الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذي فرّ من محبّه وآثر غيرَه عليه. فإذا عاوده، وأقبل إليه، وتخلّى عن غيره، فكيف لا يفرح به محبُّه أعظمَ فرح وأكملَه؟ والشاهد أقوى شاهد بهذا والفطرة
(1)
والعقل، فلو لم يخبِر الصادقُ المصدوقُ بما أخبر به من هذا الأمر العظيم لكان في الفطرة والعقل ما يشهد به، فإذا انضافت الشرعة المنزلة إلى الفطرة المكفلة
(2)
إلى العقل الصحيح
(3)
المنوّر، فذلك الذي لا غاية
(4)
بعده. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم.
فصل
ومتى أراد العبد شاهِدَ هذا من نفسه فلينظر إلى الفرحة التي يجدها بعد التوبة النصوح، والسرور واللذّة التي تحصل له؛ والجزاءُ من جنس العمل. فلمّا تاب إلى اللَّه، ففرح اللَّه بتوبته، أعقبه فرحًا عظيمًا.
وههنا دقيقة قلّ من يتفطّن لها إلّا فقيه في هذا الشأن. وهي أنّ كلّ تائب لا بدّ له في أوّل توبته من عَصرة وضَغطة في قلبه، من همّ أو غمّ أو ضيق أو حزن، ولو لم يكن إلّا تألّم
(5)
بفراق
(6)
محبوبه، فينضغط لذلك وينعصر قلبه، ويضيق صدره؛ فأكثرُ الخلق رجعوا من التوبة ونُكِسوا
(1)
كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": ". . أقوى شاهد تؤيده الفطرة".
(2)
"إلى الفطرة المكملة" ساقط من "ط".
(3)
كلمة "الصحيح" ساقطة من "ط".
(4)
"ك، ط": "غاية له".
(5)
"ف": "تألمه"، خلاف الأصل. وكذا في "ك، ط".
(6)
"ب": "لفراق".
على رؤوسهم لأجل هذه المحنة
(1)
. والعارف الموفّق يعلم أنّ الفرحة والسرور واللذّة الحاصلة
(2)
عقيبَ التوبة تكون على قدر هذه العصرة، فكلّما كانت
(3)
أقوى وأشدّ كانت الفرحة واللذّة أكمل وأتمّ. ولذلك أسباب عديدة:
منها: أنّ هذه العصرة والقبض دليل على حياة قلبه، وقوة استعداده، ولو كان قلبه ميّتا واستعداده ضعيفًا لم يحصل له ذلك.
وأيضًا: فإنّ الشيطان لصّ الإيمان، واللصّ إنّما يقصد المكان المعمور، وأمّا المكان الخراب الذي لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده. فإذا قويت المعارضات الشيطانية والعصرة دلّ على أنّ في قلبه من الخير ما يشتدّ حرص الشيطان على نزعه منه.
وأيضًا: فإنّ قوة المعارض والمضاذ تدلّ على قوة معارضه وضدّه
(4)
، ومثل هذا إمّا أنّ يكون رأسًا في الخير أو رأسًا في الشرّ. فإنّ النفوس الأبيّة القويّة إن كانت خيّرةً رأستْ في الخير
(5)
، وإن كانت شِرِّيرةً رأست في الشرّ.
وأيضًا: فإنّ بحسب مدافعته
(6)
لهذا العارض وصبره عليه يثمر له ذلك من اليقين والثبات والعزم ما يوجب زيادةَ انشراحه وطمأنينته.
(1)
"ط": "المحبة"، تصحيف. وكذا كان في "ك"، ثمَّ عدّل.
(2)
في الأصل: "الحاصل"، سهو. وكذا في "ف، ب". والمثبت من "ك، ط".
(3)
"ب": "كانت العصرة".
(4)
"ب": "قوة معارضة ومضادّة"، خطأ.
(5)
"أو رأسًا في الشرِّ. . . " إلى هنا ساقط من "ب".
(6)
"ب، ك، ط": "موافقته"، تحريف شنيع.
وأيضًا: فإنّه كلّما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه. هذه سنّة اللَّه في الخلق. فانظر إلى الجنّة وعِظَمها، وإلى الموانع والقواطع التي حالت دونها حتّى أوجبَتْ أن ذهب من كلِّ ألف رجلٍ واحدٌ إليها. وانظر إلى محبّة اللَّه، والانقطاع إليه، والإنابة إليه
(1)
، والتبتّل إليه وحده، والأنس به، واتخاذه وليًّا ووكيلًا وكافيًا وحسيبًا؛ هل يكتسب العبد شيئًا أشرف منه؟ وانظر إلى القواطع والموانع الحائلة دونه، حتّى قد تعلّق كل قوم بما تعلّقوا
(2)
به دونه. والطالبون له منهم الواقف مع عمله
(3)
، والواقف مع علمه، والواقف مع حاله، والواقف مع ذوقِه وجمعيّته وحظِّه من ربّه؛ والمطلوبُ منهم وراء ذلك كلّه.
والمقصود أنَّ هذا الأمر الحاصل بالتوبة لما كان من أجلِّ الأمور وأعظمها نُصِبَتْ عليه المعارضاتُ والمحن، ليتميّز الصادق من الكاذب، وتقع الفتنة، ويحصل الابتلاءُ، ويتميّز من يصلح ممَّن لا يصلح
(4)
. قال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت/ 1 - 3] وقال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك/ 2]. ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلًا أفضَتْ به إلى رياضِ الأُنس وجنَّات الانشراح؛ وإنْ لم يصبر لها انقلب على وجهه. واللَّه الموفّق، لا إله غيره، ولا ربَّ سواه.
(1)
"إليه" ساقط من "ب".
(2)
"ب": "قد تعلّقوا".
(3)
"ب": "علّة"، تحريف.
(4)
"ب": "ويتميّز من لا يصلح". فأسقط بعض الكلام.
والمقصود أنَّ هذا الفرح من اللَّه بتوبة عبده -مع أنَّه لم يأتِ نظيرُه في غيرها من الطاعات- دليلٌ على عِظَمِ قدرِ التوبة وفضلها عند اللَّه، وأنَّ التعبّد له بها من أشرف التعبّدات. وهذا يدلّ على أنَّ صاحبها يعود أكملَ ممَّا كان قبلها.
فهذا بعض ما احتُجَّ به لهذا القول.
وأمَّا الطائفة التي قالت: لا يعودُ إلى مثل ما كان، بل لا بدَّ أن ينقص عن حاله
(1)
، فاحتجّوا بأنّ الجناية تُوجب الوحشةَ وزوالَ المحبّة ونقصَ العبوديّه بلا ريب، فليس العَبد الموفر أوقاتَه على طاعة سيّده كالعبد المفرّط في حقوقه، وهذا ممّا لا يمكن جحده ومكابرته. فإذا تاب إلى ربّه ورجع إليه أثرت توبتُه تركَ مؤاخذته بالذنب والعفوَ عنه، وأمّا مقام القرب والمحبّة، فهيهات أن يعود!
قالوا: ولأنّ هذا في زمن اشتغاله بالمعصية قد فاته فيه السيرُ إلى اللَّه. فلو كان واقفًا في موضعه لفاته التقدّمُ، فكيف وهو في زمن المعصية
(2)
كان سيرُه إلى وراءَ وراءَ؟ فإذا تاب واستقبل سيره، فإنَّه يحتاج إلى سير جديد وقطع مسافةٍ حتّى يصل إلى الموضع الذي تأخّر منه.
قالوا: ونحن لا ننكر أنّه قد يأتي بطاعات وأعمال تبلّغه إلى منزلته، وإنّما أنكرنا أن يكون بمجرّد التوبة النصوح يعود إلى منزلته وحالته
(3)
. وهذا ممّا لا يكون، فإنّه بالتوبة قد وجّه وجهَه إلى الطريق، فلا يصل إلى
(1)
"عن" ساقط من "ك، ط".
(2)
"فلو كان واقفًا. . " إلى هنا ساقط من "ب". وفيها: "وكان سيره إلى. . . ".
(3)
"وإنَّما أنكرنا. . . " إلى هنا ساقط من "ط".
مكانه الذي رجع منه إلّا بسيرٍ مستأنَفٍ يُوصله إليه. ونحن لا ننكر أنّ العبد بعد التوبة يعمل أعمالًا عظيمةً لم يكن ليعملَها قبل الذنب تُوجب له التقدّم.
قالوا: وأيضًا فلو رجع إلى حاله التي كان عليها أو إلى أرفع منها لكان بمنزلة المداوم على الطاعة أو أحسن حالًا منه، فكيف يكون هذا؟ وأين سيرُ
(1)
صاحب الطاعة في زمن اشتغال هذا بالمعصية؟ وكيف يلتقي رجلان: أحدُهما سَائرٌ نحوَ المشرق، والآخرُ نحوَ المغرب، فإذا رجع أحدهما إلى طريق الآخر، والآخرُ مجدٌ على سيره، فإنّه لا يزال سابقَه ما لم يعرض له فتور أو توانٍ؟ هذا مما لَا يمكن جحده ودفعه.
قالوا: وأيضًا فمرضُ القلب بالذنوب على مثال مرضِ الجسم بالأسقام، والتوبة بمنزلة شرب الدواءِ. والمريض إذا شرب الدواءَ وصحّ، فإنه لا تعود
(2)
إليه قوّتُه قبل المرض؛ وإن عادت فبعدَ حين.
قالوا: وأيضًا فهذا في زمن معالجة التوبة ملبوك
(3)
في نفسه، مشغول بمداواتها ومعالجتها؛ وفي زمن الذنب مشغول بشهوتها. والسالم من ذلك مشغول بربّه، قد قرُبَ منه في سيره. فكيف يلحقه هذا؟
فهذا ونحوه مما احتجّت به هذه الطائفة لقولها.
(1)
"ط": "مسير".
(2)
"ف": "لا يعود". والأصل غير منقوط.
(3)
"ب": "مكبول"، تحريف. وكان في "ك" على الصواب فغيره بعضهم. وانظر ما سلف في ص (470).
وجرت هذه المسألة بحضرة شيخ الإسلام ابن تيميّة، فسمعتُه يحكي هذه الأقوال الثلاثة حكاية مجزدة. فإمّا سألتُه، وإمّا سئل عن الصواب منها، فقال: الصواب أنّ من التائبين من يعود إلى مثل حاله، ومنهم من يعود أكمل مما كان
(1)
، ومنهم من يعود أنقص
(2)
ممّا كان. فإن كان بعد التوبة خيرًا ممّا كان قبل الخطيئة، وأشدّ حذرًا، وأعظم تشميرًا، وأعظم ذلًّا وخشيةً وإنابةً، عاد إلى أرفع ممّا كان. وإن كان قبل الخطيئة أكمل في هذه الأمور، ولم يعُدْ بعد التوبة إليها، عاد إلى أنقصَ ممّا كان عليه. وإن كان بعد التوبة مثل ما كان قبل الخطيئة رجع إلى مثل منزلته. هذا معنى كلامه رضي الله عنه
(3)
.
[مسألة أخرى]
قلتُ: وههنا مسألةٌ، هذا الموضعُ أخصُّ المواضعِ ببيانها. وهي أنّ التائب إذا تاب إلى اللَّه توبةً نصوحًا، فهل تمُحى تلك السيئات، ويذهب لا له ولا عليه، أوإذا مُحِيتْ أُثبِت له مكان كلّ سيّئةٍ حسنةٌ؟
(4)
هذا مما اختلف الناس فيه من المفسّرين وغيرهم قديمًا وحديثًا. فقال الزجّاج: "ليس يُجعَل مكان السيئة الحسنة، لكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة"
(5)
.
(1)
"ب، ك، ط": "يعود إلى أكمل منها".
(2)
"ب، ك، ط": "إلى أنقص".
(3)
حكى المصنف كلام شيخ الإسلام في الداء والدواء (137)، ومدارج السالكين (1/ 368) أيضًا. وانظره بعينه في منهاج السنة (2/ 432).
(4)
انظر في هذه المسألة أيضًا: مدارج السالكين (1/ 378).
(5)
قول الزجاج بهذا اللفظ في معاني القرآن للنحاس (841)، وتفسير القرطبي =
قال ابن عطية: "يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأولى طاعة. فيكون ذلك سببًا لرحمة اللَّه إئاهم. قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن" وردّ على من قال: هو في يوم القيامة. قال: "وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي ذرّ يقتضي أنّ اللَّه سبحانه يوم القيامة يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحّدين بدل سيئاته حسنات، وذكره الترمذي والطبري. وهذا تأويل سعيد بن المسيّب في هذه الآية". قال ابن عطية: "وهو معنى كرم العفو"
(1)
. هذا آخر كلامه.
قلت: سيأتي إن شاءَ اللَّه ذكرُ الحديث بلفظه، والكلام عليه.
قال المهدوي: "وروي معنى هذا القول عن سلمان الفارسي وسعيد ابن جبير وغيرهما".
وقال الثعلبي: "قال ابن عبّاس وابن جريج والضحّاك وابن زيد: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان/ 70]: يبدّلهم اللَّه بقبائح
(2)
أعمالهم في الشرك محاسنَ الأعمال في الإسلام، فيبدّلهم
(3)
بالشرك إيمانًا، وبقتل المؤمنين قتلَ المشركين، وبالزنى عفّةً وإحصانًا. وقال الآخرون
(4)
: يعني يبذل اللَّه سيّئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم حسناتٍ يوم القيامة"
(5)
.
= (7/ 53). وانظر: معاني القرآن وإعرابه (4/ 76).
(1)
المحرر الوجيز (4/ 221).
(2)
"ك، ط": "بقبيح".
(3)
"ب": "فيبدلهم اللَّه".
(4)
" ب، ك، ط": "آخرون".
(5)
الكشف والبيان (4/ 433).