الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
المثال الثاني: الزهد
. قال أبو العباس رحمه الله
(1)
: "هو للعوامّ أيضًا؛ لأنَّه حبسُ النفس عن الملذوذات، وإمساكها عن فضول الشهوات، ومخالفة دواعي الهوى، وترك ما لا يعني
(2)
من الأشياء. وهذا نقص في طريق الخاصَّة، لأنَّه تعظيم للدنيا، واحتباس عن انتقادها، وتعذيب للظاهر بتركها مع تعلّق الباطن بها. والمبالاةُ بالدنيا عين الرجوع إلى ذاتك، وتضييع الوقت في منازعة نفسك وشهودِ حِسك
(3)
وبقائك معك. ألا ترى إلى من أعطاه اللَّه الدنيا بحذافيرها كيف قال
(4)
: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} [ص/ 39]؟ وذلك حيث عافى
(5)
باطنه من شهودها، وظاهره من التعلّق بها، فالزهد صرفُ الرغبة إليه، وتعلّق الهمَّة به، والاشتغال به عن كلِّ شيء يشغل عنه، ليتولَّى هو حسمَ
(6)
هذه الأسباب عنك. كما قيل: إنَّ بعض المريدين سأل بعض
(1)
هو ابن العريف صاحب محاسن المجالس. انظر ما سبق في ص (474).
(2)
في الأصل: "يغني" بالغين المعجمة وكذا في "ف". ولعله سهو، والصواب بالمهملة، كما في "ب، ك"، وفي محاسن المجالس.
(3)
"ك": "جسك". "ط": "جنسك"، تصحيف.
(4)
كذا وقع في الأصل وغيره، وهو غير مستقيم، فإنَّ قوله تعالى:{هَذَا عَطَاؤُنَا} ليس من كلام سليمان عليه السلام. والصواب كما ورد في كتاب المحاسن: "ألا ترى إلى قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} الآية وإلى قوله لمن أعطاه الدنيا بحذافيرها. . . ".
(5)
في الأصل: "غافله" بالغين المعجمة، ولا معنى له. وكذا في "ف". وفي "ب":"عافى له". والمثبت من كتاب المحاسن و"ط".
(6)
كتب ناسخ "ف": "مسم"، وقال في الحاشية:"لعله فسخ"، والصواب ما أثبتنا من الأصل وغيره.
المشايخ فقال: أيها الشيخ بأيّ شيء تدفع إبليسَ إذا قصَدَك بالوسوسة؟ فقال الشيخ: إنِّي لا أعرف إبليسَ فأحتاج إلى دفعه، نحن قوم صَرَفْنَا هِمَمَنا إليه، فكفانا ما دونه. وكما قيل
(1)
:
تستَّرتُ عن دهري بظلِّ جناحِه
…
فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسألُ الأيام ما اسميَ ما دَرَتْ
…
وأين مكاني ما عَرَفْنَ مكاني"
(2)
فيقال: الكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أنَّ جعلَ الزهدِ للعوامِّ لما
(3)
ذكره إنَّما يتمّ إذا كان الزهد ملزومًا لمنازعة النفس ومجاذبتها لدواعي الشهوة والهوى، وحينئذٍ فيكون قلبه مشغولًا بتلك الدواير والجواذب، ونفسُه تطالبُه بها، وزهدُه يأمره باجتنابها. ولا ريبَ أنَّ فوق هذا مقامًا
(4)
أعلى منه، وهو طمأنينة نفسه وسكونها إلى محبوبها، وانجذابُ دواعيها إلى محابِّه ومرضاته؛ وهذا للخواصّ من المؤمنين، ولكن هذه المنازعة غير لازمة للزهد، وإن كان لا بُدَّ منها في حكم الطبيعة لتحقّق الابتلاءِ والامتحان، وليتحقّق
(5)
تركُ العبد حظه وهواه لربّه إيثارًا له على هواه ونفسه.
الثاني: أنَّه ولو كانت هذه المنازعة وحبس النفس عن الملذوذات من
(1)
"ط": "قال". البيتان لأبي نواس في ديوانه (469). وقوله: "بظل جناحه" يعني به جناح الممدوح. وقد تمثَّل بهما المصنف في مدارج السالكين (3/ 183).
(2)
محاسن المجالس (78 - 79).
(3)
"ب": "كما". "ك": "ما".
(4)
في الأصل و"ف": "مقام" بالرفع. والمثبت من "ب، ك، ط".
(5)
"ف": "ولتحقق"، خلاف الأصل.
لوازم الزهدِ لم يكن فيها نقص ولا علَّة، فإنَّها من لوازم الطبيعة وأحكام الجبلة، وهي كالجوع والعطش والألم والتعب. فحبسُ النفس عن إجابة دواعيها إيثارًا للَّه ومرضاته عليها
(1)
لا يكون نقصًا ولا مستلزمًا لنقص.
[مسألة شريفة]
(2)
وقد اختلف أرباب السلوك وأهل الطريق
(3)
هنا في هذه المسألة، وهي أيّهما أفضل: مَن له داعية وشهوة، وهو يحبسها
(4)
للَّه، ولا يطيعها حبًّا له وحياءً منه وخوفًا. أو من لا داعية له تنازعه، بل نفسه خالية من تلك الدواعي والشهوة، قد اطمأنَّت إلى ربِّها واشتغلت به عن غيره، وامتلأت بحبه وإرادته، فليس فيها موضع لإرادة غيره ولا حبّه؟
فرجَّحت طائفة الأولَ، وقالت: هذا يدلُّ على قوَّة تعلّقه وشدَّة محبّته، فهو يُعاصي دواعي الطبع والشهوة، ويقهرها سلطانُ
(5)
محبّته وإرادته وخوفه من اللَّه. وهذا يدلّ على تمكّنه من نفسه، وتمكّن حاله مع اللَّه
(6)
، وغلبة داعي الحق عنده على داعي الطبع والنفس.
قالوا: وأيضًا فله مزيد في حاله وإيمانه بهذا الإيثار والترك مع حضور داعي الفعل عنده، ومزيد مجاهدة عدوّه الباطن ونفسه وهواه، كما يكون له مزيد مجاهدة عدوّه الظاهر.
(1)
"فحبس النفس. . . " إلى هنا ساقط من "ب".
(2)
هذا العنوان من حاشية "ب".
(3)
"وأهل الطريق" ساقط من "ط"، ومستدرك في حاشية "ك" بخط مختلف.
(4)
في "ط": "يحبسهما. . . يطيعهما" بضمير التثنية.
(5)
"ط": "بسلطان".
(6)
"ب": "مع حاله"، خطأ.
قالوا: والذوق والوجد يشهد
(1)
بمزيده
(2)
من الحبّ والأنس والسرور والفرح بربِّه عند إيثاره علي دواعي الهوى والنفس، والمطمئنُّ الذي ليس فيه هذا الداعي
(3)
ليس له مزيد من هذه الجهة. وإن كان مزيده من جهة أخرى، فهي مشتركة بينهما، ويختصّ هذا بمزيده من الإيثار والمجاهدة.
قالوا: وأيضًا فهذا مبتلًى بهذه الدواعي والإرادات، وذلك معافًى منها. وقد جرت سنَّة اللَّهِ في المؤمنين من عباده أن يبتليهم على حسب إيمانهم، فمن ازداد إيمانُه زيد في بلائه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"يبتلى المرءُ على حسب دينه، فإنْ كان في دينه صلابة شُدِّدَ عليه البلاء، وإنْ كان في دينه رقَّة خفِّف عنه البلاءُ"
(4)
والمراد بالدين هنا: الإيمان الذي يثبت عند نوازل البلاءِ، فإنَّ المؤمن يبتلى على قدر ما يحمله إيمانه من وارد البلاءِ.
قالوا: فالبلاءُ بمخالفة دواعي النفس والطبع من أشدّ البلاءِ، فإنَّه لا يصبر عليه إلا الصدِّيقون. وأمَّا البلاءُ الذي يجري على العبد بغير اختياره كالمرض والجوع والعطش ونحوها، فالصبر عليه لا يتوقّف على الإيمان، بل يصبر عليه البرّ والفاجر، ولا سيّما إذا علم أنَّه لا معوّل له
(1)
"ب": "يشهدان"، وما في الأصل وغيره صواب في العربية.
(2)
"ك، ط": "لمزيده".
(3)
"ليس فيه هذا الداعي" ساقط من "ب".
(4)
أخرجه الطيالسي (215)، وأحمد (1481)، وابن حبان (2921)، والحاكم (1/ 99)(120، 121)، والترمذي (2398) وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (4023) من حديث سعد بن أبي وقاص، والحديث صححه ابن حبان والحاكم. (ز).
إلا الصبر، فإنَّه إن لم يصبر اختيارًا صبر اضطرارًا.
ولهذا كان بين ابتلاءِ يوسف الصدّيق صلى الله عليه وسلم لما
(1)
فعل به إخوتُه من الأذى، والإلقاءِ في الجُبِّ، وبيعه بيع العبيد، والتفريق بينه وبين أبيه؛ وابتلائه بمراودة المرأة له
(2)
وهو شابّ عزب غريب بمنزلة العبد لها، وهي الداعية له
(3)
إلى ذلك = فرقٌ عظيم لا يعرفه إلا من عرف مراتبَ
(4)
البلاءِ
(5)
. فإنَّ الشباب داعٍ إلى الشهوة، والشاب قد يستحيي بين
(6)
أهله ومعارفه من قضاءِ وطره، فإذا صار في دار الغربة زال ذلك الاستحياء والاحتشام، وإذا كان عزَبًا كان أشدَّ لشهوته، وإذا كانت المرأة هي الطالبة كان أشدّ، وإذا كانت جميلةً كان أعظم، فإن كانت ذات منصب كان أقوى في الشهوة، فإن كان ذلك في دارها وتحت حكمها بحيث لا يخاف الفضيحة ولا الشهرة كان أبلغ، فإن استوثقت بتغليق الأبواب والاحتفاظ
(7)
من الداخل كان أقوى أيضًا للطلب، فإن كان الرجل مملوكها وهي الحاكمة
(8)
عليه الآمرة النَّاهية له
(9)
كان أبلغ في الداعي،
(1)
كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "بما".
(2)
"له" ساقط من "ك، ط".
(3)
"له" ساقط من "ك، ط".
(4)
"ب": "نوائب"، تحريف.
(5)
صرح المؤلف في مدارج السالكين (2/ 187) بأنه سمع ذلك من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ثم ذكر الدواعي الآتية. وقد فصّلها في كتابه الداء والدواء (319 - 322) في 13 وجهًا.
(6)
"ب، ك، ط": "من".
(7)
"ب": "يغلق الأبواب والاحتياط".
(8)
"ك، ط": "كمملوكها وهي كالحاكمة".
(9)
"له": ساقط من "ط".
فإذا
(1)
كانت المرأة شديدة العشق والمحبّة للرجل قد امتلأ قلبها من حبّه = فهذا الابتلاءُ الذي لا يصبر معه إلا مثل
(2)
الكريم ابن الكريم ابن الكريم
(3)
صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين.
ولا ريب أنَّ هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأوَّل، بل هو من جنس ابتلاءِ الخليل صلى الله عليه وسلم بذبح ولده، إذ كلاهما ابتلاءٌ بمخالفة الطبع ودواعي النفس والشهوة، ومفارقة حكم الطبع جملة
(4)
. وهذا بخلاف البلوى التي أصابت ذا النون صلوات اللَّه وسلامه عليه، والتي أصابت أيوب صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين.
قالوا: وأيضًا فإنَّ هذه هي النكتة التي من أجلها كان صالحو البشر أفضلَ من الملائكة؛ لأنَّ الملائكة عبادتهم بريئة عن شوائب دواعي النفس
(5)
والشهوات البشرية، فهي صادرةٌ عن غير معارضة ولا مانع ولا عائق، وهي كالنفَس للحيّ. وأمَّا عبادات البشر، فمع منازعات النفوس، وقمع الشهوات، ومخالفة دواعي الطبع؛ فكانت أكمل. ولهذا كان أكثر النَّاس على تفضيلهم على الملائكة لهذا المعنى ولغيره، فمن لم يخلق له تلك الدواعي والشهوات فهو بمنزلة الملائكة، ومن خُلِقَت له وأعانه اللَّه على دفعها وقهرها وعصيانها كان أكمل وأفضل.
(1)
"ب": "فإن".
(2)
"ك، ط": "الَّذي صبر معه مثل".
(3)
زاد في "ب، ط": "ابن الكريم".
(4)
"ط": "حكم طبعه".
(5)
"ب": "النفوس".
قالوا: وأيضًا فإنَّ حقيقة المحبّة إيثار المحبوب ومرضاته على ما سواه. قالوا: وكيف
(1)
يصحّ الإيثار ممن لا تنازعه نفسه وطبعه إلى غير المحبوب؟
قالوا: وليس العجب من قلب خالٍ عن الشهواتِ والإرادات، قد ماتت دواعي طبعه وشهوته، إذا عكفَ على محبوبه ومعبوده، واطمأنَّ إليه، واجتمعت همّتُه عليه
(2)
. وإنَّما العجب من قلبٍ قد ابتُليَ بما ابتُليَ
(3)
به من الهوى والشهوة ودواعي الطبيعة، مع قوَّة سلطانها وغلبتها، وضعفه، وكثرة الجيوش التي تُغير على قلبه كلَّ وقتٍ، إذا آثر ربَّه ومرضاتَه على هواه وشهوته ودواعي طبعه. فهو هاربٌ إلى ربِّه من بين تلك الجيوش، وعاكفٌ عليه في تلك الزعازع والأهوية التي تغشى على الأسماع والأبصار والأفئدة، يتحمَّل منها لأجل محبوبه ما لا تتحمَّله
(4)
الجبال الرَّاسيات!
قالوا: وأيضًا فنهيُ النفس عن الهوى عبوديّة خاصَّة لها تأثير خاصّ، وإنَّما يحصل إذا كان ثَمَّ ما ينهى عنه النفس.
قالوا: وأيضًا فالهوى عدوُّ الإنسان، فإذا قهر عدوَّه وصارت تحت قبضته وسلطانه كان أقوى وأكمل ممَّن لا عدوّ له يقهره.
قالوا: ولهذا كان حالُ النبيّ صلى الله عليه وسلم في قهره قرينَه حتَّى انقادَ وأسلم له
(5)
(1)
"ب": "فكيف".
(2)
"عليه" ساقط من "ك، ط".
(3)
"ب": "قد امتلأ بما امتلأ"، تحريف.
(4)
"ب": "تحمله".
(5)
"ب": "انقاد له وأسلم". ويشير المؤلف إلى ما أخرجه مسلم (2814، 2815) =
فلم يكن يأمره إلا بخيرٍ أكملَ من حال عمر حيث كان الشيطان إذا رآه يفرّ
(1)
منه، وكان إذا سلكَ فجًّا سلك فجًّا
(2)
غير فجِّه
(3)
.
وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو: كيف لا يقف الشيطان لعمر بل يفرّ منه، ومع هذا قد تفلَّت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وتعرَّض له وهو في الصلاة، وأراد أن يقطع عليه صلاته
(4)
، ومعلومٌ أنَّ حال الرسول أكمل وأقوى؟ والجوابُ ما ذكرناه أنَّ شيطان عمر كان يفرّ
(5)
منه، فلا يقدر أحدهما على قهر صاحبه. وأمَّا الشيطان الذي تعرَّض للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أخذه وأسره وجعله في قبضته كالأسير. وأين مَن يهرب منه عدوُّه فلا يظفر به إلى مَن يظفر بعدوّه، فيجعله في أسره وتحت قبضته
(6)
؟
فهذا ونحوه ممَّا احتجَّ به أرباب هذا القول.
وأحتجَّ أرباب القول الثاني -وهم الذين رجَّحوا من لا منازعة في
= من حديث ابن مسعود ثمَّ عائشة رضي الله عنهما. (ز).
(1)
"ف، ك": "نفَر"، تصحيف.
(2)
"فجًّا" ساقط من "ط".
(3)
كما في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. أخرجه البخاري في كتاب فضائل أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم (6383)، ومسلم في فضائل الصحابة (2396).
(4)
"ط": "الصلاة". والحديث في الصحيحين. أخرجه البخاري في كتاب الصلاة (461) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (541) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
"ف": "نفر"، تصحيف.
(6)
"ب": "تحت قهره وقبضته". "ك، ط": "تحت يده وقبضته".
طباعه، ولا هوى له يغالبه- بأن قالوا: كيف تستوي النفسُ المطمئنّة إلى ربِّها، العاكفةُ على حُبِّهِ، التي لا منازعةَ فيها أصلًا ولا داعيةَ تدعوها إلى الإعراض عنه؛ والنفسُ المشغولةُ بمحاربة هواها ودواعيها وجواذبها؟
قالوا: وأيضًا ففي الزمن الذي يشتغل هذا بنفسه ومحاربة هواه وطبعه يكون صاحبُ النفس المطمئنّة قد قطع مراحل من سيره، وفاز بقربٍ فات صاحبَ المحاربة والمنازعة
(1)
.
قالوا: وهذا كما لو كان رجلان مسافرين في طريق، فطلع على أحدهما قاطعٌ اشتغل بدفعه عن نفسه ومحاربته ليتمكّن من سيره؛ والآخر سائرٌ لم يعرض له قاطع، بل هو على جادّة سيره، فإنَّ هذا يقطع من المسافة أكثرَ ممَّا
(2)
يقطع الأوَّل، ويقرب إلى الغاية أكثر من قربه.
قالوا: وأيضًا فإنَّ للقلب قوَّةً يسير بها، فإذا صرفَ تلك القوَّة في دفعِ العوارضِ والدواعي القاطعَة له عن السير اشتغلَ قلبُه بدفعها عن السيرِ في زمن المدافعة.
قالوا: ولأنَّ المقصودَ بالقصد الأوَّل إنَّما هو السيرُ إلى اللَّهِ، والاشتغال بدفع العوارض مقصود لغيره، والاشتغال
(3)
بالمقصود لنفسه أولى وأفضل من الاشتغال بالوسيلة.
قالوا: وأيضًا فالعوارضُ المانعة للقلب من سيره هي من باب المرض، واجتماعُ القلب على اللَّه وطمأنينتُه به وسكونُه إليه بلا
(1)
"ب": "المنازعة والمحاربة".
(2)
في الأصل: "ما"، سهو. وكذا في "ك".
(3)
"ط": "فالاشتغال".
منازعٍ ولا جاذب
(1)
ولا معارض هو صحّتُه وحياتُه ونعيمُه. فكيف يكون القلبُ الذي يعرض له مرض فهو
(2)
مشغول بدوائه أفضلَ من القلب الذي لا داء به ولا علَّة؟
قالوا: وأيضًا فهذه الدواعي والميول والإرادات التي في القلب تقتضي جذبَه وتعويقه عن وجهة
(3)
سيره، وما فيه من داعي
(4)
المحبَّه والإيمان يقتضي جذبَه عن طريقها، فتتعارض الجواذب، فإنْ لم تُوقِفْه عوَّقَتْه ولا بُدَّ. فأين السيرُ بلا معوّق من السيرِ مع المعوِّق؟
قالوا: وأيضًا فالذي يُسيِّرُ العبدَ بإذن ربه إنَّما هو همَّته، والهمَّة إذا علت وارتفعت لم تلحقها
(5)
القواطع والآفات، كالطائر إذا علا وارتفع في الجوّ فات الرماةَ، ولم تلحقه الحصا ولا البنادق ولا السهام. وإنَّما تدرك هذه الأشياء الطائرَ
(6)
إذا لم يكن عاليًا، فكذلك الهمَّة
(7)
العالية قد فاتت الجوارحَ والكواسرَ، وإنَّما تلحق الآفاتُ والدواعي والإرادات الهمَّةَ النَّازلة، فأمَّا إذا علت فلا تلحقها الآفات.
قالوا: وأيضًا فالحسُّ والوجود شاهد بأنَّ قلبَ المحب متى خلا من
(1)
"ب": "مجاذب".
(2)
"ب، ك، ط": "وهو".
(3)
"ب، ك، ط": "وجه".
(4)
"ف": "دواعي"، سهو.
(5)
"ك، ط": "لم يلحقه".
(6)
رسمها في الأصل: "للطائر"، وكذا في النسخ الأخرى والمطبوعة. ولعل القراءة الصحيحة ما أثبتنا.
(7)
"ولا السهام. . . " إلى هنا ساقط من "ب".
غير المحبوب، واجتمعت
(1)
شؤونه كلّها على محبوبه، ولم يبقَ فيه التفات إلى غيره، كان أكمل محبَّةً من القلب الملتفت إلى الرقباءِ، المهتم بمحاربتهم ومدافعتهم والهرب منهم والتواري عنهم. قالوا: فكم بين محبٍّ يجتاز على الرقَباءِ فيُطرِقون من هيبته وخشيته
(2)
ولا يرفع أحد منهم رأسه إليه، وبين محبٍّ إذا اجتاز بالرقباءِ هاشوا عليه
(3)
كالزنابير أو كالكلاب، فاشتغل بدفعهم وحرابهم، أو جدَّ في الهرب منهم؟ فكيف يسوَّى هذا بهذا، أم كيف يفضَّل عليه مع هذا التباين
(4)
؟
قالوا: وأيضًا فالمحبّة الخالصة الصَّادقة
(5)
حقيقتها أنَّها نار تُحرِق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وإذا احترق ما سوى مراده عُدِمَ وذهب أثرُه. فإذَا بقيَ في القلب شيء من سوى مراده لم تكن المحبّة تامَّةً ولا صادقةً، بل هي محبة مشوبة بغيرها. فالمحبّ الصادق ليس في قلبه سوى مراد محبوبه حتَّى ينازعه ويدافعه، والآخر في قلبه بقيَّة لغير المحبوب فهو جاهدٌ على إخراجها وإعدامها.
قالوا: وأيضًا فالواردات الإلهيّة تَرِدُ على القلوب على قدر استعدادها وقبولها، فإذا صادفت القلبَ فارغًا خاليًا
(6)
من العوارض والمنازعات ودواعي الطبع والهوى ملأَتْه على قدر فراغه. وإذا امتلأ منها لم يبقَ
(1)
"ب": "فاجتمعت"، قراءة محتملة.
(2)
"ب": "خشيته وهيبته".
(3)
أي: هاجوا ووثبوا عليه.
(4)
"ف": "البائن"، خطأ.
(5)
"ب": "الصادقة الخالصة".
(6)
"ك، ط": "خاليًا فارغًا".
لأضدادها وأعدائها
(1)
فيه مسلك
(2)
، وإذا صادفت فيه موضعًا مشغولًا بغيرٍ من الأغيار لم تساكن
(3)
ذلك الموضع، فيدخلُ الضدُّ والعدوُّ من تلك الثُّلْمة، كما قال القائل:
لا كان مَن لِسواكَ فيه بقيَّةٌ
…
يجدُ السبيلَ بها إليه العُذَّلُ
(4)
وقال
(5)
:
ومهما بقي لِلصَّحْو فيه بقيَّةٌ
…
يجد نحوَك اللاحي سبيلًا إلى العَذْلِ
(6)
قالوا: وأيضًا فدواعي الطبع وإرادات النفس وشهواتها مصدرها إمَّا جهل وإمَّا ضعف. فإنَّها لا تصدر إلا من جهل العبد بآثارها وموجباتها، أو يكون عالمًا بذلك لكن فيه ضعف وعجز يمنعه عن محوها من قلبه بالكلية. وما كان سببه جهلًا أو عجزًا لا يكون كمالًا ولا مستلزمًا لكمالٍ. وأمَّا القلب الخالي منها ومن الاشتغال بدفعها، فقلب شريف قويّ علويّ رفيع.
قالوا: وأيضًا فهذه الإرادات والدواعي لا تُسيِّر العبد، بل إمَّا أن تنكّسه إن أجابها، وإمَّا أن تُعوّقه وتُوقفه إن اشتغل بمدافعتها. وأمَّا
(1)
"ب": "إعدامها"، تحريف.
(2)
"ف": "ملك"، تحريف.
(3)
"ط": "لم يساكن".
(4)
سيأتي مرَّة أخرى في ص (638). وقد أنشده المؤلف في الفوائد (64). ومدارج السالكين (3/ 254) و (2/ 601)(والقافية: اللوَّم) و (2/ 615)(بعجز مختلف).
(5)
"ب": "وقال غيره".
(6)
أنشده المؤلف في مدارج السالكين (3/ 298).
إرادات القلب السليم منها والنفس المطمئنَّة بربّها، فكلُّ إرادة منها تسير به مراحلَ على مَهَلِه
(1)
، فهو يسيرُ رُويدًا، وقد سبقَ السُّعَاةَ
(2)
، كما قيل:
مَنْ لي بمثل سَيرِكَ المُدَلَّلِ
…
تمشي رُويدًا وتجي في الأوَّلِ
(3)
قالوا: وأيضًا فإنَّ هذه الدواعي والإرادات إنّما تُحمَد عاقبتُها إذا ردّت صاحبَها إلى حال السليم منها، فيكون كماله في تشبّهه به وسيره معه؛ فكيف يكون أكمل ممّن كمالُه إنّما هو في تشبّهه به؟
قالوا: وأيضًا فالنفوس ثلاثة: أمّارة، ولوّامة، ومطمئنّة. والنفس الأمّارة هي المطيعة لدواعي طباعها وشهواتها، فمبادئ كونها أمّارة هي تلك الدواعي والإرادات، فتستحكم، فتصير عزَمات، ثمَّ تُوجِب الأفعال؛ فمبدأُ صفة الذم فيها تلك الدواعي. وأمَّا النفس المطمئنّة فهي التي عَدِمتْ هذه المبادئ فعدِمت غاياتها. فكيف تكون مبادئ النفس الأمَّارة ممَّا يوجب لها مزيَّةً على النَّفسِ المطمئنّة؟
فهذا ونحوه ممَّا احتجَّت به هذه الطائفة أيضًا لقولها.
(1)
كذا ضبطت الكلمة في "ب". وفي "ف": "مُهْلة".
(2)
"ط": "السعادة"، تحريف. وقد تقدَّم قريبًا مثل هذا التحريف.
(3)
تمثل به المؤلف في مفتاح دار السعادة (1/ 302) ومدارج السالكين (3/ 7). وقد أورد الميداني هذا المثل على وجه آخر؟
تسألني أمُّ الخيار جَمَلا
…
يمشي رويدًا ويكون أوَّلا
وقال إنَّه يضرب في طلب ما يتعذَّر. مجمع الأمثال (1/ 248)، وقال العسكري إنَّ قولهم:"تمشي رويدًا وتكون الأول" يراد به أنه يدرك حاجته في تؤدة. جمهرة الأمثال (1/ 260)، وهو المراد هنا.
والحقّ أنَّ كلا الطائفتين
(1)
على صوابٍ من القول، لكن كلّ فرقة لحظت غيرَ ملحظِ الفرقة الأخرى، فكأنَّهما لم يتواردا على محلٍّ واحدٍ. بل الفرقة الأولى نظرت إلى نهاية خير
(2)
المجاهدة لنفسه وإراداته
(3)
وما ترتَّب له عليها من الأحوالِ والمقاماتِ، فأوجب لها شهودُ نهايته رجحانَه، فحكمت بترجيحه، وأسجلَت
(4)
بتفضيله. والفرقة الثانية نظرت إلى بدايته في شأنه ذلك ونهاية النفس المطمئنّة، فأوجبَ لها شهودُ الأمرين الحكمَ بترجيحِ القلب الخالي من تلك الدواعي ومجاهدتها. وكلّ واحدة من الطائفتين فقد أدْلَتْ بحججٍ لا تمانَع، وأَتَتْ ببيناتٍ لا تُرَدُّ ولا تُدافَع.
[مسألة شريفة أخرى]
(5)
وفصل الخطاب في هذه المسألة يظهر بمسألة ترتضع معها من
(1)
كذا في الأصل وغيره بتذكير "كلا". وقد تكرَّر مثله في كتبه وكتب شيخ الإسلام. انظر مثلًا: زاد المعاد (1/ 209)، والروح (478)، ومفتاح دار السعادة (2/ 454)، ومجموع الفتاوى (4/ 467)، و (8/ 337)، و (11/ 70). وقاعدة في الاستحسان (89).
(2)
"ك": "خبر". "ط": "سير المجاهد".
(3)
"ب، ك، ط": "إرادته".
(4)
"ف": "انحلت". "ك، ط": "استحلت" وكلاهما تحريف. وقوله "أسجلت" يعني به أنَّها أطلقت القول بتفضيله وحكمت بذلك. ومثله قول المصنف في الصواعق (2/ 791)"أسجل عليهم بالكفر والنفاق" وقوله فيه (2/ 468)، "أسجل عليهم إسجالًا عامًّا. . . بعجزهم عن ذلك" أي: حكم عليهم بذلك حكمًا مطلقًا. وهو من قولهم: أسجل لهم الأمر: أطلقه لهم، وأسجل الكلام: أرسله. انظر: اللسان "سجل"(11/ 326).
(5)
في حاشية "ب": "مسألة شريفة أيضًا".
لِبانها، وتخرج
(1)
من مشكاتها، وهي أنَّ العبدَ إذا كان له حال أو مقام مع اللَّه، ثمَّ نزل عنه إلى ذنب ارتكبه، ثمَّ تاب من ذنبه، هل يعود إلى مثل ماكان؟ أو لا يعود، بل إنْ رجع رجعَ إلى أنزلَ من مقامه وأنقصَ من رتبته؟ أو يعود خيرًا ممَّا كان؟
فقالت طائفة: يعود بالتوبة إلى مثل حاله الأوَّل
(2)
، فإنَّ "التَّائب من الذنب كمن لا ذنب له"
(3)
، وإذا مُحي أثرُ الذنب بالتوبة صار وجوده كعدمه، فكأنَّه لم يكن، فيعود إلى مثل حاله.
قالوا: ولأنَّ التوبة هي الرجوع إلى اللَّه بعد الإباق منه، فإنَّ المعصية إباق العبد من ربِّه، فإذا تابَ إلى اللَّه فقد رجع إليه. وإذا كان مسمَّى التوبة هو الرجوع، فلو لم يعد إلى حالته الأولى مع اللَّه لم تكن توبته تامَّة، والكلام إنَّما هو في التوبة النصوح.
قالوا: ولأنَّ التوبة كما ترفع أثرَ الذنب في الحالِ بالإقلاع عنه في المستقبل بالعزمِ على أن لا يعود، فكذلك ترفع أثره في الماضي جملةً. ومن أثره في الماضي انحطاط منزلته عند اللَّه ونقصانه عنده، فلا بدَّ من ارتفاع هذا الأثر بالتوبة، وإذا ارتفع بها عاد إلى مثل حاله.
قالوا: ولأنَّه لو بقي نازلًا من مرتبته منحطًّا عن منزلته بعد التوبة كما
(1)
"ط": "يرتضع. . يخرج"، تصحيف.
(2)
"ك، ط": "الأولى". "ب": "إلى حاله الأول".
(3)
أخرجه ابن ماجه (4250)، والطبراني في المعجم الكبير (10281) من طريق أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود عن أبيه مرفوعًا. قال السخاوي في المقاصد الحسنة (182):"ورجاله ثقات، بل حسنه شيخنا يعني لشواهده، وإلا فأبو عبيدة جزم غير واحد بأنه لم يسمع من أبيه".
كان قبلها، لم تكن التوبة قد مَحتْ أثرَ الذنب ولا أفادت في الماضي شيئًا. وإن عاد إلى دون منزلته ولم يبلغها، فبلوغه تلك الدرجة إنَّما كان بالتوبة، فلو ضعف تأثير التوبة عن إعادته إلى منزلته الأولى لَضعُف عن تبليغه تلك المنزلة التي وصل إليها. وإن لم تكن التوبة ضعيفةَ التأثير عن تبليغه تلك المنزلة لم تكن ضعيفة التأثير عن إعادته إلى المنزلة الأولى.
قالوا: وأيضًا فاللَّه
(1)
سبحانه ربط
(2)
الجزاءَ بالأعمالِ ربطَ الأسبابِ بمسبباتها، فالجزاءُ من جنس العمل. فكما رجع التائب إلى اللَّه بقلبه رجوعًا تامًّا، رجع اللَّه عليه بمنزلته وحاله. بل ما رجع العبدُ إلى اللَّه تعالى حتى رجعَ اللَّه بقلبه إليه أوَّلًا، فرجع اللَّه إليه وتاب عليه ثانيًا. فتوبةُ العبد محفوفةٌ بتوبتين من اللَّه: توبةٍ منه إذنًا وتمكينًا، فتاب بها العبد، وتاب اللَّه عليه قبولًا ورضًى. فتوبة العبد بين توبتين من اللَّه، وهذا يدلّ على عنايته سبحانه وبرّه ولطفه بعبده التائب. فكيف يقال: إنَّه لا يعيده مع هذا اللطف والبرّ
(3)
إلى حاله؟
قالوا: وأيضًا فإنَّ التوبة من أجلِّ الطاعات، وأوجَبِها على المؤمنين، وأعظمها غَناءً عنهم، وهم إليها أحوج من كلِّ شيء. وهي من أحبِّ الطاعات إلى اللَّه سبحانه، فأنَّه يحب التّوابين، ويفرح بتوبة عبده إذا تابَ إليه أعظم فرح وأكمله. وإذا كانت بهذه المثابة فالآتي بها آتٍ بما هو من أفضل القربات وأجلّ الطاعات. فإذا كان قد حصل له بالمعصية انحطاطٌ ونزولُ مرتبةٍ، فبالتوبة يحصل له مزيدُ تقدمٍ وعلوُّ درجةٍ، فإن لم تكن
(1)
"ف": "فإنَّ اللَّه"، خلاف الأصل. وكذا في "ك".
(2)
"ط": "ربط سبحانه الجزاء".
(3)
"ف": "اللطف الأكبر" تحريف.
درجتُه بعد التوبة أعلى فإنَّها لا تكون أنزَل.
قالوا: وأيضًا فإنَّا إذا قابلنا بين جناية المعصية والتقرب بالتوبة وجدنا الأثر
(1)
الحاصل من التوبة أرجَحَ من الأثرِ الحاصل من المعصية، والكلام إنَّما هو في التوبة النصوح الكاملة؛ وجانب الفضل أرجح من جانب العدل، ولهذا كان جانب
(2)
العدل آحادًا بآحاد، وجانب الفضل آحادًا بعشرات إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وهذا يدلُّ على رجحان جانب الفضل وغلبته. وكذلك مصدرهما من الغضب والرحمة، فإنَّ رحمةَ الربِّ تعالى تغلب غضبَه.
قالوا: وأيضًا فالذنب بمنزلة المرض، والتوبة بمنزلة العافية. والعبد إذا مرض ثمَّ عوفي وتكاملت عافيته رجعت صحّتُه إلى ما كانت، بل ربّما ترجع
(3)
أقوى وأكمل ممَّا كانت عليه، لأنَّه ربّما كان معه في حال العافية آلام وأسقام كامنة، فإذا اعتلَّ ظهرت تلك الأسقام، ثمَّ زالت بالعافية جملةً، فتعودُ قوَّته خيرًا ممَّا كانت وأكمل. وفي مثل هذا قال الشاعر:
لعلَّ عتبَك محمودٌ عواقبُه
…
وربّما صحَّت الأجسامُ بالعِلَلِ
(4)
وهذا الوجه هو أحد ما احتجَّ به من قال: إنَّه يعود
(5)
خيرًا ممَّا كان قبل التوبة.
(1)
"الأثر" ساقط من "ط".
(2)
"ك": "إلى جانب العدل آحاد". "ط": "في جانب العدل آحاد".
(3)
"ب، ك": "رجع". "ط": "رجعت".
(4)
للمتنبي وقد سبق في ص (367)، غير أنَّ في "ب":"صحت الأجساد".
(5)
"ك، ط": "يعود بالتوبة".
واحتجّوا لقولهم أيضًا بأنَّ التوبة تثمر للعبد محبَّة من اللَّه خاصَّة لا تحصل بدون التوبة، بل التوبة شرط في حصولها. وإن حصل له محبّة أخرى بغيرها من الطاعات فالمحبّة الحاصلة له بالتوبة لا تنال بغيرها، فإنَّ اللَّه يحبّ التوّابين، ومن محبّته لهم فرحُه بتوبة أحدهم أعظمَ فرحٍ وأكملَه. فإذا أثمرت له التوبةُ هذه المحبّة، ورجع بها إلى طاعاته التي كان عليها أوَّلًا، انضمَّ أثرُها إلى أثر تلك الطاعات، فقوي الأثران، فحصل له المزيد من القرب والوسيلة.
وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت معرفته بربّه من أنَّه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبَه فإنَّه لا يعودُ
(1)
الودّ الذي كان له منه قبل الجناية. واحتجّوا في ذلك بأثر إسرائيليّ مكذوب أنَّ اللَّه سبحانه قال لداود: "يا داود أمَّا الذنب فقد غفرناه، وأمّا الود فلا يعود"
(2)
. وهذا كذب قطعًا، فإنَّ الودّ يعود بعد التوبة النصوح أعظمَ ممَّا كان، فإنَّه سبحانه يحب التوابين، ولو لم يعد الود لما حصلت له محبّته. وأيضًا فإنَّه يفرح بتوبة التائب، ومحال أن يفرح بها أعظم فرح وأكمله وهو لا يحبّه.
وتأمَّلْ سرَّ اقتران هذين الاسمين في قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)} [البروج/ 13 - 14] تجِدْ فيه من الردِّ
(3)
والإنكار على من قال: لا يعودُ الودّ والمحبة منه لعبده أبدًا، ما هوَ من كنوز القرآن ولطائف فهمه. وفي ذلك ما يهيج القلبَ السليمَ، ويأخذ
(1)
"ف": "لا يعود له الود"، خلاف الأصل.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (10/ 304).
(3)
في الأصل: "الرد على والإنكار"، سبق قلم.
بمجامعه، ويجعله عاكفًا على ربِّه -الذي لا إلهَ له غيره
(1)
، ولا ربَّ له سواه- عكوفَ المحبّ الصادق على محبوبه، الذي لا غنى له عنه، ولا بُدَّ له منه، ولا تندفع ضرورته بغيره أبدًا.
واحتجّوا أيضًا بأنَّ العبدَ قد يكون بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، لأنَّ الذنبَ يُحدِث له من الخوف والخشية، والانكسار والتذلّل للَّه، والتضرّع بين يديه، والبكاءِ على خطيئته، والندم عليها، والأسف والإشفاق
(2)
، ما هو من أفضل أحوال العبدِ وأنفعها له في دنياه وآخرته. ولم تكن هذه الأمور لتحصل بدون أسبابها، إذ حصول الملزوم بدون لازمه محال. واللَّه تعالى يحبّ من عبده كسرتَه، وتضرّعه، وذلّه بين يديه، واستعطافه، وسؤاله أن يعفو عنه، ويغفر له، ويتجاوز عن جرمه وخطيئته. فإذا قضى عليه بالذنب فترتَّبت عليه هذه الآثار المحبوبة له كان ذلك القضاءُ خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن. ولهذا قال بعض السلف: "لو لم تكن التوبة أحبّ الأشياء إليه لما ابتلى
(3)
بالذنب أكرمَ الخلق عليه"
(4)
.
وقيل: إنَّ في بعض الآثار يقول اللَّه تعالى لداود: "يا داود كنتَ تدخل عليَّ دخولَ الملوكِ على الملوكِ، واليوم تدخل عليَّ دخولَ العبيد على الملوك"
(5)
. قالوا: وقد قال غير واحدٍ من السلف: كان داود بعد التوبة
(1)
"ب، ك": "لا إله غيره". "ط": "لا إله إلَّا هو".
(2)
"ط": "الإشفاء"، تحريف.
(3)
في "ط" بياض مكان "ابتلى".
(4)
نقله شيخ الإسلام في منهاج السنة (2/ 432) و (6/ 210)، وضمّنه المؤلِّف كلامه في مدارج السالكين (1/ 373)، وشفاء العليل (341).
(5)
نقله المصنف في مدارج السالكين (1/ 376) من قول اللَّه تعالى لآدم عليه =
خيرًا منه قبل الخطيئة
(1)
. قالوا: ولهذا قال سبحانه: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)} [ص/ 25]، فزاده على المغفرة أمرين
(2)
: "الزلفى"، وهي درجة القرب منه. وقد قال فيها سلف الأُمَّة وأئمّتها ما لا تحتمله عقول الجهمية وفراخهم. ومن أراد معرفتَها فعليه بتفاسير السلف. والثاني:"حسن المآب"، وهو حسن المنقلب وطيب المأوى عند اللَّه. قالوا: ومن تأمَّلَ زيادة القرب التي أعطيها داود بعد المغفرة علم صحَّة ما قلنا، وأنَّ العبدَ بعد التوبة يعود خيرًا ممَّا كان.
قالوا: وأيضًا فإنَّ للعبودية لوازم وأحكامًا وأسرارًا وكمالاتٍ لا تحصل إلا بها. ومن جملتها تكميل مقام الذلّ للعزيز الرحيم، فإنَّ اللَّه سبحانه يحبّ من
(3)
عبده أن يكمل مقام الذلّ له، وهذا هو
(4)
حقيقة العبودية. واشتقاقها
(5)
يدل على ذلك، فإنَّ العرب تقول:"طريق معبَّد" أي: مذلَّل بوطءِ الأقدام.
والذل أنواع: أكملها
(6)
ذلّ المحبّ لمحبوبه. الثاني: ذلّ المملوك لمالكه. الثالث: ذلّ
(7)
الجاني بين يدي المنعم عليه، المحسن إليه،
= السلام. وهر من كلام طويل ذكر أنَّه "قيل بلسان الحال في قصة آدم عليه السلام وخروجه من الجنَّة بذنبه".
(1)
انظر: منهاج السنة (2/ 432).
(2)
بعده في حاشية "ب": "أحدهما" مع علامة صح.
(3)
"من" ساقط من "ف".
(4)
"ط": "هذه هي".
(5)
"ف": "استقامتها"، تحريف.
(6)
"ب": "أحدها"، تحريف.
(7)
"ذل" سقط من الأصل سهوًا، ومن "ف" أيضًا.
المالك له. الرابع: ذلّ العاجز عن جميع مصالحه وحاجاته بين يدي القادر عليها، التي هي في يده وبأمره. وتحت هذا قسمان: أحدهما: ذلّه
(1)
في أن يجلب له ما ينفعه. والثاني: ذلّه
(2)
في أن يدفع عنه ما يضرّه على الدوام. ويدخل في هذا ذلّ المصائب كالفقر والمرض وأنواع البلاء والمحن. فهذه خمسة أنواع من الذل إذا وفَّاها العبد حقَّها، وشهدها كما ينبغي، وعرفَ ما يراد به منه، وقام بين يدي ربّه مستصحبًا لها شاهدًا لذلِّه من كل وجه ولعز
(3)
ربِّه وعظمته وجلاله، كانت قليلُ أعماله قائمةً
(4)
مقام الكثير من أعمال غيره.
قالوا: وهذه أسرارٌ لا تدرَك بمجرّد الكلام، فمن لا نصيب له منها فلا يضرّه أن يخلّي المطيَّ وحاديها، ويعطي القوسَ باريها.
فللكثافة أقوامٌ لها خُلِقوا
…
وللمحبَّةِ أكبادٌ وأجفانُ
قالوا: وأيضًا فقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لَلَّهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه من أحدكم أضلَّ راحلتَه"
(5)
.
قالوا: وهذا أعظم ما يكون من الفرح وأكمله، فإنَّ صاحب هذه الراحلة كان عليها مادة حياته من الطعام والشراب، وهي مركبه الذي يقطع به مسافة سفره، فلو عَدِمَه لانقطع في طريقه، فكيف إذا عدم مع
(1)
"ط": "ذلّ له".
(2)
"ط": "ذلّ له".
(3)
"ب، ك، ط": "لعزّة".
(4)
"ط": "كان. . قائمًا".
(5)
أخرجه البخاري في الدعوات (6309)، ومسلم في التوبة (2747) من حديث أنس رضي الله عنه وغيره.