المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الوجه التاسع: قوله: "والثاني: الصبر، وهو نوع سهولة تخفّف على - طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصلالمثال الثاني: الزهد

- ‌[قاعدة نافعة في إثبات الصفات]

- ‌فصل

- ‌أصل القولين

- ‌الوجه الثالث

- ‌ النقص في الزهد يكون من أحد وجوه ثلاثة

- ‌الوجه الرَّابع:

- ‌فصلالمثال الثالث(1): التوكّل

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌[أقسام الفناء عند السالكين]

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه العاشر:

- ‌الوجه الثاني عشر:

- ‌الوجه الرَّابع عشر:

- ‌الوجه الخامس عشر:

- ‌فصلالمثال الرَّابع(1): الصبر

- ‌منازل الإيمان كلُّها بين الصبر والشكر

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرَّابع:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌فصلالمثال الخامس: الحزن

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه الثاني عشر:

- ‌الوجه الثالث عشر:

- ‌فصل [في المحبّة]

- ‌المحبّة المشتركة ثلاثة أنواع:

- ‌فصل [حدّ آخر للمحبة]

- ‌الفرق بين الإيثار والأثرة

- ‌فصل [حدّ آخر للمحبة]

- ‌فصل [حدود أخرى للمحبَّة]

- ‌فصل

- ‌ غيرة المحب

- ‌الفصل الأوَّل في حقيقته

- ‌فصل في مراتب المكلَّفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها. وهم ثمانِ عشرةَ طبقةً

- ‌الطبقة الثانية: من عداهم من الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌ثبت المصادر والمراجع

الفصل: ‌ ‌الوجه التاسع: قوله: "والثاني: الصبر، وهو نوع سهولة تخفّف على

‌الوجه التاسع:

قوله: "والثاني: الصبر، وهو نوع سهولة تخفّف على المبتلى بعضَ الثقل، وتسهّل عليه صعوبةَ المراد، وهو الصبرُ للَّه، وهو صبرُ المريدين".

فقد تقدّم أن الصبر ثمرة التصبّر، وكلاهما إنّما يُحمَد إذا كان للَّه. وإنما يكون إذا كان باللَّه، فما لم يكن به لا يكون، وما لم يكن له لا ينفع ولا يثمر؛ فكلاهما لا يحصل للمريد السالك مقصودُه إلّا أن يكون باللَّه وللَّه. قال تعالى في الصبر به:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل/ 127]. وقال في الصبر له: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور/ 48].

واختلف النَّاس أيّ الصبرَين أعلى وأفضل: الصبر له، أو به؟ فقالت طائفة منهم صاحبُ كتاب

(1)

منازل السائرين: "وأضعفُ الصبرِ الصبرُ للَّه، وهو صبر العامة. وفوقه الصبر باللَّه، وهو صبر المريد، وفوقهما الصبر على اللَّه، وهو صبر السالك"

(2)

.

ووجه هذا القول أنَّ الصبر للَّه

(3)

هو صبر العابد الذي يُصبِّر نفسَه لأمر اللَّه طالبًا لمرضاته وثوابه، فهو صابر على العمل، صابر عن المحرمات. وأمَّا الصبر به فهو تبرّؤٌ من الحول والقوَّة، وإضافةُ ذلك إلى اللَّه عز وجل وهو صبر المريد. وأمَّا الصبرُ على اللَّه فصبر السالك على ما تجيء به أقداره

(4)

وأحكامه.

والصواب أنَّ الصبرَ للَّه أكملُ من الصبر به، فإنَّ الصبر له متعلّق

(1)

"كتاب" ساقط من "ب، ك، ط".

(2)

انظر: منازل السائرين (39)، ومدارج السالكين (2/ 199).

(3)

"وهو صبر المريد. . . " إلى هنا ساقط من: "ط".

(4)

"ط": "يجيء به متعلق أقداره".

ص: 585

بإلهيته ومحبّته، والصبر به متعلق بربوبيته ومشيئته. وما له

(1)

أكملُ ممَّا به، فإنَّ ما له هو الغاية، وما به هو الوسيلة، فالصبر به وسيلة، والصبر له غاية، وبينهما من التفاوت ما بين الغايات والوسائل.

وأيضًا فإنَّ الصبر له متعلق بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، والصبر به متعلّق بقوله

(2)

: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} . وهاتان الكلمتان منقسمتان بين العبد وبين اللَّه، كما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه. و"إياك نعبد" هي التي للَّه، "وإياك نستعين" هي التي للعبد

(3)

؛ وما للَّه أكمل ممَّا للعبد، فما تعلّق بما هو له أفضل مما تعلق بما هو للعبد.

وأيضًا فالصبر له مصدره المحبة، والصبر به مصدره الاستعانة، والمحبّة أكمل من الاستعانة.

وأمَّا الصبر على اللَّه سبحانه فهو الصبر على أحكامه الدينية والكونية. فهو يرجع إلى الصبر

(4)

على أوامره، والصبر على ابتلائه، فليس في الحقيقة قسمًا ثالثًا

(5)

، واللَّه أعلم.

فقد تبيّن أنَّ الصبر بجميع أقسامه أصل مقامات الإيمان، وهو أصل كمال العبد

(6)

الذي لا كمال له بدونه. ولا يذَمّ منه إلا قسم واحد، وهو

(1)

"ط": "وما هو له" وكذلك في الجمل اللاحقة زيد فيها "هو" بعد "ما".

(2)

"والصبر به متعلق بقوله" ساقط من "ب، ط".

(3)

نص الحديث في صحيح مسلم، كتاب الصلاة (395) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

"ف": "التصبر".

(5)

"ب": "قسم ثالث".

(6)

"ك، ط": "لكمال العبد".

ص: 586

الصبر عن اللَّه سبحانه، فإنَّه صبر المعرضين المحجوبين. فالصبرُ عن المحبوب أقبح شيء وأسوؤه، وهو الذي يُسقط المحبَّ من عين محبوبه، فإنَّ المحبّ كلَّما كان أكمل محبه كان صبره عن محبوبه متعذرًا.

الوجه العاشر: قوله: "الثالث الاصطبار، وهو التلذّذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى. وهذا هو الصبر على اللَّه، وهو صبر العارفين".

فيقال: الاصطبار افتعال من الصبر، كالاكتساب والاتخاذ، وهو مُشعِر بزيادة المعنى على الصبر، كأنَّه صار سجيّةً وملكةً، فإنَّ هذا البناء مُوذِن بالاتخاذ والاكتساب، قال تعالى:{فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [القمر/ 27]. فالاصطبار

(1)

أبلغ من الصبر، كما أنَّ الاكتساب أبلغ من الكسب، ولهذا كان في العمل الذي يكون على صاحبه، والكسب

(2)

فيما له. قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة/ 286] تنبيهًا على أنَّ الثواب يحصل لها بأدنى سعي وكسب، وأنَّ العقاب إنَّما هو باكتسابها وتصرفها وما تعانيه.

وإذا عُلِمَ هذا فالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار اللَّه سبحانه لا يخص الاصطبار

(3)

، بل يكون مع الصبر ومع التصبّر؛ ولكن لمَّا كان الاصطبار أبلغَ من الصبر وأقوى، كان بهذا التلذّذ والاستبشار أولى. واللَّه أعلم.

(1)

"ف": "والاصطبار"، والمثبت من غيرها أقرب.

(2)

"ف": "وذلك" تحريف.

(3)

"ب": "لا يختص بالاصطبار".

ص: 587

قاعدة الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة:

أحدها: علمُ العبد بقبحها ورذالتها ودناءَتها، وأنّ اللَّه إنّما حرَّمها ونهى عنها صيانةً لعبده

(1)

وحمايةً عن الدنايا والرذائل، كما يحمي الوالدُ الشفيقُ ولدَه عما يضرّه. وهذا السبب يحمل العاقلَ على تركها، ولو لم يعلَّق عليها وعيدٌ بالعذاب.

السبب الثاني: الحياءُ من اللَّه عز وجل، فإنّ العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنّه بمرأى منه ومستمع

(2)

، وكان حَيًّا

(3)

حَيِيًّا، إستحيا من ربّه أن يتعرّض لمساخطه.

السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإنّ الذنوب تزيل النعمَ ولا بدّ. فما أذنبَ عبدٌ ذنبًا إلّا زالت عنه نعمةٌ من اللَّه بحسب ذلك الذنب. فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلُها، وإن أصرّ لم ترجع إليه. ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمةً نعمةً حتّى يُسلَب

(4)

النعمَ كلها، قال اللَّه تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد/ 11]. وأعظم النعم الإيمان، وذنبُ الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة تزيلها وتسلبها

(5)

.

(1)

"لعبده" ساقط من "ك، ط".

(2)

"ط": "مسمع".

(3)

"حيًّا" ساقط من "ك، ط".

(4)

"ك، ط": "تسلب".

(5)

"ط": "يزيلها ويسلبها".

ص: 588

وقال بعض السلف

(1)

: "أذنبتُ ذنبًا فحُرِمتُ قيامَ الليل سنةً". وقال آخر: "أذنبتُ ذنبًا، فحُرِمتُ فهمَ القرآن". وفي هذا

(2)

قيل:

إذا كنتَ في نعمةٍ فارْعَها

فإن المعاصي تُزيل النِّعَمْ

(3)

وبالجملة فإنّ المعاصي نارُ النعم تأكلها، كما تأكل النارُ الحطبَ، عياذًا باللَّه من زوال نعمته وتحويل

(4)

عافيته.

السبب الرابع: خوف اللَّه وخشية عقابه. وهذا إنّما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده، والإيمان به وبكتابه وبرسوله. وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين، ويضعف بضعفهما. قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)} [فاطر/ 28]. وقال بعض السلف: "كفى بخشية اللَّه علمًا، وبالاغترار باللَّه جهلًا"

(5)

.

السبب الخامس: محبة اللَّه سبحانه، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه. فإنّ المحب لمن يحب مطيع

(6)

، وكلما قوي سلطانُ المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبّة وسلطانها.

(1)

"ب": "بعض العارفين".

(2)

"ط": "مثل هذا".

(3)

سبق في ص (134).

(4)

"ب": "تحول".

(5)

من كلام عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه وسيأتي جزء منه في ص (615). وانظر: مفتاح دار السعادة (1/ 225). (ص). أخرجه ابن المبارك في الزهد رقم (46) والطبراني في الكبير (8927). (ز)

(6)

من قول محمود الوراق أو غيره، وسيأتي في ص (646).

ص: 589

وفَرْقٌ بين من يحمله على ترك معصية سيّده خوفُه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبُّه لسيّده. وفي هذا قال عمر:"نعم العبد صهيب، لو لم يخَفِ اللَّهَ لم يعصِه"

(1)

يعني أنّه لو لم يخف من اللَّه لكان في قلبه من محبّة اللَّه وإجلاله ما يمنعه من معصيته. فالمحبّ الصادق عليه رقيبٌ من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعلامة صدق المحبّة شهودُ هذا الرقيب ودوامه.

وههنا لطيفة يجب التنبه لها، وهي أن المحبّة المجرّدة لا توجب هذا الأثَر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه، فإذا قارنها الإجلالُ

(2)

والتعظيمُ أوجبت هذا الحياءَ والطاعة، وإلّا فالمحبة الخالية عنهما إنّما توجب نوعَ أُنس وانبساط وتذكّر واشتياق. ولهذا يتخلّف عنها أثرها وموجَبها

(3)

، ويفتّش العبد قلبَه فيرى نوع محبّة للَّه، ولكن لا تحمله على ترك معاصيه، وسبب ذلك تجرّدها عن الإجلال والتعظيم. فما عمر القلبَ شيءٌ كالمحبّة المقترنة بإجلال اللَّه وتعظيمه، وتلك من أفضل مواهب اللَّه لعبده أو أفضلها، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء.

السبب السادس: شرفُ النفس وزكاؤها وفضلُها وأنَفتهُا وحميّتُها أن تختار الأسباب التي تحطّها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتُحقَرها، وتسوّي بينها وبين السَّفِلة.

(1)

وهو أثر مشهور، ولكن لم يوقف له على أصل. انظر: المقاصد الحسنة (526). وانظر في تأويله: بدائع الفوائد (92) وجامع المسائل لشيخ الإسلام (3/ 315).

(2)

"ط": " بالإجلال".

(3)

"وموجبها" ساقط من "ب".

ص: 590

السبب السابع: قوة العلم بسوءِ عاقبة المعصية، وقبح أثرها، والضرر الناشئ منها

(1)

: من سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمّه

(2)

، وحزنه وألمه، وانحصاره، وشدّة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعزيه من زينته بالثوب الذي جمّله اللَّه وزيّنه به، والعصرة التي تناله، والقسوة والحيرة في أمره، وتخلي وليّه وناصره عنه، وتوئي عدؤه المبين له، وتواري العلم الذي كان مستعذًا له عنه، ونسيان ما كان حاصلًا له أو ضعفه ولابدّ، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولابدّ، فإنّ الذنوب تميت القلوب

(3)

.

ومنها: ذلّة بعد عزة.

ومنها: أنّه يصير أسيرًا في يد أعدائه بعد أن كان ملكًا متصرفًا يخافه أعداؤه.

ومنها: أنّه يضعف تأثيرُه، فلا يبقى له نفوذ في رعيَّته ولا في الخارج، فلا رعيّته تطيعه إذا أمرها، ولا ينفذ في غيرهم.

ومنها: زوال أمنه وتبدّله به مخافةً، فأخوفُ الناس أشدُّهم إساءَة.

ومنها: زوال الأنس والاستبدال به وحشةً، وكلَّما ازداد إساءةً ازداد وحشةً

(4)

.

(1)

قد أفاض المصنف في بيان أضرار المعصية في الداء والدواء (85 - 169).

(2)

"ب": "وضيقه وهمه وغمه".

(3)

قال عبد اللَّه بن المبارك:

رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ

وقد يورث الذلّ إدمانُها

انظر: زاد المعاد (4/ 203).

(4)

هذه الفقرة ساقطة من "ب".

ص: 591

ومنها: زوال الرضا واستبداله بالسخط.

ومنها: زوال الطمأنينةِ باللَّه والسكون إليه والإيواءِ عنده، واستبدال الطرد والبعد منه.

ومنها: وقوعه في بئر الحسرات. فلا يزال في حسرة دائمة، كلَّما نال لذَّةً نازعته نفسُه إلى نظيرها

(1)

إن لم يقضِ منها وطرًا، أو إلى غيرها إن قضى وطره منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعافُ أضعافِ ما يقدر عليه، وكلَّما اشتدَّ نزوعُه وعرف عجزَه اشتدَّت حسرته وحزنه. فيا لها نارًا قد عُذبَ بها القلبُ في هذه الدار قبل نار اللَّه الموقَدة التي تطّلع على الأفئدة!

ومنها: فقره بعد غناه. فإنَّه كان غنيًّا بما معه من رأس مال الإيمان، وهو يتّجر به ويربح الأرباح الكثيرة؛ فإذا سُلِبَ رأسَ ماله أصبح فقيرًا معدِمًا. فإلى أن يسعى في تحصيل رأس مالٍ آخرَ بالتوبة النصوح والجدّ والتشمير، قد فاته

(2)

ربح كثير، بما أضاعه من رأس ماله.

ومنها: نقصان رزقه، فإنَّ العبد يُحرَم الرزقَ بالذنب يصيبه

(3)

.

(1)

"ب": "نظيرتها".

(2)

كتب في الأصل أولًا: "فإمّا أن يسعى. . . التشمير وإمّا أن لا يسعى في ذلك قد فاته" ثم ضرب على "وإما أن لا يسعى في ذلك" وأصلح "فإما" فقرأتها كما أثبت. وقرأ ناسخ "ف": "فأنّى أن يسعى. . . "، وفي "ب، ك": "فإما. . . وقد فاته". وفي "ط": "فإما أن يسعى بتحصيل. . . التشمير [وإلّا] فقد فاته".

(3)

يشير إلى ما أخرجه أحمد (22386)، وابن ماجه (4022)، وابن حبان (872)، والحاكم (1814) وغيرهم. والحديث صححه ابن حبان والحاكم وحسنه البوصيري، قلت: فيه عبد اللَّه بن أبي الجعد، فيه جهالة، ولا يدرى أسمع من ثوبان أم لا (ز).

ص: 592

ومنها: ضعف بدنه.

ومنها: زوال المهابة والحلاوة التي أُلْبِسَها

(1)

بالطاعة، فتبدَّل بها مهانةً وحقارةً.

ومنها: حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس.

ومنها: ضياع أعز الأشياء عليه وأنفَسِها وأغلاها

(2)

، وهو الوقت الذي لا عوض منه، ولا يعود عليه

(3)

أبدًا.

ومنها: طمعُ عدوّه فيه، وظفرُه به. فإنَّه إذا رآه منقادًا له

(4)

مستجيبًا لما يأمره به

(5)

اشتدَّ طمعُه فيه، وحدَّث نفسه بالظفر به وجَعْلِه من حزبه، حتَّى يصير هو وليّه دون مولاه الحقّ.

ومنها: الطبع والرّيْن على قلبه. فإنَّ العبد إذا أذنب نُكِتَ في قلبه نكتةٌ سوداءُ، فإن تاب منها صُقِلَ قلبُه؛ وإن أذنب ذنبًا آخر نكِتَ فيه نكتةٌ أخرى، ولا تزال حتّى تعلو قلبَه؛ فذلك هو الران. قال تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين/ 14]

(6)

.

(1)

"ك، ط": "لبسها".

(2)

"ك، ط": "أعلاها" بالمهملة.

(3)

"ب، ك، ط": "إليه".

(4)

"له" ساقط من "ط".

(5)

"به" ساقط من "ك، ط".

(6)

يشير إلى ما أخرجه الترمذي (3334)، وابن ماجه (4244)، وابن حبان (930)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (418) والحاكم (2/ 562)(3908) من حديث أبي هريرة. والحديث صححه الترمذي وابن حبان والحاكم والذهبي. (ز).

ص: 593

ومنها: أنَّه يُحرَم حلاوةَ الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوَّة ومزيد الإيمان والعقل والرغبة في الآخرة، فإنَّ الطاعة تثمر هذه الثمرات ولابدَّ.

ومنها: أنَّها

(1)

تمنع قلبَه من ترحّله من الدنيا ونزوله بساحة القيامة. فإنَّ القلب لا يزال مشتَّتًا مضيعًا حتَّى يرحل من الدنيا وينزل في الآخرة، فإذا نزل فيها أقبلت إليه وفودُ التوفيق والعناية من كل جهة، واجتمع على جمع أطرافه وقضاءِ جهازه وتعبئة زاده ليوم معاده. وما لم يترحَّلْ إلى الآخرة ويحضُرْها فالتعبُ والعناءُ والتشتّت والكسل والبطالة لازمةٌ له لا محالة.

ومنها: إعراض اللَّه وملائكته وعباده عنه. فإنَّ العبد إذا أعرض عن طاعة اللَّه واشتغل بمعاصيه أعرض اللَّه عنه، فأعرضت عنه ملائكته وعبادُه؛ كما أنَّه إذا أقبل على اللَّه أقبل اللَّه عليه وأقبل بقلوب خلقه إليه.

ومنها: أنَّ الذنبَ يستدعي ذنبًا آخر، ثمّ يقوى أحدهما بالآخر، فيستدعيان ثالثًا، ثمَّ تجتمع الثلاثة، فتستدعي رابعًا، وهلّم جرًّا، حتَّى تغمره ذنوبه، وتحيط به خطيئته. قال بعض السلف:"إنَّ من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها، ومن عقوبة السيئةِ السيّئةَ بعدها".

(2)

.

ومنها: علمُه بفوات ما هو أحبّ إليه وخير له منها من جنسها وغير جنسها. فإنَّه لا يجمع اللَّه لعبده بين لذَّة المحرمات في الدنيا ولذَّة ما في الآخرة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي

(1)

"ك، ط": "أن".

(2)

نسبه شيخ الإسلام إلى سعيد بن جبير. انظر: مجموع الفتاوى (10/ 11).

ص: 594

حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف/ 20]. فالمؤمن لا يُذهِبُ طيّباته في الدنيا، بل لابدَّ أن يتركَ بعضَ طيّباته للآخرة. وأمَّا الكافر فلأنَّه

(1)

لا يؤمن بالآخرة، فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيّباته في الدنيا.

ومنها: علمه بأنَّ أعماله هي زاده ووسيلته إلى دار إقامته. فإن تزوّد من معصية اللَّه أوصله ذلك الزادُ إلى دار العصاة والجناة. وإن تزود من طاعته وصل إلى دار أهل طاعته وولايته.

ومنها: علمه بأنَّ عملَه هو وليُّه في قبره وأنيسُه فيه، وشفيعُه عند ربه، والمخاصم والمحاجّ عنه؛ فإن شاء جعله له، وإن شاءَ جعله عليه.

ومنها: علمه بأنَّ أعمال البرّ تنهض بالعبد، وتقوم به، وتصعد إلى اللَّه به؛ فبحسب قوَّة

(2)

تعلّقه بها يكون صعوده مع صعودها. وأعمالُ الفجور تهوي به وتجذبه إلى الهاوية، وتجرّه إلى أسفل سافلين؛ وبحسب قوَّة

(3)

تعلّقه بها يكون هبوطه معها ونزوله إلى حيث تستقرّ به

(4)

. قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر/ 10]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف/ 40]. فلمَّا لم تفتَحْ أبواب السماء لأعمالهم بل أُغلِقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة بل أغلقت عنها. وأهل الإيمان والعمل الصالح لمَّا كانت أبوابُ السماءِ مفتوحةً لأعمالهم حتى

(1)

"ب، ك، ط": "فإنه".

(2)

"قوة" ساقط من "ب".

(3)

"قوة" ساقط من "ب".

(4)

"ك، ط": "يستقر"، تصحيف.

ص: 595

وصلت إلى اللَّه سبحانه، فُتِحَتْ لأرواحهم حتى وصلت إليه سبحانه، وقامت بين يديه، فرحمها، وأمر بكتابة اسمها في علّيّين.

ومنها: خروجه من حصن اللَّه الذي لا ضيعة على من دخله. فيخرج بمعصيته منه إلى حيث يصير نهبًا للّصوص وقُطَّاع الطريق. فما الظنّ بمن خرج من حصن حصين لا تدركه فيه آفة، إلى خِرْبةٍ موحشةٍ

(1)

مأوى اللصوص وقطاع الطريق، فهل يتركون معه شيئًا من متاعه؟

ومنها: أنَّه بالمعصية قد تعرَّض لِمَحْقِ بَرَكتِه في كلِّ شيءٍ من أمر دنياه وآخرته. فإنَّ الطاعة تجلب للعبد بركاتِ كل شيء، والمعصية تمحق عنه كل بركة

(2)

.

وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثرُ من أن يحيط بها العبد علمًا، وآثارُ الطاعة الحسنة أكثرُ من أن يحيط بها علمًا. فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة اللَّه، وشرّ الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته

(3)

. وفي بعض الآثار يقول اللَّه تعالى: "من ذا الذي أطاعني، فشقِيَ بطاعتي؟ ومن ذا الذي عصاني، فسعدَ بمعصيتي؟ "

(4)

السبب الثامن: قِصَر الأمل، وعلمُه بسرعة انتقاله، وأنَّه كمسافر دخلَ قريةَ وهو مُزمِعٌ على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثمَّ سار وتركها، فهو لعلمه بقلَّة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما

(1)

زاد بعدها في "ط": "هي".

(2)

"في كلِّ شيءٍ من أمر. . . " إلى هنا ساقط من "ط".

(3)

"ب": "معصية اللَّه".

(4)

أخرجه الطبري في تفسيره (16673) من حديث وهب بن منبه. (ز).

ص: 596

يُثقِلُه حملُه ويضرّه ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته. فليس للقلب

(1)

أنفعُ من قِصَر الأمل، ولا أضرُّ من التسويف وطول الأمل.

السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس. فإنَّ قوَّة الداير إلى المعاصي إنَّما تنشأ

(2)

من هذه الفضلات، فإنَّها تطلب لها مصرفًا، فيضيق عليها المباحُ، فتتعدَّاه إلى الحرام، ومن أعظم الأشياء ضررًا على العبد بطالتُه وفراغه، فإنَّ النَّفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شَغَلَتْه بما يضرّه ولابدّ.

السبب العاشر، وهو الجامع لهذه الأسباب كلّها، وهو

(3)

: ثبات شجرة الإيمان في القلب. فصبر العبد عن المعاصي إنَّما هو بحسب قوَّة إيمانه، فكلَّما كان إيمانه أقوى كان صبره أتمّ، وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر. فإنَّ من باشر قلبَه الإيمانُ بقيام اللَّه عليه، ورؤيته له، وتحريمه لما حرَّم عليه، وبغضِه له، ومقتِه لفاعله؛ وباشر قلبَه الايمانُ بالثواب والعقاب والجنَّة والنَّار = امتنع منه

(4)

أن لا يعمل بموجَب هذا العلم. ومن ظنَّ أنَّه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الرَّاسخ الثابت

(5)

، فقد غلط. فإذا قوي سراج الإيمان في القلب، وأضاءَت جهاته كلها به، وأشرقَ نورُه في أرجائه؛ سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداير الإيمان، وانقادت له

(1)

"ط": "للعبد"، تحريف.

(2)

"ف، ب": "ينشأ".

(3)

"وهو" ساقط من "ك، ط".

(4)

"ط": "من".

(5)

"ب": "الثابت الراسخ".

ص: 597

طائعةً مذلَّلةً غيرَ متثاقلةٍ ولا كارهة، بل تفرح بدعوته حين يدعوها، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محلّ كرامته. فهو كل وقت يرقب

(1)

داعيه، ويتأهَّب لموافاته. واللَّه يختص برحمته من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.

فصل

والصبر على الطاعة ينشأ من معرفة هذه الأسباب ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة. ومن أقوى أسبابها الإيمان والمحبّه، فكلَّما قوي داير الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.

وههنا مسألة تكلَّم فيها النَّاس، وهي: أيّ الصبرين أفضل: صبرُ العبد عن المعصية، أم صبرُه على الطاعة؟

فطائفة رجَّحت الأوَّل، وقالت: الصبر عن المعصية من وظائف الصدِّيقين، كما قال بعض السلف: "أعمال البرّ يفعلها

(2)

البَرّ والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صدِّيق"

(3)

.

قالوا: ولأنَّ في داعي المعصية أشدّ من داعي ترك الطاعة، فإنَّ داعي المعصية داعٍ

(4)

إلى أمر وجوديّ تشتهيه النفس وتلتذّ به، والداير إلى

(1)

"ب، ك، ط": "يترقب".

(2)

"ب": "يعملها".

(3)

من كلام سهل بن عبد اللَّه التستري، كما في طبقات الصوفية (209)، ومجموع الفتاوى (17/ 24).

(4)

"داعٍ" سقط من "ط".

ص: 598

ترك الطاعة الكسل والبطالة والمهانة، ولا ريبَ أنَّ داعي المعصية أقوى.

قالوا: ولأنَّ العصيان قد اجتمع عليه داير النفس والشيطان

(1)

والهوى، وأسباب الدنيا، وقرناءُ الرجل، وطلب التشبه والمحاكاة، وميل الطبع. وكل واحد من هذه الدواعي يجذب العبد إلى المعصية، ويطلب

(2)

أثره؛ فكيف إذا اجتمعت وتظاهرت على القلب؟ فأيّ صبر أقوى من صبره

(3)

عن إجابتها؟ ولولا انَّ اللَّه يُصبّره لما تأتَّى منه الصبر. وهذا القول -كما ترى- حجَّته في غاية الظهور.

ورجّحت طائفةٌ الصبرَ على الطاعة بناءً منها على أنَّ فعل المأمورات

(4)

أفضل من ترك المنهيّات، واحتجّت على ذلك بنحو من عشرين حُجَّة

(5)

. ولا ريب أن فعل المأمورات إنَّما يتم بالصبر عليها، فإذا كان فعلها أفضل كان الصبر عليها أفضل.

وفصل النزاع في ذلك أن هذا يختلف باختلاف الطاعة والمعصية، فالصبر على الطاعة العظيمة

(6)

الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية

(1)

"ط": "والهوى والشيطان".

(2)

"ط": "صبر".

(3)

"ف": "تجذب. . . تطلب". والأصل غير منقوط.

(4)

"ك، ط": "المأمور".

(5)

ذكر المصنف في مدارج السالكين (2/ 188) أن شيخ الإسلام كان يقول: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، وأن له في ذلك مصنّفًا قرره فيه بنحوِ من عشرين وجهًا. وقد ذكر في عدة الصابرين (68 - 75) عشرين وجهًا، ولكن لم يشر إلى أنّه قول شيخ الإسلام. وهكذا ذكر في الفوائد (119 - 128) قول سهل بن عبد اللَّه التستري:"إن ترك الأمر عند اللَّه أعظم من ارتكاب النهي"، ونصره بثلاثة وعشرين وجهًا.

(6)

"ك، ط": "المعظمة".

ص: 599

الصغيرة الدنيّة، والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة. فصبر

(1)

العبد على الجهاد مثلًا أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر، وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة الضحى

(2)

وصوم يوم تطوعًا ونحوه. فهذا فصل النزاع في المسألة. واللَّه أعلم.

فصل

والصبر على البلاءِ ينشأ

(3)

من أسباب عديدة:

أحدها: شهود جزائها وثوابها.

الثاني: شهود تكفيرها للسّيئات ومحوها لها.

الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنَّها مقدّرة في أمّ الكتاب قبل أن تخلق، فلابد منها؛ فجزعه لا يزيده إلا بلاءً.

الرابع: شهوده حقَّ اللَّه عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها، وهو

(4)

الصبرُ بلا خلاف بين الأمّة، أو الصبر والرضا على أحد القولين. فهو مأمورٌ بأداء حقّ اللَّه وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلابدَّ له منه، وإلا تضاعفت عليه.

الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ

(1)

"ط": "وصبر".

(2)

"ط": "الصبح".

(3)

"ف": "نشأ".

(4)

"وهو": ساقط من "ط".

ص: 600

مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى/ 30].

وهذا

(1)

عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله

(2)

شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في رفع

(3)

تلك المصيبة. قال علي بن أبي طالب: "ما نزل بلاءٌ إلّا بذنب، ولا رُفِع بلاءٌ إلّا بتوبة"

(4)

.

السادس: أن يعلم أنّ اللَّه قد ارتضاها له واختارها وقسَمها، وأنّ العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سندُه ومولاه. فإن لم يُوفِ هذا المقام

(5)

حقَّه، فهو لضعفه؛ فلينزل إلى مقام الصبر عليها. فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدَّي الحق.

السابع: أن يعلم أنّ هذه المصيبة هي دواءٌ نافع ساقه إليه الطبيبُ العليمُ بمصلحته الرحيمُ به، فليصبر على تجرّعه، ولا يتقيّأْه بتسخطه وشكواه، فيذهبَ نفعه باطلًا.

الثامن: أن يعلم أنّ في عُقبى هذا الدواءِ من الشفاءِ والعافية والصحّة وزوال الألم ما لا يحصل

(6)

بدونه. فإذا طالعت نفسه

(1)

"ط": "فهذا".

(2)

"ط": "فشغله".

(3)

"ك، ط": "دفع".

(4)

نقله المصنّف في كتاب الداء والدواء (118) أيضًا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن نقله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (8/ 163) عن عمر بن عبد العزيز.

(5)

"ك، ط": "قدر المقام"، خطأ.

(6)

"ط": "لم يحصل"، خطأ.

ص: 601

كراهية

(1)

هذا الدواءِ ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره. قال اللَّه تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة/ 216]. وقال: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)} [النساء/ 19]. وفي مثل هذا قال القائل:

لعلَ عتَبك محمودٌ عواقبُه

وربّما صحّت الأجسامُ بالعِلَلِ

(2)

التاسع: أن يعلم أنّ المصيبة ما جاءَت لِتُهلِكَه وتقتلَه، وإنّما جاءَت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبيّن حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه

(3)

أم لا؟ فإن ثبت اصطفاه واجتباه، وخلع عليه خِلَع الإكرام، وألبسه ملابس الفضل، وجعل أولياءَه وحزبه خدَمًا له وعونًا له. وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرِدَ، وصُفِع قفاه، وأُقصي، وتضاعفت عليه المصيبة. وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها

(4)

وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأنّ المصيبة في حقّه صارت

(5)

مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقّه صارت نعمًا عديدة. وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلّا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلك الساعة. والمصيبة لا بدّ أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات، وعن الآخر بالحرمان والخذلان.

(1)

"ب، ك، ط": "كراهة".

(2)

"ب": "الأجساد بالعلل". والبيت لأبي الطيب، وقد سبق (367، 508).

(3)

"وحزبه" ساقط من "ب".

(4)

"ف": "بتضاعيفها"، خطأ

(5)

"ب": "صارت في حقه".

ص: 602

ذلك

(1)

تقدير العزيز العليم، وفضل اللَّه يؤتيه من يشاءُ، واللَّه ذو الفضل العظيم.

العاشر: أن يعلم أنّ اللَّه سبحانه يربّي عبده على السرّاءِ والضرّاءِ، والنعمة والبلاءِ؛ فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال، فإنّ العبد على الحقيقة من قام بعبودية اللَّه على اختلاف الأحوال. وأمّا عبد

(2)

السرّاءِ والعافية الذي يعبد اللَّه على حرف، فإن أصابه خير اطمأنّ به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه

(3)

؛ فليس من عَبيده الذين اختارهم لعبوديته. ولا

(4)

ريب أنّ الإيمان الذي يثبت على محكّ

(5)

الابتلاءِ والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأمّا إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبدَ ويبلّغه منازلَ المؤمنين، وإنّما يصحبه إيمانٌ يثبت على البلاء والعافية.

فالابتلاءُ كِيرُ العبد ومحكّ إيمانه: فأمَّا أن يخرج تِبرًا أحمر، وإمَّا أن يخرج زَغَلًا محضًا، وإما أن يخرج فيه مادّتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال به البلاءُ حتَّى يخرج المادّة النحاسية من ذهبه

(6)

، ويبقى ذهبًا خالصًا.

فلو علم العبد أنَّ نعمة اللَّه عليه في البلاء ليست بدون نعمته

(7)

عليه

(1)

"ط": "لأن ذلك".

(2)

"ف": "عند"، تصحيف.

(3)

اقتباس من الآية (11) من سورة الحج.

(4)

"ك، ط": "فلا ريب".

(5)

"ط": "محل"، تحريف.

(6)

"ب": "الذهبية".

(7)

"ك، ط": "نعمة اللَّه".

ص: 603

في العافية لشغلَ قلبَه بشكره ولسانه بقوله

(1)

: "اللّهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". وكيف لا يشكر مَن قيَّضَ له ما يستخرج به

(2)

خَبَثه ونحاسه، ويُصيّره

(3)

تِبرًا خالصًا يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره؟

فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبرَ على البلاءِ، فإنْ قويت أثمرت الرضا والشكر. فنسأل اللَّه أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنّه وكرمه.

(1)

"بقوله" ساقط من "ك، ط". وهو من حديث معاذ بن جبل، أخرجه أحمد (22119)، وأبو داود (1522)، والنسائي (3/ 53)، وفي الكبرى له (2226) و (9937)، وابن خزيمة (751)، وابن حبان (2020)، والحاكم (1010) وغيرهم. وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي. (ز).

(2)

"به" ساقط من "ط"، ومستدرك في "ك".

(3)

"ط": "وصيّره".

ص: 604