الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأكرِمْنا ولا تُهِنَّا، وآثِرْنا ولا تُؤثر علينا، وأرضِنا وارضَ عنَّا"
(1)
.
وقيل: من آثر اللَّه على غيره آثره اللَّه على غيره.
و
الفرق بين الإيثار والأثرة
أنَّ "الإيثار" تخصيص الغير بما تريده لنفسك. و"الأثرة" اختصاصك به على الغير. وفي الحديث: "بايعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عُسْرنا ويُسْرنا، ومَنشَطنا ومَكْرَهِنا، وأثَرةٍ علينا"
(2)
.
إذا
(3)
عرف هذا، فالإيثار إمَّا أن يتعلَّق بالخلق، وإمَّا أن يتعلّق بالخالق. فإن
(4)
تعلّق بالخلق، فكماله أن تؤثرهم على نفسك بما لا يضيع عليك وقتًا، ولا يفسد عليك حالًا، ولا يهضِم لك دينًا، ولا يسدّ عليك طريقًا، ولا يمنع لك واردًا. فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك، فإيثارُ نفسك عليهم أولى، فإن الرجلَ مَن لا يؤثر بنصيبه من اللَّه أحدًا كائنًا من كان.
وهذا في غاية الصعوبة على السالك، والأول أسهل منه. فإنَّ الإيثار المحمود الذي أثنى اللَّه على فاعله الإيثار بالدنيا، لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب. قال اللَّه تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
(1)
أخرجه الترمذي (3173) و (3173)، والنسائي في الكبرى (1348) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قلت: فيه يونس بن سليم: مجهول، فالإسناد ضعيف. (ز).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7056) ومسلم في الإمارة (1709) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
(3)
"ط": "فإذا".
(4)
"ط": "وإن".
بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر/ 9]. فأخبر تعالى أنَّ إيثارهم إنَّما هو بالشيء الذي إذا وُقِي الرجلُ الشحَّ به كان من المفلحين. وهذا إنَّما هو فضول الدنيا
(1)
، لا الأوقات المصروفة في الطاعات؛ فإنَّ الفلاح كلّ الفلاح في الشحّ بها، فمن لم يكن شحيحًا بوقته تركه الناس على الأرض عريانا
(2)
مفلسًا؛ فالشح بالوقت هو عمارة القلب وحفظ رأس ماله.
وممَّا يدلُّ على هذا أنَّه سبحانه أمر بالمسابقة في أعمال البرّ، والتنافس فيها، والمبادرة إليها؛ وهذا ضدّ الإيثار بها. قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران/ 133] وقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة/ 148] وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين/ 26]. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لو يعلمُ الناسُ ما في النداء والصفّ الأوَّل لكانت قُرْعةً"
(3)
. والقرعة إنَّما تكون عند التزاحم والتنافس، لا عند الإيثار. فلم يجعل الشارع الطاعات والقربات محلًّا للإيثار، بل محلًّا للتنافس والمسابقة، ولهذا قال الفقهاء:"لا يستحبّ الإيثار بالقربات".
(1)
"ف": "من فضول الدنيا"، خلاف الأصل. وفي حاشية "ب":"لعله: في" يعني: "في فضول. . .".
(2)
"ك، ط": "عِيانًا".
(3)
أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (439) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وليس فيه ذكر النداء ولفظه: "لو تعلمون -أو يعلمون- ما في الصفّ المقدم لكانت قرعة". والنداء في حديثه الآخر الذي أخرجه البخاري في الأذان (615) وغيره ومسلم في الصلاة (437) ولفظه: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلّا أن يستهموا عليه لاستهموا".
والسرّ فيه -واللَّه أعلم- أنَّ الإيثار إنَّما يكون بالشيء الذي يضيق عن الاشتراك فيه، فلا يسع المؤثِر والمؤثَر، بل لا يسع إلا أحدَهما. وأمَّا أعمال البرّ والطاعات فلا ضيق على العباد فيها، فلو اشترك الألوف المؤلّفة في الطاعة الواحدة لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم، ووَسِعَتْهم كلَّهم. وإن قُدِّر التزاحمُ في عمل واحد أو مكان لا يمكن أن يفعله الجميع، بحيث إذا فعله واحد فات على غيره؛ فإنَّ في العزم والنية الجازمة على فعله من الثواب ما لفاعله، كما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غير حديث. فإذا قُدِّرَ فوتُ مباشرته له، فلا يفوت عليه عزمُه ونيَّتُه لفعله.
وأيضًا فإنَّه إذا فات عليه كان في غيره من الطاعات والقربات عوضٌ
(1)
منه: إمَّا مساوٍ له، وإمَّا أزيد
(2)
، وإمَّا دونه. فمتى أتى بالعوض، وعلِم اللَّه من نيته وعزيمته الصادقة إرادته لذلك العمل الفائت، أعطاه
(3)
ثوابَه وثوابَ ما تعوّض به عنه؛ فجمع له الأمرين. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.
وأيضًا فإنَّ المقصود رغبة العبد في التقرّب إلى اللَّه، وابتغاء الوسيلة إليه، والمنافسة في محابّه؛ والإيثار بهذا التقرّب يدل على رغبته عنه وتركه له، وعدم المنافسة فيه. وهذا بخلاف ما يحتاج إليه العبد من طعامه وشرابه ولباسه، إذا كان أخوه محتاجًا إليه، فإذا اختصّ به أحدهما فات الآخر، فندب اللَّه سبحانه عبده إذا وجد من نفسه قوَّةً وصبرًا على
(1)
في الأصل: "عوضًا"، سهو. وكذا في النسخ الأخرى.
(2)
"ب": "زائد عليه".
(3)
"ك، ط": "أعطاه اللَّه".
الإيثار به، ما لم يخرِمْ عليه دينًا، أو يجلبْ له مفسدةً، أو يقطعْ عليه طريقًا عزم على سلوكه إلى ربّه، أو
(1)
يشوّشْ
(2)
عليه قلبه بحيث يجعله متعلِّقًا بالخلق؛ فمفسدة الإيثار هنا
(3)
أرجح من مصلحته. فإذا ترجَّحت مصلحة الإيثار، بحيث تتضمَّن إنقاذَ نفسٍ
(4)
من هلكة أو عطب أو شدَّة ضرورة -وليس بالمؤثَر
(5)
نظيرها- تعيَّن عليه الإيثار. فإن كان به
(6)
نظيرها لم يتعيَّن عليه الإيثار، ولكن لو فعله لكان غاية الكرم والسخاءِ والإحسان؛ فإنَّه من آثر حياةَ غيره على حياته وضرورتَه على ضرورته، فقد استولى على أمد الكرم والسخاء، وحاز قصباته
(7)
، وضرب فيه بأوفر الحظّ. وفي هذا الموضع مسائل فقهية
(8)
ليس هذا موضع ذكرها.
فإن قيل: فما الذي يُسهّل على النفس هذا الإيثار، فإنَّ النفس مجبولة على الأثَرة، لا على الإيثار؟
قيل: يسهّله أمور:
أحدها: رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها، فإنَّ من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها: الإيثار. وقد جبل اللَّه القلوبَ على تعظيم صاحبه ومحبّته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل
(1)
"ب": "إذا".
(2)
"ك، ط": "شوّش".
(3)
"ط": "إيثار هذا"، تحريف.
(4)
"ك، ط": "نفسه"، خطأ.
(5)
"ك، ب، ط": "للمؤثر".
(6)
"ب": "له".
(7)
"ط": "جاوز أقصاه"، تحريف.
(8)
"ف": "متفرقة"، تحريف.
لخلق اللَّه.
والأخلاق ثلاثة: خلق الإيثار، وهو خلق الفضل. وخلق القسمة والتسوية
(1)
، وهو خلق العدل. وخلق الاستئثار والاستبداد، وهو خلق الظلم. فصاحب الإيثار محبوب مطاع مهيب. وصاحب العدل لا سبيل للنفوس إلى أذاه والتسلّط عليه، ولكنها لاتنقاد إليه انقيادَها لمن يؤثرها. وصاحب الاستئثار، النفوسُ إلى أذاه والتسلّط عليه أسرعُ من السيل في حَدوره
(2)
. وهل أزال الممالك وقلَعَها إلا الاستئثار؟ فإنَّ النفوس لا صبر لها عليه. ولهذا أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصحابه بالسمع والطاعة لولاة الأمر، وإن استأثروا عليهم
(3)
؛ لما في طاعة المستأثر من المشقّة والكره
(4)
.
الثاني: النفرة من أخلاق اللئام، ومقت الشحّ وكراهته له.
الثالث: تعظيم الحقوق التي جعلها اللَّه للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حقّ رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنَّه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حدّه، فإنَّ ذلك عسِر جدًّا، بل لا بدّ من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم. فهو لخوفه من تضييع الحقِّ والدخول في الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضرّه، ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا، وجزيل الأجر في الآخرة، مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه من إيثاره
(1)
"والتسوية" ساقط من "ب".
(2)
الحَدور: الأرض المنحدرة، وقد سبق المثل في ص (229).
(3)
تقدّم تخريجه في ص (648).
(4)
"ك، ط": "أو لكره الاستئثار"!
أفضل مما بذله. ومن جرَّب هذا عرَفه، ومن لم يجرّبه فَلْيستقرِ أحوال العالم. والموفَّق من وفَّقه اللَّه.
فصل
والإيثار المتعلِّق بالخالق أجل من هذا وأفضل، وهو إيثار رضاه على رضى غيره، وإيثار حبّه على حبّ غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه، وإيثار الذلّ له والخضوع والاستكانة والضراعة والتملّق على بذل ذلك لغيره. وكذلك إيثار الطلب منه
(1)
والسؤال وإنزال الفاقات به على تعلّق ذلك بغيره.
فالأوَّل آثر بعضَ العبيد على نفسه فيما هو محبوب له، وهذا آثر اللَّهَ على غيره. ونفسُه من أعظم الأغيار، فآثر اللَّه عليها، فترك محبوبَها لمحبوب اللَّه.
وعلامة صحّة
(2)
هذا الإيثار شيئان: أحدهما: فعلُ ما يحبّه
(3)
اللَّه إذا كانت النفسُ تكرهه وتهرب منه. والثاني
(4)
: ترك ما يكرهه إذا كانت النفس تحبّه وتهواه. فبهذين الأمرين يصحّ مقام الإيثار.
ومؤنة هذا الإيثار شديدة لغلبة الأغيار وقوة داعي العادة والطبع. فالمحنة فيه عظيمة، والمؤنة فيه شديدة، والنفس عنه ضعيفة، ولا يتمّ
(1)
"ف": "له"، خطأ.
(2)
"صحة" ساقط من "ط".
(3)
"ك، ط": "يحب".
(4)
"ب، ك، ط": "الثاني" دون الواو.
صلاح
(1)
العبد وسعادته إلا به، وإنَّه ليسيرٌ على من يسّره اللَّه عليه. فحقيق بالعبد أن يتسنّم
(2)
إليه وإن صعب المرتقى، وأن يشمّر إليه وإن عظمت فيه المحنة
(3)
، ويحتمل
(4)
فيه خطرًا يسيرًا لملك عظيم وفوز كبير؛ فإنَّ ثمرة هذا في العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء من الأعمال، واليسير
(5)
منه يُرقّي العبد ويسيِّره ما لا
(6)
يرقى غيره إليه في المدد المتطاولة. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء
(7)
.
ولا تتحقَّق المحبَّة إلا بهذا الإيثار. والذي يسهّله على العبد أمور: أحدها: أن تكون طبيعته ليّنة منقادة سلسة، ليست بجافية ولا قاسية، بل تنقاد معه بسهولة. الثاني: أن يكون إيمانه راسخًا ويقينه قويّا، فإنَّ هذا ثمرة الإيمان ونتيجته. الثالث: قوة صبره وثباته. فبهذه الأمور
(8)
الثلاثة ينهض إلى هذا المقام، ويسهل عليه دركه.
والنقص والتخلّف في النفس عن هذا يكون من أمرين: أن تكون جامدةً غير سريعة الإدراك، بل بطيئة. فلا يكاد يرى
(9)
حقيقة الشيء إلا بعد عسر، وإن رآها
(10)
اقترنت به الأوهام والشكوك والشبهات
(1)
"ك، ط": "فلاح".
(2)
"ط": "يسمو".
(3)
"ب": "المحنة فيه".
(4)
"ك، ط": "يحمل"، تحريف.
(5)
"ك، ط": "ويسير".
(6)
"ب": "إلى ما".
(7)
زاد في "ف": "واللَّه ذو الفضل العظيم".
(8)
"ك، ط": "الثلاثة الأمور".
(9)
"ب، ك، ط": "ولا تكاد ترى".
(10)
"ط": "رأتها".
والاحتمالات، فلا يتخلّص له رؤيتها وعيانها.
الثاني: أن تكون القريحة وفَّادة درَّاكة، لكن النفس ضعيفة مهينة، إذا أبصرت الحقّ والرشد ضعفت عن إيثاره. فصاحبها يسوقها سوق العليل المريض، كلَّما ساقه خطوة وقف خطوة؛ أو كسَوق الطفل الصغير الذي قد
(1)
تعلَّقت نفسه بشهواته ومألوفاته، فهو يسوقه إلى رشده، وهو ملتفت إلى لهوه ولعبه لا ينساق معه إلا كرهًا. فإذا رُزِق العبد قريحةً وفَّادةً، وطبيعةً منقادةً: إذا زجرها انزجرت، وإذا قادها انقادت بسهولة وسرعة ولين؛ وأُيِّدَ
(2)
مع ذلك بعلم نافع وإيمان راسخ، أقبلت إليه وفود السعادة من كلِّ جانب.
ولمَّا كانت هذه القرائح والطبائع ثابتةً للصحابة رضي الله عنهم، وكمَّلها اللَّه لهم بنور الإسلام وقوَّة اليقين ومباشرة الإيمان. لقلوبهم، كانوا أفضل العالمين بعد الأنبياء والمرسلين. وكان مَن بعدهم لو أنفق مثل جبل أحد ذهبًا
(3)
ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه
(4)
.
ومن تصوَّر هذا الموضع حقّ تصوره علِمَ من أين يلزمه النقص والتأخّر، ومن أين يتقدم ويترقّى في درجات السعادة. وباللَّه التوفيق
(5)
.
(1)
"قد" ساقط من "ك، ط".
(2)
"ط": "وارتدى".
(3)
"ذهبًا" ساقط من "ك، ط".
(4)
يشهد له ما أخرجه البخاري (3673) ومسلم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5)
زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم".