الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهي سنة مؤكدة، اجتمع فيها فعله صلى الله عليه وسلم كما في حديث الباب، وأمره للأمة كما في الروايات الأخر، والله أعلم.
19 - النَّهْي عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ قضاء الْحَاجَةِ
20 -
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ رَافِعِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِىَّ وَهُوَ بِمِصْرَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ بِهَذِهِ الْكَرَايِيسِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ أَوِ الْبَوْلِ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا".
• [رجاله: 7]
1 -
محمَّد بن سلمة بن عبد الله بن أبي فاطمة المرادي الجملي مولاهم أبو الحارث المصري الفقيه، روى عن ابن وهب وابن القاسم وزياد بن يونس وعبد الله بن كليب والحجاج بن سليمان الرعيني وجماعة، وعنه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأبو حاتم وغيرهم. قال أبو سعيد بن يونس:"كان ثبتًا في الحديث وذكره النسائي يومًا ونحن عنده فقال: كان ثقة ثقة". توفي لست خلون من ربيع الآخر سنة 248، قال أبو عمر الكندي: كان فقيهًا واستكتبه الحارث بن مسكين القاضي، وقال مسلمة في الصلة: ثقة.
2 -
الحارث بن مسكين: تقدم 9.
3 -
عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي أبو عبد الله المصري الفقيه، روى عن مالك الحديث والمسائل، وعن بكر بن مضر ونافع بن أبي نعيم القارئ وابن عُيَيْنة وغيرهم، وعنه ابنه موسى وأصبغ بن الفرج ومحمد بن سلمة المراري والحارث بن مسكين وسحنون بن سعيد وعبد الله بن عبد الحكم وعيسى بن حماد زغبة وغيرهم. قال أبو زرعة: مصري ثقة رجل صالح كان عنده ثلاثمائة جلد أو نحوهُ مسائل عن مالك، مما سأله أسد -رجل من المغرب كان سأل محمَّد بن الحسن عن مسائل، وأتى ابن وهب وسأله أن يجيبه بما كان عنده عن مالك، وما لم يكن عنده عن مالك فمن عنده، فتورع
وأبى ذلك، فأتى عبد الرحمن بن القاسم فأجابه على هذا، فالناس يتكلمون في هذه المسائل. قال النسائي: ثقة مأمون، وكذا قال الحاكم. أثنى عليه الفسوي ووثقه الخطيب، وذكره ابن حبان في الثقات قال: كان خيرًا فاضلًا ممن تفقه على مالك، وقال مسلمة بن قاسم: كان فقيه البدن من ثقات أصحاب مالك، وكان ورعًا صالحًا ولم يكن صاحب حديث، وقال ابن معين: ثقة ثقة. قال ابن وضاح: لم يكن عنده إلا الموطأ الذي روى عن مالك، وسماعه منه المسائل كان يحفظها حفظًا وقال بعضهم: رآه ابن معبد في المنام فقال له: كيف وجدت المسائل؟ فقال: أف أف، إلى أن قال: ورأيت ابن وهب أحسن حالًا منه، قال الخليلي: زاهد متفق عليه، أول من حمل الموطأ إلى مصر قال ابن عبد الأعلى: مات في صفر سنة 191، وقيل إن مولده سنة 128، وقيل 131، وقيل 132. له في صحيح البخاري حديث واحد.
4 -
مالك بن أنس الإِمام: تقدم 7.
5 -
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن سهل النجَّاري الأنصاري المدني، روى عن أبيه وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن أبي عمرة والطفيل بن أبي وغيرهم، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري والأوزاعي وابن جريج ومالك وهمام وعبد العزيز الماجشون وغيرهم. قال ابن معين: ثقة حجة، ووثقه أبو زرعة والنسائي وأبو حاتم. قال الواقدي: كان مالك لا يقدم عليه في الحديث، وقال ابن حبان: كان مقدمًا في رواية الحديث والإتقان فيه. قيل: كنيته أبو يحيى، وقيل: أبو نجيح. توفي سنة 130، وقيل: 132، وقيل:134.
6 -
رافع بن إسحاق الأنصاري مولى الشفاء، وقيل مولى أبي طلحة، ويقال مولى أبي أيوب، روى عن أبي أيوب وأبي سعيد الخدري، وعنه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة. قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: إنه مولى الشفاء، وقال العجلي: مدني تابعي ثقة. قال ابن عبد البر: هو من تابعي أهل المدينة، ثقة فيما نقل، والشفاء امرأة من قريش، وهي أم سليمان بن أبي حثمة.
7 -
أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف، ويقال: ابن عمرو بن عبد عوف بن غنم، ويقال: ابن عبد عوف بن جشم بن غنم بن النجار،
النجاري الأنصاري الخزرجي، شهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل عنده فاختصَّه الله بهذه النعمة والمنقبة العظيمة دون الناس حين قدم من مكة حتى بنى مسجده ومسكنه. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بن كعب، وعنه البراء بن عازب وجابر بن سمرة وزيد بن خالد وابن عباس وعبد الله بن يزيد الخطمي وغيرهم من الصحابة، وجماعة من التابعين منهم: عبد الله بن حنين وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعطاء بن يزيد الليثي وعروة بن الزبير في جماعة آخرين. شهد العقبة وبدرًا وأحدًا والمشاهد كلها، وحضر مع علي حرب الخوارج وعاش إلى زمن معاوية، ومات غازيًا ببلاد الروم سنة 50، وقيل: 52، وقيل: 55، وشهد مع علي صفين، ولما حضرته الوفاة قال لأصحابه: إذا أنا مت فاحملوني فإذا صاففتم العدو فادفنوني تحت أقدامكم، وفي رواية: إذا أنا مت فقدموني في بلاد العدو ما استطعتم ثم ادفنوني، وكانوا محاصرين للقسطنطينية فقدّموه حتى دفن إلى جانب الحائط، رضي الله عنه وعنا معه وجمعنا به في جنات النعيم.
• [التخريج]
حديث أبي أيوب في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها سيأتي للمصنف من طريقين، وهو في الصحيحين للبخاري في الصلاة والطهارة، ولمسلم في الطهارة، ولأبي داود ولابن ماجه كذلك، وهكذا الترمذي كلهم أخرجوه من طريق الزهري عن عطاء عن أبي أيوب، لكنه بهذه الطريق وهذا اللفظ لم يخرجه إلا المصنف والإمام أحمد والإمام مالك -رحمة الله على الجميع-.
• اللغة والإعراب والمعنى
قوله: (وهو بمصر) جملة حالية و (ما) نافية و (لا أدري) من درى إذا علم وهو من أفعال القلوب (وكيف) سيأتي الكلام عليها في حديث عبد الله بن زيد في الوضوء 97، وهي هنا استفهامية علّقت الفعل عن العمل، وهي في محل نصب بالفعل بعدها وهو قوله (أصنع)، و (الكراييس) جمع كرياس وهي بياءين: المراحيض، قيل سميت بذلك لأن الوسخ يتكرس أي يتجمع فيها، وفي النهاية: إنه المشرف على سطح بقناة إلى الأرض.
وقد قيل: إنه بالنون قبل الياء، والمراد أنها بنيت على جهة القبلة فأشكل
عليه جواز دخولها. وهذه الرواية تدل على أن هذا القول حصل من أبي أيوب بمصر، والحديث الآتي وهو في الصحيحين وغيرهما من رواية الزهري عن عطاء وفيه:(فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قِبَل القبلة، فننحرف عنها ونستغفر الله) وأخرجه الدارمي من هذه الطريق وفيه (عند القبلة)، وهو في الترمذي لكن بلفظ:(مستقبل القبلة)، وقيل معناه جهة كذا، والقبلة: الكعبة، سميت بذلك لإقبال الناس بوجوههم إليها في الصلاة، وقبلة كل شيء: ما يستقبله أو يكون من جهة القبلة.
وقوله: (فقدمنا الشام) يدل على أن هذا القول صدر منه بالشام، وهذه الرواية فيها التصريح بأن ذلك كان بمصر، وقد يقال: بأن هذا لا تعارض فيه بل يكون قال ذلك بمصر وقاله أيضًا بالشام، لاسيما ومخرج الحديثين مختلف لأن سند المصنف في حديث الباب غير سند الأكثرين، لأنه عندهم من رواية الزهري عن عطاء وهذا من رواية إسحاق بن عبد الله عن رافع بن إسحاق والله أعلم.
وقوله: (وقد قال) إلخ. جملة حالية أيضًا، والحال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال، وقوله:(إذا)، تقدم الكلام عليها و (ذهب أحدكم) أي أحد المكلفين، والمراد بالذهاب: قصد ذلك الفعل ولو لم يصحبه ذهاب، لأنه قد يفعله من غير ذهاب، ولأن الاستقبال والاستدبار لا ينهى عنهما في حال الذهاب وإنما ينهى عنهما وقت الفعل، فذكر الذهاب خرج مخرج الغالب. وقوله:(إلى الغائط أو البول) أي: أو هما معًا من باب أولى، وهذه الرواية يتمسك بها من فرّق بين البنيان والصحراء -كما سيأتي إن شاء الله- لأن ظاهر الذهاب المتبادر منه الخروج إلى الفضاء كما هي عادتهم في ذلك الوقت، إلا إن حملناه كما تقدم على أنه خرج مخرج الغالب. وقوله:(لا يستقبل القبلة) لا يوليها وجهه، لأن المقابلة تكون بالوجه كما في قولك أقبل على كذا، والسين والتاء ليستا على أصلهما في الدلالة على الطلب كما في استجاب بمعنى أجاب، وهكذا يقال في (يستدبرها) وأصله من تولية الدبر، لأن من ولى ظهره شيئًا فقد ولاه دبره، وهو ضد الاستقبال. والفاء في قوله:(فلا) واقعة في جواب "إذا" لأنه تقدم أنها مضمنة معنى الشرط وإن كانت لا تجزم، ولا ناهية والفعلان مجزومان بها، والقبلة: الكعبة، وأل فيها للعهد الذهني.
• الأحكام والفوائد
الحديث يدل على عدم جواز استقبال القبلة واستدبارها ساعة قضاء حاجة الإنسان، وظاهره العموم في الصحراء والبناء إن حمل الذهاب على نفس الفعل الذي هو التغوط والبول، لأنه قد يراد به قصد الفعل، ويدل على العموم حديث الزهري الذي سيأتي وهو متفق عليه، بل أخرج عامة أهل أصول السنة ما يدل على ذلك، ويأتي بعده حديث عبد الله بن عمر وفيه ما يدل على الجواز وهو حديث متفق عليه أيضًا، وحديث عائشة لكنه معلول بأن عراك بن مالك لم يسمع منها، فهو مرسل بينهما عروة، وقيل عمرة، وكل منهما ثقة، وقال البخاري: الصواب عراك عن عروة أن عائشة، أي أنه موقوف عليها. وقال أحمد: إنه أحسن ما في الباب وإن كان مرسلًا.
قلت: لأن الساقط فيه إما عروة أو عمرة وكلاهما ثقة، ومثل هذا لا يضر في الإرسال.
وحديث أبي قتادة عند أحمد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبول مستقبل القبلة، رواه الترمذي وضعفه بابن لهيعة، وكذلك رواه أحمد من طريق ابن لهيعة وهو ضعيف. وحديث مروان بن الأصفر وقول ابن عمر له: إنما نهى عن هذا في الفضاء إلخ، وهو حديث حسن كما قال ابن حجر. وحديث جابر بن عبد الله:(نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بفروجنا، ثم رأيته قبل موته بعام مستقبل القبلة). أخرجه أحمد والبزار وأبو داود والترمذي وابن الجارود وابن خزيمة وابن ماجه وابن حبان والحاكم والدارقطني وزاد ابن حبان: أو نستدبرها وصححه البخاري فيما نقله الترمذي عنه، وحسنه الترمذي والبزار وصححه ابن السكن، وتوقف فيه النووي لعنعنة ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد وغيره، فزال الإشكال واندفع ما يخشى من تدليس ابن إسحاق، وهو ثقة باتفاق إذا صرح بالسماع.
وقد ضعف ابن عبد البر هذا الحديث بدعوى أن أبان بن صالح ضعيف، قال ابن حجر رحمه الله: وقد وهم في ذلك فإنه ثقة باتفاق، وادعى ابن حزم أنه مجهول وهو باطل كما لا يخفى.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال محصلها ثمانية، وقد
ذكرها الشوكاني رحمه الله. والذي يتلخص فيه القول خمسة أقوال كل منها من حيث النظر مقبول من جهة، وثلاثة ضعيفة بل ساقطة وسأذكرها مع بيان أدلتها إن شاء الله.
القول الأول: عدم الجواز مطلقًا لا في البنيان ولا في الصحراء، وهذا القول قول أبي أيوب ومجاهد والثوري والنخعي وأحمد في رواية وأبي ثور، ونسبه ابن حزم لأبي هريرة وابن مسعود وعطاء وسراقة بن مالك والأوزاعي، واختاره ابن العربي ورجحه الشوكاني.
احتج أهل هذا القول بأحاديث النهي التي تقدمت وما في معناها، لأن الأصل في النهي أن يكون للتحريم ولأن التعليل بتعظيم القبلة ظاهر، وإذا كان ذلك هو العلة استوت الصحراء والبنيان، لأن الحائل موجود بين الإنسان والقبلة ولابد من شجر أو حجر أو غير ذلك، فلا يتعقل وجه الفرق، ويعترض على هذا بالأحاديث التي يستدل بها أهل القول الثاني والثالث، وبعض أهل الأقوال الباقية، وهي خمسة أحاديث قد تقدم ذكرها، أصحها حديث ابن عمر وهو متفق عليه:(أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم على لبنتين .. ) إلخ. الذي يليه في الصحة حديث جابر عن عبد الله، وفيه التصريح بأن رؤيته له قبل موته بعام، وتقدم ما يدل على صحته، وقال الحاكم: على شرط مسلم، وتعقبه العيني بأن أبانًا لم يروِ له مسلم، وأن من طعن فيه لم يصب، كابن عبد البر في تضعيف أبان بن صالح وهو متفق على توثيقه، وكابن حزم الذي ادعى أنه مجهول.
الحديث الثالث -وهو يليهما في الصحة- حديث مروان بن الأصفر، وقد تقدم أنه حسن كما ذكرنا عن ابن حجر، أخرجه أبو داود وسكت عليه، قال ابن حجر في الفتح: أخرجه أبو داود والحاكم بسند حسن. الحديث الرابع: حديث أبي قتادة عند الترمذي وأحمد، من رواية ابن لهيعة وهو ضعيف عند المحدثين:"أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة يبول". الخامس: حديث عائشة رواه أحمد وابن ماجه قالت: (ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أناسًا يكرهون أن يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال: أوَ قد فعلوها، حوّلوا مقعدتي قبل القبلة)، وحسّن النووي في شرح مسلم إسناده، وقال الذهبي: إنه منكر.
القول الثاني: وهو أن ذلك جائز إذا كان في البنيان أو كان بينه وبين
القبلة حائل. استدل أهل هذا القول بأن حديث جابر المتقدم صريح في أنه متأخر عن النهي وهو يدل على الجواز، وحديث ابن عمر وإن لم يكن فيه التصريح بكونه متأخرًا لكنه دل على الجواز. ومعارضة ابن عمر واحتجاجه به لمن نهى عن ذلك مطلقًا، كل ذلك يؤيد القول بالجواز لكن دلالته على التخصيص أولى، كما صرح به ابن عمر في حديث مروان بن الأصفر. وحديث أبي قتادة مثله في الدلالة على الجواز لكن ليس فيه تصريح بأنه بعد النهي، وحديث عائشة أصرح من الكل في الدلالة لولا عدم نهوض الاستدلال به عند الأكثرين، لأن فيه ما يدل على أنه متأخر عن النهي، وقد اعترض عليه ابن حزم وشنّع في الإنكار لأن يكون نهاهم عن الاستقبال ثم ينكر عليهم ترك ذلك. وقد يجاب عن هذا لو صح الحديث، بأنه يؤخذ من إنكاره عليهم أنه كان قد نهاهم ودلهم بفعله على نسخ ذلك النهي، فلما عاودوه بعد ذلك أنكر عليهم. وابن لهيعة ليس ممن يرمى بالكذب ولكن ضعفوه من قبل حفظه، ومثل هذا من الضعف الذي ينجبر، وقد تقدم أنَّ النووي حسّن سنده. قلت: وقد يكون النووي رحمه الله تعالى رأى أن بقية الأحاديث المذكورة أيدته في المعنى، فيكون ذلك جبرًا لضعفه ورفعًا له إلى درجة الحسن، فيكون من باب الحسن لغيره.
وهذا القول قال به عروة بن الزبير وربيعة شيخ مالك وداود بن علي الظاهري، ويؤيده قول البخاري في ترجمة الحديث: لا تستقبل القبلة ببول ولا غائط إلا عند البناء، جدارًا أو غيره.
القول الثالث: جواز ذلك في البنيان دون الصحراء، وهذا ينبني على أن حديث ابن عمر مخصص لعموم النهي، وكذلك حديث عائشة على فرض ثبوته، وعلى الحكم بضعفه فإنه لا يقول أحد بوضعه، لأن علته من ابن لهيعة وهو غير متهم بالوضع وإن كان ضعيفًا.
ويتأيد ذلك عندهم بقول ابن عمر في حديث مروان بن الأصفر: إنما نهي عن ذلك في الفضاء، لأن هذا إن حُمل على أنه سمع هذا التخصيص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان دليلًا قويًا على التخصيص وهو أولى من النسخ، وهذا هو المناسب لحال ابن عمر وتحريه للسنة، لكنه مع ذلك يحتمل أن يكون قاله على حسب ما فهمه من فعله السابق ذكره: أنه رآه يبول مستقبل الشام مستدبر الكعبة.
وحديث جابر وحديث أبي قتادة عند القائلين بهذا القول، محمولان على أن ذلك كان في البنيان جمعًا بين الأدلة، وإن لم يكن فيهما التصريح بذلك قلت: ويمكن أن يقال فيهما بحمل العموم على الخصوص في حديثي ابن عمر وعائشة، وفي هذا جمع بين الأدلة، وهو عندي أرجح وأولى من رد بعضها أو دعوى النسخ في الأحاديث الصحيحة الكثيرة في النهي. وقد رد المانعون حديث ابن عمر وما في معناه مما تقدم؛ يكون الكل دل على الفعل، وقد تقرر في الأصول أن الفعل منه صلى الله عليه وسلم لا يعارض الأمر والنهي الموجه للأمة، وبهذا رجّح الشوكاني وابن العربي المنع كما تقدم. قال الشوكاني: إلا أن يثبت حديث عائشة، وقد قال بعضهم: إن حديث ابن عمر دل على الاستدبار فقط، ويجاب عنه بأن حديث جابر وأبي قتادة وحديث عائشة وفعل ابن عمر الذي كان سبب قوله لمروان؛ كل ذلك دل على الاستقبال. وهذا القول الثالث قول ابن عمر، وهو مروي عن العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله، ونسبه ابن حجر للجمهور، وهو قول الشعبي ومالك والشافعي وأحمد في رواية عنه وإسحاق، ونفسي إليه أميل لما تقدم من كونه أقرب إلى الجمع بين الأدلة، وكون الفعل لا يعارض القول إنما يحتاج إليه عند التعارض وعدم إمكان الجمع، وإلا فالأصل وجوب الاقتداء بالفعل في الجملة كالقول، والله أعلم. قلت: إلا أن ظاهر ما جرى بين ابن عمر ومروان، يدل على أن ابن عمر يرى جواز ذلك في الصحراء، إذا كان بينك وبين القبلة حائل.
وذلك هو القول الثالث والله أعلم، فيحتمل أنه كان يجوّز الأمرين معًا.
القول الرابع: التفرقة بين الاستقبال والاستدبار في البيوت والصحراء، ولا يجوز الاستقبال في واحد منهما، وهو مروي عن أبي حنيفة وأحمد وهو متجه، وربما قيل: وجه هذا القول أن حديث ابن عمر دل على الاستدبار في البيوت، ولا فرق بينها وبين الصحراء، وأما الاستقبال فهو عندهم أقوى في النهي منه، ولا يخفى ضعف هذا بل سقوطه، لأن ابن عمر صرح في الحديث الثاني بما يدل على التسوية بين الاستقبال والاستدبار، والتفرقة بين الفضاء ووجود الساتر.
القول الخامس: حمل النهي على الكراهة، وهو أوجه من الذي قبله لأن