الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مركبه طعامَه وشرابَه! ثمَّ إنَّه عدِمَها في أرض دَوِّيَّةٍ لا أنيس بها ولا معين، ولا من يأوي له ويرحمه ويحمله، ثمَّ إنَّها مَهلَكة لا ماءَ بها ولا طعام. فلمَّا أيسَ من الحياةِ بفقدها، وجلس ينتظر الموت، إذا هو براحلته قد أشرفت عليه، ودنت منه، فأيّ فرحةٍ تعدل فرحةَ هذا؟ ولو كان في الوجود فرحٌ أعظم من هذا لمثَّل به النبي صلى الله عليه وسلم. ومع هذا ففرَحُ اللَّه بتوبة عبده إذا تابَ إليه أعظمُ من فرحِ هذا براحلته.
[قاعدة نافعة في إثبات الصفات]
(1)
وتحت هذا سرٌّ عظيمٌ يختصّ اللَّه بفهمه من يشاء، فإن كنتَ ممن غلظ حجابه، وكثفت نفسه وطباعه، فعليكَ بوادي الحمقى
(2)
، وهو وادي المحرّفين الكلمَ
(3)
عن مواضعه، الواضعين له على غير المراد منه. فهو وادٍ قد سلكه خلق، وتفرَّقوا في شِعابه وطرُقه ومتاهاته، ولم تستقرّ لهم فيه قدم، ولا لجؤوا منه إلى ركنٍ وثيق، بل هم فيه
(4)
كحاطب الليل وحاطم السيل
(5)
.
وإن نجَّاك اللَّه من هذا الوادي، فتأمَّل هذه الألفاظ النبويّة المعصومة التي مقصودُ المتكلّمِ بها غايةُ البيان، مع مصدرها عن كمال العلم باللَّه
(1)
العنوان من حاشية "ب".
(2)
"ط": "بوادي الخفا"!
(3)
"ك، ط": "للكلم".
(4)
"فيه": ساقط من "ك، ط".
(5)
حَطْمة السيل وطَحمته بفتح الطاء وضمّها: دُفّاع معظمه. والسيول الطواحم: الدوافع. يقال: أشدّ من حطمة السيل تحت طحمة الليل، وهو معظم سواده. انظر: الأساس والتاج (حطم، طحم).
وكمال النصيحة للأمة. ومع هذه المقامات الثلاث -أعني كمالَ بيان المتكلم وفصاحته وحسن تعبيره عن المعاني، وكمالَ معرفته وعلمه بما يعبّر عنه، وكمالَ نصحه وإرادته لهداية الخلائق- يستحيل عليه أن يخاطبهم بشيءٍ، وهو لا يريد منهم ما يدلّ عليه خطابه، بل يريد منه
(1)
أمرًا بعيدًا عن ذلك الخطاب، إنَّما يدلُّ عليه كدلالة الألغاز والأحاجي مع قدرته على التعبير عن ذلك المعنى باحسن
(2)
عبارة وأوجزها. فكيف يليق به أن يعدل عن مقتضى البيان الرافع للإشكالِ المزيل للإجمال، ويوقع الأمَّة في أودية التأويلات وشعَاب الاحتمالات
(3)
والتجويزات؟ سبحانك هذا بهتانٌ عظيم! وهل قدَرَ الرسول حقَّ قدره أو مرسلَه حقَّ قدره مَن نسَب كلامه سبحانه أو كلام رسوله إلى مثل ذلك؟ ففصاحة الرسول وبيانه، وعلمه ومعرفته، ونصحه وشفقته = يحيل عليه
(4)
أن يكون مراده من كلامه ما يحمله عليه المحرّفون للكلم عن مواضعه المتأوّلون له على
(5)
غير تأويله، وأن يكون كلامه من جنس الألغاز والأحاجي. والحمد للَّه ربِّ العالمين.
فإنْ قلتَ: فهل من مسلك غير هذا الوادي الذي ذممته فيُسلَك
(6)
فيه، أو من طريق يستقيم عليه السالك؟ قلتُ: نعم، بحمد اللَّه. الطريق واضحة المنار، بيّنة الأعلام، مضيئة للسالكين. وأوَّلها أن تحذف
(1)
"ف": "منهم"، سهو.
(2)
"ف": "بأيسر"، تحريف.
(3)
"ف": "الإجمالات".
(4)
"ف": "عليهم"، سهو. "ب":"تحيل عليه".
(5)
"على" ساقط من "ك، ط".
(6)
"ك، ط": "فنسلك".
خصائص المخلوقين عن إضافتها إلى صفاتِ ربِّ العالمين. فإنَّ هذه العقدة هي أصل بلاءِ النَّاس، فمَن حلَّها فما بعدها أيسرُ منها، ومن هلك بها فما بعدها أشدُّ منها. وهل نفى أحد ما نفى من صفات الربِّ ونعوت جلاله إلا لِسَبْقِ نظرِه الضعيف إليها واحتجابه
(1)
بها عن أصل الصفة وتجرّدها عن خصائص المحدَث؟ فإنَّ الصفَة يلزمها لوازمُ باختلاف محلّها، فيظنّ القاصر
(2)
إذا رأى ذلك اللازم
(3)
في المحلّ المحدَث أنَّه لازم لتلك الصفة مطلقًا، فهو يفر من إثباتها للخالق سبحانه، حيث لم يتجرّد في ظنّه عن ذلك اللازم.
وهذا كما فعل من نفى عنه سبحانه الفرحَ والمحبَّة والرضى والغضب والكراهة والمقت والبغض، وردَّها كلَّها إلى الإرادة. فإنَّه فهم فرَحًا مستلزمًا لخصائص المخلوق من انبساط دم القلب وحصول ما ينفعه، وكذلك فهم غضبًا هو غليان دم القلب طلبًا للانتقام، وكذلك فهم محبّةً ورضًى وكراهةً ورحمةً مقرونةً بخصائص المخلوقين؛ فإنَّ ذلك هو السابق إلى فهمه، وهو المشهود في علمه الذي لم تصل معرفته إلى سواه ولم يُحِطْ علمُه بغيره. ولمَّا كان ذلك
(4)
هو السابق إلى فهمه لم يجد بدًّا من نفيه عن الخالق تعالى، والصفة لم تتجرَّد في عقله عن هذا اللازم، فلم يجد
(5)
بدًّا من نفيها.
(1)
"ب": "احتجاجه"، تحريف. وكذا في "ط"، وصحح في القطرية.
(2)
"ف": "العاجز"، قراءة محتملة.
(3)
"اللازم" ساقط من "ب".
(4)
"ذلك" ساقط من "ب، ط".
(5)
"من نفيه. . . " إلى هنا ساقط من "ب".
ثمَّ لأصحاب هذه الطريق مسلكان:
أحدهما: مسلك التناقض البيّن. وهو إثبات كثير من الصفات، ولا يلتفِت فيها إلى هذا الخيال، بل يثبتها مجرَّدةً عن خصائص المخلوق، كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغيرها. فإن كان إثبات تلك الصفات التي نفاها يستلزم المحذورَ الذي فرَّ منه، فكيف لم يستلزمه إثباتُ ما أثبته؟ وإن كان إثبات ما أثبته لا يستلزم محذورًا فكيف يستلزمه إثباتُ ما نفاهُ؟ وهل في التناقض أعجب من هذا؟
والمسلك الثاني: مسلك النفي العامّ والتعطيل المحض، هربًا من التناقض، والتزامًا لأعظم الباطل وأمحل المحال
(1)
.
فإذن الحقّ المحض في الإثبات المحض الذي أثبته اللَّه تعالى لنفسه في كلامه وعلى لسان رسوله، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تحريفٍ ولا تبديل. ومنشأ غلط المحرّفين إنَّما هو ظنّهم أنَّ ما يلزم الصفة في المحلّ المعيَّن يلزمها لذاتها، فينفون ذلك اللازم عن اللَّه تعالى، فيضطرّون في نفيه إلى نفي الصفة!
ولا ريبَ أنَّ الأمور ثلاثة: أمرٌ يلزم الصفة لذاتها من حيث هي، فهذا لا يجب بل لا يجوز نفيُه، كما يلزم العلمَ والسمعَ والبصرَ من تعلّقها بمعلوم ومسموع ومبصَر، فلا يجوز نفي هذه التعلّقات عن هذه
(1)
"المُحال" من "حول" لا من "محل"، فصياكة اسم التفضيل منه "أمحل" على التوهم. وقد تكرر "أمحل المحال" في كتب المؤلف. انظر مثلًا: زاد المعاد (1/ 36، 207، 272)، والصواعق (197، 645)، ومدارج السالكين (1/ 129)، وانظر: مجمع الأمثال (3/ 357 - 358).
الصفات، إذ لا تحقُّق لها بدونها. وكذلك الإرادة مثلًا تستلزم العلمَ لذاتها، فلا يجوز نفي لازمها عنها. وكذلك السمع والبصر والعلم يستلزم الحياة فلا يجوز نفي لوازمها
(1)
. وكذلك كونُ المرئيّ مرئيًّا حقيقةً له لوازم لا ينفكّ عنها، ولا سبيل إلى نفي تلك اللوازم إلا بنفي الرؤية. وكذلك الفعل الاختياري له لوازم لا بدّ فيه منها، فمن نفى لوازمه لزمه
(2)
نفي الفعل
(3)
ولا بدَّ.
ومن هنا كان أهل الكلام أكثر النَّاس تناقضًا واضطرابًا، فإنَّهم ينفون الشيء ويثبتون ملزومه، ويُثبتون الشيء وينفون لازمه. فتتناقض أقوالهم وأدلّتهم، ويقع السالك خلفهم في الحيرة والشكّ. ولهذا يكون نهاية أمر أكثرهم الشكّ والحيرة، حاشا من هو في خُفارة بلادته منهم، أو من قد خرق تلك الخيالات، وقطع تلك الشبهات، وحكَّم الفطرةَ والشرعةَ والعقلَ المؤيّد بنور الوحي عليها، فنقَدها نقدَ الصيارف، فنفى زغَلَها، وعلم أنَّ الصحيح منها إمَّا أن يكون قد تولَّت
(4)
النصوص بيانَه، وإمَّا أن يكون فيها غُنْيةٌ عنه بما هو خير منه وأقرب طريقًا وأسهل تناولًا.
ولا يستفيد
(5)
المؤمنُ البصيرُ بما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم، العارفُ
(6)
به؛ من المتكلمين سوى مناقضة بعضِهم بعضًا ومعارضته، وإبداءِ
(1)
"عنها وكذلك السمع. . . " إلى هنا ساقط من "ب".
(2)
"لزمه" ساقط من "ب، ك، ط".
(3)
"ط": "الفعل الاختياري".
(4)
"ف": "نزلت"، تحريف.
(5)
"ف": "تناولا يستفيد"، فاسقط "ولا" قبل الفعل.
(6)
"ف": "للعارف"، خطأ.
بعضِهم عَوارَ بعض، ومحاربةِ بعضهم بعضًا؛ فيتولَّى
(1)
بعضُهم محاربةَ بعض، ويسلَمُ ما جاءَ به الرسول. فإذا رأى المؤمنُ العالمُ الناصحُ للَّه ولرسوله أحدَهم قد تعدَّى إلى ما جاءَ به الرسول يناقضه ويعارضه ويضادّه
(2)
، فليعلمْ أنَّهم لا طريق لهم إلى ذلك أبدًا، ولا يقع ردّهم إلا على آراء أمثالهم وأشباههم. وأمَّا ما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم فمحفوظ محروس مصون من تطرق المعارضة والمناقضة إليه. فإن وجدتَ شيئًا من ذلك في كلامهم فبَدارِ بَدارِ إلى إبداءِ فضائحهم، وكشف تلبيسهم ومحالهم وتناقضهم، وتبيينِ كذبهم على العقل والوحي، فإنَّهم لا يردّون شيئًا ممَّا جاءَ به الرسول إلا بزخرف من القول يغترّ به ضعيفُ العقل والإيمان، فاكشفه، ولا تهَبْه
(3)
، تجده {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور/ 39].
ولولا أنَّ كلَّ مسائل القوم وشُبَههم التي خالفوا فيها النصوص بهذه المثابة لذكرنا من أمثلة ذلك ما تقرّ به عيون أهل الإيمان السائرين إلى اللَّه على طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وإن وفَّق اللَّهُ سبحانه جرَّدنا لذلك كتابًا مفردًا
(4)
. وقد كفانا شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس اللَّه روحه، ونوَّر ضريحه-
(5)
هذا المقصد
(6)
في عامّة كتبه، لا سيما كتابه الذي وسمه
(1)
"ب": "فيُولي بعضَهم. . . ويسلّم".
(2)
"ويضاده" ساقط من "ط".
(3)
"ط": "لاتهن"، تحريف.
(4)
انظر نحو ذلك في الصواعق المرسلة (1008).
(5)
لم ترد الجملتان الدعائيتان في "ك، ط".
(6)
"ف": "الفصل" تحريف.
بـ "بيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح"
(1)
، فمزَّق فيه شملَهم كلَّ ممزَّقٍ، وكشف فيه
(2)
أسرارهم، وهتك أستارهم، فجزاه اللَّه عن الإسلام وأهله أفضلَ الجزاءِ
(3)
.
واعلم
(4)
أنَّه لا تَرِدُ شبهة صحيحة قط
(5)
على ما جاء به الرسول، بل الشبهة التي يوردها أهل البدع والضلال على أهل السنَّة لا تخلو من أحد
(6)
قسمين:
إمَّا أن يكون القول الذي أوردَت عليه ليس من أقوال الرسول بل تكون نسبته إليه غلطًا، وهذا لا يكون متّفقًا عليه بين أهل السنة أبدًا، بل يكون قد قاله بعضهم وغلِطَ فيه، فإنَّ العصمة إنَّما هي لمجموع الأمة لا لطائفة معيَّنة منها.
وإمَّا أن يكون القول الذي أُوردتْ عليه قولًا صحيخا لكن لا ترد تلك الشبهة عليه، وحينئذٍ فلا بدَّ لها
(7)
من أحد أمرين: إمَّا أن تكون لازمة، وإمَّا ألَّا تكون لازمة.
فإنْ كانت لازمة لما جاءَ به
(8)
الرسول فهي حقّ لا شبهة، إذ لازم
(1)
مطبوع بعنوان "درء تعارض العقل والنقل".
(2)
"فيه" ساقط من "ك، ط".
(3)
"ك، ط": "من أفضل الجزاء".
(4)
"ف": "وأعلمهم"، خلاف الأصل.
(5)
انظر في استعمال "قطّ" ما سبق في ص (431).
(6)
"أحد" ساقط من "ب، ك، ط".
(7)
"ط": "له"، خطأ.
(8)
"ط": "بها"، خطأ.
الحقّ حق، ولا ينبغي الفرار منها كما يفعل الضعفاء من المنتسبين إلى السنَّة، بل كلُّ ما لزم من الحق فهو حقٌّ يتعيّن القول به، كائنًا ما كان، وهل تسلّط أهل البدع والضلال على المنتسبين للسنَّة
(1)
إلا بهذه الطريق؟ ألزموهم بلوازمَ تلزم الحقَّ فلم يلتزموها، ودفعوها، وأثبتوا ملزوماتها، فتسلَّطوا عليهم بما أنكروه لا بما أثبتوه. فلو أثبتوا لوازمَ الحق، ولم يفرُّوا منها، لم يجد أعداؤهم إليهم سبيلًا. وإنْ لم تكن لازمةً لهم فإلزامهم إيَّاها باطل. وعلى التقديرين
(2)
فلا طريق لهم إلى ردِّ أقوالهم. وحينئذٍ فلهم جوابان: مركَّب مجمَل، ومفرَد مفصَّل.
أمَّا الأوَّل فيقولون
(3)
لهم: هذه اللوازم التي تُلزِمونا
(4)
بها إمَّا أن تكون لازمةً في نفس الأمر، وإمَّا أن لا تكون لازمةً. فإن كانت لازمةً فهي حقّ
(5)
، إذ قد ثبت أنَّ ما جاءَ به الرسول هو
(6)
الحقُّ الصريح، ولازمُ الحق حقٌّ. وإنْ لم تكن لازمةً فهي مندفعة، ولا يجوز إلزامها ولا التزامها
(7)
.
وأمَّا الجوابُ المفصَّل فيفردون كلَّ إلزام بجواب، ولا يردّونه مطلقًا، ولا يقبلونه مطلقًا
(8)
، بل ينظرون إلى ألفاظ ذلك الإلزام
(1)
"ف": "إلى السنة"، خلاف الأصل.
(2)
"ط": "النقدين"، تحريف. وكذا كان في "ك"، فأصلحه بعضهم في متنها.
(3)
"ب": "فنقول".
(4)
كذا ورد في الأصل وغيره بحذف نون الرفع للتخفيف.
(5)
"ف": "أحقّ"، خلاف الأصل.
(6)
"ب، ك، ط": "فهو".
(7)
"ولا التزامها"، ساقط من "ط".
(8)
"ولا يقبلونه مطلقًا" ساقط من "ب، ط".
ومعانيه، فإن كان لفظها موافقًا لما جاءَ به الرسول، يتضمّن إثبات ما أثبته أو نفي
(1)
ما نفاه، فلا يكون المعنى إلا حقًّا، فيقبلون ذلك الإلزام، وإن كان مخالفًا لما جاءَ به الرسول، متضمّنًا لنفى ما أثبته أو إثبات ما نفاه، كان باطلًا لفظًا ومعنًى، فيقابلونه بالردِّ.
وإنْ كان لفظًا مجملًا محتملًا لحق وباطل لم يقبلوه مطلقًا، ولم يردّوه مطلقًا
(2)
،. حتى يستفسروا قائله ماذا أراد به. فإنْ أراد معنًى صحيحًا مطابقًا لما جاءَ به الرسول قبلوه ولم يطلقوا اللفظ المحتمل
(3)
إطلاقًا. وإنْ أراد معنًى باطلًا ردّوه ولم يطلقوا نفيَ اللفظ المحتمل أيضًا.
فهذه قاعدتهم التي بها يعتصمون وعليها يعوّلون. وبسط هذه الكلمات يستدعي أسفارًا لا سِفرًا واحدًا، ومن لا ضياء له لا ينتفع بها ولا بغيرها. فلنقتصر عليها، ولنعد إلى المقصود، فنقول وباللَّه التوفيق:
فرَحُ الربِّ تعالى هذا الفرحَ العظيمَ بتوبة عبده إذا تاب إليه هو من ملزومات محئته ولوازمها، أعني كونَه محِبًّا لعبادته المؤمنين، محبوبًا لهم. وإنَّما خلق خلقه لعبادته المتضمّنة لكمال محبَّته والخضوع له، ولهذا خلق الجنَّة والنَّار، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب. وهذا هو الحق الذي خلق به السماوات والأرضِ، وأنزل به الكتاب.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}
(1)
"ك، ط": "ونفي".
(2)
"ولم يردوه مطلقًا" ساقط من "ب".
(3)
"ب": "المجمل".
(1)
إلى قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)} [يونس/ 5] وقوله: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)} [آل عمران/ 1 - 3].
فهذا أمرُه وتنزيلُه مصدره الحقّ، والأوَّل خلقه وتكوينه مصدره الحقّ أيضًا. فبالحقِّ كان الخلق والأمر، وعنه صدر الخلق والأمر. وقال سبحانه:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات/ 56]، فأخبر سبحانه أنَّ الغاية المطلوبة من خلقه هي عبادته التي أصلها كمال محبّته.
وهو سبحانه كما أنَّه يحب أن يُعبَد، يحبّ أن يُحمَد، ويُثنَى عليه، ويذكَر بأوصافه العلى وأسمائه الحسنى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"لا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من اللَّه، ومن أجل ذلك أثنَى على نفسه"
(2)
. وفي المسند من حديث الأسود بن سريع أنه قال: يا رسولَ اللَّه، إنّي حمدتُ ربّي بمحامد. فقال:"إنّ ربّك يحبّ الحمد"
(3)
. فهو
(1)
في الأصل: ". . . ما شفيع إلَّا من بعد إذنه أفلا تذكّرون" كذا، وأسقط بعض الآية.
(2)
تقدم تخريجه في ص (274).
(3)
أخرجه أحمد (15585)، والبخاري في الأدب المفرد (342)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 46). والحديث ضعيف الأسناد لأنَّ مداره على علي بن زيد بن جدعان، وفي حفظه مقال، وأيضًا عبد الرحمن بن أبي بكر لم يسمع من الأسود. ورواه الحسن البصري عن الأسود عند أحمد (15586) والحسن لم يسمع من الأسود. (ز).
يحبّ نفسه، ومن أجل ذلك يثني على نفسه، ويحمد نفسه، ويقدّس نفسه، ويحبّ من يحبّه ويحمده ويثني عليه. بل كلّما كانت محبّةُ عبدِه له أقوى كانت محبّة اللَّه له أكمل وأتمّ. فلا أحدَ أحبُّ إليه ممن يحبّه، ويحمده، ويثني عليه.
ومن أجل ذلك كان الشركُ أبغضَ الأشياءِ إليه لأنّه ينقص هذه المحبّة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به. ولهذا لا يغفر اللَّه أن يُشرَك به؛ لأنَّ الشرك يتضمّن نقصان هذه المحبّة، والتسوية فيها بينه وبين غيره. ولا ريب أنّ هذا من أعظم ذنوب المحبّ عند محبوبه التي ينقص
(1)
بها من عينه، وتنحطّ
(2)
بها مرتبتُه عنده إذا كان من المخلوقين، فكيف يحتمل ربّ العالمين أن يُشرَك بينه وبين غيره في المحبّة، والمخلوق لا يحتمل ذلك، ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبّه أبدًا. وعساه أن يتجاوز لمحبّه عن غيره من الهفوات
(3)
والزلّات في حقّه، ومتى علم بأنّه يحِبّ غيره كما يحبُّه لم يغتفر
(4)
له هذا الذنب ولم يقرِّبْه إليه. هذا مقتضى الطبيعة والفطرة. أفلا يستحيي العبد أن يسوّي بين إلهه ومعبوده وبين غيره في هذه العبوديّة والمحبّة؟
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة/ 165]. فأخبر سبحانه أنّ من أحبّ شيئًا دون اللَّه كما يحبّ اللَّهَ، فقد اتّخذه ندًّا. وهذا معنى قول المشركين
(1)
كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "يسقط".
(2)
"ب": "تسقط". "ك": "يسقط". "ط": "تنقص".
(3)
"ف": "النفرات"، تحريف.
(4)
"ط": "لم يغفر".
في النَّار
(1)
لمعبوديهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)} [الشعراء/ 97 - 98]. فهذه تسوية في المحبَّة والتألُّه
(2)
، لا في الذات والأفعال والصفات.
والمقصود أنَّه سبحانه يحبّ نفسَه أعظمَ محبَّة، ويحبُّ من يحبّه. وخلق خلقه لذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك، وأعدَّ الثواب والعقاب لأجل ذلك. وهذا هو محض الحقِّ الذي به قامت السماوات والأرضِ، وكان الخلق والأمر. فإذا قامَ به العبدُ فقد جاء منه الأمر
(3)
الذي خُلِقَ له، فرضيَ عنه صانعه وبارئه وأحبَّه، إذ كان كما يحب ويرضى.
فإذا صدف عن ذلك، وأعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيّده؛ أبغضه ومقته، لأنَّه خرج عمَّا خُلِقَ له، وصار إلى ضدِّ الحال التي هُيِّئ لها
(4)
، فاستوجب منه غضبه بدلًا من رضاه، وعقوبته بدلًا من رحمته. فكأنَّه استدعى من ربِّه
(5)
أن يعامله من نفسه بخلاف ما يحبّ، فإنَّه سبحانه عفوٌّ يحبُّ العفو، محسنٌ يحبّ الإحسان، جوادٌ يحبُّ الجود، سبقت رحمتُه غضبَه. فإذا أبقَ منه العبدُ، وخامرَ عليه
(6)
ذاهبًا إلى عدوِّه، فقد
(1)
"في النار" ساقط من "ك، ط".
(2)
"ط": "التأليه".
(3)
كذا في الأصل وفي "ف، ب". وفي "ك، ط": "فقد قام بالأمر".
(4)
"ك، ط": "التي هو لها"، تحريف.
(5)
"ط": "من رحمته"، خطأ.
(6)
المخامرة على فلان: المؤامرة والمواطأة عليه. تعبير مولد لم يذكر في كتب اللغة. قال المصنّف في الداء والدواء (151): "بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه"، وفي بدائع الفوائد (1210): "متى خامر من جنود عزمك عليك =
استدعى منه أن يجعل غضبَه غالبًا على رحمته، وعقوبَته على إحسانه؛ وهو سبحانه يحبُّ من نفسه الإحسان والبر والإنعام، فقد استدعى من ربِّه فعلَ ما غيرُه أحبُّ إليه منه.
وهو بمنزلة عبد السَّوءِ
(1)
الذي يحمل أستاذَه من المخلوقين المحسنَ إليه، الذي طبيعتُه الإحسان والكرم، على خلاف مقتضى طبيعته وسجيّته. فأستاذه يحب بطبعه
(2)
الإحسان، وهو بإساءته ولؤمه يُكلِّفه ضدَّ طباعه، ويحمله على خلاف سجيته. فإذا راجع هذا العبدُ ما يحبُّ سيّدُه، ورجع إليه، وأقبل عليه، وأعرض
(3)
عن عدوِّه، فقد صار إلى الحالِ التي تقتضي محبَّة سيّده له وإنعامه عليه وإحسانَه إليه، فيفرح به -ولا بُدَّ- أعظمَ فرح، وهذا الفرحُ هو دليلٌ على
(4)
غاية الكمال والغنى والمجد.
فليتدبّر اللبيبُ وجود هذا الفرح ولوازمه وملزوماته يجدْ في طيِّه من المعارف الإلهية ما لا تتّسع له إلا القلوب المهيّأة لهذا الشأن المخلوقةُ له. وهذا فرحُ محسن برّ لطيف جواد غني حميد، لا فرَحُ محتاجٍ إلى حصول ما يفرح به
(5)
، مستكمل
(6)
به، مستفيد
(7)
له من غيره. فهو عين
= واحد، لم تأمن قلب الهزيمة عليك".
(1)
"ب": "العبد السوء".
(2)
"ب، ك، ط": "لطبعه".
(3)
"ك، ط": "رجع".
(4)
"على": ساقط من "ب، ك، ط".
(5)
"ما يفرح به" ساقط من "ط".
(6)
"ب، ك، ط": "متكمل".
(7)
"ط": "مستقبل"، تحريف.
الكمالِ، لازم للكمال، ملزوم له.
وألطف من هذا الوجهِ أنَّ اللَّه سبحانه خلق عباده المؤمنين، وخلق كلَّ شيءٍ لأجلهم، كما قال تعالى
(1)
لصالحيهم وصفوتهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} [آل عمران/ 33]، وقال تعالى لموسى:{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} [طه/ 41]. واتّخذ منهم الخليلين، والخلَّة أعلى درجات المحبة، وقد جاءَ في بعض الآثار: يقول تعالى
(2)
: "ابنَ آدم خلقتُك لنفسي، وخلقتُ كلَّ شيءٍ لك، فبحقِّي عليك لا تشتغل بما خلقتُه لك عمَّا خلقتُك له"
(3)
.
وفي أثر آخر يقول تعالى: "ابنَ آدم، خلقتُك لنفسي، فلا تلعبْ، وتكفَّلتُ برزقك، فلا تتعَبْ. ابنَ آدمَ اطلبني تجدْني، فإن وجدتني وجدتَ كلَّ شيءٍ، وإنْ فُتُّكَ فاتك كل شيءٍ، وأنا أحبّ إليك من كلِّ شيءٍ"
(4)
.
فاللَّه سبحانه خلق عبادَه له، ولهذا اشترى منهم أنفسهم، وهذا عقدٌ لم يعقده مع خَلْقٍ غيرهم -فيما أخبر به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ليسلِّموا إليه النفوسَ التي خلقها له. وهذا الشِّرَى دليلٌ على أنَّها محبوبةٌ له
(1)
أثبت في "ط" هنا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان/ 20]، وزاد:"وكرّمهم وفضلهم على كثيرٍ ممن خلق، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إلى آخر الآية [الإسراء/ 70]. ثمَّ أثبت "وقال" بين حاصرتين لتصحيح السياق.
(2)
"ب": ". . الآثار أنَّ اللَّه تعالى يقول".
(3)
ذكره المصنف في روضة المحبين (432) وشيخ الإسلام في الفتاوى (1/ 23)(ص). لم أقف عليه في مظانه، وذكره المناوي في فيض القدير (2/ 305)(ز).
(4)
تقدم في ص (95).
مصطفاةٌ عنده، مرضيّةٌ لديه. وقدرُ السلعة يُعْرَفُ بجلالة قدر مشتريها وبمقدار ثمنها. هذا إذا جُهِلَ قدرُها في نفسها، فإذا عُرِفَ قدرُ السلعة، وعُرِفَ مشتريها، وعرف الثمن المبذول فيها، عُلِمَ شأنُها ومرتبتُها في الوجود. فالسلعة أنت، واللَّه المشتري، والثمنُ جنَّتُه والنظرُ إلى وجهه وسماعُ كلامه في دار الأمن والسلام. واللَّه سبحانه لا يصطفي لنفسه إلا أعزَ الأشياءِ وأشرفها وأعظمها قيمةً. وإذا كان قد اختار العبدَ لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له دارًا في جواره وقربه، وجعل ملائكته خدَمه يسعون في مصالحه في يقظته ومنامه وحياته وموته؛ ثمَّ إنَّ العبد أبق عن سيِّده ومالكه ذاهبًا عنه
(1)
، معرضًا عن رضاه؛ ثمَّ لم يكفه ذلك حتى خامر عليه
(2)
، وصالح عدوّه، ووالاه من دونه، وصارَ من جنده، مؤثرًا لمرضاته على مرضاة وليّه ومالكه = فقد باعَ نفسه -التي اشتراها منه إلهه ومالكه، وجعلَ ثمنها جنَّته والنظرَ إلى وجهه- من عدوِّه وأبغضِ خلقه إليه، واستبدل غضبَه برضاه، ولعنتَه برحمته ومحبّته. فأيّ مقت خلَّى هذا المخدوعُ عن نفسه لم يتعرّض له من ربِّه؟
فتأمَّل ما تحت هذه المعاتبة وما في طيِّ هذا الخطاب من سوءِ حالِ
(3)
هذا العبد، وما تعرّض له من المقتِ والخزي والهوان؛ ومن
(1)
"ب": "واستمرّ ذاهبًا عنه". وهو ساقط من "ط".
(2)
فسّرناه آنفًا في ص (524).
(3)
"حال" ساقط من "ك، ط".
استعطافِ ربِّه واستعتابه ودعائه إيَّاه إلى العود إلى وليِّه ومولاه الحقّ الذي هو أولى به. فإذا عادَ إليه وتابَ إليه فهو بمثابة من أسرَ له العدوُّ محبوبًا له
(1)
، واستولوا عليه، وحالوا بينه وبينه، فهرب منهم ذلك المحبوب، وجاءَ إلى محبّه اختيارًا وطوعًا حتَّى توسّد عتبةَ بابه، فخرج المحِبّ من بيته، فوجد محبوبه متوسّدًا عتبة بابه واضعًا خدَّه وذقنَه عليها، فكيف يكون فرحه به؟ وللَّه المثل الأعلى. ويكفي في هذا المثلُ الذي ضربه رسوله لمن
(2)
فتح اللَّه عينَ قلبه، فأبصرَ ما في طيّه وما في ضمنه، وعلم أنَّه ليس كلام مجازفة
(3)
ولا مبالغة ولا تخييل، بل كلامُ معصومٍ في منطقه وعلمه وقصده وعمله. كلُّ كلمةٍ منه في موضعها ومنزلتهًا ومقزها، لا يتعدّى بها عنه، ولا يقصّر بها.
والذي يزيد هذا المعنى تقريرًا أنّ محبّة الرّب لعبده سبقَتْ محبّةَ العبد له سبحانه، فإنّه لولا محبّةُ اللَّه له لما جعَل محبّتَه في قلبه. فلمّا أحبّه ألهمه
(4)
حبَّه، وآثره به؛ فلمّا أحبّه العبدُ جازاه على تلك المحبّة محبّةً أعظمَ منها. فإنّه مَن تقرّب إليه شبرًا تقرّب إليه ذراعًا، ومن تقرّب إليه ذراعًا تقرّب إليه باعًا، ومن أتاه مشيًا أتاه هرولةً
(5)
. وهذا دليل على أنّ محبّة اللَّه لعبده الذي يحبّه فوق محبّة العبد له. فإذا
(6)
تعرّض هذا
(1)
كذا ورد "له" مرتين في الأصل وغيره.
(2)
"ب": "فمن".
(3)
"ط": "مجاز".
(4)
"ك، ط": " .. قلبه فإنَّه ألهمه".
(5)
كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه. انظر: صحيح البخاري، كتاب التوحيد (7405) وصحيح مسلم، كتاب التوبة (2675).
(6)
"ك، ط": "وإذا".