المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فليست الآية من الخوف المأمور به في شيءٍ.   ‌ ‌الوجه الخامس: أنَّ - طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصلالمثال الثاني: الزهد

- ‌[قاعدة نافعة في إثبات الصفات]

- ‌فصل

- ‌أصل القولين

- ‌الوجه الثالث

- ‌ النقص في الزهد يكون من أحد وجوه ثلاثة

- ‌الوجه الرَّابع:

- ‌فصلالمثال الثالث(1): التوكّل

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌[أقسام الفناء عند السالكين]

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه العاشر:

- ‌الوجه الثاني عشر:

- ‌الوجه الرَّابع عشر:

- ‌الوجه الخامس عشر:

- ‌فصلالمثال الرَّابع(1): الصبر

- ‌منازل الإيمان كلُّها بين الصبر والشكر

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرَّابع:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌فصلالمثال الخامس: الحزن

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه الثاني عشر:

- ‌الوجه الثالث عشر:

- ‌فصل [في المحبّة]

- ‌المحبّة المشتركة ثلاثة أنواع:

- ‌فصل [حدّ آخر للمحبة]

- ‌الفرق بين الإيثار والأثرة

- ‌فصل [حدّ آخر للمحبة]

- ‌فصل [حدود أخرى للمحبَّة]

- ‌فصل

- ‌ غيرة المحب

- ‌الفصل الأوَّل في حقيقته

- ‌فصل في مراتب المكلَّفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها. وهم ثمانِ عشرةَ طبقةً

- ‌الطبقة الثانية: من عداهم من الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌ثبت المصادر والمراجع

الفصل: فليست الآية من الخوف المأمور به في شيءٍ.   ‌ ‌الوجه الخامس: أنَّ

فليست الآية من الخوف المأمور به في شيءٍ.

‌الوجه الخامس:

أنَّ الخوف يتعلَّق بالأفعال، وأمَّا الحبّ فإنَّه يتعلَّق بالذات والصفات. ولهذا يزول الخوف في الجنَّة، وأمَّا الحبّ فيزداد. ولمَّا كان الحبّ يتعلق بالذات كان من أسمائه سبحانه:"الودود". قال البخاري في صحيحه: "الحبيب"

(1)

. وأمَّا الخوف فإنَّ متعلّقه أفعال الربّ سبحانه، ولا يخرج عن كون سببه جناية العبد، وإن كانت جنايتُه من قدر اللَّه. ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"لا يرجونَّ عبدٌ إلا ربَّه، ولا يخافنَّ عبد إلا ذنبه"

(2)

. فمتعلَّق الخوف ذنبُ العبد وعاقبته، وهي مفعولات للربّ، فليس الخوف عائدًا إلى نفس الذات. والفرق بينه وبين الحبّ أنَّ الحبَّ سببه الكمال، وذاته تعالى لها الكمال المطلق، وهو متعلّق الحبّ التام. وأمَّا الخوف فسببه توقّع المكروه، وهذا إنَّما يكون في الأفعال والمفعولات.

وبهذا يعلم بطلان قول من زعم أنَّه سبحانه يُخاف لا لعلَّة ولا لسبب، بل كما يُخاف السيلُ الذي لا يدري العبد من أين يأتيه. وهذا بناءٌ من هؤلاءِ على نفي محبّته سبحانه وحكمته، وأنَّه ليس إلا محض المشيئة والإرادة التي تُرجح مِثْلًا على مِثْلٍ بلا مرجِّح،

(1)

يعني تفسير "الودود": نقله البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما. انظر: كتاب التفسير، سورة البروج (ص). ووصله الطبري في تفسيره (30/ 138)، وسنده حسن. (ز).

(2)

نقله المصنّف ضمن كلام طويل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في مفتاح دار السعادة (1/ 509). وقد سُئل شيخ الإسلام عن معنى قوله هذا. وجوابه في مجموع الفتاوى (8/ 161 - 180).

ص: 619

ولا يراعى فيها حكمة ولا مصلحة. وهؤلاء عندهم الخوف يتعلَّق بنفس الذات من غير نظر إلى فعل العبد وأنَّه سبب المخافة، إذ ليس عندهم سبب ولا حكمة، بل إرادة محضة يفعل بها ما يشاء من تنعيم وتعذيب. وعند هؤلاء فالخوف

(1)

لازم للعبد في كلِّ حال، أحسنَ أم أساءَ، وليس لأفعالهم

(2)

تأثير في الخوف. وهذا من قلَّة نصيبهم من المعرفة باللَّه وكماله وحكمته. وأين هذا من قول أمير المؤمنين عليّ: "لا يرجونّ عبد إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبَه"؟ فجعل الرجاءَ متعلِّقًا بالربِّ سبحانه وتعالى، لأنَّ رحمته من لوازم ذاته، وهي سبقت غضبَه. وأمَّا الخوف فمتعلق بالذنب، فهو سبب المخافة، حتَّى لو قُدِّرَ عدمُ الذنب بالكليّة لم تكن مخافة.

[مسألة]

فإن قيل: فما وجه خوفِ الملائكة، وهم معصومون من الذنوب التي هي أسباب المخافة. وشدَّة خوف النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع علمه بأنَّ اللَّه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وأنَّه أقرب الخلق إلى اللَّه وسيلة

(3)

؟

قبل: عن هذا أربعة أجوبة

(4)

:

الجواب الأوَّل: أنَّ هذا الخوف على حسب القرب من اللَّه والمنزلة عنده. وكلَّما كان العبد أقرب إلى اللَّه كان خوفه منه أشدّ؛ لأنَّه يطالَب

(1)

"ب": "الخوف".

(2)

كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "لأفعال"، فصححت في القطرية:"لأفعاله".

(3)

"وسيلة" ساقط من "ك، ط".

(4)

وسترى أنّه لم يجب إلّا ثلاثة أجوبة، وسقط الثاني لسهو في الترقيم كما سيأتي (625).

ص: 620

بما لا يطالَب به غيره، ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما لا يجب على غيره. ونظير هذا في الشاهد

(1)

أنَّ الماثلَ بين يدي أحد الملوك المشاهِدَ له أشدُّ خوفًا منه من البعيد عنه، بحسب قربه منه ومنزلته عنده ومعرفته به وبحقوقه، وأنَّه يطالَب من حقوق الخدمة وآدابها

(2)

بما لا يطالَب به غيرُه، فهو أحقّ بالخوف من البعيد.

ومَن تصوَّر هذا حقّ تصوُّره فَهِمَ قولَه صلى الله عليه وسلم: "إنِّي أعلمكم باللَّه وأشدكم له خشية"

(3)

، وفهمَ قولَه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره من حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إنَّ اللَّه تعالى لو عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم. ولو رحمهم كانت رحمتُه لهم خيرًا من أعمالهم"

(4)

.

وليس المراد أنَّه

(5)

لو عذبهم لتصرف في ملكه، والمتصرف في ملكه غير ظالم، كما يظنّه كثير من النَّاس؛ فإنَّ هذا لا يتضمَّن

(6)

مدحًا، والحديث إنَّما سيق للمدح وبيان عِظَم حقّ اللَّه على عباده، وأنَّه لو عذَّبهم لعذّبهم بحقّه عليهم، ولم يكن تعذيبه ظلمًا لهم

(7)

بغير استحقاق، فإنَّ حقَّه سبحانه عليهم أضعافُ أضعافِ ما أتوا. ولهذا قال

(1)

"ط": "المشاهد"، تحريف.

(2)

نقطة الباء واضحة في الأصل، ولكن قرأها ناسخ "ف":"أدائها". وكذا في "ب، ك، ط".

(3)

تقدّم تخريجه قريبًا.

(4)

تقدم تخريجه في ص (164).

(5)

في "ف" مكان "أنّه": "به"، خلاف الأصل. وكذا في "ب، ك، ط".

(6)

"ط": "هذا يتضمن". وكذا في "ك"، واستدرك بعضهم في الحاشية.

(7)

"وبيان عظم حق اللَّه. . ." إلى هنا ساقط من "ط".

ص: 621

بعده: "ولو رحمهم كانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالهم" يعني أنَّ رحمته لهم ليست ثمنًا لأعمالهم، ولا تبلغ أعمالهم رحمته، فرحمته لهم ليست

(1)

على قدر أعمالهم، إذ أعمالهم لا تستقلّ باقتضاءِ الرحمة، وحقوق عبوديته وشكره التي يستحقّها عليهم لم يقوموا بها. فلو عذَّبهم -والحالة هذه- لكان تعذيبًا لحقّه، وهو غيرُ ظالم لهم فيه، ولا سيّما فإنَّ أعمالهم لا توازي القليل من نِعَمه عليهم، فتبقى نِعمُه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم، فإذا عذَّبهم على ترك شكرهم وأداءِ حقّه الذي ينبغي له سبحانه، عذّبهم بحقّه

(2)

ولم يكن ظالمًا لهم.

فإن قيل: فهم إذا فعلوا مقدورهم من شكره وعبوديته لم يكن ما عداه مما ينبغي له سبحانه مقدورًا لهم، فكيف يحسن العذاب عليه؟

قيل: الجواب من وجهين:

أحدهما: أنَّ المقدور للعبد لا يأتي به كلّه، بل لا بدَّ من فتور وإعراض وغفلة وتوانٍ، وأيضًا ففي نفس قيامه بالعبودية لا يوفّيها حقَّها الواجبَ لها من كمال المراقبة والإجلال والتعظيم والنصيحة التامَّة للَّه فيها، بحيث يبذل مقدوره كلّه في تحسينها وتكميلها ظاهرًا وباطنًا، فالتقصير لازم في حال الترك وفي حال الفعل.

ولهذا لمّا

(3)

سأل الصدّيقُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دعاءً يدعو به في صلاته، قال

(4)

(1)

"ثمنًا لأعمالهم. . ." إلى هنا ساقط من "ك، ط".

(2)

"بحقه" ساقط من "ك، ط". والجملة: "عذَّبهم بحقه" وقعت في "ف" بعد "ترك شكرهم"، وهو خطأ من الناسخ.

(3)

"لمّا" ساقط من "ط".

(4)

"ط": "فقال".

ص: 622

له: "قل اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنتَ، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم"

(1)

. فأخبر عن ظلمه لنفسه مؤكِّدًا له بـ "إنَّ" المقتضيةِ ثبوتَ الخبر وتحقّقه، ثمَّ أكدَّه بالمصدر النافي للتجوُّز والاستعارة، ثمَّ وصفه بالكثرة المتقضية لتعدّده وتكثّره. ثم قال:"فاغفر لي مغفرةً من عندك" أي: لا ينالها عملي ولا سعيي، بل عملي يقصر عنها، وإنَّما هي من فضلك وإحسانك، لا بكسبي ولا باستغفاري وتوبتي. ثمَّ قال:"وارحمني" أي: ليس معوّلي إلا على مجرد رحمتك، فإن رحمتَني وإلا فالهلاك لازم لي. فليتدبّر اللبيب هذا الدعاءَ وما فيه من المعارف والعبودية، وفي ضمنه: إنَّك

(2)

لو عذَّبتني لعدلتَ فيَّ ولم تظلمني، وإنِّي لا أنجو إلا بمغفرتك ورحمتك

(3)

.

ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يُنجيَ أحدًا منكم عملُه" قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمّدني اللَّهُ برحمةِ منه وفضل"

(4)

. فإذا كان عملُ العبد لا يستقلّ بالنجاة، فلو لم يُنجه اللَّه لم يكن

(5)

قد بخسه شيئًا من حقّه ولا ظَلَمه، فإنَّه ليس معه مَا يقتضي نجاتَه، وعملُه ليس وافيًا بشكر القليل من نِعَمه، فهل يكون ظالمًا له لو

(1)

أخرجه البخاري في كتاب الأذان (834) وغيره، ومسلم في الذكر والدعاء (2705).

(2)

"ط": "أنّه".

(3)

"ط": "برحمتك ومغفرتك". ولشيخ الإسلام رسالة في شرح هذا الحديث ضمن "جامع المسائل"(4/ 23 - 69).

(4)

أخرجه البخاري في كتاب الرفاق (6463) وغيره، ومسلم في صفات المنافقين (2816) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

"ط": "فلم يكن"، خطأ.

ص: 623

عذَّبه؟ وهل تكون رحمتُه له جزاءً لعمله، ويكون العمل ثمنًا لها مع تقصيره فيه وعدم توفيته ما ينبغي له من بذل النصيحة فيه، وكمال العبودية من الحياء والمراقبة، والمحبّة والخشوع وحضور القلب بين يدي اللَّه في العمل كله

(1)

؟

ومَن علِمَ هذا عَلِمَ السرَّ في كون أعمال الطاعات تُختَم بالاستغفار، ففي صحيح مسلم عن ثوبان قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم من صلاته استغفر ثلاثًا. وقال: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"

(2)

.

قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات/ 17 - 18]. فأخبر عن استغفارهم عقيبَ صلاة الليل. قال الحسن: "مدّوا الصلاة إلى السحرِ، فلما كان السحر جلسوا يستغفرون اللَّه"

(3)

.

وأمر تعالى عبادَه بالاستغفار عقيب الإفاضة في الحجّ فقال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} [البقرة/ 199].

وشرع

(4)

صلى الله عليه وسلم للمتوضئ أن يختم وضوءَه بالتوحيد والاستغفار فيقول: "أشهدُ أنْ لا إِلهَ إلا اللَّهُ وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُهُ وَرسولُه. اللَّهم

(1)

"ك، ط": "له".

(2)

تقدّم تخريجه في ص (443).

(3)

تفسير الطبري (26/ 200)، تفسير القرطبي (17/ 26).

(4)

"ط": "شرع رسول اللَّه".

ص: 624

اجْعَلْنِي من التَّوابِين واجْعَلْنِي من المُتَطَهِّرين"

(1)

.

فهذا ونحوه ممَّا يبيّن حقيقة الأمر، وأنَّ كل أحد محتاج إلى مغفرة اللَّه ورحمته، وأنَّه لا سبيل إلى النجاة بدون مغفرته ورحمته أصلًا.

الجواب الثاني: أنَّه لو فرض أنَّ العبد يأتي بمقدوره

(2)

كلّه من الطاعة ظاهرًا وباطنًا، فالذي ينبغي لربّه تعالى فوق ذلك وأضعاف أضعافه. فإذا عجز العبد عنه لم يستحقّ ما يترتب عليه من الجزاءِ. والذي أتى به لا يقابل أقلَّ النعم، فإذا حرم جزاءَ العمل الذي ينبغي للربِّ من عبده كان ذلك تعذيبًا له، ولم يكن الربّ تعالى ظالمًا له في هذا الحرمان. ولو كان عاجزًا عن أسبابه فإنَّه لم يمنعه حقًّا يستحقّه عليه فيكون ظالمًا بمنعه. فإذا أعطاه الثواب كان مجرّد صدقة منه وفضل تصدَّق بها عليه، لا ينالها عملُه، بل هي خير من عمله وأفضل وأكثر، ليست معاوضة عليه. واللَّه أعلم.

الجواب الثالث

(3)

عن السؤال الأوَّل: أنَّ العبد إذا علم أنَّ اللَّه سبحانه هو مقلِّب القلوب، وأنَّه يحول بين المرءِ وقلبِه، وأنَّه سبحانه كلّ يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأنَّه يهدي من يشاء، ويضلّ من

(1)

تقدّم تخريجه في ص (468).

(2)

"ف": "فرض العبد يأتي مقدوره"، خلاف الأصل.

(3)

كذا في الأصل وغيره، وهو سهو. وقد كتب المصنف رحمه الله أولًا:"الوجه الخامس: قوله: وأما الخواص أهل الاختصاص"، ثم تذكر أن عليه ثلاثة أجوبة قد وعد بها من قبل (620)، فضرب على العبارة السابقة، وكتب:"الجواب الثالث". ثم وضع علامة اللحق وأضاف في الحاشية: "عن السؤال الأول". وذهب عليه أنه لم يسبق إلّا جواب واحد عنه، فهذا الجواب هو الثاني لا الثالث.

ص: 625

يشاء، ويرفع من يشاء، ويخفض من يشاء؛ فما يؤمنه أن يقلب اللَّه قلبه، ويحول بينه وبينه، ويزيغه بعد إقامته؟ وقد أثنى اللَّه سبحانه على عباده المؤمنين بقولهم:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران/ 8]، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يُزيغ قلوبَهم.

وكان من دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اللهم مصرّف القلوب، صرّفْ قلوبَنا على طاعتك"

(1)

. و"مثبّتَ القلوب، ثبِّتْ قلوبَنا على دينك"

(2)

.

وفي الترمذي

(3)

عنه مسلم أنَّه كان يدعو: "أعوذ بعزَتك أن تُضِلَّني، أنت الحيّ الذي لا يموت

(4)

".

وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللّهُمَّ إِنِّي أَعوذُ برضاكَ من سَخطِك، وأعوذُ بمعافاتِكَ من عقوبتك، وأعوذُ بِكَ مِنكَ"

(5)

.

فاستعاذ صلى الله عليه وسلم بصفة الرضا من صفة الغضب، وبفعل العافية من فعل العقوبة، واستعاذ به منه باعتبارين. وكان استعاذته به

(6)

منه جمعًا لما فصَّله في الجملتين قبله، فإنَّ الاستعاذة به سبحانه منه ترجع إلى معنى لكلام قبلها، مع تضمّنها فائدةً شريفةً وهي كمال التوحيد وأنَّ الذي يستعيذ به العائذ ويهرب منه إنَّما هو فعل اللَّه ومشيئته وقدره، فهو وحده

(1)

سبق تخريجه في ص (57).

(2)

سبق تخريجه في ص (17).

(3)

كذا في الأصل وغيره. والحديث في الصحيحين كما في مدارج السالكين (2/ 140). أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (7383)، ومسلم في الذكر والدعاء (2717) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(4)

"ك، ط": "لا تموت"، والأصل غير منقوط، وكلاهما ورد في الحديث.

(5)

تقدّم تخريجه في ص (57).

(6)

"به" ساقط من "ط".

ص: 626

المنفرد بالحكم، فإذا أراد بعبده سوءًا لم يُعِذْه منه إلا هو. فهو الذي يريد به ما يسوؤه، وهو الذي يريد دفعه عنه. فصارَ سبحانه مستعاذًا به منه باعتبار الإرادتين. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام/ 17] فهو الذي يمسن بالضرّ، وهو الذي يكشفه، لا إله إلا هو. فالمهرب منه إليه، والفرار منه إليه، واللجأ منه إليه، كما أنَّ الاستعاذة منه به

(1)

، فإنَّه لا ربَّ غيره، ولا مدبِّر للعبد سواه، فهو الذي يحرِّكه ويقلْبه ويصرِّفه كيف يشاء.

الجواب الرابع: أنَّ اللَّه سبحانه هو الذي يخلق أفعال العبد الظاهرة والباطنة، فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلب، ويجعل فيه التوبة والإنابة والإقبال والمحبَّة والتفويض وأضدادها. والعبدُ في كلِّ لحظةٍ مفتقرٌ إلى هداية يجعلها اللَّه في قلبه، وحركاتٍ يحرِّكه بها

(2)

في طاعته. وهذا إلى اللَّه سبحانه، فهو خَلَقه

(3)

وقدَّره.

وكان من دعاءِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزَكِّها أنتَ خيرُ من زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها"

(4)

. وعلَّم حصين بن المنذر

(5)

أن

(1)

"به" ساقط من "ط".

(2)

"ف": "يحرّكها به"، سهو.

(3)

"ب": "في خلقه".

(4)

تقدّم تخريجه في ص (170).

(5)

كذا قال المصنف هنا، وفي الوابل الصيب (410)، ومدارج السالكين (1/ 108، 294). وقال في نونيته:

واذكر حديثَ حُصَينٍ بنِ المنذر الثّـ

ـقةِ الرضا أعني أبا عمران

الكافية الشافية (455). والظاهر أنَّه وهم، فإنَّ حصينًا ابن عُبيد بن خلف الغاضري الخزاعي. انظر: الإصابة (2/ 86) وغيره.

ص: 627

يقول: "اللّهمَّ أَلهِمْني رشدي، وقِني شرَّ نفسي"

(1)

. وعامَّة أدعيته صلى الله عليه وسلم متضمِّنة لطلب توفيق ربّه وتزكيته له واستعماله في محابِّه.

فمَن هُداه وصلاحُه وأسبابُ نجاته بيد غيره، وهو المالك له ولها، المتصرِّف فيه بما يشاء، ليس له

(2)

من أمره شيء، مَن أحقّ بالخوف منه؛ وهَبْ أنَّه قد خلق له في الحال الهداية، فهل هو على يقينٍ وعلمٍ

(3)

أنَّ اللَّه سبحانه يخلقها له في المستقبل ويُلهِمه رُشدَه أبدًا؟ فعلم أنَّ خوف المقرَّبين عند ربِّهم أعظمُ من خوف غيرهم، واللَّه المستعان.

ومن ههنا كان خوف السابقين من فوات الإيمان، كما قال بعض السلف:"أنتم تخافون الذنب، وأنا أخاف الكفر"

(4)

. وكان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يقول لحذيفة: "نشدُتك اللَّهَ هل سمَّاني لك رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ " يعني في المنافقين، فيقول:"لا، ولا أزكِّي بعدك أحدًا"

(5)

يعني: لا أفتح عليَّ هذا الباب في سؤال الناس لي، وليس مراده أنَّه لم يخلُصْ من النفاق غيرُك.

الوجه السادس: "وأمَّا الخواصّ فإنَّهم جعلوا الوعيد منه وعدًا، والعذابَ فيه عَذْبًا؛ لأنَّهم شاهدوا المبتليَ والمعذِّب، فاستعذبوا ما

(1)

تقدّم تخريجه في ص (170).

(2)

"له" ساقط من "ط".

(3)

"ب": "علم من أن".

(4)

نقله المصنف في الداء والدواء (117).

(5)

زاد هنا في "ط" بين القوسين: "رواه البخاري" وهو غير صحيح (ص). وفي مسند البزار (2885) نحوه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 42) وقال:"رواهُ البزار ورجاله ثقات". وقال ابن حجر: "إسناده صحيح". انظر: مختصر زوائد البزار (590). (ز).

ص: 628

وجدوا في جنب ما شاهدوا. . ." إلى آخر كلامه.

فيقال: هذا الكلام ونحوه من رعونات النفس، ومن الشطحات التي يجب إنكارها. فمن الذي جعل وعبد اللَّه وعدًا، وعقابه ثوابًا، وعَذابه عَذْبًا؟ وهل هذا إلا إنكار لوعيده وعذابه في الحقيقة؟ وأيّ عذاب أشدّ من عذابه، نعوذ باللَّه منه؟ قال تعالى:{وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج/ 2]. وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} [الفجر/ 25 - 26]. وهذا أظهر في كلِّ ملَّة من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه. وإنَّما ينسب هذا المذهب للملاحدة

(1)

من القائلين بوحدة الوجود، كما قال قائلهم:

ولم يبق إلا صادقُ الوعد وحدَه

فما لوعيد الحقّ عينٌ تُعاينُ

وإن دخلوا دارَ الشقاءِ فإنَّهم

على لذَّةٍ فيها نعيمٌ مُباينُ

نعيمُ جِنان الخلد والأمر واحد

وبينهما عند التجلِّي تبايُنُ

(2)

يسمَّى عذابًا من عُذوبة طعمه

وذاك له كالقشر، والقشر صائنُ

(3)

فهذا القائل خطّ على تلك النقطة التي نقطها أبو العبَّاس، ولعلَّ الكلامين من مشكاة واحدة. وهذا مباين للمعلوم بالاضطرار من دين الرسل، وما أخبرت به عن اللَّه، وأخبر به على لسان

(1)

"ب، ك، ط": "إلى الملاحدة".

(2)

هذا البيت في "ط" آخر الأبيات.

(3)

أنشدها ابن عربي في فصوص الحكم. انظر: شرحه لصائن الدين (396 - 399). ومن الفصوص نقلها شيخ الإسلام في الصفدية (246) والمؤلِّف في حادي الأرواح (489).

ص: 629

رُسُله

(1)

.

فإن قيل: ليس مراده ما ذكرتم وفهمتم من كلامه، وإنَّما مراده أنَّه سبحانه إذا ابتلى عبده في الدنيا فهو لكمال محبّته له يتلذَّذ بتلك البلوى ويعدّها نعمةً، وليس مراده عذاب الآخرة

(2)

.

قيل: قوله عن الخواصّ: "أنَّهم جعلوا الوعيد منه وعدًا" ينفي ما ذكرتم من التأويل، فإنَّ ابتلاءَ الدنيا غيرُ الوعيد. وأيضا فإنَّه في مقام الخوف ونفيه عن الخاصَّة محتجًّا عليه بأنَّهم يرون العذاب عذبًا والوعيد وعدًا، فما لهم وللخوف؟ هذا مقصوده من سياق كلامه واحتجاجه عليه بهذا الهذيان الذي يسخر

(3)

منه العقلاء. بل نحن لا ننكر أنَّ العبد إذا تمكَّن حبّ اللَّه في قلبه حتَّى ملك جميعَ أجزائه فإنَّه يتلذَّذ بالبلوى أحيانًا. وليس ذلك دائمًا ولا أكثريًّا، ولكنَّه يعرض عند

(4)

هيجان الحبّ وغلبة الشوق، فيقهر شهود الألم، ثمَّ يراجع طبيعته فيذوق الألم. ولكن أين هذا مِن جعلِ الوعيد وعدًا، والعذاب عَذبًا؟

وإن أُحسِن الظنُّ بصاحب هذا الكلام ظُنَّ به أنَّه ورد عليه وارد من الحبّ يُخيِّل في نفسه أنَّ محبوبه إذا تواعده

(5)

كان ذلك منه وعدًا، وإن عذَّبه كان عذابُه عنده عذبًا، لموافقته مراد محبوبه. وهذا خيالٌ فاسد

(1)

"ط": "رسوله صلى الله عليه وسلم".

(2)

"ب": "نعيم الآخرة".

(3)

"ف": "سخر"، خلاف الأصل.

(4)

"ف": "عن"، خلاف الأصل.

(5)

كذا في الأصل وغيره. ولم أجد "تواعده" بمعنى توعّده وتهدّده. وفي "ط": "توعده".

ص: 630