه:"إذا توضأ العبد المسلم فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره"، وحديث عمرو بن عبسة أيضًا في مسلم وغيره، وقوله صلى الله عليه وسلم لبلال:"إني سمعت دفَّ نعليك"، وفي رواية:"خشخشة نعليك في الجنة" الحديث وفيه: "ما أحدثت إلا توضأت". وقد حمل الجمهور -كما سيأتي- إطالة الغرة المأمور بها على أنها إدمان الوضوء والإكثار منه، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله في بابه من هذا الشرح المبارك، نفع الله به المسلمين. وهذه الأحاديث وأمثالها والإشارة في الآية، تدل على أن الوضوء عبادة شرعت لدحض الذنوب، وإن جعلت شرطًا في صحة الصلاة مع ذلك، وتكفير السيئات وذلك يؤيد قول الجمهور بأنها عبادة مستقلة تفتقر إلى نية، لأنها شرعت كغيرها من العبادات لمحو الذنوب ورفع الدرجات عند علام الغيوب، والله الموفق للصواب والميسر للخير وإليه المآب، خلافًا لمن قال إنها وسيلة كغسل النجاسة فلا تفتقر إلى نية، وسيأتي البحث فيها مستوفى من حديث عمر رضي الله عنه:"إنما الأعمال الحديث" والله تعالى أعلم.
1 -
أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي وَضُوئِهِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِى أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ".
• [رجاله: 5]
1 -
قتيبة بن سعد بن جميل بن طريف بن عبد الله البُغْلَاني، نسبة إلى قرية من قرى بلخ تسمى بُغْلَان، الثقفي بالولاء. يقال: إن جده كان مولى للحجاج بن يوسف، وقتيبة تصغير قتبة، واحدة الأقتاب وهي الأمعاء، قيل: اسمه، وقيل: لقبه واسمه: يحيى، وقيل: علي ويكنى بأبي رجاء، اتفق الأئمة على توثيقه وجلالته. قال الذهبي:"شيخ الحفاظ ومحدث خراسان" ولد سنة 148 - قيل في الليلة التي مات فيها الأعمش، وقيل سنة 149 وقيل سنة 150 - روى عن مالك، والليث، وبكر بن مضر، وحماد بن زيد، وعبد العزيز الدراوردي، وعبد العزيز بن أبي حازم، وجرير بن عبد الحميد، وفضيل بن عياض، وابن عيينة، وابن عُليّة، وابن لهيعة، وشريك، وعنه الجماعة إلا ابن ماجه، فإنه روى له بواسطة الإِمام أحمد، وكذا روى له الترمذي بواسطة الإِمام أحمد. مات سنة 240 هـ، وجمع بين ثلاث طبقات من الرجال.
2 -
سفيان بن عيينة بن أبي عمران، مولى من بني عبد الله بن رواحة من بني هلال، فهو هلالي بالولاء، وقيل: إن اسم جده ميمون، كوفي سكن مكة، كنيته أبو عمران، وقيل: إن الذي سكن مكة أبوه عيينة. روى عن عبد الملك بن عمير، وأبي إسحاق السبيعي، وجعفر الصادق، والأسود بن قيس، وموسى، وإبراهيم، ومحمد بني عقبة، وعبد الله بن أبي طلحة، وأيوب السختياني، وعمرو بن دينار، والزهري، والأعمش، ومنصور، وغيرهم، وعنه الأعمش وابن جريج وشعبة والثوري ومسْعَر، وهم من شيوخه، وروى عنه حماد بن زيد ووكيع وأبو إسحاق الفزاري ومعتمر، وهم من أقرانه، وروى عنه الشافعي والقطان والطيالسي وابن معين وأحمد وابنا أبي شيبة وغيرهم، قال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز، وقال: مالك وسفيان القرينان. قال
ابن المديني: ما في أصحاب الزهري أتقى من ابن عيينة، وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث. ولد سنة سبع ومائة 107 هـ وروي أنه قال -وهو بالمزدلفة-: وافيت هذا المكان سبعين حجة أقول في كل منها: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله، فرجع وتوفي في السنة الداخلة، وهي سنة مائة وثمان وتسعين 198 هـ. وقيل: إنه اختلط سنة سبع وتسعين ومائة 197 هـ. قال أبو حاتم: الحجة على المسلمين: مالك وشعبة والثوري وابن عيينة. وقال فيه: ابن عيينة ثقة إمام، روي عنه أنه أدرك سبعة وثمانين تابعيًا. انتقل من الكوفة إلى مكة سنة مائة وثلاث وستين 163 هـ إلى أن مات بها -رحمنا الله وإياه برحمته الواسعة-.
3 -
محمَّد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، أحد أعلام الإِسلام والعلماء والفقهاء العظام، وأشهر علماء المدينة والشام، كنيته أبو بكر، روى عن جماعة من الصّحابة منهم: عبد الله بن عمر وأنس بن مالك وعبد الله بن جعفر وسهل بن سعد وجابر بن عبد الله وعامر بن ربيعة وأبو الطفيل. ومن التابعين جماعة: عبيد الله وعبد الله وحمزة وسالم بنو عبد الله بن عمر، وحميد وأبو سلمة وإبراهيم بنو عبد الرحمن بن عوف، وخارجة بن زيد وعلي بن الحسين وعطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير والقاسم بن محمَّد وغيرهم. وعنه: عطاء بن أبي رباح وأبو الزناد وهما من شيوخه، وابن جريج وعمر بن عبد العزيز وأخوه عبد الله بن مسلم والأوزاعي وابن عيينة ومالك وهشام بن عروة ويحيى بن سعيد وغيرهم. ذكر البخاري عن ابن المديني أن له ألفي حديث، وقال الآجري: ألفا حديث ومائتا حديث، وروي عنه أنه قال:"ما استودعت قلبي شيئًا فنسيته". وذكر ابن حجر أن هشام بن عبد الملك طلب منه أن يملي على بعض بنيه، فدعا بكاتب فأملى عليه أربعمائة حديث، ثم بعد ذلك قال له هشام: إن ذلك الكتاب قد ضاع، فدعا الكاتب فأملاها عليه فقابلها هشام مع الأولى فما غادر منها حرفًا. وشهرته معلومة وثناء الأئمة عليه مشهور، قال مالك: كان أسخى الناس. ولد سنة 55 هـ، وقيل 56 هـ، وقيل 58 هـ، وقيل: 51 هـ، ومات -رحمنا الله وإياه- سنة 123 هـ، وقيل: 124 هـ، وقيل: 125 هـ.
4 -
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد مشاهير التابعين، قيل: اسمه أبو سلمة وقيل: عبد الله. أحد أوعية العلم الكبار بالمدينة، المتفق على علمهم وجلالة قدرهم وفقههم وثقتهم وإمامتهم. روى عن أبيه وعثمان، واختلف في سماعه من طلبة وعبادة بن الصامت. وروى عن أبي هريرة وابن عباس وابن عمر وجابر وحسان وعائشة وأم سلمة وفاطمة بنت قيس وغيرهم من الصحابة والتابعين، وعنه ابنه عمرو وبنو إخوته: سعد بن إبراهيم وعبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن وزرارة بن مصعب بن عبد الرحمن، والأعرج وعروة والزهري ومحمد بن إبراهيم التيمي وأبو حازم بن دينار، وبنو سعيد: يحيى وسفيان وعبد ربه وغيرهم. قال أبو زرعة: ثقة إمام، وقال ابن حبان: كان من سادات قريش، مات سنة 94 هـ، قلت: كانت تسمى سنة الفقهاء لكثرة من مات فيها منهم، وقيل سنة 104 هـ، وه وابن 72 سنة، الأول قول ابن سعد والثاني قول الواقدي، وأمه تماضر الكلبية، وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة -رحمنا الله وإياه- رحمة واسعة.
5 -
أبو هريرة الدوسي: اختلفوا في اسمه على أقوال، أشهرها كما قال النووي: عبد الرحمن بن صخر، وصحح ابن حجر ما أسنده ابن خزيمة أن اسم أبيه عبد عمرو، وذكر أن أهل الحديث أجمعوا على أنه أكثر الصحابة حديثًا، وأمره في ذلك مشهور، وذكر ابن حزم أن مسند بقي بن مخلد احتوى على خمسة آلاف وثلاثمائة وكسر من حديث أبي هريرة، هذا مع كونه متأخرًا إسلامه، فإنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فتح خيبر وهو بخيبر، وذلك سنة سبع، فإن فتح خيبر كان في صَفرٍ سنة سبع بعد صلح الحديبية، وقد حَفظ في هذه المدة ما لم يحفظه غيره، وقد بين سبب ذلك كما في صحيح البخاري، وغيره عنه أنه قال:(يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثًا ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} إلى قوله {الرَّحِيمِ}. إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون). ومن رواية ابن أبي ذئب عن المقبري عنه: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما فبثَثْته، وأما
الآخر فلو بَثَثْتُه قطع مني هذا البلعوم"، وهذا محمول على أحاديث الفتن، ومع كونه لم يحدث بهذا الوعاء اتفقوا على أن الذي حدث به أكثر من حديث سائر من حدث من المكثرين، وقد قالت له عائشة -رضي الله عن الجميع-: أكثرت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "إني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة". وذكر الحافظ ابن كثير أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من سنة الستين وإمارة الصبيان". وذكر ابن كثير من رواية عطاء عنه أنه قال يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم ستًا فإن كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها فلذلك أتمنى الموت خشية أن تدركني: إذا أمرت السفهاء، وبيع الحكم بالرشا، وتهوّن بالدم، وقطعت الأرحام، وكثرت الجلاوزة، ونشْءٌ يتخذون القرآن مزامير". ومناقبه رضي الله عنه كثيرة مشهورة، وقد اختلفوا في موته فقيل سنة 59 هـ بقصره بالعقيق، وقيل 58 هـ، وقيل 57 هـ، وأرجحها الأول. وكان يلي إمرة المدينة لمعاوية بالنيابة عن مروان، وأخباره في ذلك مشهورة رضي الله عنه وجمعنا به في جنات النعيم.
وقد روى عن: أبي بكر وعمر وأبيّ بن كعب والفضل بن العباس وأسامة بن زيد وعائشة ونضرة بن أبي نضرة وكعب الأحبار وأنس بن مالك وابن عمر وابن عباس، وعنه: ابنه المحرر وواثلة وجابر وخلق من التابعين منهم: ابن المسيب وعروة وحميد وأبو سلمة ابنا عبد الرحمن بن عوف، وذكر ابن حجر عن البخاري أنه روى عنه نحو ثمانمائة من أهل العلم.
• التخريج
أخرجه الجماعة ولم يذكر البخاري العدد فيه، وفي بعض رواياته عند الترمذي وابن ماجه:(إذا استيقظ أحدكم من الليل)، وعند أبي داود من رواية أبي هريرة:[إذا قام أحدكم]، ومثلها لابن ماجه لكن من رواية جابر، وزاد (ابن حِبَّان) والبيهقي وابن خزيمة:(فإنه لا يدري أين باتت يده منه) قال ابن منده: هذه الزيادة رواتها ثقات ولا أراها محفوظة. ولأبي داود وابن ماجه: "مرتين أو ثلاثًا". وظاهر صَنيع البخاري أنه طرف من حديث، وهو عند مسلم وفي الموطأ لمالك، وكذلك عند غيرهم حديث مستقل، ولعل البخاري يرى جمع الحديثين إذا اتفق سندهما، كما يرى تقطيع الحديث الواحد.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (إذا استيقظ)، تقدم أن لفظة (إذا) تكون في العربية لمعنيين؛ أحدهما: أن تكون للفجاءة فتختص بالجمل الاسمية، والثاني: أن تكون ظرفًا زمانيًا يدل على الاستقبال مضمّنًا معنى الشرط، فيختص بالجمل الفعلية ويفتقر إلى الجواب لكنه لا يجزم، وسمع الجزم به في الشعر خاصة، كما قال الشاعر:
استغن ما أغناك ربك بالغنى
…
وإذا تصبك خصاصة فتحَمّل
فجزم بها. ولاختصاصها بالجمل الفعلية أشار ابن مالك رحمه الله في الألفية بقوله:
وألزموا إذا إضافة إلى
…
جمل الأفعال كهن إذا اعتلى
والعامل فيها عند الأكثرين جوابها، والجملة بعدها في محل جرِّ بها. وإذا وليها اسم، وجب تقدير الفعل بعدها قبل الاسم، كما في قوله:{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} ونحو ذلك ومنه قول السموأل بن عاديا:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه
…
فكل رداء يرتديه جميل
وقول الآخر وهو منسوب لعمرو بن العاص رضي الله عنه:
إذا المرء لم يترك طعامًا يحبّه
…
ولم ينه قلبًا غاويًا حيث يمّما
قضى وطرًا منه وغادر سبَّة
…
إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
الفعل بعدها مُفسرٌ للمحذوف كما هو معروف في علم النحو، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في شرح الآية. وقوله:(استيقظ) من اليقظة -محركة- ضد النوم، بمعنى التيقظ: وهو الانتباه وعدم الغفلة، والسين والتاء فيه زائدتان، ليستا على أصلهما في الدلالة على الطلب، كما في قوله: فاستجاب بمعنى أجاب، و {اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} بمعنى أقاموا عليها، ومنه قول الحواريين:{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} فسّره بعضهم بأن معناه هل يطيع ربك. واستيقظه وأيقظه: أقامه من نومه، قال أبو حية النميري:
إذا استيقظته شم بطنًا كأنه
…
بمعبوءة وافا بها الهند رادع
أي: أيقظته، واستيقظ العلي: إذا صوت، ونام: إذا لم يتحرك، قال طريح الشاعر:
نامت خلاخلها وجال وشاحها
…
وجرى الوشاح على كثيبٍ أَهيل
فاستيقظت منها قلائدها التي
…
عقدت على جيد الغزال الأكحل
أي: تحركت القلائد وهي حليها. والمراد بالتيقظ: القيام من النوم، كما في روايتي أبي داود وابن ماجه:"إذا قام أحدكم" بدل استيقظ، وتقدمت الإشارة إليهما. وقوله:(أحدكم) أي أحد المكلفين المخاطبين، فيستوي فيه الذكر والأنثى وتقدم في شرح الآية أن الهمزة في أحد مبدلة من الواو، وأن الأصل: وحدكما، جاء على الأصل في قول النابغة:
كأنّ رحلي وقد زال النهار بنا
…
بذي الجليل على مستأنس وحد
أي: منفرد. وقوله: (من نومه) النوم ضد اليقضة، مصدر نام ينام نومًا، إذا انقطع عن الإحساس، وقال ابن سيده: النوم النعاس. قلت: وسيأتي إن شاء الله في نواقض الوضوء ما يدل على ذلك، وظاهره العموم من نوم الليل والنهار، ومن خصصه باللّيل دون النهار فبقرينة قوله:(باتت يده)، وتقدم أنّه عند ابن ماجه وفي بعض روايات الترمذي "من الليل"، وهذا عند من لم ير التخصيص بالليل يقول: إنه خرج مخرج الأكثر والغالب. وقوله: (فلا يغمس) الفاء واقعة في جواب الشرط و"لا" ناهية، و "يغمس" مجزوم بها، من غمس يغمس، من باب ضرب: إذا أدخل يده أو غيرها. وقوله: (يده) اليد الجارحة المعروفة، وهي من الأسماء المحذوفة اللام ولامها ياء، لقولهم في التصغير: يُدَيَّة، وتقدم في شرح الآية أنّ أصلها يَدْي على وزن فعل، وذكر بعضهم أن فيها لغات أربعًا إحداهن: يدا، قال الراجز:
يا رُب سار بات ما توسدا
…
إلا ذراع العنس أو كف اليدا
وقال الآخر:
وقد أقسموا لا يمنحونك نفعه
…
حتى تمد إليهم كف اليدا
ويدٌّ بالتشديد كما في قول الشاعر:
فجازوهم بما فعلوا إليكم
…
مجازاة القروض يدًا بيدِّ
ويَد وهي الأكثر، ويده بتعويض الهاء عن المحذوف، والمراد بها هنا ما جرت العادة أن يُدْخَل في الإناء وهي: الكف والأصابع. وتقدم أن اللفظة، أعمُّ من ذلك، لأنها تطلق على الجارحة كلها من المنكب إلى أطراف الأصابع، وبيّنت السنة المراد
بها في الوضوء، والقطع، وأمّا هنا فإنما يؤخذ بيان ذلك من جريان العادة، أن الذي يدخل في الإناء هذا المقدار المذكور. وقوله (في وَضوئه) بفتح الواو، اسم لما يُتَوضأ به، كالطهور اسم لما يتطهر به، وكذلك الوَقود اسم لما يوقد به، وإن أريد الفعل؛ ضمّ الحرف الأول فقيل: وُضوء وطُهور ووُقود، وهذا هو الأكثر في الاستعمال. وأصل الوضوء: من الوضاءة، وهي الحسن والإِنارة، ومنه قول الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم
…
دجى الليل حتى نظم الجَزْع ثاقبة
أي أنارت لَهُم، وهو أيضًا النظافة تكون معنوية كما في البيت، وحسيّة كالطهارة بالماء المعروفة، وإذا أطلق شرعًا لا ينصرف إلا إلى غسل الأعضاء المعروفة، على الوجه المبيّن في السنة كما تقدم، وكما يأتي إن شاء الله. وقد يطلق على غسل اليدين كما في قوله:"الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر إلخ". والمراد بالوضوء هنا: الماء الذي جرت العادة أنّه يجعل في الإناء ليتوضأ به الإنسان، ولهذا جاء في رواية لمسلم وابن خزيمة ومن وافقهما:(فلا يغمس يده في الإناء) بدل الوضوء. وقوله: (حتى) لبيان غاية النهي عن إدخال اليد، فهو دليل على جواز الاغتراف من الوضوء بعد غسلها، وكذلك الغسل، وسيأتي إن شاء الله أن ذلك أكثر فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى "حتى" الغالب عليها، فإنها تأتي لثلاثة معان: هذا أكثرها وأغلبها، والثاني: التعليل، والثالث: أن تكون بمعنى إلا في الاستثناء وهو قليل فيها، ذكره ابن هشام رحمه الله وذكر أنها تستعمل على ثلاثة أوجه: تكون حرفًا بمنزلة إلى، وتكون عاطفة بمنزلة الواو، وتكون حرف ابتداء وتدخل على الجملة الاسمية والفعلية. ورواية (لا يغمس) أبين في المراد من رواية (لا يدخل)، لأنّ المنهيّ عنه الغمس والإِدخال في الإِناء أعم منه، فلو أدخل يده في الإناء ولم يغمسها لا يكون مخالفًا بذلك، لأنّه قد يدخلها بآلة ليغترف بها. وقوله:(يغسلها ثلاثًا) أي: بإفراغ الماء عليها، كما جاء في رواية البزار:(حتى يفرغ عليها). وقوله: (فإن أحدكم) الفاء تفيد التعليل للنهي المذكور، ومقتضاها: أن اليد بعد القيام من النوم، يشك في سلامتها من ملابسة شيء يؤثر في الماء، وسيأتي أن هذه العلة وإن كانت مظنتها في النوم أكثر، قد تحصل أيضًا في اليقظة، غير أن التعليل بالشك لا يوجب الغسل، كما يأتي إن شاء الله. وقوله:(لا يدري)"لا" نافية
و"يدري" مضارع "درى" التي هي أحد أفعال القلوب الناصبة لمفعولين، من قولهم: درى الشيء يدريه: ودرى به إذا علم به، وهي من القسم الذي يقع فيه التعليق: وهو ترك العمل في اللفظ دون المعنى، ويقع فيه الإلغاء: وهو تركه في اللفظ والمعنى، وهي هنا معلقة بالاستفهام الذي هو "أين". و (أين) اسم استفهام، ويكون ظرفًا مبتدأ به الكلام فضلة معمولًا لما بعده لأن له صدر الكلام، فلا يعمل ما قبله فيه، وهو مبني على الفتح. وقوله:(باتت) من البيتوتة، وأصلها اتصاف المخبر عنه بالخبر بالليل، وقد تطلق على مجرد الاتصاف على سبيل التوسع، وهي من الأفعال الناسخة غير أنها تامة تكتفي بالمرفوع. وتقدم أن في بعض الروايات بزيادة (منه)، وأن ابن منده قال: إنها غير محفوظة وإن كان رواتها ثقات، وفي لفظ:(طافت) بدل (باتت).
• الأحكام والفوائد
الحديث صريح في النهي عن إدخال اليد في الإناء بعد القيام من النوم، وذلك يستلزم الأمر بغسلهما كما جاء مصرحًا به في بعض الروايات، وظاهره العموم في نوم الليل والنهار كما تقدم، والأصل في النهي حمله على التحريم إلا بدليل صارفٍ أو بقرينة، كما أنّ مقتضى الأمر الوجوب إلا بصارف من دليل أو قرينة.
ولذا اختلف علماء الإِسلام في حكم هذه المسألة، فذهب داود الظاهري وابن حزم إلى القول بالوجوب، مع حمل اللفظ على العموم في سائر حالات القيام من النوم، ونسب ذلك إلى الطبري رحمه الله. وذهب الإِمام أحمد إلى القول بالوجوب، لكن خصّص ذلك بنوم الليل دون نوم النهار، بقرينة قوله:(باتت يده)، ويؤيده رواية الترمذي وأبي داود:"إذا قام أحدكم من الليل"، ولابن ماجه:"إذا استيقظ أحدكم من الليل" وفي رواية لأبي عوانة، وذكر العيني وابن حجر أن مسلمًا ساق إسنادها:"إذا قام أحدكم إلى الوضوء حين يصبح". وذهب الجمهور إلى حمل النهي على الكراهة لإدخال اليد في هذه الحالة. وحملوا الأمر بالغسل على الاستحباب، ولم يفرقوا بين نوم الليل ونوم النهار، وجعلوا تخصيص الليل بالذكر لأنه مَظنّة جولان اليد أكثر، مع أن النوم فيه أكثر من غيره، وأناطوا الحكم بالعلة المذكورة وهي عندهم ظنيّة، ولذا لم يفرقوا أيضًا بين النوم واليقظة، لوجود تلك العلة ولو في بعض الأحيان، واستدلوا بأمور:
الأول: ما قدمنا أن هذا التعليل المنصوص، لا يفيد أكثر من الشك في طهارة اليد أو تلوثها بما يؤثر على الماء، والتعليل بهذا يفيد إناطة الحكم به.
الثاني: إذا كان الأمر كذلك، فالتعليل بالشك لا يقتضي وجوبًا إذا كان الأصل المستصحب خلافه كما هنا، بخلاف ما إذا كان الأصل المستصحب يوافق الأمر أو النهي المعلل بالشك، كما في النهي عن أكل الصيد إذا شك في الذكاة، مثل ما جاء في حديث عدي بن حاتم في الصحيحين وغيرهما:"فإن وجدت مع كلبك كلبًا آخر فلا تأكل"، وكذلك قوله في الرواية الأخرى:"فإن أكل فلا تأكل" لأنه علل في الأول باحتمال كون الكلب الثاني هو الذي قتل، وفي الثاني باحتمال كونه أمسك لنفسه، على ما يأتي إن شاء الله، فلما كان الأصل عدم الأكل حتى تتحقق الذكاة؛ خالف ما هنا.
ثالثًا: إن ذكر العدد في التطهير للنجاسة ليس موجودًا، إلا ما ورد في ولوغ الكلب عند من علّله بالنجاسة، ولذا رأى مالك أنه قرينة على أن الأمر فيه تعبدي، وليس للنجاسة كما يأتي.
رابعًا: من الدليل على عدم الوجوب: حديث المسيء صلاته، حيث قال له صلى الله عليه وسلم:"توضأ كما أمرك الله" فهو يدل على أنه لو اقتصر على الأعضاء المذكورة في الآية صحت صلاته، وذلك يستلزم أن يكون الفرض في الوضوء مقصورًا عليها، وإلا لما أحاله عليها.
خامسًا: إن السنة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم بوضوئه أمام الصحابة وأخذوا ذلك عنه، فكان يغسل يديه كلما أراد الوضوء لا يفرق بين حالة وحالة، وتقدم أن ذلك غير محمول على الوجوب، لأنه زائد على ما في الآية فدل على استحبابه، وبقي ذكره في هذه الحالة دليلًا على تأكد الاستحباب، مع كونه مطلوبًا فيها وفي غيرها لقوة المظنة المذكورة، ولذلك كان الشافعي رحمه الله يرى تعليل ذلك بأن أهل الحجاز كانوا يستجمرون بالأحجار، فربما عرقت يد أحدهم في المكان وهو نجس فتتنجس، لاسيما في وقت الحر والبلاد حارة، ولكن هذا يلزم منه تخصيص الحكم بهم وبمن هو في مثل حالهم، وفيه ما فيه: لأن التعليل المذكور بهذا يفيد أن الحكم خاص بحالة إمكان الشك وقصر الغسل عليها، وهو مردود بما تقدم من السنة فيه على كل حال، من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
واستدل بالحديث من قال بأنّ ورود النجاسة على الماء القليل يؤثر فيه، بخلاف وروده عليها كما في حديث بول الأعرابي. ووجهه: أن تعليل النهي هنا صادق باحتمال أمرين، أحدهما: تنجيس الماء وذلك فيما إذا قدر ملاقاة اليد لنجاسة، والثاني: الحكم بالتأثير على الماء الذي هو أعم من التنجيس والتغيير بغير النجاسة. فأما عند القائلين بمفهوم حديث القلتين فيقولون: إذا كان إدخال اليد مع الشك مؤثرًا، فالتأثير بالقليل من النجاسة المحقق أولى، لكن يلزمهم القول باطراح الماء، وهم لا يقولون بذلك إلا شيئًا يروى عن الإمام أحمد أنه إذا أدخل يده بعد القيام من نوم الليل أعجب إليه أن يريقه، وورد فيه حديث ضعيف نسب إلى ابن عدي:"فليرقه" ولكنه لا يثبت، وقال: إنها زيادة منكرة. وكلام أحمد هذا يحتمل اعتقاد تغيير الماء كما تقدم، ويحتمل أن يكون كره استعماله، وهو ظاهر العبارة، ويوافقه مذهب مالك في الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة لا تغيره، فإنه يكره استعماله مع وجود غيره. ونقل العيني: أن داود والطبري القائلين بوجوب غسل اليدين يقولان: إنه لو أدخل يده قبل الغسل يتوضأ بالماء ويجزئه الوضوء به. ويستفاد من التعبير بإنائه أي المتوضئ، أنه الذي جرت العادة بوضع ماء الوضوء فيه، ويؤيده رواية "ماء وَضوئه"، فلا يدخل في ذلك الأواني الكبيرة وغيرها كالبرك والحياض، فعموم الإناء يخصصه التنصيص على الوضوء، إلا أنهم ألحقوا به ماء الغسل للمغتسل لعدم الفارق، مع الجامع في العلة المذكورة. ويستفاد منه استحباب الاحتياط في العبادات وأمور الدين، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه" إلخ.
وفيه على تعليل الشافعي: دليل على أن محل الاستنجاء لا يطهر إلا بالماء، وهو يقتضي اعتبار الحكم في النجاسة بعد زوال العين، لكنه بعد المسح معفو عنه حتى يغسل ما يعفى عن أسفل النعل والخف وذيل المرأة، فإن الكل إذا مرّ بالنجس ومسح عفى عنه، وجازت الصلاة مع بقاء الحكم، ولو ابتل محله وأصاب شيئًا نجسه، خلافًا لمن زعم أن زوال العين يزول به الحكم. وفيه على قول ابن عبد البرة دليل على وجوب الوضوء من النوم، وستأتي هذه المسألة مفصلة. وفيه على قول بعض العلماء: استحباب الكناية عما يستقبح ذكره، لقوله:"لا يدري أين باتت يده".
قال البدر محمود بن أحمد بن موسى العيني -رحمه الله تعالى وإيانا-: استدل به أصحابنا -يعني أصحاب أبي حنيفة- على أن الإِناء يغسل من ولوغ الكلب ثلاث مرات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر القائم من النوم بإفراغ الماء على يديه مرتين أو ثلاثًا قال: وذلك لأنهم كانوا يتغوّطون ويبولون ولا يستنجون بالماء، وربما كانت أيديهم تصيب المواضع النجسة فتتنجس، فإذا كانت الطهارة تحصل بهذا العدد من البول والغائط وهما أغلظ النجاسات، كانت أولى وأحرى أن تحصل مما هو دونهما من النجاسات.
قلت -والله الموفق للصواب: العجب منه على جلالة قدره وعلمه يرتضي مثل هذا الدليل، فإن سكوته عليه دليل على ارتضائه له على ما فيه:
أولًا: فإنه قياس مصادم للنّص، وهو فاسد الاعتبار لأن العدد في غسل الإناء من ولوغ الكلب منصوص بالسبع، والخلاف إنما هو في الثامنة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثانيًا: التعليل في ولوغ الكلب بالنجاسة غير مسلَّم، فإن من لا يرى نجاسة الكلب كما هو مذهب أهل المدينة: ابن شهاب ومالك، وهو ظاهر صنيع البخاري كما يأتي؛ لا يرى علة تكرار الغسل للنجاسة، بل يقول إنه للتعبد، ويستدل بذكر العدد لأنه لا يعرف في شيء من النجاسات اشتراط العدد في الغسل، وقد تقدم ذلك.
ثالثًا: على فرض التسليم: لا يكون تغليظ نجاسة البول والغائط، أشد منه عند القائلين بالنجاسة وتغليظها، أي في غسل الإناء من الولوغ، بل يرون الحديث دليلًا على تغليظ نجاسته أكثر من غيرها، لانفراده بهذه الصفة في التطهير، والاتفاق على أن نجاسة البول والغائط لا يطلب فيها إلا غسلها حتى تزول، من غير ذكر للعدد، إلا ما ذكره هو في شرح البخاري: أنه يستفاد من هذا الحديث استحباب التثليث، وهو غير مسلَّم.
رابعًا: أن الحنفية لا يقولون بوجوب غسل اليد عند القيام من النوم حتى يكون أصلًا عندهم، فكيف يردون بالقياس عليه النّص الثابت في الكلب.
خامسًا: إن هذا القول مبني على تعليل الأمر في غسل اليدين عند القيام من النوم، بالنجاسة الخاصة بمحل الاستنجاء، وهم لا يقولون بذلك حتى