المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته - طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصلالمثال الثاني: الزهد

- ‌[قاعدة نافعة في إثبات الصفات]

- ‌فصل

- ‌أصل القولين

- ‌الوجه الثالث

- ‌ النقص في الزهد يكون من أحد وجوه ثلاثة

- ‌الوجه الرَّابع:

- ‌فصلالمثال الثالث(1): التوكّل

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌[أقسام الفناء عند السالكين]

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه العاشر:

- ‌الوجه الثاني عشر:

- ‌الوجه الرَّابع عشر:

- ‌الوجه الخامس عشر:

- ‌فصلالمثال الرَّابع(1): الصبر

- ‌منازل الإيمان كلُّها بين الصبر والشكر

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرَّابع:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌فصلالمثال الخامس: الحزن

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه الثاني عشر:

- ‌الوجه الثالث عشر:

- ‌فصل [في المحبّة]

- ‌المحبّة المشتركة ثلاثة أنواع:

- ‌فصل [حدّ آخر للمحبة]

- ‌الفرق بين الإيثار والأثرة

- ‌فصل [حدّ آخر للمحبة]

- ‌فصل [حدود أخرى للمحبَّة]

- ‌فصل

- ‌ غيرة المحب

- ‌الفصل الأوَّل في حقيقته

- ‌فصل في مراتب المكلَّفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها. وهم ثمانِ عشرةَ طبقةً

- ‌الطبقة الثانية: من عداهم من الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌ثبت المصادر والمراجع

الفصل: ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

وما أحسن ما قال فيهم الإمام أحمد في خطبة كتابه

(1)

"الردّ على الجهمية": "الحمد للَّه الذي جعل في كلِّ زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصّرون بنور اللَّه أهلَ العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوه

(2)

، ومن ضالٍّ جاهلٍ قد هدَوه. فما أحسن أثرهم على النَّاس، وأقبح أثر الناس عليهم! ينفُون عن كتاب اللَّه تأويل الجاهلين، وتحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلِين"

(3)

.

وذكر ابن وضَّاح هذا الكلام عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(4)

.

‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

الذين تأمَنُ

(5)

بهم السبُل، ويستقيم بهم العالم، ويستنصر بهم الضعيف، ويذِلّ بهم الظالم، ويأمن بهم الخائف، وتُقام بهم الحدود، ويُدفع بهم الفساد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقام بهم حكمُ الكتاب والسنَّة، وتُطفأ بهم نيران البدع والضلالة.

وهؤلاء هم

(6)

الذين تُنصَب لهم المنابر من النور عن يمين الرحمن عز وجل يوم القيامة فيكونون عليها. والولاةُ الظلَمة قد صهرهم حرُّ الشمس، وقد بلغ منهم العرَقُ مبلغه، وهم يحملون أثقال مظالمهم

(1)

زاد بعده في "ك، ط": "في".

(2)

"ط": "أجبروه"، تحريف.

(3)

الردّ على الجهمية (85).

(4)

البدع والنهي عنها (3).

(5)

"ط": "تؤمن".

(6)

"هم" ساقط من "ط".

ص: 772

العظيمة على ظهورهم الضعيفة في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سنةٍ، ثمَّ يُرى

(1)

سبيل أحدهم إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النَّار.

قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "المقسطون عند اللَّه

(2)

على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن تبارك وتعالى، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما وَلُوا"

(3)

.

وعنه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أحبَّ الخلق إلى اللَّه وأقربَهم منزلةً منه

(4)

يوم القيامة إمامٌ عادل، وإنَّ أبغض الخلق إلى اللَّه وأبعدَهم منه منزلةً يوم القيامة إمامٌ جائر"

(5)

أو كما قال.

وهم أحد السبعة الأصناف الذين يظلّهم اللَّه في ظل عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه. وكما كان الناس في ظلّ عدلهم في الدنيا، كانوا هم

(6)

في ظل عرش الرحمن يوم القيامة ظلًّا بظلٍّ جزاءً وِفاقًا.

ولو لم يكن من فضلهم وشرفهم إلا أنَّ أهل السماوات والأرض والطيرَ في الهواءِ يصلّون عليهم ويستغفرون لهم ويدعون لهم، وولاة

(1)

قراءة "ف": "ترى".

(2)

"عند اللَّه" ساقط من "ط".

(3)

أخرجه مسلم في الإمارة (1827) عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.

(4)

"ط": "منه منزلة".

(5)

أخرجه أحمد (11525)، والترمذي (1329) والبيهقي في السنن (10/ 88) وغيرهم. قال الترمذي:"حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه". قال السخاوي في تخريج أحاديث العادلين (127): "ومدار طرقه كلها على عطية العوفي، وهو ضعيف". وضعفه أيضًا العراقي، وحسّنه ابن القطان. انظر: نصب الراية (4/ 68). (ز).

(6)

"هم" ساقط من "ك، ط".

ص: 773

الظلم يلعنهم مَن بين السماء

(1)

والأرض حتَّى الدوابّ

(2)

والطير. كما أنَّ معلِّم الناسِ الخيرَ يصلّي عليه اللَّه وملائكته، وكاتمُ العلم والهدى الذي أنزله اللَّه وحاملُ أهله على كتمانه يلعنه اللَّه وملائكته ويلعنه اللاعنون.

فيا لها من منقبة ومرتبة ما أجلّها وأشرفها: أن يكون الوالي والإمام على فراشه، وغيرُه

(3)

يعمل بالخير، وتكتَب الحسناتُ في صحائفه! فهي متزايدة ما دام يعمل بعدله، ولساعة واحدة منه خير من عبادة أعوام من غيره! فأين هذا من صفة

(4)

الغاشّ لرعيته، الظالم لهم، الذي

(5)

قد حرَّم اللَّه عليه الجنَّة وأوجب له النار!

ويكفي في فضله وشرفه أنَّه يكفّ عن اللَّه دعوة المظلوم، كما في الآثار:"أيها الملِك المسلَّط المغرور، إنِّي لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لتكفّ عنِّي دعوةَ المظلوم، فإنِّي لا أحجبُها ولو كانت من كافر"

(6)

. فأين من هو نائم، وأعينُ العباد ساهرةٌ تدعو اللَّه له؛ وآخرُ أعينُهم ساهرةٌ تدعو عليه؟

(1)

"ك، ط": "السماوات".

(2)

"ف": "الذباب"، تحريف.

(3)

"غيره" ساقط من "ط".

(4)

"صفة" ساقط من "ط".

(5)

"الذي" ساقط من "ك، ط".

(6)

أخرجه ابن حبان (361)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 222) من حديث أبي ذر مطولًا. وفيه إبراهيم بن هشام الغساني. قال أبو حاتم: كذاب. الجرح والتعديل (2/ 143). وجاء من طرق أخرى عن أبي ذر مختصرًا، وكلها لا تثبت. راجع تحقيق المسند (35/ 432 - 433)، والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (2/ 79 - 81). (ز).

ص: 774

الطبقة السادسة: المجاهدون في سبيل اللَّه، وهم جند اللَّه الذين يقيم بهم دينه

(1)

، ويدفع بهم بأس أعدائه، ويحفظ بهم بيضة الإسلام، ويحمي بهم حوزة الدين. وهم الذين يقاتلون أعداءَ اللَّه ليكون الدين كله للَّه، وتكون كلمة اللَّه هي العليا، قد بذلوا أنفسهم في محبَّةِ اللَّه ونصرِ دينه وإعلاء كلمته ودفع أعدائه. وهم شركاءُ لكل من يحمونه بسيوفهم، في أعمالهم التي يعلَمونها، وإن تناءتْ ديارهم

(2)

، ولهم مثل أجور مَن عَبَد اللَّه

(3)

بسبب جهادهم وفتوحهم، فإنَّهم كانوا هم السبب فيه. والشارع قد نزَّل المتسبّبَ منزلةَ الفاعل التامّ في الأجر والوزر، ولهذا كان الداعي إلى الهدى والداعي إلى الضلال لكلّ منهما بتسبّبه مثلُ أجر من اتَّبعه

(4)

.

وقد تظافرت

(5)

آيات الكتاب وتواترت نصوص السنَّة على الترغيب في الجهاد، والحضِّ عليه، ومدحِ أهله، والإخبار عمَّا لهم عند ربِّهم من أنواع الكرامات والعطايا الجزيلات. ويكفي في ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَي تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)} [الصف/ 10] فتشوفت

(6)

النفوس إلى هذه التجارة الرابحة التي الدالُّ عليها ربُّ العالمين العليم الحكيم، فقال:{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} . فكأنَّ النفوس ضنَّت بحياتها وبقائها، فقال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ

(1)

"ف": "يقيم بهم اللَّه دينه"، خلاف الأصل.

(2)

"ط": "باتوا في ديارهم"، تحريف.

(3)

"ب": "أجورهم من عند اللَّه"، تحريف.

(4)

"ك، ط": "تبعه".

(5)

"ك، ط": "تظاهرت".

(6)

ضبطت في الأصل بالفاء، وكذا في "ب". وفي "ف، ك، ط": "فتشوّقت" بالقاف.

ص: 775

تَعْلَمُونَ (11)} يعني أنَّ الجهاد خير لكم من قعودكم طلبًا

(1)

للحياة والسلامة. فكأنَّها

(2)

قالت: فما لنا في هذا

(3)

الجهاد من الحظّ؟ فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} مع المغفرة {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . فكأنّها

(4)

قالت: هذا في الآخرة فماذا لنا

(5)

في الدنيا؟ فقال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .

فلله ما أحلى هذه الألفاظ وما ألصقها بالقلوب وما أعظمها جذبًا لها وتسييرًا إلى ربِّها، وما ألطف موقعها من قلب كلّ محبّ! وما أعظم غنى القلب وأطيب عيشَه

(6)

حين تباشره معانيها! فنسأل اللَّه من فضله إنَّه جوادٌ كريم.

ومن هذا قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة/ 19 - 22]. فأخبر سبحانه أنَّه لا يستوي عنده عُمَّار المسجد الحرام -وهم عُمَّاره بالاعتكاف والطواف والصلاة، هذه هي عمارة مساجده المذكورة في القرآن- وأهلُ سقاية الحاج، لا يستوون

(1)

"طلبًا" ساقط من "ط".

(2)

"ف": "وكأنها"، قراءة محتملة.

(3)

"هذا" ساقط من "ط".

(4)

"ف": "وكأنها"، قراءة محتملة.

(5)

"ب، ك، ط": "فما لنا".

(6)

"ف": "عيشته"، خلاف الأصل.

ص: 776

هم وأهل الجهاد في سبيله

(1)

. وأخبر أنَّ المؤمنين المجاهدين أعظم درجة عنده وأنَّهم هم الفائزون، وأنَّهم أهل البشارة بالرحمة والرضوان والجنَّات. فنفي التسوية بين المجاهدين وعمَّار المسجد الحرام بأنواع العبادة

(2)

، مع ثنائه على عُمَّاره بقوله:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة/ 18]. فهؤلاء هم عمَّار المساجد، ومع هذا فأهل الجهاد أرفع درجة عند اللَّه منهم.

وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)} [النساء/ 95 - 96]. فنفى سبحانه التسويةَ بين المؤمنين القاعدين عن الجهاد وبين المجاهدين، ثمَّ أخبر عن تفضيل المجاهدين على القاعدين درجة، ثمَّ أخبر عن تفضيلهم عليهم درجات.

وقد أشكل فهم هذه الآية على طائفة من النَّاس، من جهة أنَّ القاعدين الذين فُضِّل عليهم المجاهدون بدرجة إن كانوا هم أولي الضرر، والقاعدون الذين فُضِّل عليهم المجاهدون

(3)

بدرجات هم غير أُولي الضرر؛ فيكون

(4)

المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقًا، وعلى

(1)

"ك، ط": "في سبيل اللَّه".

(2)

"ط": "مع أنواع العبادة".

(3)

"بدرجة إن كانوا. . ." إلى هنا ساقط من "ب".

(4)

سياق الكلام في "ط": "من جهة أن القاعدين الذين فضل عليهم المجاهدون =

ص: 777

هذا فما وجه استثناء أولي الضرر من القاعدين، وهم لا يستوون هم

(1)

والمجاهدون أصلًا؟ فيكون حكم المستثنى والمستثنى منه واحدًا. فهذا وجه الإشكال، ونحن نذكر ما قاله هؤلاء في الآية، ثمَّ نذكر

(2)

ما يزيل الإشكال بحمد اللَّه.

فاختلف القرَّاء في إعراب "غير"، فقرئ رفعًا ونصبًا، وهما في السبعة

(3)

. وقرئ بالجرّ في غير السبعة، وهي قراءة أبي حيوة

(4)

.

فأمَّا قراءة النصب فعلى الاستثناء؛ لأنّ "غيرًا" تعرب في الاستثناء إعرابَ الاسم الواقع بعد إلا، وهو النصب هنا

(5)

، هذا هو الصحيح. وقالت طائفة: إعرابها نصب على الحال، أي: لا يستوي القاعدون غيرَ مضرورين، أي: لا يستوون في حال صحَّتهم هم والمجاهدون

(6)

.

= بدرجات إن كانوا هم القاعدين الذين فضل عليهم أولو الضرر فيكون. . . ".

(1)

"هم" ساقط من "ك، ط".

(2)

"ما قاله هؤلاء. . . " إلى هنا ساقط من "ط".

(3)

قرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب. والباقون بالرفع. انظر: الاقناع (631).

(4)

إعراب القرآن للنحاس (1/ 483). وأبو حيوة: شريح بن يزيد الحضرمي الحمصي المؤذن المقرئ. توفي سنة 203 هـ. تهذيب التهذيب (4/ 331). وقال الزجاج: "والجرّ وجه جيّد إلّا أنّ أهل الأمصار لم يقرأوا به وإن كان وجهًا، لأنّ القراءة سنة متبعة". معاني القرآن (93/ 2). وذكر ابن عطية أنها قراءة الأعمش أيضًا. المحرّر الوجيز (2/ 97).

(5)

"هنا" ساقط من "ط". والنصب على الاستثناء قول الأخفش. انظر: معاني القرآن له (1/ 245).

(6)

انظر: معاني الفرّاء (1/ 283)، ومعاني الزجّاج (2/ 93)، وقد ذكرا جواز الوجهين.

ص: 778

والاستثناء أصحّ، فإنَّ "غيرًا"

(1)

لا تكاد تقع حالًا في كلامهم إلا مضافةً إلى نكرة، كقوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة/ 173]، الأنعام/ 145، النحل/ 115]، وقوله:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة/ 1]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"مرحبًا بالوفد غيرَ خزايا ولا ندامى"

(2)

. فإن أضيفت إلى معرفة كانت تابعةً لما قبلها، كقوله تعالى:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة/ 7]. ولو قلت: "مرحبًا بالوفد غيرِ الخزايا ولا الندامى". لجررتَ "غيرًا"

(3)

. هذا هو المعروف من كلامهم. والكلام في عدم تعرّف "غير" بالإضافة وحسنِ وقوعها إذ ذاك حالًا، له مقام آخر.

وأمَّا الرفع فعلى النعت للقاعدين، هذا هو الصحيح. وقال أبو إسحاق وغيره: هو خبر مبتدأ محذوف، تقديرُه: الذين هم غير أولي الضرر

(4)

. والذي حمله على هذا ظنُّه أنَّ غيرًا لا تقبل التعريف بالإضافة، فلا تجري صفةً للمعرفة. وليس مع من ادَّعى ذلك حجَّةٌ يعتمد عليها سوى قولهم

(5)

: إنَّ غيرًا توغَّلت في الإبهام فلا تتعرَّف بما تضاف إليه. وجواب هذا: أنَّها إذا دخلت بين متقابلين لم يكن فيها إبهام

(1)

"ط": "غير".

(2)

من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه البخاري في كتاب الايمان (53) وغيره. ومسلم في الايمان (17).

(3)

"ط": "غير".

(4)

لا أدري من أين نقل المؤلف قول أبي إسحاق هذا، فإنه لم يذهب إليه في كتابه، بل أعرب على النعت، وفسّر معنى الآية هذا التفسير، وهذا أحد الوجهين عنده في الرفع والوجه الثاني هو الاستثناء. انظر: معاني القرآن له (2/ 92).

(5)

"قولهم" ساقط من "ط".

ص: 779

لتعيينها ما تضاف إليه

(1)

.

وأمَّا قراءَة الجرّ ففيها وجهان أيضًا، أحدهما -وهو الصحيح- أنَّه نعت للمؤمنين. والثاني -وهو قول المبرّد- أنَّه بدل منه، بناءً على أنَّه نكرة فلا تُنعت به المعرفة

(2)

.

وعلى الأقوال كلّها فهو مُفهِم

(3)

معني الاستثناءِ، وأنَّ نفيَ التسوية غيرُ مسلَّط على ما أضيف إليه "غير"

(4)

. وقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً}

(5)

هو مبيّن لمعني نفي المساواة. قالوا: والمعنى فضَّل اللَّه المجاهدين على القاعدين

(6)

من أولي الضرر درجةً واحدةً لامتيازه عنه

(7)

بالجهاد بنفسه وماله. ثمَّ أخبر سبحانه أنَّ الفريقين كليهما موعود بالحسنى فقال: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي: المجاهد والقاعد المضرور، لاشتراكهم

(8)

في الإيمان.

(1)

انظر: بدائع الفوائد (432).

(2)

"البدليّةِ" أحد الوجوه التي ذكرها المبرّد في قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة/ 7]. وذكر منها أيضًا أنها نعت "للذين، لأنّها مضافة إلى معرفة" المقتضب (4/ 423). هذا مع قوله في ص (288) بأن غيرًا لا تتعرّف بالإضافة. وانظر في الردّ على كون "غير" بدلًا: بدائع الفوائد (429).

(3)

"ط": "مفهوم"، تحريف.

(4)

"ط": "غيره"، خطأ.

(5)

"بأموالهم وأنفسهم" ساقط من الأصل وغيره.

(6)

كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "المجاهد على القاعد". غيّره لأجل الضمائر الآتية المفردة.

(7)

أي: لامتياز الفريق الأول عن الفريق الثاني.

(8)

كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "لاشتراكهما".

ص: 780

قالوا: وفي هذا دليل على تفضيل الغنيّ المنفِق على الفقير، لأنَّ اللَّه سبحانه أخبر أنَّ المجاهد بماله ونفسه أفضل من القاعد، وقدَّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس. وأمَّا الفقير فنفى عنه الحرَجَ بقوله:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة/ 92] فأين مقام من حَكمَ له بالتفضيل إلى مقام من نفى عنه الحرَج!

قالوا: فهذا حكم القاعد من أولي الضرر والمجاهد. وأمَّا القاعد من غير أولي الضرر فقال تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء/ 95 - 96].

وقوله {دَرَجَاتٍ} قيل: هو نصب على البدل من قوله {أَجْرًا عَظِيمًا}

(1)

وقيل: تأكيد له وإن كان بغير لفظه؛ لأنَّه هو في المعنى

(2)

. قال قتادة: كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة

(3)

.

وقال ابن زيد: الدرجات التي فُضِّل بها المجاهدُ على القاعد سبع، وهي التي ذكرها اللَّه تعالى في براءة إذ يقول سبحانه:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فهذه خمس. ثمَّ قال {وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة/ 120 - 121]،

(1)

من قوله تعالى: {وَكاَنَ اللَّهُ غَفُورا رًحِيمًا} إلى هنا سقط من "ف".

(2)

انظر: معاني الزجاج (2/ 92).

(3)

تفسير الطبري (9/ 97).

ص: 781

فهاتان اثنتان

(1)

.

وقيل: الدرجات سبعون درجة، ما بين الدرجتين حُضْرُ الفرَس الجواد المضمَّر سبعين سنة

(2)

.

والصحيح أنَّ الدرجات هي المذكورة في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري

(3)

في صحيحه عنه

(4)

عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "من آمن باللَّه ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان فإنَّ حقًّا على اللَّه أن يُدخله الجنَّة، هاجر في سبيل اللَّه أو جلس في أرضه التي ولد فيها" قالوا: يا رسول اللَّه، أفلا نخبر الناس بذلك؟ قال:"إنَّ في الجنة مائة درجة أعدَّها اللَّهُ للمجاهدين في سبيله، كلّ درجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم اللَّه فاسألوه الفردوس فإنَّه أوسط الجنَّة وأعلى الجنَّة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفَجَّرُ أنهار الجنة".

قالوا: وجعل سبحانه التفضيل الأوَّل بدرجةٍ فقط، وجعله ههنا بدرجاتٍ ومغفرة ورحمة، وهذا يدلّ على أنَّه تفضيل

(5)

على غير أولي الضرر. فهذا تقرير هذا القول وإيضاحه.

ولكن يبقى

(6)

أن يقال: إذا كان المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقًا لزم أن لا يستوي مجاهد وقاعد مطلقًا، فلا يبقى في تقييد

(1)

تفسير الطبري (9/ 98). وحُضْر الفرس: عَدْوه.

(2)

المصدر السابق (9/ 98).

(3)

في كتاب الجهاد (2790).

(4)

"عنه" ساقط من "ك، ط".

(5)

"ك، ط": "يفضل".

(6)

"ك، ط": "بقي".

ص: 782

القاعدين بكونهم من غير أولي الضرر فائدة، فإنَّه لا يستوي المجاهدون والقاعدن من أولي الضرر أيضًا.

وأيضًا فإنَّ القاعدين المذكورين في الآية الذين وقع التفضيل عليهم هم غير أولي الضرر، لا القاعدون الذين هم أولو الضرر. فإنَّهم لم يذكر حكمهم في الآية، بل استثناهم، وبيَّن أنَّ التفضيل على غيرهم. فاللام في "القاعدين" للعهد، والمعهود هم غير أولي الضرر لا المضرورون.

وأيضًا فالقاعد من المجاهدين لضرورة تمنعه من الجهاد له مثل أجر المجاهد، كما ثبت

(1)

عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إذا مرض العبدُ أو سافر كُتِبَ له من العمل ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا"

(2)

، وقال:"إنَّ بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا وهم معكم" قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة، حَبَسهم العذرُ"

(3)

.

وعلى هذا فالصواب أن يقال: الآية دلَّت على أنَّ القاعدين من غير أولي الضرر عن الجهاد

(4)

لا يستوون هم والمجاهدون، وسكتت عن القاعدين من أولي الضرر، فلم تدل على

(5)

حكمهم بطريق منطوقها. ولا يدلّ مفهومها على مساواتهم للمجاهدين، بل هذا النوع منقسم إلى

(1)

زاد في "ب": "في الصحيح".

(2)

أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (2996) عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الجهاد (4423)، ومسلم في الإمارة (1911) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

(4)

"عن الجهاد" مقدّم في "ط" على "من غير أولي الضرر".

(5)

"القاعدين من. . . " إلى هنا ساقط من "ك، ط".

ص: 783

معذور من أهل الجهاد غلَبَه عذرُه وأقعده عنه، ونيته جازمةٌ لم يتخلّف عنها مقدورُها، وإنَّما أقعده العجزُ، فهذا الذي تقتضيه أدلَّة الشرع أنَّ له مثل أجر المجاهد. وهذا القسم لا يتناوله الحكم بنفي التسوية، وهذا لأنَّ قاعدة الشريعة: أنَّ العزم التامّ إذا اقترن به ما يمكن من القول

(1)

أو مقدّمات الفعل نزِّل صاحبُه في الثواب والعقاب منزلةَ الفاعل التامّ، كما دلَّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال:"إنَّه كان حريصًا على قتل صاحبه"

(2)

.

وفي الترمذي ومسند الإمام أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه اللَّه مالًا وعلمًا، فهو يتّقي في ماله ربّه، ويصِلُ به رحمه، ويعلم للَّه فيه حقًّا؛ فهذا بأحسن المنازل عند اللَّه

(3)

. وعبدٌ رزقه اللَّه علمًا ولم يرزقه مالًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ فيه بعمل فلان؛ فهو بنيّته، وهما في الأجر سواءٌ، وعبدٌ رزقه اللَّه مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو لا يتّقي في ماله ربّه، ولا يصل به رحمه، ولا يعلم للَّه فيه حقًّا؛ فهذا بأسوأ المنازل عند اللَّه. وعبدٌ لم يرزقه اللَّه مالًا ولا علمًا فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعملتُ بعمل فلان، فهو بنيّته، وهما في الوزر سواء"

(4)

. فأخبر - صلي اللَّه عليه وسلم - أنَّ وزر الفاعل والناوي

(1)

"ط": "الفعل".

(2)

أخرجه البخاري في الإيمان (31) وغيره، ومسلم في الفتن (2888) عن أبي بكرة رضي الله عنه.

(3)

"عند اللَّه" ساقط من "ب، ك، ط".

(4)

أخرجه أحمد (18031)، والترمذي (2325) وقال:"هذا حديث حسن صحيح". وانظر: تحقيق المسند (29/ 562 - 563). (ز).

ص: 784

الذي ليس مقدوره إلا بقوله دون فعله سواءٌ؛ لأنَّه أتي بالنية ومقدوره التامّ. وكذلك أجر الفاعل والناوي الذي اقترن قوله بنيته

(1)

. وكذلك المقتول الذي سلَّ السيفَ، وإرادتُه

(2)

قتلُ أخيه المسلم، فقُتِل، نُزِّل منزلةَ القاتل لنيّته التامَّة التي اقترن بها مقدورُها من السعي والحركة.

ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "من دلَّ على خير فله مثلُ أجر فاعله"

(3)

فإنَّه بدلالته ونيّته نزل منزلة الفاعل. ومثله من دعا إلى هدًى فله مثلُ أجور من اتَّبعه، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثلُ آثام من اتَّبعه

(4)

؛ لأجل نيَّته واقتران مقدورها بها من الدعوة.

ومثله إذا جاء المصلِّي إلى المسجد ليصلِّي جماعةً، فأدركهم وقد صلَّوا، فصلَّى وحده، كُتِبَ له مثلُ أجر صلاة الجماعة بنيّته وسعيه، كما قد جاءَ مصرَّحًا به في حديث مروي

(5)

.

ومثل هذا مَن كان له وردٌ يصليه من الليل فنام، ومن نيَّته أن يقوم إليه فغلبه عنه

(6)

نومٌ، كُتِبَ له أجرُ وردِه، وكان نومُه عليه صدقةً

(7)

.

(1)

بعدها في "ك، ط": "وكذلك المقتول الذي اقترن قوله بنيته" خلط وتكرار.

(2)

هذه قراءة "ف، ب". وفي "ك، ط": "أراد به"، والأصل غير منقوط.

(3)

أخرجه مسلم في الإمارة (1893) عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.

(4)

كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي سيأتي في ص (899).

(5)

أخرجه أحمد (8947)، وأبو داود (564)، والنسائي (2/ 111)، والحاكم (1/ 327)(754) من حديث أبي هريرة، والحديث صححه الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي. (ز).

(6)

"ك، ط": "فغلب عينه".

(7)

نص الحديث في صحيح مسلم (747) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ص: 785

ومثله المريض والمسافر إذا كان له عمل يعمله، فشغل عنه بالمرض والسفر، كتب له مثلُ يمله وهو صحيح مقيم

(1)

. ومثله: "من سأل اللَّه الشهادة بصدقٍ بلَّغه اللَّه منازلَ الشهداء، ولو مات على فراشه"

(2)

. ونظائر ذلك كثيرة.

والقسم الثاني معذور ليس من نيته الجهاد، ولا هو عازمٌ عليه عزمًا تامًّا. فهذا لا يستوي هو والمجاهد في سبيل اللَّه، بل قد فضّل اللَّه المجاهد

(3)

عليه وإن كان معذورًا، لأنَّه

(4)

لا نية له تُلحِقه بالفاعل التامّ، كنية أصحاب القسم الأوَّل. وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان بن مظعون

(5)

: "إنَّ اللَّه قد أوقع أجرَه على قدر نيّته"

(6)

.

فلمَّا كان القسم المعذور فيه هذا التفصيل لم يجز أن يساوي بالمجاهد مطلقًا، ولا ينفي عنه المساواة مطلقًا. ودلالةُ المفهوم لا عمومَ لها، فإنَّ العموم إنَّما هو من أحكام الصيغ العامة وعوارض

(1)

نص الحديث في صحيح البخاري (2996) عن أبي موسي الأشعري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في الإمارة (1909) عن سهل بن حنيف رضي الله عنه.

(3)

"ك، ط": "المجاهدين".

(4)

"لأنه" سقط من "ف".

(5)

كذا وقع في الأصل وغيره، وهو سهو، فإنها قصة عبد اللَّه بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه. انظر: المصادر المذكورة في الحاشية الآتية.

(6)

أخرجه مالك برواية الليثي (935 - 996)، وأبو داود (3111)، والنسائي (4/ 13 - 14) وأحمد (23753)، وابن حبان (3189)، والحاكم (1/ 503)(1300)، من حديث جابر بن عتيك. والحديث صححه ابن حبان والحاكم ولم يتعقبه الذهبي. (ز).

ص: 786

الألفاظ. والدليلُ الموجِب للقول بالمفهوم لا يدلّ على أنَّ له عمومًا يجب اعتباره، فإنَّ أدلَّة المفهوم ترجع إلى شيئين: أحدهما التخصيص، والآخر التعليل.

فأمَّا التخصيص فهو أنَّ تخصيص الحكم بالمذكور يقتضي نفيَ الحكم عمَّا عداه وإلا بطلت فائدة التخصيص. وهذا لا يقتضي العمومَ وسلبَ حكمِ المنطوق عن جميع صور المفهوم، لأنَّ فائدة التخصيص قد تحصل بانقسام صور المفهوم إلى ما يسلب الحكمَ عن بعضها، ويثبته لبعضها، وبثبوت تفصيل

(1)

فيه فيثبت له حكم المنطوق على وجه دون وجه، إمَّا بشرط لا تجب مراعاته في المنطوق، وإمَّا في وقت دون وقت. بخلاف حكم المنطوق فإنَّه ثابت أبدًا؛ ونحو ذلك من فوائد التخصيص. وإذا كانت فائدة التخصيص حاصلة بالتفصيل والانقسام، فدعوى لزوم العموم من التخصيص دعوى باطلة، فإثباته مجرد التحكم.

وأمَّا التعليل فإنَّهم قالوا: ترتيب الحكم على هذا الوصف المناسب له يقتضي نفيَ الحكم عمَّا عداه، وإلا لم يكن الوصف المذكور علَّة. وهذا أيضًا لا يستلزم عموم النفي عن كلِّ ما عداه، وإنَّما غايته اقتضاؤه نفيَ الحكم المترتّب

(2)

على ذلك الوصف عن الصور المنتفي

(3)

عنها الوصفُ. وأمَّا نفيُ الحكم جملةً فلا، لجواز

(4)

ثبوته بوصف آخر وعلَّة

(1)

"ف": "وبثبوت يفصل". "ب": "وثبوت تفضيل". "ك، ط": "ثبوت تفصيل" بحذف الواو.

(2)

"ك، ط": "المرتب".

(3)

"ك، ط": "المنفي".

(4)

"ب، ك، ط": "فلا يجوز"، تحريف جعل الكلام لا معني له.

ص: 787

أخرى، فإنَّ الحكم الواحد بالنوع يجوز تعليله بعلل مختلفة. وفي الواحد بالعين كلام ليس هذا موضعه. ومثال هذا ما نحن فيه فإنَّ

(1)

قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء/ 95] لا يدلّ على مساواة المضرورين للمجاهدين

(2)

مطلقًا من حيث الضرورة، بل إن ثبتت المساواة فإنَّها معلَّلة بوصف آخر، وهي النية الجازمة والعزم التامّ؛ والضرر المانع من الجهاد في تلك

(3)

الحال لا يكون مانعًا من المساواة في الأجر، واللَّه أعلم.

والمقصود الكلام على طبقات الناس في الآخرة. وأمَّا النصوص والأدلّة الدّالّة على فضل الجهاد وأهله، فأكثر من أن تُذكرَ هنا. ولعلَّها

(4)

أن تفرد في كتاب على هذا النمط إن شاء اللَّه.

فهذه الدرجات الثلاث هي درجات السبق، أعني درجة العلم والعدل والجهاد. وبها سبق الصحابة رضي الله عنهم، وأدركوا مَن قبلهم، وفاتوا مَن بعدهم، واستولوا على الأمد البعيد، وحازوا قصَبات العلى. وهم

(5)

كانوا السبب في بلوغ

(6)

الإسلام إلينا وفي تعليم كلّ خير وهدى وسبب تُنال به السعادة والنجاة. وهم أعدل الأمّة فيما وَلُوه، وأعظمُها جهادًا في سبيل اللَّه. والأمة في آثار علمهم وعدلهم وجهادهم إلى يوم القيامة،

(1)

"ط": "لأن".

(2)

"ك، ط": "المجاهدين".

(3)

"ط": "ذلك".

(4)

كتب في الأصل أولًا بعد "ولعلها": "تزيد على المأتين"، ثم ضرب عليها.

(5)

أسقطها ناسخ "ف" لظنّه أنّها مضروب عليها، وذلك محتمل.

(6)

"ك، ط": "وصول".

ص: 788