الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من يشاء من عباده.
الطبقة الثامنة: طبقة
(1)
من فتح اللَّه له
(2)
بابًا من أبواب الخير القاصر على نفسه كالصلاة، والحجّ، والعمرة، وقراءة القرآن، والصوم، والاعتكاف، والذكر ونحوها، مضافًا إلى أداء فرائض اللَّه عليه. فهو جاهدٌ في تكثير حسناته، وملء
(3)
صحيفته بها
(4)
، وإذا عمل خطيئة تاب إلى اللَّه منها. فهذا على خير عظيم، وله ثواب أمثاله من عُمَّال الآخرة
(5)
. ولكن ليس له إلا عمله، فإذا مات طويت صحيفته بموته
(6)
. فهذه طبقة أهل الربح والحظوة أيضًا عند اللَّه.
الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة
. وهي طبقة من يؤدِّي فرائض اللَّه، ويترك محارمه
(7)
، مقتصرًا على ذلك، لا يزيد عليه ولا ينقص منه. فلا يتعدَّى إلى ما حرَّم اللَّه عليه، ولا يزيد على ما فرَضَ عليه
(8)
. وهذا من المفلحين بضمان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمن أخبره بشرائع الإسلام، فقال: واللَّه لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه. فقال:"أفلح إن صدق"
(9)
.
(1)
"طبقة" ساقط من "ك، ط".
(2)
"له" ساقط من "ف".
(3)
"ط": "إملاءً"، خطأ.
(4)
"بها" ساقط من "ب، ط".
(5)
"ك، ط": "أعمال الآخرة"، تحريف.
(6)
"بموته" ساقط من "ك، ط".
(7)
"ف": "وترك محارمه"، خلاف الأصل. "ك":"بترك محارم اللَّه". "ط": "ويترك محارم اللَّه".
(8)
"ب": "فرض اللَّه عليه".
(9)
أخرجه البخاري في الإيمان (46) وغيره، ومسلم في الإيمان (11) من حديث =
وأصحاب هذه الطبقة مضمون لهم على اللَّه تكفيرُ سيئاتهم، إذا أدّوا فرائضه واجتنبوا كبائر ما نهاهم عنه. قال تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء/ 31]. وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " [الصلواتُ الخمسُ]
(1)
ورمضان إلى رمضانَ والجمعةُ إلى الجمعةِ مكفِّراتٌ لما بينهنَّ ما لم تُغْشَ كبيرةٌ"
(2)
.
فإن غشي أهلُ هذه الطبقة كبيرةً، وتابوا منها توبةً نصوحًا، لم يخرجوا من طبقتهم، وكانوا
(3)
بمنزلة من لا ذنب له. فتكفير الصغائر يقع بشيئين: أحدهما: الحسنات الماحية، والثاني
(4)
: اجتناب الكبائر. وقد نصَّ عليهما سبحانه في كتابه، فقال:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود/ 114]. وقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء/ 31].
الطبقة العاشرة: طبقة قوم أسرفوا على أنفسهم، وغَشُوا كبائرَ ما نهى اللَّه عنه، لكن رُزِقُوا
(5)
التوبة النصوحَ قبل الموت، فماتوا على توبة صحيحة. فهؤلاء ناجون من عذاب اللَّه إمَّا قطعًا عند قوم، وإمَّا ظنًّا ورجاءً
(6)
= طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه.
(1)
مكان ما بين الحاصرتين بياض في الأصل و"ف". وهو مثبت في "ب، ك" دون إشارة إلى بياض في أصليهما.
(2)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة (233). وفي "ب": "والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان"، وهو الوارد في مسلم.
(3)
"ك، ط": "فكانوا".
(4)
"الثاني" سقط من "ف" سهوًا.
(5)
"ك، ط": "ولكن رزقهم اللَّه".
(6)
"ك، ط": "رجاءً وظنًّا".
عند آخرين. وهم موكولون
(1)
إلى المشيئة، ولكن نصوص القرآن والسنَّة تدلُّ على نجاتهم وقبول توبتهم، وهو وعد وعدهم اللَّه إيَّاه، واللَّه لا يخلف الميعاد.
فإن قيل: فما الفرقُ بين أهل هذه الطبقة والتي قبلها؟ فإنَّ اللَّه إذا كفَّر عنهم سيّئاتهم، وأثبت لهم بكلِّ سيئة حسنةً، كانوا كمن قبلهم أو أرجح.
قيل: قد تقدَّم الكلام على هذه المسألة بما فيه كفاية
(2)
، فعليك بمعاودته هناك. وكيف يستوي عند اللَّه من أنفق عمره في طاعته ولم يغشَ كبيرةً، ومن لم يدَع كبيرةً إلا ارتكبها، وفرَّط في أوامره، ثمَّ تاب؟ فهذا غايته أن تُمْحَى سيئاتُه، ويكون لا له ولا عليه. وأمَّا أن يكون هو ومَن قبله سواءً أو أرجح منه فكلّا!
الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيّئًا، فعملوا حسنات وكبائر، ولقوا اللَّه مُصرِّين عليها غير تائبين منها، لكن حسناتهم أغلب من سيّئاتهم، فإذا وُزِنتْ بها رجَحتْ كِفَّةُ الحسنات، فهؤلاء أيضًا ناجون فائزون. قال تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)} [الأعراف/ 8 - 9].
قال حذيفة وعبد اللَّه بن مسعود وغيرهما من الصحابة: يُحشَر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: فمن رجحت حسناته على سيئاته بواحدة دخل الجنَّة، ومن رجحت سيئاته على حسناته بواحدة دخل النار، ومن
(1)
"ف": "موكلون"، سهوًا.
(2)
انظر: ص (505) وما بعدها.
استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف
(1)
.
وهذه الموازنة تكون بعد القصاص، واستيفاء المظلومين حقوقهم من حسناته. فإذا بقي له
(2)
شيء منها وزن هو وسيئاته.
لكن
(3)
هنا مسألة، وهي: إذا وزنت السيئات بالحسنات فرجحت الحسنات، هل يُلغَى المرجوحُ جملةً، ويصير الأثر للراجح، فيثاب على حسناته كلّها؛ أو يسقَط من الحسنات ما قابلها من السيئات المرجوحة، ويبقى التأثير للرجحان، فيثاب عليه وحده؟ فيه قولان. هذا عند من يقول بالموازنة والحكمة، وأمَّا من ينفي ذلك فلا عبرة عنده بهذا، وإنَّما هو موكول إلى محض المشيئة. وعلى القول الأوَّل فيذهب أثر السيئات جملةً بالحسنات الرَّاجحة. وعلى القول الثاني يكون تأثيرها في نقصان ثوابه، لا في حصول العقاب له.
ويترجَّح هذا القول الثاني بأنَّ السيئات لو لم تحبط ما قبلها من الحسنات، وكان العمل والتأثير للحسنات كلّها، لم يكن فرقٌ بين وجودها وعدمها، ولكان لا فرق بين المحسن الذي تمحّضَ
(4)
عملُه حسناتٍ، وبين من خلط عملًا صالحًا وآخر سيِّئًا.
وقد يُجاب عن هذا بأنَّها أثَّرت في نقصان ثوابه ولا بدّ، فإنَّه لو اشتغل في زمن إيقاعها بالحسنات لكان أرفع لدرجته وأعظم لثوابه.
(1)
تفسير الطبري (12/ 453).
(2)
"له" ساقط من "ب، ك، ط".
(3)
"ك، ط": "ولكن".
(4)
لم ينقط أول الكلمة في الأصل، ولكن هكذا ضبطها وضبط ما بعدها في "ب". وفي "ف":"محض"، وهو خلاف الأصل. وكذا في "ك، ط".
وإذا كان كذلك فقد ترجَّح القول الأوَّل بأنَّ الحسنات لمَّا غلبت السيئات ضعف تأثير المغلوب المرجوح، وصار الحكم للغالب دونه، لاستهلاكه في جنبه؛ كما يُستهلك يسيرُ النجاسة في الماءِ الكثير، والماءُ إذا بلغ قُلَّتين لم يحمِل الخَبَث
(1)
. واللَّه أعلم.
الطبقة الثانية عشرة
(2)
: قومٌ تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فتقابل أثراهما فتقاوما، فمنعتهم حسناتهم المساوية من دخول النَّار، وسيئاتهم المساوية من دخول الجنَّة. فهؤلاء من أهل الأعراف، لم يفضل لأحدهم حسنة يستحقّ بها الرحمة من ربّه، ولم يفضل عليه سيئة يستحقّ بها العذاب.
وقد وصف اللَّه سبحانه أهل هذه الطبقة في سورة الأعراف -بعد أن ذكر دخولَ أهل النارِ النارَ
(3)
، وتلاعنَهم فيها، ومخاطبةَ أتباعهم لرؤسائهم، وردَّهم عليهم؛ ثمَّ مناداة أهل الجنَّة أهلَ النار- فقال تعالى:{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} [الأعراف/ 46 - 47].
فقوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} أي: بين أهل الجنَّة والنار حجاب. قيل: هو السور الذي ضُرِب
(4)
بينهم، له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قِبَله العذاب. باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره الذي
(1)
يشير إلى حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما. أخرجه أبو داود (63)، والترمذي (67).
(2)
في الأصل: "عشر". وكذا في "ف، ك". والمثبت من "ب، ط".
(3)
"النار" ساقط من "ط".
(4)
"ب، ك، ط": "يضرب".
يلي الكفار من جهته
(1)
العذاب. و"الأعراف" جمع عُرْف، وهو المكان المرتفع، وهي
(2)
سور عال بين الجنَّة والنار. قيل: هو هذا السور الذي يضرب بينهم.
وقيل: جبال بين الجنَّة والنَّار
(3)
عليها
(4)
أهل الأعراف. قال حذيفة وعبد اللَّه بن عباس: هم قومٌ استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتُهم عن النار. فوقفوا هناك حتى يقضي اللَّه فيهم ما يشاء، ثمَّ يدخلهم الجنَّة بفضل رحمته
(5)
.
قال عبد اللَّه بن المبارك: أخبرنا أبو بكر الهذلي قال: كان سعيد بن جبير
(6)
يحدِّث عن ابن مسعود، قال: يحاسَب الناسُ
(7)
يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنَّة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته
(8)
بواحدة دخل النَّار. ثمَّ قرأ قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
(1)
"ط": "جهتهم".
(2)
"ك، ط": "وهو".
(3)
"قيل: هو هذا. . . " إلى هنا ساقط من "ط".
(4)
"ط": "عليه".
(5)
أما أثر حذيفة فأخرجه المروزي في زوائد الزهد (483)، وابن أبي حاتم في تفسيره (8499)، والطبري (8/ 190)، وهو صحيح عن حذيفة. وأما أثر ابن عباس فأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (8501) وسنده ضعيف جدًّا. وأخرجه الطبري (8/ 191، 192) بسندٍ فيه انقطاع. (ز).
(6)
"ف": "كثير"، ورسم الجيم والحاء في الأصل يشبه أحيانًا رسم الكاف. انظر ما سلف في ص (815).
(7)
"ك، ط": "يحاسب اللَّه الناس".
(8)
"من حسناته" ساقط من "ط".
أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف/ 8، 9] ثمَّ قال: إنَّ الميزان يخِفّ بمثقال حبَّة أو يرجح. قال: ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف. فوقفوا على الصراط ثمَّ عرفوا أهل الجنَّة وأهل النَّار، فإذا نظروا إلى الجنة
(1)
نادوا: سلام عليكم، وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار قالوا:{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} [الأعراف/ 47]. فأمَّا أصحاب الحسنات فإنَّهم يُعطَون نورًا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كلّ عبد يومئذ نورًا. فإذا أتوا على الصراط
(2)
سلب اللَّه نور كل منافق ومنافقة. فلمَّا رأى أهل الجنَّة ما لقي المنافقون قالوا: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم/ 8]. وأمَّا أصحاب الأعراف فإنَّ النور لم ينزع الطمع إذ لم ينزع من أيديهم، ومنعتهم سيئاتهم أن يمضوا، وبقي في قلوبهم الطمع إذ لم ينزع النور من أيديهم
(3)
. يقول
(4)
اللَّه: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)} [الأعراف/ 46] فكان الطمع للنور الذي في أيديهم. ثمَّ أدخلوا الجنَّة، وكانوا آخر أهل الجنَّة دخولًا
(5)
. يريد: آخر أهل الجنَّة دخولًا ممَّن لم يدخل النَّار.
وقيل: هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم، فقُتِلوا، فأعتقوا من النار لقتلهم في سبيل اللَّه، وحبسوا عن الجنَّة لمعصية آبائهم
(6)
. وهذا
(1)
"ط": "أهل الجنة".
(2)
"ف": "السراط"، خلاف الأصل.
(3)
"ومنعتهم سيئاتهم. . . " إلى هنا ساقط من "ط".
(4)
"ك، ط": "فيقول".
(5)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (411). وانظر: تفسير الطبري (12/ 453). وسنده ضعيف جدًّا، فيه أبو بكر الهذلي، متروك. (ز).
(6)
تفسير الطبري (12/ 457).
من جنس القول الأوَّل.
وقيل: هم قوم رضي عنهم أحدُ الأبوين دون الآخر؛ يُحبَسُون على الأعراف حتى يقضي اللَّه بين الناس، ثمَّ يدخلهم الجنة
(1)
. وهو
(2)
من جنس ما قبله، فلا تناقض بينهما.
وقيل: هم أصحاب الفترة وأطفال المشركين
(3)
.
وقيل: هم أولو الفضل من المؤمنين علَوا على الأعراف، فيطَّلعون على أهل النار وأهل الجنَّة جميعًا
(4)
.
وقيل: هم ملائكة
(5)
لا من بني آدم
(6)
.
والثابت عن الصحابة هو القول الأوَّل. وقد رويت فيه آثار كثيرة مرفوعة لا تكاد تثبت أسانيدها. وآثار الصحابة في ذلك المعتمدة. وقد اختلف في تفسير الصحابي هل له حكم المرفوع أو الموقوف، على قولين. الأوَّل اختيار أبي عبد اللَّه الحاكم
(7)
، والثاني هو الصواب ولا نقوِّل
(8)
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما لم نعلم أنَّه قاله.
(1)
تفسير البغوي (3/ 232) عن مجاهد.
(2)
"ط": "هي".
(3)
تفسير البغوي (3/ 233). وانظر ما يأتي في ص (858).
(4)
وهو قول الحسن. انظر: تفسير البغوي (3/ 233).
(5)
"ك، ط": "الملائكة".
(6)
تفسير الطبري (12/ 459).
(7)
انظر: المستدرك (1/ 726)، (2/ 283) وقد عزاه إلى الشيخين. وقيّده في معرفة علوم الحديث (20) بكونه في أسباب النزول.
(8)
"ك، ط": "ولا نقول على رسول اللَّه اللَّه". "ب": "ولا يقول. . . ما لم يعلم".
وقوله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} صريح في أنَّهم من بني آدم، ليسوا من الملائكة.
وقوله: {يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} يعني: يعرفون الفريقين بسيماهم. {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} أي: نادى أهلُ الأعراف أهلَ الجنَّة بالسلام.
وقوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)} الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف. لم يدخلوا الجنَّة بعد، وهم يطمعون في دخولها. قال أبو العالية: ما جعل اللَّه ذلك الطمع فيهم إلا كرامةً يريدها بهم
(1)
. وقال الحسن: الذي جعل
(2)
الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون
(3)
. وفي هذا ردّ على قول من قال: إنَّهم أفاضل المؤمنين عَلَوا على الأعراف يطالعون أحوالَ الفريقين. فعاد الصواب إلى تفسير الصحابة، وهم أعلم الأمة بكتاب اللَّه ومراده منه.
ثمَّ قال تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} هذا دليل على أنَّهم
(4)
بمكان مرتفع بين الجنَّة والنار، فإذا أشرفوا على أهل الجنَّة نادوهم بالسلام وطمعوا في الدخول إليها. وإذا أشرفوا على أهل النار سألوا اللَّه أن لا يجعلهم معهم.
(1)
انظر: تفسير البغوي (3/ 233). وهذا اللفظ أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (907)، وابن أبي حاتم (8517)، والطبري (8/ 196) عن الحسن، وسنده صحيح. (ز).
(2)
"ط": "جمع".
(3)
تفسير البغوي (3/ 233).
(4)
"ك، ط": "أنه"، تحريف.
ثمَّ قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} يعني من الكفار الذين في النار. فقالوا لهم: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)} يعني ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتحزّبكم
(1)
على أهل
(2)
الحقِّ ولا استكباركم. وهذا إمَّا نفي، وإمَّا استفهام توبيخ
(3)
، وهو أبلغ وأفخم.
ثمَّ نظروا إلى الجنَّة فرأوا من فيها
(4)
من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم في الدنيا ويزعمون أنَّ اللَّه لا يختصّهم دونهم بفضله، كما لم يختصّهم دونهم في الدنيا، فيقول لهم أهل الأعراف:{أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} أيها المشركون أنَّ اللَّه تعالى لا ينالهم برحمة، فها هم في الجنَّة يتمتَّعون ويتنعّمون، وفي رياضها يُحبَرون، ثمَّ يقال لأهل الأعراف:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)} [الأعراف/ 49].
وقيل: إنَّ أصحاب الأعراف إذا عيّروا الكفار، وأخبروهم أنَّهم لم تُغنِ عنهم جموعهم
(5)
واستكبارهم، عيّرهم الكفار بتخلّفهم عن الجنة، وأقسموا أنَّ اللَّه لا ينالهم برحمة، لما رأوا من تخلّفهم عن الجنة، وأنَّهم يصيرون إلى النار، فتقول لهم الملائكة حينئذ:{أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}
(6)
.
(1)
قرأ ناسخ "ف": "تجرّيكم". وكذا في غيرها. ولكن نقطة الزاي واضحة في الأصل. وتحت الحاء نقطة أيضًا ولكنها للفاء في كلمة "فيها" الواردة في السطر التالي.
(2)
"أهل" ساقط من "ك، ط".
(3)
"ك، ط": "وتوبيخ".
(4)
"من فيها" ساقط من "ك، ط".
(5)
"ط": "لم يغن عنهم جمعهم".
(6)
ذكر القولين الطبري في تفسيره (12/ 471 - 472). وانظر: تفسير البغوي =
والقولان قويان محتملان، واللَّه أعلم.
فهؤلاء الطبقات هم أهل الجنَّة الذين لم تمسّهم النار.
الطبقة الثالثة عشرة
(1)
: طبقة أهل المحنة والبلية، نعوذ باللَّه، وإن كانت آخرتهم إلى عفو وخير. وهم قوم مسلمون خفَّت موازينهم، ورجححت سيئاتهم على حسناتهم، فغلبتها السيئات. فهذه الطبقة هي
(2)
التي اختلفت فيها أقاويل الناس، وكثُر فيها خوضهم، وتشعَّبت مذاهبهم، وتشتّتت آراؤهم.
فطائفة كفَّرتهم، وأوجبت لهم الخلود في النار. وهذا مذهب أكثر الخوارج، بل يكفّرون من هو أحسن حالًا منهم، وهو مرتكب الكبيرة الذي لم يتب منها، ولو استغرقتها حسناتُه.
وطائفة أوجبت لهم الخلود في النار، ولم تُطْلِقْ عليهم اسمَ الكفر، بل سمّوهم منافقين. وهذا المذهب ينسب إلى البكرية أتباع بكر ابن أخت عبد الواحد
(3)
.
وطائفة نزَّلتهم منزلةً بين منزلتي
(4)
الكفار والمؤمنين، فجعلوا أقسام
= (3/ 233 - 234).
(1)
في الأصل: "عشر". وكذا في "ف، ك". والمثبت من "ب، ط".
(2)
"هي": ساقط من "ك، ط".
(3)
انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 317). ونحوه في تأويل مختلف الحديث (96). وذكر ابن حزم أن المذنب من أهل ملتنا عند بكر ابن أخت عبد الواحد كافر مشرك كعابد الوثن، صغيرًا كان ذنبه أو كبيرًا، ولو فعله على سبيل المزاح؛ إلّا أن يكون بدريًّا فهو كافر من أهل الجنة! انظر: الفصل (2/ 217، 291).
(4)
"ك، ط": "منزلة".
الخلق ثلاثةً: مؤمنين، وكفَّارًا، وقسمًا لا مؤمنين ولا كفَّارًا بل بينهما، وأوجبت لهم الخلود في النَّار. وهذا هو الرَّأي الذي أصفَقَ
(1)
عليه أهلُ الاعتزال، وهو أحد أصولهم الخمس
(2)
التي هي قواعد مذهبهم، وهي:"التوحيد" الذي مضمونه جحدُ صفاتِ الخالق ونعوتِ كماله، والتعطيل المحض. و"العدل" الذي مضمونه نفي عموم قدرة اللَّه، وأنَّه لا قدرة له على أفعال الحيوانات، بل هي خارجة عن ملكه وخلقه وقدرته، وأنَّه يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، وأنَّه
(3)
لا يقدر أن يهدي ضالًّا، ولا يُضِلّ
(4)
مهتديًا، ولا يجعل المصلِّي مصلِّيًا والذاكر ذاكرًا والطائف
(5)
طائفًا. تعالى اللَّه عن إفكهم وشركهم علوًّا كبيرًا. و"المنزلة بين المنزلتين" التي مضمونها إيجاب الخلود في النار
(6)
للمسلم المبالِغ في طاعة ربه الذي أفنى عمره في عبادته وطاعته، ومات مُصِرًّا على كبيرة واحدة. تعالى اللَّه عمَّا نسبوه إليه من ذلك وجلَّ عن هذا الافتراء. و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" الذي مضمونه الخروج على أئمة الجور بالسيف، وخلع اليد من طاعتهم، ومفارقة جماعة المسلمين. والأصل الخامس:"النبوة"
(7)
، مع أنَّهم لم يوفّوها حقَّها، بل هضموها
(1)
أصفق القوم على الأمر: أطبقوا عليه. وفي "ب": "اتفق". والكلمة ساقطة من "ك، ط".
(2)
كذا في الأصل وغيره، وهو جائز في العربية. وفي "ط":"الخمسة".
(3)
"ك، ط": "فإنّه"، خطأ.
(4)
"ط": "ولا أن يضل".
(5)
"ط": "ولا الذاكر ذاكرًا ولا الطائف" بزيادة "لا" في الموضعين.
(6)
"ط": "إيجاب القول بالنار"، تصرّف غريب!
(7)
كذا ذكر المؤلف هنا "النبوّة" من الأصول الخمسة للمعتزلة، والمشهور مكانها: إنفاذ الوعيد، أو الوعد والوعيد. انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 311)، =
غاية الهضم من وجوه كثيرة ليس هذا موضعها.
والمقصود أنَّ مذهبهم تخليد هذه الطبقة في النار، وإن لم يسمّوهم كفَّارًا، فوافقوا الخوارج في الحكم، وخالفوهم في الاسم. ولهذا تسمّى هذه المسألة من مسائل الأسماءِ والأحكام.
فهذه ثلاث فرق توجب لهذه الطبقة
(1)
الخلود في النار.
وقالت المرجئة على اختلاف آرائهم: لا ندري
(2)
ما يفعل اللَّه بهم. فيجوز أن يعذِّبهم كلّهم، وأن يعفو عنهم كلّهم، وأن يعذّب بعضهم ويعفو عن بعضهم، غير أنَّهم لا يخلد أحد منهم في النار. فجوَّزوا أن يلحق بعضهم بمن ترجَّحت حسناته على سيئاته، بل جوَّزوا أن يرفع عليه في الدرجة، فهم موكولون عندهم إلى محض المشيئة لا يُدرَى ما يفعل اللَّه بهم، بل يُرجأ أمرهم إلى اللَّه وحكمه. وهذا قول كثير من المتكلِّمين والفقهاء والصوفية وغيرهم.
فهذه الأقوال هي
(3)
التي يعرفها أكثر الناس، ولا يحكي أهل الكلام غيرها. وقول الصحابة والتابعين وأئمة الحديث لا يعرفونه ولا يحكونه، وهو الذي ذكرناه عن ابن عبَّاس وحذيفة وابن مسعود رضي الله عنهم أنَّ من ترجَّحت سيئاته بواحدة دخل النَّار.
= ومجموع الفتاوى (12/ 480)، وبيان تلبيس الجهمية (465)، ومنهاج السنة (1/ 120).
(1)
"ك، ط": "أوجبت لهذه الطائفة".
(2)
"ك، ط": "لا يدرى". والمثبت من "ف، ب".
(3)
"هي" ساقط من "ك، ط".
وهؤلاء هم القسم الذين جاءت فيهم الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأنَّهم
(1)
يدخلون النَّار، فيكونون فيها على مقدار أعمالهم: فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه
(2)
إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه
(3)
إلى ركبتيه. ويلبثون فيها على قدر أعمالهم، ثمَّ يخرجون منها، فينبتون على أنهار الجنَّة، فيُفيض عليهم أهل الجنَّة من الماءِ حتَّى تنبت أجسادهم، ثمَّ يدخلون الجنة
(4)
. وهم الطبقة الذين يخرجون من النَّار بشفاعة الشافعين، وهم الذين يأمر اللَّه تعالى سيِّد الشفعاء مرارًا أن يخرجهم من النار بما معهم من الإيمان
(5)
.
وإخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم يكونون فيها على قدر أعمالهم، مع قوله تعالى:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)}
(6)
[الأحقاف/ 14] و {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)} [النمل/ 90] وقوله: {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)}
(7)
[النحل/ 111] وأضعاف ذلك من نصوص القرآن
(1)
"ب، ك، ط": "فإنّهم"، تحريف.
(2)
"ب، ك، ط": "تأخذه النار".
(3)
"ك، ط": "تأخذه النار".
(4)
يشهد له ما أخرجه مسلم في كتاب الجنة ونعيمها (2845) من حديث سمرة رضي الله عنه.
(5)
يشهد له ما أخرجه البخاري في التوحيد (7440) ومسلم في الإيمان (193) من حديث أنس رضي الله عنه.
(6)
ورد في الأصل: "جزاء بما كنتم تعملون"، وكذا في النسخ الأخرى، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم، فحذف في "ط""جزاءً". ولعل المقصود ما أثبتنا.
(7)
أثبت في "ط" جزءًا من آية أخرى وردت في البقرة (281)، وآل عمران (171).
والسنَّة يدلّ على ما قاله أفضلُ الأمة وأعلمُها باللَّه وكتابه وأحكامِ الدارين أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم. والعقل والفطرة تشهد له، وهو مقتضى حكمة العزيز الحكيم الذي بهرت حِكَمه
(1)
العقول. فليس الأمر مسيَّبًا
(2)
خارجًا عن الضبط والحكمة، بل مربوط بالأسباب، والحكمُ مرتَّب عليها أكملَ ترتيب، جارٍ على نظام اقتضاه السبب واستدعته الحكمة.
وأيّ طريقٍ
(3)
سلكها سالك غير هذه الطريق من الطرق المتقدِّمة أفضت به إلى ترك بعض النصوص ولا بدّ، فإنَّها تتناقض في حقِّه، لما أصَّله من الأصل الذي لا يلتئم عليه جميع النصوص
(4)
. فلا بدَّ أن يردّ بعضَها ببعض، أو يستشكلها، أو يتطلَّب لها مستنكرَ التأويلات ووجوه التحريفات؛ كما ردَّ الخوارج والمعتزلة النصوص المتواترة الدالَّة على خروج أهل الكبائر من النَّار بالشفاعة، فكذَّبوا
(5)
بها، وقالوا: لا سبيل لمن دخل النَّار إلى الخروج منها بشفاعة ولا غيرها. ولما بهرتهم نصوصُ الشفاعة، وصاح بهم أهلُ السنَّة وأئمة الإسلام من كل قطر وجانب، ورموهم بسهام الردّ عليهم، أحالوا بالشفاعة على زيادة الثواب فقط، لا على الخروج من النار. فردّوا السنَّة المتواترة قطعًا، وصاروا مضغة في أفواه الأمة وعارًا في فِرَقها. فإنَّ أمر الشفاعة أظهر عند الأمة من أن يقبل شكًّا أو نزاعًا، وهو عندهم مثل الصراط والحساب ونحوهما مما يُعلَم إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به قطعًا. ولكن إنَّما أُتِيَ القومُ لأنَّهم في غاية
(1)
"ب، ك، ط": "حكمته".
(2)
"ك، ط": "سببًا"، تحريف.
(3)
"ك، ط": "الطريق"، خطأ.
(4)
"ط": "جمع النصوص"، تحريف.
(5)
"ط": "وكذّبوا".
البعد عمَّا جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم، أجانبُ منه
(1)
، ليسوا من الورثة.
وأمَّا الخوارج فكذَّبوا الصحابةَ صريحًا. وأمَّا المرجئة فإنَّهم يجوّزون أن لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد. وهذا خلاف
(2)
المعلوم المتواتر من نصوص السنَّة بدخول بعض أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها بالشفاعة. ومع هذا التواتر الذي لا يمكن دفعه، لا يجوز أن يقال بجواز أن لا يدخل أحد منهم النار، بل لا بدَّ من دخول بعضهم، وذلك البعض هو الذي خفَّت موازينه ورجحت سيئاته، كما قاله
(3)
الصحابة رضي الله عنهم. وحكى أبو محمد بن حزم هذا إجماعًا من أهل السنة
(4)
.
ولولا أنَّ المقصود ذكر الطبقات لذكرنا ما لهذه المذاهب وما عليها، وبيّنَّا تناقض أهلها، وما وافقوا فيه الحقّ وما خالفوه بالعلم والعدل لا بالجهل والظلم. فإنَّ كل طائفة منها معها حقّ وباطل، فالواجب موافقتهم فيما قالوه من الحقّ، وردّ ما قالوه من الباطل. ومن فتح اللَّه له بهذه الطريق فقد فتح له من العلم والذين كل باب، ويسَّر عليه فيهما الأسباب. وباللَّه
(5)
المستعان.
الطبقة الرَّابعة عشرة
(6)
: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان، وهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع
(1)
"ط": "عنه".
(2)
"ط": "بخلاف".
(3)
"ك، ط": "قال".
(4)
في كتابه: الدرّة فيما يجب اعتقاده (340).
(5)
"ط": "واللَّه".
(6)
في الأصل: "عشر". وكذا في "ف، ك". والمثبت من "ب، ط".
لها بخبر. ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئًا ولا يميّز. ومنهم الأصمّ الذي لا يسمع شيئًا أبدًا. ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميّزوا شيئًا، فاختلفت الأمة في حكم هذه الطبقة اختلافًا كثيرًا. والمسألة التي وسَّعوا فيها الكلام هي مسألة أطفال المشركين.
وأمَّا أطفال المسلمين، فقال الإمام أحمد: لا يختلف فيهم أحد. يعني أنَّهم في الجنَّة
(1)
. [وحكى ابن عبد البرّ عن جماعة أنَّهم توقَّفوا فيهم، وأنَّ جميع الولدان تحت المشيئة قال: وذهب إلى هذا القول جماعة كثيرة من أهل الفقه والحديث منهم حمَّاد بن زيد]
(2)
وحمَّاد بن سلمة، وابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم. قال
(3)
: وهو يشبه
(4)
ما رسم مالك في موطّئه في أبواب القدر وما أورده من الأحاديث في ذلك، وعلى ذلك أكثر أصحابه. وليس عن مالك فيه شيء منصوص إلا أنَّ المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنَّة، وأطفال المشركين خاصَّة في المشيئة
(5)
.
(1)
نحوه في أحكام أهل الذمة (610). وانظر قول الإمام أحمد في المغني (13/ 254).
(2)
مكان ما بين الحاصرتين بياض في "ف". وقال ناسخها: "وفي حاشية الأصل بخطّ المؤلف رحمه الله أسطار مصحح على آخرها، ذهب الأول منها تأكّلًا على طرف الورقة. أخلى الكاتب له تحت هذا السطر موضعًا وكتب ما وجد بعده". وهو كما قال. والمثبت من "ب، ك، ط".
(3)
"ب، ك، ط": "قالوا". وسقط "وغيرهم" من "ك، ط".
(4)
"ك، ط": "شبه"، تحريف.
(5)
التمهيد (18/ 112). ونبّه المصنِّف في أحكام أهل الذمة (618) على أنّ ابن عبد البر اضطرب في النقل في هذه المسألة، فإنه قال في موضعٍ آخر في التمهيد نفسه (6/ 348 - 349): "قد أجمع العلماء على أن أطفال المسلمين في =
وأمَّا أطفال المشركين فللنَّاس فيهم ثمانية مذاهب
(1)
:
أحدها: الوقف فيهم، وترك الشهادة بأنَّهم في الجنَّة أو في النار، بل يوكل علمهم إلى اللَّه تعالى، ويقال: اللَّه أعلم بما
(2)
كانوا عاملين. واحتجّ هؤلاء بحجج:
منها ما خرَّجا
(3)
في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه
(4)
، كما تنتج البهيمة من بهيمة جمعاءَ، هل تحسّ
(5)
فيها من جدعاء؟ ". قالوا: يا رسول اللَّه، أفرأيتَ من يموت وهو صغير؟ قال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين"
(6)
.
ومنها ما في الصحيحين أيضًا عن ابن عباس أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن
= الجنة، ولا أعلم عن جماعتهم في ذلك خلافًا إلّا فرقة شذت من المجبرة فجعلتهم في التيه، وهو قول شاذ مهجور مردود بإجماع أهل الحجة الَّذين لا يجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم الغلط في مثل هذا، إلى ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد الثقات". عقب ابن القيم على ذلك، ومما قال: "وهذا من السهو الذي هو عرضة للإنسان، وربّ العالمين هو الذي لا يضلّ ولا ينسى".
(1)
عقد المؤلف فصلًا طويلًا في هذا الموضوع في كتابه أحكام أهل الذمة (1086 - 1130) أيضًا. وانظر: حاشيته على السنن (ذيل عون المعبود 12/ 320) ودرء التعارض لشيخه (8/ 435 - 438).
(2)
"ك، ط": "ما".
(3)
"ب": "خرجه البخاري ومسلم في صحيحهما". "ط": "أخرجاه".
(4)
"ط": "أو ينصّرانه".
(5)
"ط": "يحس".
(6)
البخاري في القدر (6599) وغيره، ومسلم في القدر (2658).
أولاد المشركين، فقال:"اللَّه أعلم بما كانوا عاملين"
(1)
.
وفي صحيح أبي حاتم ابن حبان من حديث جرير بن حازم قال: سمعت أبا رجاء العُطاردي، قال: سمعت ابن عبَّاس
(2)
يقول وهو على المنبر: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يزال أمر هذه الأمة مُؤامًّا
(3)
-أو مقاربًا- ما لم يتكلَّموا في الولدان والقدر". قال أبو حاتم: "الولدان" أراد به أطفال المشركين
(4)
.
وفي استدلال هذه الفرقة على ما ذهبت إليه من الوقف بهذه النصوص نظر. فإنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُجِبْ فيهم بالوقف، وإنَّما وكل علمَ ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى اللَّه. والمعنى: اللَّه أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا. فهو سبحانه يعلم القابلَ منهم للهدى العاملَ به لو عاش، والقابلَ منهم للكفر المؤثرَ له لو عاش. لكن لا يدلّ هذا على أنَّه سبحانه يجزيهم بمجرَّد علمه فيهم بلا عمل يعملونه، وإنَّما يدلّ على أنَّه يعلم منهم ما هم عاملون بتقدير حياتهم. وهذا الجواب خرج من النبيّ
(5)
صلى الله عليه وسلم على وجهين:
(1)
البخاري (6597)، ومسلم (2659) في القدر.
(2)
"العطاردي. . . " إلى هنا ساقط من "ط". وكذا من "ك" إلّا "العطاردي".
(3)
أي: مقاربًا. وفي "ك، ط": "قوامًا"، ولعله تحريف.
(4)
أخرجه ابن حبان (6724)، والحاكم (1/ 33) من حديث ابن عباس مرفوعًا.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولا نعلم له علّة". وسيأتي قول المصنف إن الناس رووه موقوفًا على ابن عباس، وهو الأشبه. انظر: القدر للفريابي (258، 259) والسنة لعبد اللَّه (870) واللالكائي (1127) وغيره. (ز).
(5)
"ك، ط": "عن النبي".
أحدهما: جواب لهم إذ سألوه عنهم: ما حكمهم؟ فقال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين". وهو في هذا الوجه يتضمَّن أنَّ اللَّه سبحانه يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر، بتقدير الحياة. وأمَّا المجازاة على العلم، فلم يتضمّنها جوابُه صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح أبي عوانة الإسفراييني عن هلال بن خبَّاب
(1)
عن عكرمة عن ابن عباس: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فسأله رجل: ما تقول في اللاهين؟ فسكت عنه. فلمَّا فرغ من غزوة الطائف إذا هو بصبيّ يبحث في الأرض، فأمر مناديه فنادى: أين السائل عن اللاهين؟ فأقبل الرجل. فنهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قتل الأطفال، وقال:"اللَّه أعلم بما كانوا عاملين"
(2)
.
والوجه الثاني: جواب لهم حين أخبرهم أنَّهم من آبائهم، فقالوا: بلا عمل؟ فقال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين". كما روى أبو داود
(3)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول اللَّه، ذراريّ المؤمنين؟ فقال
(4)
: "من آبائهم". فقلت
(5)
: يا رسول اللَّه، بلا عمل؟ قال:"اللَّه أعلم بما كانوا عاملين". قلت: يا رسول اللَّه، فذراريّ المشركين؟ قال:
(1)
"ب": "حيان". "ك": "حبان"، وكلاهما تحريف.
(2)
أخرجه الفريابي في القدر (175)، والطبراني في الأوسط (2018)، والكبير (11906). قال الهيثمي:"وفيه هلال بن خباب وهو ثقة، وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح". (ز).
(3)
في السنن (4712)، وأحمد (24545)، والفريابي في القدر (168)، والطبراني في مسند الشاميين (843)، واللالكائي (1091) وغيرهم. وسنده حسن. (ز).
(4)
"ك، ط": "قال".
(5)
"ك، ط": "قلت".
"هم من آبائهم". فقلت: يا رسول اللَّه، بلا عمل؟ قال:"اللَّه أعلم بما كانوا عاملين"
(1)
. ففي هذا الحديث ما يدلّ على أنَّ الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم اللَّه أنَّهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوا به، فهؤلاء مع آبائهم. ولا يقتضي أنَّ كلّ واحدٍ من الذرية مع أبيه في النَّار، فإنَّ الكلام في هذا الجنس سؤالًا وجوابًا، والجواب يدل على التفصيل. فإنَّ قوله:"اللَّه أعلم بما كانوا عاملين" يدلّ على أنَّهم متباينون في التبعية، بحسب تباينهم
(2)
في معلومِ اللَّه فيهم.
يبقى
(3)
أن يقال: فالحديث يدل على أنَّهم يلحقون بآبائهم من غير عمل، ولهذا فهمت ذلك منه عائشة فقالت: بلا عمل؟ فأقرَّها عليه، وقال
(4)
: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين".
ويجاب عن هذا بأنَّ الحديث إنَّما دل على أنَّهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه
(5)
في الدنيا، وهو الذي فهمته عائشة. ولا ينفي هذا أن يلحقوا بهم بأسباب أُخر يمتحنهم بها في عرصات القيامة، كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه. فحينئذٍ يلحقون بآبائهم ويكونون منهم بلا عمل عملوه في الدنيا. وعائشة رضي الله عنها إنَّما استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباء، وأجابها النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنَّ اللَّه سبحانه يعلم منهم ما هم عاملوه. ولم يقل لها: إنَّه يعذِّبهم بمجرَّد علمه فيهم. وهذا ظاهر بحمد
(1)
"قلت: يا رسول اللَّه، فذراري المشركين. . . " إلى هنا ساقط من "ط".
(2)
"ب، ك": "نياتهم". "ط": "نياتهم ومعلوم اللَّه"، تحريف.
(3)
"ب، ط": "بقي".
(4)
"ط": "فقال".
(5)
"عملوه" سقط من "ف" سهوًا.
اللَّه لا إشكال فيه.
وأمَّا حديث أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس، ففي القلب من رفعه شيء، وإن أخرجه ابن حبَّان في صحيحه
(1)
. وهو يدلّ على ذمِّ من تكلَّم فيهم بغير علم، أو ضرَبَ النصوص بعضها ببعض فيهم، كما ذمَّ من تكلَّم في القدر بمثل ذلك. وأمَّا من تكلَّم فيهم بعلم وحقٍّ فلا.
المذهب الثاني: أنَّهم في النَّار. وهذا قول جماعة من المتكلّمين وأهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد، وحكاه القاضي نصًّا عن أحمد
(2)
.
واحتجَّ هؤلاء بحديث عائشة المتقدّم، واحتجُّوا بما رواه أبو عقيل يحيى بن المتوكِّل، عن بُهَيَّة، عن عائشة: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أولاد
(1)
زاد المصنف في أحكام أهل الذمة: "والناس إنما رووه موقوفًا عليه وهو الأشبه، وابن حبان كثيرًا ما يرفع في كتابه ما يعلم أئمة الحديث أنَّه موقوف، كما رفع قول أبي بن كعب: "كل حرف في القرآن في القنوت فهو الطاعة". وهذا لا يشبه كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وغايته أن يكون كلام أبي. . . ".
(2)
قال المصنف في حاشيته على السنن (12/ 32): "حكاه القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد. قال شيخنا: هو غلط منه على أحمد، وسبب غلطه أن أحمد سئل عنهم، فقال: هم على الحديث. قال القاضي: أراد حديث خديجة إذ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أولادها الَّذين ماتوا قبل الإسلام فقال: "إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار". قال شيخنا: وهذا حديث موضوع، وأحمد أجلّ من أن يحتج بمثله. وإنما أراد حديث عائشة: "واللَّه أعلم بما كانوا يعملون". ولفظ شيخ الإسلام في درء التعارض (8/ 398): "هذا حديث موضوع كذب، لا يحتج بمثله أقل من صحب أحمد، فضلًا عن الإمام أحمد". وانظر: المغني (13/ 254)، ومجموع الفتاوى (24/ 372)، ومنهاج السنة (2/ 306)، والردّ على الشاذلي (80 - 81)، وأحكام أهل الذمة (626).
المسلمين أين هم؟ قال: "في الجنة". وسألته عن أولاد المشركين أين هم يوم القيامة؟ قال: "في النار". فقلت: لم يدركوا الأعمال ولم تَجْرِ عليهم الأقلام؟ قال: "ربك أعلم بما كانوا عاملين"
(1)
.
قلت: يحيى بن المتوكل لا يُحتجُّ بحديثه، فإنَّه في غاية من الضعف. وأمَّا حديث عائشة المتقدّم فهو من حديث عمر بن ذرّ، وتفرَّد به عن يزيد بن أبي أميّة
(2)
أنَّ البراءَ بن عازب أرسل إلى عائشة يسألها عن الأطفال، فذكرت الحديث. هكذا قال سلم
(3)
بن قتيبة عنه
(4)
. وقال غيره: عن عمر بن ذرّ عن يزيد عن رجل عن البراءِ
(5)
.
ورواه الإمام أحمد في مسنده
(6)
من حديث عتبة بن ضمرة بن
(1)
أخرجه أحمد في المسند (25743) مختصرًا، والطيالسي في مسنده (1681)، وابن عدي في الكامل (207) وغيرهم. والحديث باطل منكر، وهو من منكرات يحيى بن المتوكل أبي عقيل قال أحمد فيه:"أحاديثه عن بهية عن عائشة منكرة، لم يرد ما روى عنها إلّا وهو واهي الحديث". والحديث تكلم فيه ابن عدي وابن الجوزي والذهبي وابن حجر والسيوطي وغيرهم. انظر: العلل المتناهية (1541) والبدور السافرة للسيوطي (1263) والفتح (3/ 426) والتمهيد (18/ 122). (ز).
(2)
كذا في الأصل وغيره. وكذا في حاشيته على السنن (12/ 316)، وأحكام أهل الذمة (624). والصواب: يزيد بن أمية. انظر لسان الميزان (7/ 439). وفي "ط": "يزيد عن أبي أمية"، غلط.
(3)
"ف، ب": "مسلم"، وكذا في "ط" وأحكام أهل الذمة (624). والصواب ما أثبتنا من الأصل. وكذا في "ك". وهو سلم بن قتيبة الشعيري أبو قتيبة الخراساني الفريابي، نزيل البصرة. انظر: تهذيب التهذيب (4/ 133).
(4)
"عنه" ساقط من "ك، ط".
(5)
أخرجه البخاري في تاريخه (8/ 319 - 320).
(6)
(41/ 95)(24545).
حبيب، حدَّثني عبد اللَّه بن أبي قيس مولى غُطَيف أنَّه سأل عائشة، فذكر الحديث. وعبد اللَّه هذا يُنظر في حاله، وليس بالمشهور
(1)
.
واحتجُّوا بما
(2)
رواه عبد اللَّه بن أحمد في مسند أبيه
(3)
، حدَّثنا عثمان ابن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل بن غزوان، عن محمد بن عثمان، عن زاذان، عن عليّ قال: سألت خديجةُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال: "هما في النَّار". فلمَّا رأى الكراهية في وجهها قال: "لو رأيتِ مكانهما لأبغضتِهما". قالت: يا رسول اللَّه، فولدي منك؟ قال:"إنَّ المؤمنين وأولادهم في الجنَّة، وإنَّ المشركين وأولادهم في النَّار". ثمَّ قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ}
(4)
. وهذا معلول من وجهين: أحدهما: أنَّ محمد بن عثمان مجهول، الثاني: أنَّ زاذان لم يدرك عليًّا
(5)
.
وقال جماعة عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن [سلمة بن يزيد] الأشجعي
(6)
قال: أتيت أنا وأخي النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلنا: إنَّ
(1)
ذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. تهذيب التهذيب (5/ 366).
(2)
من هنا إلى قوله "وبحديث خديجة" ألحقه المصنف في حاشية النسخة. وهي ثلاثة أسطر في طول الصفحة. وقد ذهب أكثر السطر الأخير منها عندما نقلت نسخة "ف" منها، كما يظهر من البياض الآتي فيها. أما الآن فلا يظهر في المصورة إلا كلمات من أول هذا السطر.
(3)
(2/ 348)(1131).
(4)
كذا رسمت الآية هنا في الأصل و"ف" على قراءة الجمهور. وستأتي مرة أخرى على قراءة أبي عمرو، وعليها ضبطت هنا في "ب".
(5)
والحديث تكلم فيه ابن الجوزي والذهبي والهيثمي. انظر: تحقيق المسند. (ز).
(6)
ما بين الحاصرتين مكانه بياض في "ف". ولعله كان في الأصل: "سلمة بن =
أمّنا ماتت في الجاهلية [وكانت تقري الضيف، وتصل الرحم، فهل ينفعها من عملها ذلك شيء؟ قال: "لا". قلنا له: فإنّ أمّنا وأدَتْ أختًا لنا]
(1)
في الجاهلية لم تبلغ الحِنْث؟ فقال: "الوائدة والموؤودة في النَّار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم"
(2)
. وهذا إسنادٌ لا بأس به.
واحتجُّوا
(3)
بحديث خديجة أنَّها سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أولادها الذين ماتوا في الشرك فقال: "إن شئتِ أسمعتُكِ تضاغيَهم في النار"
(4)
. قال شيخنا: وهذا حديث باطل موضوع
(5)
.
= يزيد الأشجعي" كما في مخطوطة أحكام أهل الذمة. والصواب: "سلمة بن يزيد الجعفي"، كما في المسند (25/ 268). وفي "ب، ك، ط":"سلمة بن قيس"، ولعله من تصرف بعض النسّاخ إذ رأى "الأشجعي" فكتب قبله في مكان البياض:"سلمة بن قيس"، لأنَّه هو الأشجعي، لا سلمة بن يزيد.
(1)
ما بين الحاصرتين من أحكام أهل الذمة (627). ومكانه بياض في "ف". وفي "ك": بياض بعد "الضيف" وقبل "لنا". ولفظ الحديث في "ب": ". . . الرحم وتفعل وتفعل، فهل ينفعها. . . قلنا: إن أمنا وأدت. . . الحنث، فهل ذلك نافع أختنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم. . . ". ولم نأخذ بهذا اللفظ لعدم ملاءمته لسياق الأصل. وذكر ناشر (ط) الحديث بلفظ مختلف ولم يشر إلى بياض في أصله.
(2)
أخرجه أحمد (15923)، والنسائي في الكبرى (11649)، والبخاري في تاريخه (4/ 72) وغيرهم. والحديث فيه اختلاف طويل. انظر: التاريخ الكبير وعلل الدارقطني (5/ 160 - 163)(ز).
(3)
"احتجوا" ساقط من "ك، ط".
(4)
أخرجه البيهقي في القضاء والقدر (625) بمعناه، وفيه:"قلت يا رسول اللَّه، فأولادي من غيرك؟ قال: في النار، قلت: بلا عمل؟ قال: اللَّه أعلم بما كانوا عاملين". قال البيهقي: هذا إسناده منقطع. (ز).
(5)
انظر ما سبق من تعليقنا في ص (846).
واحتجوا أيضًا بما روى البخاري في صحيحه
(1)
في حديث احتجاج الجنَّة والنار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "وأمَّا النَّار فينشئ اللَّه لها خلقًا يُسكنهم إيَّاها" قالوا: فهؤلاء ينشَؤون للنَّار بغير عمل، فلأنْ يدخلها مَن وُلِد في الدنيا بين كافرين أولى. وهذه حجّة باطلة
(2)
، فإنَّ هذه اللفظة وقعت غلطًا من بعض الرواة، وبيَّنها البخاري رحمه الله في الحديث الآخر -وهو الصواب- فقال في صحيحه
(3)
: حدَّثني عبد اللَّه بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدئنا معمر، عن همَّام، عن أبي هريرة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "تحاجَّت الجنَّة والنَّار، فقالت النَّار: أُوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين. وقالت الجنَّة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاءُ النَّاس وسَقَطُهم؟ قال اللَّه عز وجل للجنَّة: أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاءُ من عبادي. وقال للنَّار: أنتِ عذابي أُعذِّبُ بكِ من أشاء من عبادي، ولكلّ واحدة منكما ملؤها. فأمَّا النَّار فلا تمتلئ حتَّى يضع
(4)
رِجلَه، فتقول: قطْ، قطْ. فهنالك تمتلئ، ويُزوَى بعضُها إلى بعض، ولا يظلم اللَّه من خلقه أحدًا. وأمَّا الجنَّة فإنَّ اللَّه ينشئ لها خلقًا". فهذا هو الذي قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بلا ريب، وهو الذي ذكره في التفسير.
وقال
(5)
في باب ما جاء في قول اللَّه تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف/ 56]: حدثنا عبيد اللَّه
(6)
بن سعد، حدَّثنا
(1)
في كتاب التوحيد (7449)، وسيأتي نصّ الحديث بتمامه.
(2)
وهذا الردّ أيضًا نقله المؤلف في أحكام أهل الذمة (629) عن شيخه.
(3)
في كتاب التفسير (4850).
(4)
"ك، ط": "يضع الجبار عز وجل".
(5)
"قال" ساقط من "ط".
(6)
في الأصل وغيره: "عبد اللَّه"، وكذا في أحكام أهل الذمة (630). والصواب ما =
يعقوب، حدثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اختصمت الجنَّة والنَّار إلى ربهما، فقالت الجنَّة: يا ربّ ما لها لا يدخلها إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ وقالت النار
(1)
، فقال للجنَّة: أنتِ رحمتي، وقال للنار: أنتِ عذابي أصيب بكِ من أشاءُ، ولكلِّ واحدة منكما ملؤها. قال: فأمَّا الجنَّة فإنَّ اللَّه تعالى لا يظلم من خلقه أحدًا، وإنَّه ينشئ للنار مَن يشاء فيُلْقَون فيها، فتقول: هل من مزيد؟ ويلقون فيها، وتقول: هل من مزيد
(2)
-ثلاثًا- حتى يضع قدمه فيها، فتمتلئ، ويُرَدّ بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط قط"
(3)
. فهذا غير محفوظ، وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعًا
(4)
. كما انقلب على بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ بلالًا يؤذّن بليل، فكلوا واشربوا حتَّى يؤذِّن ابنُ أُمِّ مكتوم"
(5)
. فقال: "إنَّ ابن أمّ مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتَّى يؤذن بلال"
(6)
،
= أثبتنا من الصحيح. وفي "ب": "عبيد اللَّه بن سعيد"، وهو أيضًا خطأ.
(1)
كذا في الأصلِ، وكتب بعده:"صح"، حتى لا يظن أنه أسقط شيئًا، وكذا في "ف". وفي حاشية "ك":"كذا وجد". قال ابن بطال: سقط قول النار هنا من جميع النسخ -يعني نسخ الصحيح- وهو محفوظ في الحديث. رواه ابن وهب عن مالك بلفظ: "أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين". قال ابن حجر: هو في غرائب مالك للدارقطني، وكذا هو عند مسلم من رواية ورقاء عن أبي الزناد. انظر: الفتح (13/ 436). وفي "ب": "يعني أوثرت. . . ".
(2)
"ويلقون فيها. . . " إلى هنا ساقط من "ك، ط".
(3)
كتاب التوحيد (7449).
(4)
وانظر: حاشيته على السنن (12/ 322)، وحادي الأرواح (536). ونقل ذلك في الزاد (1/ 439) عن شيخه. وانظر قوله في منهاج السنة (5/ 101).
(5)
من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أخرجه البخاري في الأذان (617) وغيره؛ ومسلم في الصيام (1092).
(6)
أخرجه ابن خزيمة (406) ومن طريقه ابن حبان (3473) من حديث عائشة =
وله نظائر. وحديث الأعرج عن أبي هريرة هذا
(1)
لم يُحفَظ كما ينبغي، وسياقه يدل على أنَّ راويه لم يُقِمْ متنه، بخلاف حديث همام عن أبي هريرة.
واحتجُّوا بما رواه أبو داود
(2)
عن عامر الشعبي قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الوائدةُ
(3)
والموؤودة في النار". قال يحيى بن زكريا: [قال أبي]
(4)
: فحدَّثني أبو إسحاق السبيعي أنَّ عامرًا حدَّثه بذلك عن علقمة، عن ابن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وسيأتي
(5)
الجواب عن هذا الحديث إن شاء اللَّه
(6)
.
المذهب الثالث: أنَّهم في الجنَّة، وهذا قول طائفة من المفسِّرين والمتكلمين وغيرهم
(7)
. واحتجَّ هؤلاء بما رواه البخاري في صحيحه
(8)
عن سمرة بن جندب قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعنى
(9)
ممَّا يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منك رؤيا؟ " قال: فيَقُصُّ عليه من شاءَ
(10)
اللَّه
= (ز). وانظر: تعليق المحققين على المسند (9/ 312)(5424).
(1)
"ط": ". . . هذا عن أبي هريرة".
(2)
في كتاب السنة (4717).
(3)
من قوله "واحتجوا بما رواه" إلى هنا جزء من لحق في الأصل ذهب به التصوير أو تأكل الورقة، فأثبته من "ف" وغيرها.
(4)
ما بين الحاصرتين زدناه من السنن. وقد سقط من الأصل وغيره.
(5)
"ك، ط": "يأتي".
(6)
زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم".
(7)
ذكر المصنف في أحكام أهل الذمة (632) أنه من اختيار أبي محمد ابن حزم وغيره، ونقل من دلائله المذكورة في كتابه الفصل (2/ 324)، وردّ عليها.
(8)
في كتاب التعبير (7047).
(9)
حذف "يعنى" في "ط".
(10)
"ط": "ما شاء".
أن يَقُصّ. وإنَّه قال لنا ذات غداة: "إنَّه
(1)
أتاني الليلة آتيان" فذكر الحديث وفيه: "فأتينا على روضة معتمَّة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهرَي الروضة رجلٌ طويل لا أكاد أرى رأسه طولًا في السماء. وإذا حول الرجل من أكثر ولدانٍ رأيتهم قطّ" وفيه:"وأمَّا الولدان الذين حوله فكلّ مولود مات على الفطرة" فقال بعض المسلمين: يا رسول اللَّه وأولاد المشركين؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وأولاد المشركين". فهذا الحديث الصحيح صريح في أنهَّم في الجنَّة، ورؤيا الأنبياء وحي.
وفي مستخرج البَرْقاني على البخاري من حديث عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي، عن سمرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة" فناداه
(2)
الناس: يا رسول اللَّه، وأولاد المشركين؟ قال:"وأولاد المشركين"
(3)
.
وقال أبو بكر بن حمدان القطيعي: حدثنا بشر بن موسى، حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف، عن خنساء
(4)
بنت معاوية، قالت: حدّثتني عمَّتي
(5)
قلتُ
(6)
: يا رسول اللَّه، من في الجنَّة؟ قال: "النبيّ في الجنّة،
(1)
"ك، ط": "إني".
(2)
"ك، ط": "فقال".
(3)
وأخرجه البيهقي في "القضاء والقدر" رقم (6052).
(4)
كذا في الأصل وغيره. وفي المسند والسنن وغيرهما: "حسناء"، وذكر الوجهان في ترجمتها في تهذيب التهذيب (12/ 409).
(5)
كذا في الأصل وغيره وأحكام أهل الذمة (633). وفيه نظر، فإن الوارد في كتب الحديث والرجال أنها تروي عن عمّها. وذكر بعضهم أن اسمه أسلم بن سليم. انظر: تهذيب التهذيب والمصادر المذكورة في تخريج الحديث.
(6)
"ك، ط": "قالت".
والشهيد في الجنَّة، والمولود في الجنَّة
(1)
، والموؤودة في الجنَّة"
(2)
. وكذلك رواه بندار، عن غندر، عن عوف.
واحتجُّوا بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف/ 172]، وبقوله تعالى:{لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)} [الليل/ 15]، وبقوله تعالى:{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)} [البقرة/ 24]
(3)
.
واحتجّوا
(4)
بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء/ 15]. وهؤلاء لم تقم عليهم حجَّة اللَّه بالرسل فلا يعذِّبهم.
واحتجّوا بقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165]
(5)
.
واحتجّوا بقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} [القصص/ 59]. فإذا كان سبحانه لا يهلك القرى في الدنيا ويعذِّب أهلها إلا بظلمهم، فكيف يعذِّب في الآخرة العذاب الدائم من لم
(1)
"والمولود في الجنة" ساقط من "ب، ك، ط".
(2)
أخرجه أبو داود (2521) وأحمد (20583) والبيهقي (9/ 163) وغيرهم. وفيه: حسناء بنت معاوية، فيها جهالة. (ز).
(3)
قوله: "واحتجّوا بقوله تعالى" إلى هنا مثبت من "ب، ك، ط". ومكانه بياض في "ف". وهو الجزء الأخير من لحق بدأ في الأصل من قوله: "وفي مستخرج البرقاني" من وسط حاشية الصفحة اليسرى في طولها، وتمّ في ثلاثة أسطر في أعلاها. والسطر الأخير قد ذهب به تأكل الورقة، ولا يظهر منه الآن في المصورة إلّا:"وكذلك رواه بندار".
(4)
"واحتجوا" ساقط من "ك، ط".
(5)
هذه الآية مع ما قبلها "واحتجوا" ساقطة من "ك، ط".
يصدر منه ظلم؟
ولا يقال: كما أهلكه في الدنيا تبعًا لأبويه وغيرهم، فكذلك يدخله النار تبعًا لهم. لأنَّ مصائب الدنيا إذا وردت لا تخصّ الظالم وحده بل تصيب الظالم وغيره، ويبعثون على نيَّاتهم وأعمالهم، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال/ 25] وكالجيش الذين يخسف بهم جميعهم، وفيهم المكره والمستبصر وغيره. فأمَّا عذاب الآخرة فلا يكون إلا للظالمين خاصَّة، ولا يتبعهم فيه من لا ذنب له أصلًا.
قال تعالى في حقِّ النار
(1)
: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك/ 8 - 9] وقال تعالى لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} [ص/ 85]. وإذا امتلأت بإبليس وأتباعه، فأين يستقرّ فيها من لم يتبعه؟
قالوا: وأيضًا فالقرآن مملوءٌ
(2)
من الأخبار بأنَّ دخول النَّار إنَّما يكون بالأعمال، كقوله:{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)} [النمل/ 90] وقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف/ 49] وقوله
(3)
: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} [البقرة/ 281] وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ
(1)
كذا في "ف". وفي "ب، ك، ط": "في النار". ولا يبعد أن تكون كلمة "الحق" مضروبًا عليها، ولكن ليس ذلك بيّنًا لانتشار الحبر.
(2)
"ف": "ضمن"، خلاف الأصل.
(3)
"وقوله" ساقط من "ط".
الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف/ 76] إلى غير ذلك من النصوص.
قالوا: وقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّ كلَّ مولود يولد على الفطرة، وإنَّما يهوّده وينصّره أبواه، فإذا مات قبل التهويد والتنصير مات على الفطرة، فكيف يستحقّ النار؟ وفي صحيح مسلم
(1)
من حديث عياض بن حمار
(2)
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يقول اللَّه تعالى: إنِّي خلقتُ عبادي حُنفاء، فأتتهم
(3)
الشياطينُ، فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم".
وقال محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عائذ، عن عياض، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ اللَّه خلق آدم وبنيه حنفاءَ مسلمين، وأعطاهم المال حلالًا لا حرامًا"، فزاد "مسلمين"
(4)
.
قالوا: وأيضًا فإنَّ النَّار دار عدله تعالى، والجنَّة دار فضله، ولهذا
(5)
ينشئ للجنَّة من لم يعمل عملًا قطّ. وأمَّا النار فإنَّه لا يعذّب بها إلا من
(1)
في كتاب الجنة (2865).
(2)
"ف": "حديث أبي هريرة"، وهو غير صحيح، ولكن لا ندري أكان هذا السهو في الأصل، أم ناسخ "ف" هو الذي سها، لأن قوله:"وفي صحيح مسلم. . . دينهم" جزء من لحق، ووقع في طرف الورقة، فضاع أو لم يظهر في الصورة. والمثبت من "ب، ك، ط".
(3)
"ب، ك، ط": "فجاءتهم".
(4)
أخرجه الطبراني في الكبير (17/ 997)، وسنده ضعيف، فيه عبد الرحمن بن عائذ، تابعي لا يدرى أسمع من عياض أم لا. وأيضًا فيه ابن إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث. (ز).
(5)
"ب، ك، ط": "فلهذا"، قراءة محتملة.
عمل بعمل أهلها.
قالوا: وأيضًا فإنَّ النَّار دار جزاءٍ، فمن لم يعص اللَّه طرفةَ عين كيف يُجازى بالنَّار خالدًا مخلَّدًا أبد الآباد؟
قالوا: وأيضًا فلو عذّب هؤلاء لكان تعذيبهم إمَّا مع تكليفهم بالإيمان أو بدون التكليف، والقسمان ممتنعان: أمَّا الأوَّل فلاستحالة تكليف من لا تمييز له ولا عقل أصلًا. وأمَّا الثاني فممتنع
(1)
أيضًا بالنصوص التي ذكرناها وأمثالها من أنَّ اللَّه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام
(2)
الحجَّة عليه.
قالوا: وأيضًا فلو كان تعذيب هؤلاء لأجل عدم الإيمان المانع من العذاب لاشتركوا هم وأطفال المسلمين في ذلك، لاشتراكهم في عدم الإيمان الفعلي علمًا وعملًا. فإن قلتم: أطفال المسلمين منعهم تبعهم لآبائهم من العذاب، بخلاف أطفال المشركين. قلنا: اللَّه تعالى لا يعذِّب أحدًا بذنب غيره. قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام/ 164] وقال: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس/ 54].
وهذه حجج كما ترى قوَّةً وكثرةً، ولا سبيل إلى دفعها. وسيأتي إن شاء اللَّه فصلُ النزاع في المسألة، والقولُ بموجَب
(3)
الحجج الصحيحة
(1)
"ك، ط": "فيمتنع".
(2)
"ف": "إقامة"، خلاف الأصل.
(3)
"ك، ط": "في هذه المسألة والقول بموجب هذه. . . ".
كلّها، على عادتنا
(1)
في مسائل الدين كلّها دِقّها وجِلّها أن نقول بموجَبها، ولا نضربَ بعضها ببعض؛ ولا نتعصَّب لطائفة على طائفة، بل نوافق كلّ طائفة على ما معها من الحقّ، ونخالفها فيما معها من خلاف الحقّ. لا نستثني من ذلك طائفةً ولا مقالةً، ونرجو من اللَّه أن نحيا على ذلك، ونموت عليه، ونلقَى اللَّه به، ولا قوَّة إلا باللَّه.
المذهب الرابع: أنَّهم في منزلة بين المنزلتين بين الجنَّة والنَّار، فإنَّهم ليس لهم إيمان يدخلون به الجنَّة، ولا لآبائهم فوز يلحق بهم أطفالهم تكميلًا لثوابهم وزيادةً في نعيمهم، وليس لهم من الأعمال ما يستحقون به دخول النار.
وهذا قول طائفة من المفسّرين. قالوا: وهم أهل الأعراف. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: "هم الذين ماتوا في الفترة [وأطفال المشركين] "
(2)
.
والقائلون بهذا إن أرادوا أنَّ هذا المنزل مستقرّهم أبدًا فباطل، فإنَّه لا دار للقرار إلا الجنَّة أو النَّار. وإن أرادوا أنَّهم يكونون فيه مدَّةً، ثمَّ يصيرون إلى دار القرار، فهذا ليس بممتنع.
المذهب الخامس: أنَّهم تحت مشيئة اللَّه تعالى، يجوز أن يعمّهم بعذابه، وأن يعمّهم برحمته، وأن يرحم بعضًا ويعذِّب بعضًا، بمحض
(1)
"ط": "على أن عادتنا".
(2)
ما بين الحاصرتين زدناه من أحكام أهل الذمة (641). وهي زيادة لا بدّ منها ليتصل كلامه بالسياق. وعبد العزيز بن يحيى الكناني من أصحاب الشافعي، ينسب إليه كتاب الحيدة. وقد جرت بينه وبين بشر المريسيّ مناظرة في القرآن. طبقات السبكي (2/ 144).
الإرادة والمشيئة. ولا سبيل إلى إثبات شيء من هذه الأقسام إلا بخبر يجب المصير إليه، ولا حكم فيهم إلا بمحض المشيئة.
وهذا قول الجبرية نفاة الحكمة والتعليل، وقول كثير من مثبتي القدر غيرهم
(1)
.
المذهب السادس: أنَّهم خدم أهل الجنَّة ومماليكهم، وهم معهم بمنزلة أرقَّائهم ومماليكهم في الدنيا.
واحتجّ هؤلاء بما رواه يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ، عن أبي حازم المديني، عن يزيد الرقاشي، عن أنس؛ قال الدارقطني: ورواه عبد العزيز الماجشون، عن ابن المنكدر، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"سألتُ ربِّي اللاهين من ذرّية البشر أن لا يعذّبهم، فأعطانيهم، فهم خُدّام أهل الجنَّة"
(2)
يعني الصبيان. فهذه
(3)
طريقان، وله طريق ثالث عن فضيل بن سليمان
(4)
، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، عن أنس
(5)
. قال ابن قتيبة: "اللاهون" من لهِيتُ عن الشيء إذا غفلت عنه. وليس هو من لهوت.
(1)
كذا في الأصل و"ف". ولعله يعني غير نفاة الحكمة. وفي "ك، ط": "وغيرهم" بواو العطف. وهو ساقط من "ب".
(2)
أخرجه ابن الجعد (2906) وأبو يعلى (205، 4101). والحديث ضعفه الهيثمي والمؤلف. (ز).
(3)
كذا في الأصل و"ف، ب". وكذا في مخطوطة أحكام أهل الذمة (643). وفي "ط": "فهذان". وفي "ك": "فهذه طريقة".
(4)
في "ف، ب": "سلمان" هنا وفيما يأتي. والصواب ما أثبتنا من "ك، ط".
(5)
أخرجه أبو يعلى (3570) والطبراني في الأوسط (957). (ز).
وهذه الطرق ضعيفة. فإنَّ يزيد الرقاشي واهٍ، وفضيل بن سليمان متكلَّم فيه
(1)
، وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف.
المذهب السابع: أنَّ حكمهم حكم آبائهم في الدنيا والآخرة، فلا يفرَدون عنهم بحكم في الدارين. فكما هم منهم في الدنيا، فهم منهم في الآخرة.
والفرق بين هذا المذهب وبين
(2)
مذهب من يقول: هم في النَّار، أن صاحب هذا المذهب يجعلهم معهم تبعًا لهم، حتَّى لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لأفراطهما بالنَّار. وصاحب القول الآخر يقول: هم في النَّار لكونهم ليسوا بمسلمين، ولم يدخلوها تبعًا.
وهؤلاء يحتجّون بحديث عائشة الذي تقدَّم ذكره، واحتجّوا بما في الصحيحين
(3)
عن الصعب بن جثَّامة قال: سئل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يُبيَّتون
(4)
فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال:"هم منهم"
(5)
. ومثله من حديث الأسود بن سريع. وقد تقدَّم حديث أبي وائل عن ابن مسعود يرفعه: "الوائدة والموؤودة في النار". وهذا يدلّ على أنَّها إنَّما
(6)
كانت في النار تبعًا لها.
(1)
في أحكام أهل الذمة: "وفضيل بن سليمان فينظر فيه". ولا يبعد أن يكون "فينظر" تحريفًا لما هنا.
(2)
"بين" ساقط من "ط".
(3)
البخاري (13012) ومسلم (1745) في الجهاد والسير.
(4)
"ف": "يثبتون"، تصحيف.
(5)
أسقط ناسخ "ف""هم"، ولعله ظن الكلمة مضروبًا عليها.
(6)
"إنّما" ساقطة من "ط".
قالوا: ويدلّ عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)}
(1)
[الطور/ 21]. فهذا يدلّ على أنَّ إتباع الذرية لآبائهم ونجاتَهم إنَّما كان إكرامًا لآبائهم وزيادةً في ثوابهم، وأنَّ الإتباع إنَّما استُحِق
(2)
بإيمان الآباء. وإذا
(3)
انتفى إيمان الآباء انتفى إتباعُ النجاة، وبقي إتباعُ العذاب. ويفسّره قوله صلى الله عليه وسلم:"هم منهم".
وأجيب عن حجج هؤلاء: أمَّا حديث عائشة الذي فيه أنَّهم في النار، فقد تقدّم ضعفه. وأمَّا حديثها الآخر:"هم من آبائهم" فمثل حديث الصعب والأسود بن سريع، وليس فيه تعرُّضٌ للعذاب بنفي ولا إثبات. وإنَّما فيه أنهم تَبَعٌ لآبائهم في الحكم، وأنَّهم إذا أصيبوا في الجهاد والبَيات لم يُضمَنوا بدية ولا كفَّارة. وهذا مصرَّح به في حديث الصعب والأسود أنَّه في الجهاد.
وأمَّا حديث عائشة الآخر فضعَّفه غيرُ واحد. قالوا: وعبد اللَّه بن أبي قيس مولى غُطَيف راويه عنها ليس بالمعروف فيُقْبلَ حديثُه. وعلى تقدير ثبوته، فليس فيه تصريح بأنَّ السؤال وقع عن الثواب والعقاب. والنبى صلى الله عليه وسلم قال:"هم من آبائهم". ولم يقل: "هم معهم"، وفرقٌ بين الحرفين. وكونهم منهم لا يقتضي أن يكونوا معهم في أحكام الآخرة، بخلاف
(1)
وردت الآية في الأصل و"ف، ب" على قراءة أبي عمرو: "وأتبعناهم ذريّاتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم". وفي "ك": "واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم" على قراءة نافع. انظر: الإقناع (773).
(2)
"ط": "يستحق".
(3)
"ك، ط": "فإذا".
كونهم منهم
(1)
، فإنَّه يقتضي أن تثبت لهم أحكام الآباء في الدنيا من التوارث والحضانة والنسب وغير ذلك من أحكام الإيلاد. واللَّه تعالى يُخرج الطيبَ من الخبيث، والمؤمن من الكافر.
وأمَّا حديث ابن مسعود فليس فيه أنَّ هذا حكم كلّ واحد من أطفال المشركين. وإنَّما يدلّ على أنَّ بعض أطفالهم في النَّار، وأنَّ من هذا الجنس -وهن الموؤودات- مَن يدخل النَّار، وكونُها موؤودة لا يمنع من دخولها النَّار بسبب آخر، وليس المراد أنَّ كونها موؤودة هو السبب الموجب لدخول النَّار، حتى يكون اللفظ عامًّا في كلِّ موؤودة. وهذا ظاهر، ولكن كونها موؤودة لا يودّ عنها النار إذا استحقَّتها بسبب، كما سيأتي بيانه بعد هذا إن شاء اللَّه. وأحسن من هذا أن يقال: هي في النار ما لم يوجَد سببٌ يمنع من دخولها النَّار، كما سنذكره إن شاء اللَّه. ففرق بين أن تكون جهةُ كونها موؤودةُ هي التي استحقَّت بها دخول النَّار، وبين كونها غيرَ مانعة من دخول النار بسبب آخر. وإذا كان تعالى يسأل الوائدة عن وأد ولدها بغير استحقاق، ويعذِّبها على وأدها، كما قال تعالى:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)} [التكوير/ 8]، فكيف يعذّب الموؤودة بغير ذنب، وهو سبحانه
(2)
لا يعذَب من وأَدها بغير ذنب؟
وأمَّا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}
(3)
[الطور/ 21] فهذه الآية تدلّ على أنَّ اللَّه سبحانه يُلحِق ذرّيةَ المؤمنين بهم
(1)
كذا في الأصل وغيره، وأحكام أهل الذمة (647).
(2)
"ك، ط": "واللَّه سبحانه".
(3)
هنا أيضًا وردت الآية في الأصل و"ف، ب" على قراءة أبي عمرو. وفي "ك" على قراءة نافع.
في الجنَّة، وأنَّهم يكونون معهم في درجتهم. ومع هذا فلا يتوهّم نزول الآباء إلى درجة الذرية، فإنَّ اللَّه لم يَلِتْهُمْ -أي: لم ينقصهم- من أعمالهم شيئًا، بل رفع ذرّيتهم
(1)
إلى درجاتهم مع توفير أجور الآباء عليهم. لما كان إلحاق الذرّية بالآباء في الدرجة إنَّما هو بحكم التبعية لا بالأعمال، ربما توهَّم متوهّم أنَّ ذرّية الكفار يلحقون بهم في العذاب تبعًا وإن لم يكن لهم أعمال الآباء، فقطع تعالى هذا التوفم بقوله:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} .
وتأمَّل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ}
(2)
[الطور/ 21]، كيف أتى بالواو العاطفة في إتباع الذرية، وجَعَلَ الخبر
(3)
عن المؤمنين الذين هذا شأنهم، فجعل الخبر مستحَقًّا بأمرين: أحدهما: إيمان الآباء، والثاني: إتباع اللَّه ذريتَهم إيَّاهم. وذلك لا يقتضي أنَّ كل مؤمن يَتبعه كلُّ ذرية له، ولو أريد هذا المعنى لقيل: والذين آمنوا تتبعهم ذرّياتُهم. فعطفُ الإتباع بالواو يقتضي أن يكون المعطوف بها قيدًا وشرطًا في ثبوت الخبر، لا حصوله لكلِّ أفراد المبتدأ.
وعلى هذا يخرَّج ما رواه مسلم في صحيحه
(4)
عن عائشة قالت: أُتي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بصبي من الأنصار يصلّي عليه: فقلت: يا رسول اللَّه، طوبى لهذا، لم يعمل شرًّا، ولم يدرِ به
(5)
. قال: "أوَ غير ذلك يا عائشة، إنَّ اللَّه
(1)
"ك، ط": "ذرياتهم".
(2)
انظر: التعليق السابق على الآية.
(3)
"ف": "وبعد الخبر"، تحريف.
(4)
"ط": "ولم يدره".
(5)
كتاب القدر (2662) وقد سبق في ص (150). ولفظ الحديث هنا من سنن =
خلق الجنَّة، وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم. وخلق النار، وخلق لها أهلًا، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم". فهذا الحديث يدلّ على أنَّه لا يشهد لكلِّ طفل من أطفال المؤمنين بالجنَّة، وإن أُطلق على أطفال المؤمنين في الجملة أنَّهم في الجنَّة، لكنَّ الشهادة للمعيَّن ممتنعة؛ كما يشهد للمؤمنين مطلقًا أنَّهم في الجنَّة، ولا يشهد لمعيَّن بذلك إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا وجه الحديث الذي أشكل
(1)
على كثيرٍ من النَّاس، وردَّه الإمام أحمد وقال: لا يصحّ، ومن يشكّ أنَّ أولاد المسلمين في الجنَّة؛
(2)
وتأوّله قومٌ تأويلات بعيدة.
المذهب الثامن: أنَّهم يمتحنون في عرصة
(3)
القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول وإلى كلِّ من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنَّة، ومن عصاه أدخله النَّار. وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنَّة وبعضهم في النَّار. وبهذا يتألَّف شمل الأدلّة كلَّها، وتتوافق الأحاديث، ويكون معلومُ اللَّه عز وجل الذي أحال عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث يقول:"اللَّه أعلم بما كانوا عاملين" يظهر حينئذٍ، ويقع الثواب والعقاب عليه حال كونه معلومًا خارجيًّا
(4)
لا علمًا مجرَّدًا، ويكون النبيّ صلى الله عليه وسلم قد ردَّ جوابهم إلى علم اللَّه فيهم، واللَّه تعالى يردّ ثوابهم وعقابهم إلى معلومه منهم. فالخبرُ عنهم مردودٌ إلى علمه، ومصيرُهم مردودٌ إلى معلومه.
= أبي داود (4713).
(1)
"ك، ط": "يشكل".
(2)
انظر: حاشية المؤلف على السنن (12/ 318).
(3)
"ب، ك، ط": "عرصات".
(4)
"ط": "معلومًا علمًا خارجيًا"!
وقد جاءت بذلك آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضًا. فمنها: ما رواه أحمد في مسنده والبزار أيضًا بإسنادٍ صحيح، فقال أحمد
(1)
: حدثنا معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يحتجّون يوم القيامة: رجلٌ أصمّ لا يسمع، ورجل أحمق، ورجل هرِم
(2)
، ورجل مات في الفترة. أمَّا الأصمّ فيقول: ربّ لقد جاء الإسلام، وأنا ما أسمع شيئًا. وأمَّا الأحمق فيقول: ربّ لقد جاءَ الإسلام، والصبيان يحذفوني
(3)
بالبعر. وأمَّا الهرم فيقول: لقد
(4)
جاءَ الإسلام، وما أعِقل. وأمّا الذي مات
(5)
في الفترة فيقول: ربِّ ما أتاني رسول. فيأخذ مواثيقهم لَيُطيعُنَّه، فيرسل إليهم رسولًا أن ادخلوا النَّار. فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا"
(6)
. قال معاذ: وحدثني أبي، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة بمثل هذا الحديث، وقال في آخره:"فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها رُدَّ إليها"
(7)
.
(1)
"ب، ك، ط": "الإمام أحمد"، هنا وكذا في الموضع السابق في "ك، ط".
(2)
متقدم في "ك، ط" على سابقه.
(3)
بحذف نون الرفع. وفي "ط": "يحذفونني".
(4)
"ب، ك، ط": "رب لقد".
(5)
"مات" ساقط من "ك، ط".
(6)
أخرجه أحمد (16301)، وإسحاق في مسنده (41)، وابن حبان (7356)، والطبراني في الكبير (841)، وغيرهم من حديث الأسود بن سريع. وفي سنده انقطاع، قتادة لم يسمع من الأحنف بن قبس، لأنه ولد سنة 60 هـ، وتوفي الأحنف سنة 67 هـ، فسماعه بعيد جدًّا. (ز).
(7)
لفظ المسند: "من لم يدخلها يُسْحَبْ عليها".
وهو في مسند إسحاق عن معاذ بن هشام أيضًا
(1)
.
ورواه البزَّار، ولفظه: عن الأسود بن سريع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يعرض على اللَّه تبارك وتعالى الأصمّ الذي لا يسمع شيئًا، والأحمق، والهرم، ورجل مات في الفترة. فيقول الأصمّ: ربّ جاء الإسلام وما أسمع شيئًا. ويقول الأحمق
(2)
: ربّ جاء الإسلام وما أعقل شيئًا. ويقول الذي مات في الفترة: ربّ ما أتاني لك رسول". وذكر الهرم وما يقول. قال: "فيأخذ مواثيقهم لَيطيعُنّه. فيرسِل إليهم: ادخلوا النار. فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا"
(3)
قال الحافظ عبد الحقّ في حديث الأسود: قد جاءَ هذا الحديث، وهو صحيح فيما أعلم. والآخرة ليست دار تكليف ولا عمل، ولكنَّ اللَّه يخصّ من شاء بما شاء
(4)
، ويكلِّف من شاء ما شاءَ، وحيثما شاءَ. لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون
(5)
.
قلتُ: وسيأتي الكلام على وقوع التكليف في الدار الآخرة وامتناعه، عن قُربٍ
(6)
إن شاء اللَّه.
(1)
أخرجه أحمد (16302)، وإسحاق (41)، والبزار كما في كشف الأستار (2175) وغيرهم من حديث الأسود. قلت: وقد وقع اختلاف في رفعه ووقفه. وقال البيهقي في الحديث: هذا إسناد صحيح. القضاء والقدر (645). (ز).
(2)
"ك، ط": "والأحمق يقول".
(3)
أخرجه البزار كما في كشف الأستار (2174) من حديث الحسن البصري عن الأسود. وفي سماع الحسن من الأسود خلاف، وانظر: جامع التحصيل (165). (ز).
(4)
"ك، ط": "من يشاء بما يشاء".
(5)
العاقبة (317).
(6)
"ط": "عن قريب".
ورواه على بن المديني عن معاذ بنحوه. قال البيهقي: حدثنا على بن محمد بن بشران، أنبأنا أَبو جعفر الرزَّاز
(1)
، حدثنا حنبل بن إسحاق
(2)
، حدثنا على بن عبد اللَّه. وقال: هذا إسناد صحيح. وأمَّا حديث [. . .]
(3)
علي بن زيد بن جدعان عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه
(4)
. ورواه معمر عن عبد اللَّه بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قوله
(5)
.
وروى محمد بن المبارك الصوري -ثقة- حدثنا عمرو بن واقد -ضعيف- حدثنا يونس بن ميسرة -ثقة- عن إبي إدريس الخولاني عن معاذ يرفعه: "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلًا، وبالهالك في الفترة، وبالهالك صغيرًا. فيقول الممسوخ عقلًا: يا ربّ لو آتيتني عقلًا ما كان مَن آتيته عقلًا بأسعد منِّي. ويقول الهالك في الفترة: يا ربِّ لو أتاني منك
(1)
"ط": "الرازي" تحريف.
(2)
في "ف" وغيرها: "حنبل بن الحسين"، ولكن الصواب ما قرأت. وكذا في الاعتقاد (169).
(3)
في "ف" بياض هنا بقدر تسع كلمات أو نحوها. وهو جزء من لحق طويل. ولم يظهر في المصورة بعد كلمة "حديث" إلى "عن أبي هريرة". ولا يوجد بياض في النسخ الأخرى، كان الكلام متصل.
(4)
أخرجه إسحاق في مسنده (514) وابن أبي عاصم في السنة (413)، وأسد بن موسى في الزهد (97) وغيرهم. وفيه على بن زيد بن جدعان، فيه ضعف. وقد تابعه الحسن إن كان محفوظًا. والحديث أشار إليه البيهقي في القضاء والقدر (645) وقال: فيه ضعف. (ز).
(5)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 318)(1545)، ورواه معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة موقوفًا. ورواه معمر عن قتادة عن أبي هريرة موقوفًا. أخرجهما الطبري في تفسيره (15/ 54). (ز).
عهدٌ ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهده منِّي. ويقول الهالك صغيرًا: يا ربِّ لو آتيتَني عمرًا ما كان من آتيتَه عمرًا بأسعد منِّي. فيقول الربّ سبحانه: لئن
(1)
آمرْكم بأمرٍ أفتطيعوني
(2)
؟ فيقولون: نعم وعزَّتك، فيقول: اذهبوا فادخلوا النَّار. فلو دخلوها ما ضرَّهم
(3)
. قال: فيخرج عليهم قوابسُ
(4)
[يظنّون أنَّها قد أهلكت ما خلق اللَّه من شيء، فيرجعون سراعًا فيقولون: خرجنا -وعزَّتك- نريد دخولها، فخرجت علينا قوابسُ،
(5)
ظننَّا أنَّها قد أهلكت ما خلق اللَّه من شيء. فيأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك، ويقولون مثل قولهم. فيقول اللَّه سبحانه: قبل أن تُخلَقوا علمتُ ما أنتم عاملون، وعلى علمي خلقتُكم، وإلى علمي تصيرون. فتأخذهم النار"
(6)
. فهذا وإن كان فيه
(7)
عمرو بن واقد ولا يحتجّ به، فله أصل وشواهد، والأصول تشهد له.
(1)
"ف": "إنّي"، أخطأ في القراءة. "ج، ك، ط": "لئن أمرتكم".
(2)
"ب": "أتطيعوني". "ك، ط": "فتطيعوني".
(3)
"ط": "ضرّتهم".
(4)
كذا في الأصل وغيره بالسين. وفي حاشية "ف" بإزائها: "من شعل النار". ويروى: "قوابص" و"قوانص". انظر: النهاية (4/ 5، 112).
(5)
ما بين الحاصرتين قد سقط من الأصل لانتقال النظر، وكذا في النسخ الأخرى. وقد استدركناه من أحكام أهل الذمة (652) ومصادر التخريج الآتية. وهو مستدرك أيضًا في "ط" دون إشارة إلى سقط في أصلها.
(6)
أخرجه الطبراني في الكبير (20/ 158)، والأوسط (7955)، وابن عدي في الكامل (5/ 117)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (1545) وغيرهم من حديث معاذ. قال الطبراني:"لا يروى عن معاذ إلَّا بهذا الإسناد". وقال الهيثمي في المجمع (7/ 216): "وفيه عمرو بن واقد وهو متروك". والحديث باطل، تكلّم فيه ابن عدي وأَبو نعيم وابن الجوزي والهيثمي وغيرهم. (ز).
(7)
"فيه" ساقط من "ك، ط".
وفي الباب أحاديث غير هذا.
(1)
وقد رويت أحاديث الامتحان في الآخرة من حديث الأسود بن سريع -وصحَّحه عبد الحق والبيهقي
(2)
- و
(3)
من حديث أبي هريرة وأنس ومعاذ وأبي سعيد.
فأَمَّا حديث الأسود فرواه معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم
(4)
.
قال معاذ: وحدَّثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. رواه
(5)
أحمد وإسحاق عن معاذ.
ورواه حمَّاد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. ورواه معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة موقوفًا عليه. وهذا لا يضرّ الحديث، فإنَّه إن سلك طريق ترجيح الزائد لزيادته فواضح، وإن سلك طريق المعارضة فغايتها تحقُّق الوقف، ومثل هذا لا يُقدَم عليه بالرَّأي. إذ لا مجال له فيه، بل يجزم
(6)
بأنَّ هذا توقيف لا عن رأي.
(1)
كتب المؤلف أولًا: "وفي الباب أحاديث غير هذا لا تحضرني الآن. وعلى هذا فتوافق النصوص والأدلة. وشواهد العقل والفطرة تسبق الأدلة السمعية والعقلية، ويزول الاختلاف والاضطراب فيها، والحمد للَّه". ثم ضرب على قوله: "لا تحضرني. . . " إلى آخره، وكتب استدراكًا طويلًا في عرض النصف الأسفل من ق (116/ أ) مع إضافات جانبية، ثم رجع الكلام إلى (115/ ب).
(2)
الاعتقاد (169).
(3)
سقطت الواو من "ك، ط"، ففسد المعنى.
(4)
كذا في الأصل وغيره. وقد تقدم الحديث قريبًا.
(5)
"ط": "ورواه".
(6)
"ك، ط": "له فيقبل بجزم"، تحريف طريف!
وأمَّا حديث أَنس فرواه جرير بن عبد الحميد، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الوارث، عن أَنس، قال: قال رسول اللَّه
(1)
صلى الله عليه وسلم: "يؤتى يوم القيامة بأربعة: بالمولود، وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة، وبالشيخ الفاني: كلّهم يتكلَّم بحجّته. فيقول الربّ تعالى لعنُقٍ من جهنَّم: ابرُزي. ويقول لهم: إنِّي كنت أبعث إلى عبادي رسولًا من أنفسهم وإنِّي رسول نفسي إليكم. قال: ويقول لهم: ادخلوا هذه. ويقول من كتب عليه الشقاء: أنَّى ندخلها، ومنها كنَّا نفرّ؟ فيقول اللَّه: فأنتم لرسلي أشدّ تكذيبًا. قال: وأمَّا من كتب عليه السعادة فيمضي فيقتحم فيها. فيدخل هؤلاء إلى الجنَّة، وهؤلاء إلى النَّار"
(2)
.
وهذا وإن لم يعتمد عليه بمجرَّده لمكان ليث بن أبي سليم، وتضعيف الدارقطني لعبد الوارث
(3)
، فهو مما يعتضَد به.
وقال البيهقي
(4)
: أنبأنا أَبو عبد اللَّه الحافظ، أنبأنا أَبو العباس [هو
(1)
"ك، ط": "عن أَنس عن النبي".
(2)
أخرجه أَبو يعلى في مسنده (4224)، والبزار كما في كشف الأستار (2177)، وابن عبد البر في التمهيد (18/ 128)، والبيهقي في الاعتقاد (169) من حديث أَنس. وهو ضعيف جدًّا. فيه ليث بن أبي سليم، لا يحتج به. وفيه عبد الوارث، قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: مجهول. وقال أَبو حاتم: شيخ. (ز). قوله: "عنق من جهنم" أي: طائفة منها.
(3)
لسان الميزان (4/ 85).
(4)
في الاعتقاد (170). والعبارة: "وقال البيهقي. . . شيبان" جزء من لحق وقع في طرف الورقة فلم يظهر في مصورة الأصل.
الأصم قال: نا العباس]
(1)
بن الوليد، أنبأنا أَبو شعيب
(2)
، حدثني شيبان
(3)
عن ليث بن أبي سليم
(4)
، عن عبد الوارث
(5)
، عن أَنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وأمَّا حديث معاذ، فقد تقدَّم
(6)
الكلام عليه.
وأمَّا حديث أبي سعيد، فرواه محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا سعيد ابن سليمان، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الهالك في الفترة والمعتوه والمولود. يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب. ويقول المعتوه: ربّ لم تجعل لي عقلًا أعقل به خيرًا ولا شرًّا. ويقول المولود: ربِّ لم أدرك العقل. فتُرفع لهم نارُ
(7)
فيقول: رِدوها. قال: فيرِدها مَن كان في علم اللَّه سعيدًا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم اللَّه شقيًّا لو أدرك العمل. فيقول: إيَّاي
(1)
ما بين الحاصرتين زدناه من كتاب الاعتقاد. وأَبو العباس الأصم هو الحافظ محمد بن يعقوب النيسابوري المتوفى سنه 346 هـ. انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ (3/ 865). والعباس بن الوليد بن مزيد أَبو الفضل البيروتي المتوفى سنة 270 هـ. ترجمته في تهذيب التهذيب (5/ 131).
(2)
في "ف" وغيرها: "ابن شعيب"، خطأ. وهو أَبو شعيب عبد اللَّه بن الحسن الحزاني المتوفى سنة 292 هـ. ترجمته في لسان الميزان (3/ 271).
(3)
في "ف": "الشيباني"، وفي "ب":"سفيان". والصواب ما أثبتنا. وهو شيبان ابن عبد الرحمن التميمي مولاهم النحوي، أَبو معاوية البصري. توفي سنة 164 هـ ترجمته في تهذيب التهذيب (4/ 374).
(4)
"وتضعيف الدارقطني. . . " إلى هنا سقط من "ط"، واستدرك في حاشية "ك"، ولكن لم يظهر منه في الصورة إلا إلى قوله:"الوليد".
(5)
"ب، ك، ط": "عبد الرزاق"، تحريف.
(6)
"ك، ط": "فتقدم".
(7)
"ط": "فيرفع لهم نارًا".
عصيتم، فكيف لو رُسُلي أتتكم"
(1)
. تابعه الحسن بن موسى عن فضيل. ورواه أَبو نعيم عن فضيل بن مرزوق فوقفه
(2)
. فهذا وإن كان فيه عطية فهو ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به، وإن لم يكن حجة. وأمَّا الوقف فقد تقدم نظيره في
(3)
حديث أبي هريرة.
فهذه الأحاديث يشدّ بعضها بعضًا، ويشهد لها أصول الشرع وقواعده. والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنّة، نقله عنهم الأشعري رحمه الله في "المقالات" وغيرها
(4)
.
فإن قيل: قد أنكر ابن عبد البرّ هذه الأحاديث وقال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأنّ الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء. وكيف يكلَّفون دخولَ النار، وليس ذلك في وسع المخلوقين، واللَّه لا يكلّف نفسًا إلَّا وسعها
(5)
؟
فالجواب من وجوه
(6)
:
أحدها: أنّ أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها، بل ولا أكثرهم. وإن
(1)
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (18/ 127)، وابن الجعد في مسنده (2038)، والبزار كما في كشف الأستار (2176) من حديث أبي سعيد. قال الهيثمي في المجمع:"رواه البزار، وفيه عطية، وهو ضعيف".
(2)
ذكره ابن عبد البر في التمهيد (18/ 128).
(3)
"ك، ط": "من".
(4)
انظر: مقالات الإسلاميين (296)، والإبانة (33).
(5)
الاستذكار (3/ 114). وقد صرّح بالنقل عنه في أحكام أهل الذمة (654). وانظر: التمهيد (18/ 130).
(6)
اقتصر المؤلف هنا على تسعة وجوه، وذكر في أحكام أهل الذمة (654 - 656/ 5) تسعة عشر وجهًا.
أنكرها بعضهم فقد صحّح غيرُه بعضَها، كما تقدّم.
الثاني: أنّ أبا الحسن الأشعري حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدلّ على أنّهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث.
الثالث: أنّ إِسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التي يحتجّ بها في الأحكام، ولهذا رواه الأئمّة: أحمد وإسحاق وعليّ بن المديني.
الرابع: أنّه قد نصّ جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلَّا بدخول دار القرار. ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف.
الخامس: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد في الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولًا إليها: أنّ اللَّه تعالى يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأله غيرَ الذي يعطيه، وأنّه يخالفه ويسأله غيره، فيقول اللَّه له
(1)
: "ما أغدرك! "
(2)
. وهذا الغدر منه هو لمخالفته العهد
(3)
الذي عاهد اللَّه عليه.
السادس: قوله: "وليس ذلك في وسع المخلوقين" جوابه من وجهين: أحدهما: أنَّ ذلك ليس تكليفًا بما ليس في الوسع، وإنَّما هو تكليف بما فيه مشقَّة شديدة، وهو كتكليف بني إسرائيل قتلَ أولادِهم وأزواجِهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا
(1)
"له" ساقط من "ك، ط".
(2)
أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (7437، 7439) وغيره. ومسلم في كتاب الإيمان (182).
(3)
"ك، ط": "للعهد".
الدجّال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا في الذي يرونه نارًا
(1)
. الثاني: أنَّهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرّهم، وكانت بردًا وسلامًا، فلم يكلَّفوا بممتنع ولا بما يشقّ
(2)
.
السابع: أنَّه قد ثبت أنَّه سبحانه يأمرهم في القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه
(3)
، وهذا تكليف بما ليس في الوسع قطعًا، فكيف ينكر التكليف بدخول النَّار في رأي العين إذا كان سببًا
(4)
للنجاة؟ كما
(5)
جعل قطع الصراط الذي هو أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف سببًا للنجاة
(6)
، كما قال أَبو سعيد الخدري:"بلغني أنَّه أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف" رواه مسلم
(7)
. فركوب هذا الصراط الذي هو في غاية المشقة كالنّار، ولهذا كلاهما يفضى منه إلى النجاة. واللَّه أعلم
(8)
.
(1)
كما في حديث حذيفة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3450) ومسلم في الفتن (2934).
(2)
"ط": "بما لم يستطع".
(3)
يشهد له ما أخرجه مسلم (185) من حديث أبي هريرة. (ز).
(4)
في "ف": "إذا سببًا"، وفوقها:"ينظر". ومعنى ذلك أنه كذا في الأصل. والمثبت من "ب". وفي "ك، ط": "كانت".
(5)
من قوله "فكيف ينكر" إلى هنا لم يظهر في مصورة الأصل.
(6)
"سببًا للنجاة" مكتوب في الأصل فوق السطر، وقد انتشر الحبر أيضًا، فسقط من "ف". وقوله:"سببًا. . . " إلى "من السيف" ساقط من "ب". و"للنجاة" ساقط من "ط".
(7)
في كتاب الإيمان (183).
(8)
كتب هنا في الأصل: "تمت". ولعل المؤلف أراد أن يختم هنا وجوه الردّ على كلام ابن عبد البر، وأن يكون ذلك آخر اللحق الطويل الذي بدأ من قوله "فإن قيل، قد أنكر ابن عبد البر"، ثمَّ بدا له أن يضيف الثامن والتاسع.
الثامن: أنَّ هذا استبعاد مجرَّد لا تُرَدّ بمثله الأحاديث. والنَّاس لهم طريقان: فمن سلك طريق المشيئة المجرَّدة
(1)
لم يمكنه أن يستبعد هذا التكليف، ومن سلك طريق الحكمة والتعليل لم يكن معه حجَّة تنفي أن يكون هذا التكليف موافقًا للحكمة
(2)
؛ بل الأدلَّة الصحيحة تدلّ على أنَّه مقتضى الحكمة كما ذكرناه.
التاسع: أنَّ في أصحّ هذه الأحاديث -وهو حديث الأسود- أنَّهم يعطُون ربّهم المواثيقَ ليُطيعُنَّه فيما يأمرهم به، فيأمرهم أن يدخلوا نار الامتحان، فيتركون
(3)
الدخول معصيةً لأمره، لا لعجزهم عنه. فكيف يقال إنَّه ليس في الوسع؟
(4)
.
فإن قيل: فالآخرة دار جزاءٍ، وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون في غير دار التكليف؟
فالجواب: أنَّ التكليف إنَّما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأمَّا في البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع. وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ، وهي تكليف. وأمَّا في عرصة
(1)
بين كلمة "المجرّدة" و"لم يمكنه" بياض في "ف" بقدر ستّ كلمات، ولعل ناسخها ظنّ أن هذه الكلمات ذهب بها تأكّل الورقة من أسفلها، فترك بياضًا في نسخته. و"لم يمكنه. . . " إلى آخره مكتوب في طرف الحاشية اليسرى من الأصل، والظاهر أن الكلام متصل ولم يسقط منه شيء. ولا يوجد بياض في "ب، ك".
(2)
"ك، ط": "للحكم".
(3)
في الأصل: "فيتركوا"، وكذا في "ف، ك"، وهو سهو، والمثبت من "ب، ط".
(4)
هنا انتهى الاستدراك الطويل الذي بدأ في ص (859) من قوله: "وقد رويت له أحاديث"، مع إضافات أخرى.
القيامة فقد قال
(1)
تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم/ 42]. فهذا صريح في أنَّ اللَّه تعالى يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأنَّ الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف بما لا يطاق حينئذٍ حسنًا
(2)
عقوبةً لهم؛ لأنَّهم كُلِّفوا به في الدنيا وهم يطيقونه، فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم، كُلِّفوا به وهم لا يقدرون عليه
(3)
حسرةً عليهم وعقوبةً لهم. ولهذا قال تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)} [القلم/ 43] يعني أصحاء، لا آفةَ تمنعهم منه. فلمَّا تركوه وهم سالمون
(4)
دُعوا إليه في وقت حيل بينهم وبينه، كما في الصحيح من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد:"إنَّ ناسًا قالوا: يا رسول اللَّه، هل نرى ربّنا". فذكر الحديث بطوله. إلى أن قال: "فيقول: تتبع كلّ أمَّةٍ ما كانت تعبد، فيقول المؤمنون: فارقنا الناس في الدنيا أفقرَ ما كنَّا إليهم، ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: نعوذ باللَّه منك، لا نشرك باللَّه شيئًا -مرَّتين أو ثلاثًا- حتَّى إنَّ بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آيةٌ تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم. فيكشف عن ساقٍ، فلا يبقى من كان يسجد للَّه من تلقاءِ نفسه إلا أذن اللَّه له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل اللَّه ظهره طبقةً واحدةً كلَّما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه، ثمَّ يرفعون رؤوسهم". وذكر الحديث
(5)
.
(1)
"ط": "فقال".
(2)
"ج، ك، ط": "حسًّا"، تصحيف.
(3)
"ف": "وهم لا يطيقونه"، خلاف الأصل.
(4)
"يعني أصحاء. . . " إلى هنا ساقط من "ج، ط".
(5)
أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183)، وقد سبق في ص (873).
وهذا التكليف نظير التكليف في البرزخ
(1)
بالمسألة، فمن أجاب في الدنيا طوعًا واختيارًا أجاب في البرزخ، ومن امتنع من الإجابة في الدنيا مُنِع منها في البرزخ. ولم يكن تكليفه في تلك الحال
(2)
-وهو غير قادر- قبيحًا؛ بل هو مقتضى الحكمة الإلهية؛ لأنَّه كُلِّف وقتَ القدرة فأبى
(3)
، فإذا كُلِّف وقت العجز وقد حيل بينه وبين الفعل، كان عقوبة له وحسرة.
والمقصود أنَّ التكليف لا ينقطع إلا بعد دخول الجنَّة أو النَّار. وقد تقدَّم أنَّ حديث الأسود بن سريع صحيح، وفيه التكليف في عرصة القيامة. فهو مطابق لما ذكرنا من النصوص الصحيحة الصريحة. فعلم أنَّ الذي تدلّ عليه الأدلّة الصحيحة، وتأتلف به النصوص، وهو
(4)
مقتضى الحكمة = هو هذا القول، واللَّه أعلم.
وقد حكى بعض أهل المقالات عن ثمامة
(5)
بن أشرس أنَّه ذهب إلى أنَّ الأطفال يصيرون يوم القيامة
(6)
ترابًا.
وقد نقل عن ابن عباس ومحمد ابن الحنفية والقاسم بن محمد وغيرهم أنَّهم كرهوا الكلام في هذه المسألة جملةً
(7)
.
(1)
"ك، ط": "تكليف البرزخ".
(2)
"ك، ط": "في الحال".
(3)
"ك، ط": "مكلف. . . وأبى".
(4)
"هو" هنا وفيما بعد ساقط من "ب، ك، ط".
(5)
"ب، ك، ط": "عامر"، تحريف. وثمامة متكلّم بصري من رؤوس المعتزلة. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء (10/ 203)، وقد نقل قوله البغدادي في الفرق بين الفرق (157).
(6)
"ك، ط": "في يوم القيامة".
(7)
انظر: التمهيد (18/ 124 - 126، 132). وقد ذكر المؤلف في أحكام أهل =
الطبقة الخامسة عشرة
(1)
: طبقة الزنادقة. وهم قومٌ أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة اللَّه ورسله. وهؤلاء هم
(2)
المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النَّار. قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء/ 145]. فالكفَّار المجاهرون بكفرهم أخفّ
(3)
، وهم فوقهم في دركات النَّار؛ لأنَّ الطائفتين اشتركتا في الكفر ومعاداة اللَّه ورسله، وزادت
(4)
المنافقون عليهم بالكذب والنفاق. وبليّة المسلمين بهم أعظم منن بليَّتهم بالكفَّار المجاهرين، ولهذا قال تعالى في حقّهم:{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون/ 4].
ومثل
(5)
هذا اللفظ يقتضي الحصر، أي: لا عدوّ إلا هم. ولكن لم يرد ههنا حصر العداوة فيهم
(6)
وأنَّهم لا عدوّ للمسلمين سواهم، بل هذا من باب
(7)
إثبات الأولوية والأحقّية لهم في هذا الوصف، وأنَّه لا يتوهّم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهرًا وموالاتهم لهم ومخالطتهم إيَّاهم أنَّهم
= الذمة (647 - 648) قول ثمامة وما نقل عن ابن عباس على أنهما مذهبان مستقلَّان، فصارت في المسألة عشرة مذاهب.
(1)
في الأصل: "عشر" بالتذكير، ولعله سهو. وكذا في غيره إلَّا "ط".
(2)
"هم" ساقط من "ط".
(3)
أي: أخف عذابًا. وفي "ف": "أخفّ فوقهم"، فاسقط ناسخها "وهم"، وكتب فوق "أخف" علامة "ظ" أي: انظر. وكذا في "ك" لأنها لانتشار الحبر تبدو كأنها مضروب عليها. وفي "ب": "أخفت عذابًا منهم لكونهم فوقهم" وكأنها إصلاح لما في الأصل.
(4)
"ط": "زاد".
(5)
قراءة "ف": "وقيل". ولعل الصواب ما أثبتنا من غيرها.
(6)
"ف": "منهم"، خطأ.
(7)
"باب" ساقط من "ك، ط".
ليسوا بأعدائهم، بل هم أحقّ بالعداوة ممن باينهم في الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها. فإنَّ ضرر هؤلاء المخالطين لهم المعاشرين
(1)
لهم -وهم في الباطن على خلاف دينهم- أشدّ عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم، لأنَّ الحرب مع أولئك ساعة أو أيامًا ثمَّ ينقضي، ويعقبه النصر والظفر؛ وهؤلاء معهم في الديار والمنازل صباحًا ومساءً، يدلّون العدوَّ على عوراتهم، ويتربَّصون بهم الدوائر، ولا يمكنهم مناجزتهم. فهم أحقّ بالعداوة من المباين المجاهر، فلهذا قيل:{هُمُ الْعَدُوُّ} لا على معنى أنَّه لا عدوّ لكم سواهم، بل على معنى أنَّهم أحقّ بأن يكونوا لكم عدوًّا من الكفَّار المجاهرين.
ونظير ذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم "ليس المسكين بهذا
(2)
الطوَّاف الذي ترذه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل النَّاس، ولا يُفطَنُ له فيُتصدّق عليه"
(3)
. فليس هذا نفيًا لاسم المسكين عن الطوَّاف، بل إخبارٌ بأنَّ هذا القانع الذي لا يسمّونه مسكينًا أحقّ بهذا الاسم من الطوَّاف الذي يسمّونه مسكينًا.
ونظيره قوله: "ليس الشديد بالصُّرَعة، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب"
(4)
. ليس نفيًا للاسم عن الصرعة، ولكن إخبار بأنَّ من يملك
(1)
"ف": "المباشرين"، سهو، فإنّ الأصل واضح.
(2)
"بهذا" ساقط من "ب، ك، ط".
(3)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري (1479)، ومسلم في الزكاة (1039).
(4)
أخرجه البخاري في الأدب (6114)، ومسلم في البرّ والصلة (2609) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
نفسه عند الغضب أحقّ منه بهذا الاسم.
ونظيره قوله: "ما تعدّون المفلسَ فيكم؟ " قالوا: من لا درهم له ولا متاع. قال: "المفلس من يأتي يوم القيامة بحسناتٍ أمثال الجبال، ويأتي قد لطَمَ هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا؛ فيقتصّ هذا من حسناته، وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخِذَ من سيئاتهم ثمَّ طُرِحَ عليه فأُلقيَ في النار"
(1)
.
ونظيره قوله: "ما تعدّون الرَّقوب فيكم؟ " قالوا: من لا يولد له. قال: "الرقوب من لم يقدّم من ولده شيئًا"
(2)
.
ومنه عندي قوله صلى الله عليه وسلم: "الرِّبَا في النسيئة"، وفي لفظ:"إنَّما الرِّبَا في النسيئة"
(3)
. هو إثبات لأن هذا النوع هو أحقّ باسم الرِّبَا من ربا الفضل، وليس فيه نفي اسم الرِّبَا عن ربا الفضل. فتأمله.
والمقصود أنَّ هذه الطبقة أشقى الأشقياء، ولهذا يستهزأ بهم في الآخرة، ويُعطَون
(4)
نورَا يتوسَّطون به على الصراط، ثمَّ يطفئ اللَّه نورهم، ويقال لهم:{ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد/ 13]. ويضرب بينهم وبين المؤمنين {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)} [الحديد/ 13 - 14]. وهذا أشدّ
(1)
أخرجه مسلم في البرّ والصلة (2581) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم في البرّ والصلة (2608) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.
(3)
من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما. واللفظان عند مسلم (1596)، وفي صحيح البخاري (2179):"لا ربا إلَّا في النسيئة".
(4)
"ك": "يعطى". "ط": "تعطى".
ما يكون من الحسرة والبلاءِ أن يُفتَح للعبد طريق
(1)
النجاة والفلاح، حتَّى إذا ظنَّ أنَّه ناجٍ ورأى منازل السعداء اقتطِع عنهم وضُربت عليه الشقوة. ونعوذ باللَّه من غضبه وعقابه.
وإنَّما كانت هذه الطبقة في الدرك الأسفل لغلظ كفرهم، فإنَّهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداءُ، ووصل إليهم من معرفته وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة؛ فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفرًا، وأخبث قلوبًا، وأشدّ عداوة للَّه ولرسوله وللمؤمنين من البعداء عنهم، وإن كان البعداء متصدّين لحرب المسلمين. ولهذا قال تعالى في المنافقين:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} [المنافقون/ 3]، وقال فيهم:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} [البقرة/ 18]. وقال في الكفار: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة/ 171]. فالكافر لم يعقل، والمنافق أبصر ثمَّ عمي، وعرف ثمَّ تجاهل، وأقرَّ ثمَّ أنكر، وآمن ثمَّ كفر. ومن كان هكذا فهو أشدّ
(2)
كفرًا، وأخبث قلبًا، وأعتى على اللَّه ورسله؛ فاستحق الدرك الأسفل.
وفيه معنى آخر أيضًا. وهو أنَّ الحامل لهم على النفاق طلب العزّ والجاه بين الطائفتين. فيُرضون
(3)
المؤمنين ليُعِزوهم
(4)
، ويُرضون
(1)
"ف": "لطريق"، تحريف. وفي "ب":"باب النجاة".
(2)
"ط": "هكذا كان أشد".
(3)
في الأصل وغيره بحذف نون الرفع، في هذه الجملة والجملة التالية، ولعله سهو.
(4)
ك: "ليغرّوهم" من الغرور، تصحيف.
الكفار ليُعِزّوهم أيضًا. ومن ههنا دخل عليهم البلاءُ، فإنَّهم أرادوا العزّ بين
(1)
الطائفتين، ولم يكن لهمِ غرض في إيمان ولا إسلام
(2)
ولا طاعةٍ للَّه ورسوله، بل كان ميلهم وصغوهم ووجهتهم
(3)
إلى الكفَّار. فقوبلوا على ذلك بأعظم الذلّ، وهو أن جُعِلَ مستقرّهم في أسفل سافلين
(4)
تحت الكفار. فما اتصف به المنافقون من مخادعةِ اللَّه ورسوله والذين آمنوا، والاستهزاء باهل الإيمان، والكذب، والتلاعب بالدين، وإظهار أنَّهم من المؤمنين، وانطواءِ
(5)
قلوبهم علَى الكفر والشرك وعداوة اللَّه ورسوله = أمرٌ اختصّوا به عن الكفار، فتغلَّظ
(6)
كفرُهم به، فاستحقّوا الدرك الأسفل من النار.
ولهذا لمَّا ذكر تعالى أقسام الخلق في أوَّل
(7)
سورة البقرة، فقسمهم إلى مؤمنٍ ظاهرًا وباطنًا، وكافرٍ ظاهرًا وباطنًا، ومؤمن في الظاهر كافرٍ في الباطن وهم المنافقون = ذكر في حقِّ المؤمنين ثلاث آيات، وفي حقِّ الكفار آيتين. فلما انتهى إلى ذكر المنافقين ذكر فيهم بضع عشرة آية. ذمَّهم فيها غاية الذمّ، وكشَفَ عوراتهم
(8)
، وفضحهم، وأخبر بأنَّهم
(9)
(1)
"ب": "من بين". "ك، ط": "العزتين من"، وكلاهما تحريف.
(2)
"ف": "إسلام ولا إيمان"، خلاف الأصل. وفي "ك":"الإيمان ولا إسلام. . . ". وفي "ط": "الإيمان والإسلام ولا طاعة اللَّه".
(3)
"ك، ط": "صغوهم وجهتهم".
(4)
"ب، ك، ط": "السافلين".
(5)
"ك، ط": "وأبطنوا"، تحريف!
(6)
"ف": "فيغلظ"، تصحيف.
(7)
"أول" سقط من "ف" سهوآ.
(8)
زاد بعدها في "ط": "وقبّحهم".
(9)
"ط": "أنهم".
هم السفهاء، المفسدون في الأرض المخادعون، المستهزئون، المغبونون في اشترائهم الضلالة بالهدى؛ وأنَّهم صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون، وأنَّهم مرضى القلوب وأنّ اللَّه يزيدهم مرضًا إلى مرضهم؛ فلم يدع ذمًّا ولا عيبًا إلَّا ذمّهم به. وهذا يدلّ على شدّة مقته سبحانه لهم، وبغضه إيَّاهم، وعداوته لهم، وأنّهم أبغض أعدائه إليه. فظهرت حكمته الباهرة في تخصيص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار. نعوذ باللَّه من مثل حالهم، ونسأله معافاته ورحمته.
ومن تأمّل ما وصف اللَّه به المنافقين في القرآن من صفات الذمّ، علم أنّهم أحقّ بالدرك الأسفل. فإنّه وصفهم بمخادعته ومخادعة عباده. ووصف قلوبهم بالمرض، وهو مرض الشبهات والشكوك. ووصفهم بالإفساد في الأرض وبالاستهزاءِ بدينه وعباده، والطغيان
(1)
، واشتراءِ الضلالة بالهدى، والصمم والبكم والعمى، والحيرة، والكسل عند عبادته، والرياء
(2)
، وقفة ذكره، والتردُّد -وهو التذبذب- بين المؤمنين والكفار، فلا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ، والحلف باسمه تعالى كذبًا وباطلًا، وبالكذب، وبغاية الجبن، وبعدم الفقه في الدين، وبعدم العلم، وبالبخل، وبعدم الإيمان باللَّه وباليوم الآخر، وبالريب
(3)
، وبأنهم مضرّة على المؤمنين، لا يحصل لهم بصحبتهم
(4)
إلَّا الشرّ من الخبال، والإسراع بينهم بالشرّ وإلقاءِ الفتنة، وكراهتهم لظهور أمر اللَّه
(1)
"ك": "بالطغيان". "ط": "بعباده وبالطغيان".
(2)
"ك، ط": "والزنا"، تصحيف.
(3)
"ك، ط": "وبالرب"، تحريف.
(4)
"ك، ط": "ولا يحصل لهم بنصيحتهم"، تحريف.
ومجيء الحقّ
(1)
، وأنّهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر، ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاءِ، وأنَّهم يتربّصون الدوائر بالمسلمين، وبكراهتهم الإنفاق في مرضاة اللَّه وسبيله، وبعيب المؤمنين ورميهم بما ليس فيهم، فيلمزون المتصدّقين، ويعيبون مُزْهِدَهم
(2)
، ويرمون مُكْثِرَهم
(3)
بالرياءِ وإرادة الثناءِ
(4)
في الناس، وأنّهم عبيد الدنيا، إن أُعطوا منها رضوا، وإن مُنعوها
(5)
سخطوا، وبأنهم يؤذون رسول اللَّه وينسبونه إلى ما برّأه اللَّه منه أو يعيبونه
(6)
بما هو من كماله وفضله، وبأنّهم
(7)
يقصدون إرضاءَ المخلوقين ولا يطلبون إرضاءَ ربّ العالمين، وأنّهم يسخرون من المؤمنين، وأنّهم يفرحون إذا تخلّفوا عن رسول اللَّه، ويكرهون الجهاد في سبيل اللَّه، وأنهم يتحيّلون على تعطيل فرائض اللَّه عليهم بأنواع الحيل، وأنّهم يرضون بالتخلّف عن طاعة اللَّه ورسوله، وأنّهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم يتركون ما أوجب اللَّه عليهم مع قدرتهم عليه، وأنّهم أحلفُ الناس باللَّه قد اتخذوا أيمانهم جُنَّةً تقيهم من إنكار المسلمين عليهم. وهذا شأن المنافق أحلف الناس باللَّه كاذبًا، قد اتخذ يمينه جُنَّةً ووقايةً يتّقي بها إنكارَ المسلمين عليه.
(1)
"ط": "ومحو الحق"، تحريف.
(2)
مِنْ أزهد الرجلُ: قلّ ماله.
(3)
وضع "مكثرهم" في "ط" في آخر الجملة بعد "في الناس".
(4)
"ك، ط": "إراءة الثناء"، تحريف.
(5)
الضمير ساقط من "ك، ط".
(6)
"ط": "ويعيبونه".
(7)
"ك، ط": "وأنَّهم".
ووصفهم بأنّهم رجس -والرجس من كلّ جنس: أخبثُه وأقذرُه، فهم أخبث بني آدم وأقذرهم وأرذلهم- وبأنهم فاسقون، وبأنَّهم مضرّة على أهل الإيمان يقصدون التفريق بينهم، ويؤوون من حاربهم وحارب اللَّه ورسوله، وأنّهم يتشبّهون بهم ويضاهونهم في أعمالهم ليتوصّلوا منها إلى الإضرار بهم وتفريق كلمتهم، وهذا شأن المنافقين أبدًا. وبأنّهم فتَنوا أنفسهم بكفرهم باللَّه ورسوله، وتربّصوا بالمسلمين دوائر السوءِ، وهذا
(1)
عادتهم في كل زمان. وارتابوا في الدين فلم يصدّقوا به، وغرّتهم الأماني الباطلة وغرّهم الشيطان، وأنهم أحسن الناس أجسامًا تُعجِب الرائيَ أجسامُهم، والسامعَ منطقُهم، فإذا جاوزتَ أجسامهم وقولَهم رأيتَ خُشبًا مسنّدة، لا إيمان ولا فقه، ولا علم ولا صدق، بل خشُب قد كُسِيتْ كسوةً تروق الناظر، وليس وراءَ ذلك شيء
(2)
. وإذا عرض عليهم التوبة والاستغفار أبَوها وزعموا أنَّهم لا حاجة لهم إليها، إمّا لأنّ ما عندهم من الزندقة والجهل المركّب مغنٍ عنها وعن الطاعات جملةً -كحال كثير من الزنادقة- وإمَّا احتقارًا وازدراء بمن يدعوهم إلى ذلك.
ووصفهم تعالى بالاستهزاءِ به وبآياته وبرسوله، وبأنهم مجرمون، وبأنّهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في مرضاته، وبنسيانهم
(3)
ذكرَه، وبأنّهم يتولّون الكفار ويدَعون المؤمنين، وبأن الشيطان قد استحوذ عليهم وغلب عليهم حتى أنساهم
(1)
"ط": "وهذه".
(2)
"ط": "ولبسوا وراء ذلك شيئًا".
(3)
"ك، ط": "ونسيان".
ذكر اللَّه فلا يذكرونه إلَّا قليلًا، وأنّهم حزب الشيطان، وأنّهم يوادّون من حادّ اللَّه ورسوله، وبأنّهم يتمنّون ما يُحنِت المؤمنين ويشقّ عليهم، وأن البغضاءَ تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم، وأَنّهم
(1)
يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
ومن صفاتهم التي وصفهم بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، والغدر عند العهد، والفجور عند الخصام، والخلف عند الوعد
(2)
؛ وتأخير الصلاة إلى آخر وقتها، ونَقْرُها عجلةً وإسراعًا، وترك حضورها جماعةً، وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاءُ
(3)
.
ومن صفاتهم التي وصفهم اللَّه بها: الشحّ على المؤمنين بالخير، والجبن عند الخوف، فإذا ذهب الخوف وجاءَ الأمن سلقوا المؤمنين بألسنة حداد، فهم أحدّ الناس ألسنةً عليهم، كما قيل:
جهلًا علينا وجبنًا عن عدوّكمُ
…
لبئست الخَلّتان الجهلُ والجبنُ
(4)
وأنّهم عند المخاوف تظهر كمائن صدورهم ومُخبّآتها. وأمّا عند
(1)
"ك، ط": "وبأنهم".
(2)
يشير إلى ما أخرجه البخاري (33، 34) ومسلم (58، 59) في كتاب الإيمان من حديث أبي هريرة وعبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهم.
(3)
يشير إلى ما أخرجه البخاري في كتاب الأذان (657) ومسلم في كتاب المساجد (651) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
من قصيدة لقعنب بن أمّ صاحب -من شعراء الدولة الأموية- أوردها ابن الشجري في مختاراته (50)، والرواية:"عن عدوّهم". وفي الزهرة (628) وأمثال العسكري (1/ 104): "عدوّكم" كما هنا.
الأمن فيجب ستره، فإذ الحق المسلمين خوفٌ دبّت عقارب قلوبهم، وظهرت المخبّآت، وبدت الأسرار.
ومن صفاتهم: أنّهم أعذبُ الناس ألسنةً، وأمرُّهم قلوبًا، وأعظم الناس مخالفةً
(1)
بين أعمالهم وأقوالهم. ومن صفاتهم أنّه
(2)
لا يجتمع فيهم حُسن سمت
(3)
وفقه في دين أبدًا. ومن صفاتهم أنّ أعمالهم تكذب أقوالهم، وباطنهم يكذّب ظاهرهم، وسرائرهم تناقض علانيتهم.
ومن صفاتهم: أنّ المؤمن لا يثق بهم
(4)
في شيء، فإتهم قد أعدّوا لكلّ أمر مخرجًا منه، بحقّ أو بباطل، بصدق أو بكذب، ولهذا سُمِّي "منافقًا" أخذًا من نافقاءِ اليربوع. وهو بيت يحفره، ويجعل له أسرابًا مختلفة، وكلَّما
(5)
طُلِبَ من سَرَبٍ خرج من سَرَبٍ آخر، فلا يتمكَّن طالبُه مِن حصره في سرب واحد. قال الشاعر:
ويُستخرجَ اليربوعُ من نافقائه
…
ومن بيته ذو الشِّيحة اليتقَصَّعُ
(6)
فأنت منه كقبضٍ
(7)
على الماءِ، ليس معك منه شيء.
(1)
"ط": "خلفًا".
(2)
"ك، ط": "أنهم".
(3)
"ك، ط": "صمت" تحريف.
(4)
"ف": "منهم"، سهو.
(5)
"ك، ط": "فكلما".
(6)
"ط": "ومن جحره بالشيحة". والبيت لذي الخِرَق الطُّهَوي -جاهلي- من أبيات أوردها أَبو زيد في نوادره. والرواية: "ومن جحره". انظر: النوادر (276 - 278) وخزانة الأدب (1/ 35).
(7)
"ط": "كقابض"، ولعله إصلاح من الناشر!
ومن صفاتهم: كثرة التلوّن، وسرعة التقلُّب، وعدم الثبات على حال واحد. بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدي صالح أو صدق، إذ انقلب إلى ضدِّ ذلك كأنَّه لم يعرف غيره. فهو أشدّ الناس تلوّنًا وتقلُّبًا وتنفُّلًا، جيفةً بالليل قُطْرُبًا
(1)
بالنَّهار.
ومن صفاتهم: أنَّك إذا دعوتهم عند المنازعة إلى التحاكم
(2)
إلى القرآن والسنَّة أَبوا ذلك وأعرضوا عنه، ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم. قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)} [النساء/ 60 - 63].
ومن صفاتهم: معارضة ما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم بعقول الرجال
(1)
"ب": "بطالًا"!. وفي "ط": "قطرب" بالرفع. جاء عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه: "لا أعرفنّ أحدكم جيفةَ ليل قطربَ نهار". قال أَبو عبيد: "يقال إن القطرب لا تستريح نهارها سعيًا. فشبّه عبد اللَّه الرجل يسعى نهاره في حوائج دنياه، فإذا أمسى أمسى كالًّا تعِبًا، فينام ليلته حتى يصبح كالجيفة لا يتحرّك. فهذا جيفة ليل، قطرب نهار". انظر: اللسان (قطرب 1/ 683). وقد وردت في طرة "ف" حاشية بالخط الفارسي تقول: "وله أربعة عشر معنى منها أنه دويبة" ثم نقلت الحديث وتفسيره من الراموز، وهو معجم مخطوط لمحمد بن حسن الأدرنوي المتوفى 866 هـ.
(2)
سقط " إلى" من "ك". وفي "ط": "للتحاكم".
وآرائهم، ثمَّ تقديمها على ما جاءَ به. فهم معرضون عنه معارضون له، زاعمون أنَّ الهدى في آراء الرجال وعقولهم، دون ما جاءَ به. فلو أعرضوا عنه وتعوّضوا بغيره لكانوا منافقين، فكيف إذا جمعوا إلى ذلك
(1)
معارضتَه وزعمَهم
(2)
أنَّه لا يستفاد منه هدى!
ومن صفاتهم: كتمان الحقِّ، والتلبيس على أهله، ورميهم لهم
(3)
بادوائهم هم
(4)
. فيرمونهم -إذا أمروا بالمعروف، ونهَوا عن المنكر، ودعَوا إلى اللَّه ورسوله- بأنَّهم أهل فتن مفسدون في الأرض. وقد علم اللَّه ورسوله والمؤمنون أهلَ الفتن المفسدين
(5)
في الأرض. وإذا دعا
(6)
ورثة الرسول إلى كتاب اللَّه وسنَّة رسوله خالصة غيرَ مشوبة، رموهم بالبدع والضلال. وإذا رأوهم زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة متمسّكين بطاعة اللَّه ورسوله، رموهم بالزوكرة
(7)
والتلبيس والمِحال. وإذا رأوا معهم حقًّا ألبسوه لباسَ الباطل، وأخرجوه لضعفاءِ العقول في
(1)
"ك، ط": "مع ذلك".
(2)
"ط": "وزعموا".
(3)
"ب، ك، ط": "له"، خطأ.
(4)
"هم" ساقط من "ب، ك، ط".
(5)
في الأصل: "المفسدون"، سبق قلم والمثبت من "ف، ب". وفي "ك": "بأنهم أهل الفتن المفسدون"، فأبق ما في الأصل وزاد "بأنهم". وكذا في "ط".
(6)
"ك": "دعاه". "ط": "دعاهم".
(7)
وردت كلمة "الزواكرة" في كلام للسان الدين ابن الخطيب، ففسّره المقّري بقوله:"الزواكرة: لفظ يستعمله المغاربة، ومعناه عندهم المتلبّس الذي يظهر النسك والعبادة، ويبطن الفسق والفساد" نفح الطيب (6/ 12). والزوكرة: مصدر منه بمعنى التلبيس والرياء. قال الشيخ أحمد رضا: العامة تقول: زوكره إذا لبّس عليه. معجم متن اللغة (3/ 45).
قالبه
(1)
لينفروهم عنه، وإذا كان معهم باطل ألبسوه لباس الحقِّ وأخرجوه في قالبه ليقبل منهم.
وجملة أمرهم أنَّهم في المسلمين كالزغَل في النقود، يروج على أكثر النَّاس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من النَّاس، وقليل ما هم! وليس على الأديان أضرّ من هذا الضرب من النَّاس، وإنَّما تفسد الأديان من قِبَلهم. ولهذا جلا اللَّه أمرهم في القرآن، وأوضح أوصافهم، وبيَّن أحوالهم، وكرَّر ذكرهم؛ لشدَّة المؤنة على الأمَّة بهم، وعِظَم البليَّة عليهم بوجودهم بين أظهرهم، وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرُّز من مشابهتهم أو الإصغاءِ
(2)
إليهم.
فكم قطعوا على السالكين إلى اللَّه طريقَ الهدى، وسلكوا بهم سُبل الردى
(3)
! ووعدوهم
(4)
ومنَّوهم، ولكن وعدوهم الغرور، ومنَّوهم الويل والثبور!
فكم لهم من قتيل ولكن في سبيل الشيطان، وسليبٍ ولكن للباس التقوى والإيمان. وأسيرٍ لا يُرجى له الخلاص، وفارٍّ من اللَّه لا إليه، وهيهات، لات
(5)
حين مناص!
صحبتُهم توجِب العار والشنار، ومودّتهم تُحِلُّ غضب الجبَّار،
(1)
يعني في قالب الباطل. وفي "ط": "قالب شنيع"!.
(2)
"ك، ط": "والإصغاء".
(3)
"ك، ط": "طرق الهدى. . سبيل الردى"!
(4)
"ك، ط": "وعدوهم" دون واو العطف.
(5)
"ك، ط": "ولات".
وتوجب دخول النَّار. من علِقت به كلاليبُ كلَبِهم ومخاليبُ دائهم
(1)
مزّقت منه ثياب الدِّين والإيمان، وقُطعت له مقطَّعاتُ البلاءِ
(2)
والخذلان. فهو يسحب من الحرمان والشقاوة أذيالًا، ويمشي على عقبيه القهقرى إدبارًا منه، وهو يحسب ذلك إقبالًا!
فهم واللَّه قُطَّاع الطريق حقًّا
(3)
! فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداءِ، حِذارًا منهم
(4)
حِذارًا. وهم
(5)
الجزَّارون، ألسنتُهم شِفَارُ البلايا، ففرارًا منهم أيَّها الغنم فرارًا!
ومن البليَّة أنَّهم الأعداءُ حقًّا، وليس لنا بدّ من مصاحبتهم. وخلطتُهم
(6)
أعظم الداءِ، وليس بدّ من مخالطتهم. قد جعلوا على أَبواب جهنَّم دعاةً إليها، فبعدًا للمستجيبين! ونصبوا شباكهم حواليها على ما حفت به من الشهوات، فويل للمغترِّين!
نصبوا الشباك، ومدُّوا الأشراك، وأذَّن مؤذّنهم بأشباه الأنعام
(7)
: حيَّ على الهلاك، حيَّ على التباب! فاستبقوا يُهرَعون إليه
(8)
، فأوردهم
(1)
"ط": "رأيهم"، تحريف.
(2)
"ب، ك، ط": "من البلاء".
(3)
"حقًّا" ساقط من "ط".
(4)
"ف": "منه"، سهو. وفي "ط":"حذار منهم حذار"! خطأ.
(5)
"ط": "إنهم"، خطأ.
(6)
قراءة "ف": "خلطهم".
(7)
"ب": "تأذّن مؤذنهم يا أشباه. . . ". وفي "ط": "يا شياه. . . ". والصواب ما أثبتنا من الأصل و"ف، ك". وباء الجرّ مضبوطة في الأصل.
(8)
الضمير المفرد راجع إلى مؤذنهم. وفي "ط": "إليهم"، ولعله تغيير من الناشر، وقد اضطر بعد ذلك إلى تغيير الضمائر التالية:"فأوردوهم"، =
حياضَ العذابَ، لا المواردَ العَذاب. وأسامهم
(1)
من الخسفِ والبلاءِ أعظم خِطَّةٍ
(2)
، وقال: ادخلوا باب الهوان صاغرين، ولا تقولوا حِطَّة، فليس بيوم حطَّة. فواعجبا لمن نجا من شِراكهم، لا لمن
(3)
علِق! وأنِّى ينجو منها
(4)
من غلبت عليه شقاوتُه ولها خُلِقَ!
فحقيق بأهل هذه الطبقة أن يحلّوا بالمحلِّ الذي أحلّهم اللَّه من دار الهوان، وأن ينزلوا في أردأ منازل أهل العناد والكفران.
وبحسب إيمان العبد ومعرفته، يكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة. ولهذا اشتدَّ خوف سادة الأمة وسابقيها
(5)
على أنفسهم أن يكونوا منهم، فكان عمر بن الخطاب يقول: يا حذيفة نشدتك
(6)
اللَّهَ، هل سمَّاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أزكّي بعدك أحدًا
(7)
. يعني لا أفتح عليَّ هذا الباب في تزكية الناس. ليس
(8)
معناه أنَّه لم يبرأ
= "وساموهم"، "قالوا".
(1)
كذا في الأصل وغيره، وهو الصواب. وفي "ط":"ساموهم" من سامه الذلّ: أولاه إيّاه. وانظر التعليق الآتي.
(2)
ضبطت في "ب" بضم الخاء، وهو خطأ في هذا السياق، لأن أسام الماشية: خلَّاها ترعى. والخطة بالضم: الأمر والحال. وبالكسر: المكان المختطّ، وهذا هو المراد، فإنّه شبَّههم بالأنعام، وأوردهم "المؤذن" الحياض فسقاهم منها، ثم خرج بهم إلى مرعى السوء. وقرينة السجع الآتية "حِطة" أيضًا بالكسر لا بالضمِّ.
(3)
"ط": "من".
(4)
"منها" ساقط من "ك، ط".
(5)
في الأصل: "سابقوها"، سهو، وكذا في "ب، ك، ط". والمثبت من "ف".
(6)
"ك، ط": "ناشدتك".
(7)
تقدّم تخريجه في ص (628).
(8)
"ط": "وليس".
من النفاق غيرك.
وقال ابن أبي مليكة: أدركتُ ثلاثين من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلّهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنَّه على إيمان جبريل وميكائيل
(1)
.
الطبقة السادسة عشرة
(2)
: طبقة
(3)
رؤساءِ الكفر وأئمته ودعاته الذين كفروا وصدّوا عباد اللَّه عن الإيمان وعن الدخول في دينه رغبةً ورهبةً. فهؤلاء عذابهم مضاعَف، ولهم عذابان: عذاب الكفر، وعذاب بصدِّ النَّاس عن الدخول في الإيمان. قال تعالى:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل/ 88]. فأحد العذابين بكفرهم، والعذاب الآخر بصدّهم عن سبيل اللَّه.
وقد استقرَّت حكمة اللَّه وعدله أن يجعل على الداعي إلى الضلال مثل آثام من اتبعه واستجاب له. ولا ريبَ أنَّ عذاب هذا يتضاعف ويتزايد بحسب من اتَّبعه وضلَّ به. وهذا النوع في الأشقياء مقابل دعاة الهدى في السعداء، فأولئك يتضاعف ثوابهم وتعلو درجاتهم بحسب من اتَّبعهم واهتدى بهم، وهؤلاء عكسهم.
ولهذا كان فرعون وقومه في أشدِّ العذاب، قال تعالى في حقهم: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
(1)
"وقال ابن أبي مليكة. . . " إلى هنا سقط من "ف". وقول ابن أبي مليكة هذا ذكره البخاري تعليقًا في كتاب الايمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
(2)
في الأصل: "عشر"، وكذا في غيره. والمثبت من "ط".
(3)
"طبقة" ساقط من "ك، ط".
الْعَذَابِ} [غافر/ 46]. وهذا تنبيه على أنَّ فرعون نفسه في الأشدّ من ذلك؛ لأنَّهم إنَّما دخلوا أشدَّ العذاب تبعًا له، فإنَّه هو الذي استخفّهم فأطاعوه، وغرَّهم فاتَّبعوه. ولهذا يكون يوم القيامة إمامهم وفرَطهم في هذا الوِرد. قال تعالى:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود/ 98].
والمقصود: أنَّهم إنَّما
(1)
استحقُّوا أشدَّ العذاب لتغلُّظ كفرهم
(2)
، وصدّهم عن سبيل اللَّه وعقوبتهم من آمن باللَّه. فليس عذاب الرؤساء في النار كعذاب أتباعهم. ولهذا كان في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل:"فإن تولّيتَ فإنَّ عليك إثمَ الأرِيسِيِّين"
(3)
. والصحيح في اللفظة
(4)
أنَّهم الأتباع. ولهذا كان عدو اللَّه إبليس أشدَّ أهل النار عذابًا، وهو أوَّل من يُكسى حُلَّة من النَّار؛ لأنَّه إمام كلّ كفر وشرك وشرّ. فما عصي اللَّه إلا على يديه وبسببه، ثمَّ الأمثل فالأمثل من نوَّابه في الأرض ودعاته.
ولا ريب أنَّ الكفر يتفاوت، فكفر أغلظ من كفر. كما أنَّ الإيمان يتفاوت فإيمان أفضل من إيمان. فكما أنَّ المؤمنين ليسوا في درجة واحدة بل هم درجات عند اللَّه، فكذلك الكفار ليسوا في طبقة واحدة ودرك واحد، بل النار دركات كما أنَّ الجنَّة درجات. ولا يظلم اللَّه من خلقه أحدًا. وهو الغني الحميد.
(1)
"إنما" ساقط من "ك، ط".
(2)
"ب، ط": "لغلظ كفرهم".
(3)
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه البخاري في بدء الوحي (7) وغيره. ومسلم في الجهاد والسير (1773).
(4)
يعني في تفسيرها. وفي "ط": "اللفظ".
فصل
وتغلّظُ
(1)
الكفر الموجبُ لتغلّظ العذاب يكون من ثلاثة أوجه:
أحدها: من خبث
(2)
العقيدة الكافرة في نفسها، كمن جحد ربَّ العالمين بالكلّية، وعطَّل العالم عن الربِّ الخالق المدبّر له، فلم يؤمن باللَّه وملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر. ولهذا لا يُقَرّ أربابُ هذا الكفر بالجزية عند كثيرٍ من العلماء، ولا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم اتّفاقًا، لِتغلّظ كفرهم. وهؤلاء هم المعطّلة والدهرية وكثير من الفلاسفة وأهل الوحدة القائلين بأنَّه لا وجود للربّ تعالى غير وجود هذا العالم.
الجهة الثانية: تغلّظه بالعناد والضلال عمدًا على بصيرة، ككفر من شهد قلبُه أنَّ الرسول حقٌّ لما رآه من آيات صدقه، وكفَرَ عنادًا وبغيًا، كقوم ثمود، وقوم فرعون، واليهود الذين
(3)
عرفوا الرسول كما عرفوا أبناءهم، وكفر أبي جهل وأمية بن أبي الصلت وأمثال هؤلاء.
الجهة الثالثة: السعي في إطفاءِ نور اللَّه وصدّ عباده عن دينه بما تصل إليه قدرتهم. فهؤلاءِ أشدُّ الكفّار عذابًا بحسب تغلّظ كفرهم.
ومنهم من يجتمع في حقِّه الجهات الثلاث، ومنهم من يكون فيه ثنتان
(4)
منها أو واحدة. فليس عذاب هؤلاءِ كعذاب من هو
(5)
دونهم في
(1)
في "ط": "غلظ" هنا وفي الموضع التالي.
(2)
"ب، ك، ط": "حيث"، تصحيف. والكلمة منقوطة في الأصل.
(3)
"ف": "والذين"، سهو.
(4)
"ك، ط": "جهتان".
(5)
"هو" سقط من "ف" سهوًا.
الكفر ممن هو ملبوس عليه لجهله، والمؤمنون من أذاه في سلامة لا ينالهم منه أذى، ولم يتغلّظ كفره كتغلّظ كفر
(1)
هؤلاء، بل هو مقرّ باللَّه ووحدانيته وملائكته وجنس الكتب والرسل واليوم الآخر، وإن شارك أُولئك في كفرهم بالرسول فقد زادوا عليه أنواعًا من الكفر. وهل يستوي فى النار عذاب أبي طالب وأبي لهب وأبي جهل وعُقبة بن أبي مُعَيط وأبيّ بن خلَف وأضرابهم؟
والمقصود أنّ هذه الطبقة -وهي طبقة الرؤساءِ الدعاة الصادّين عن دين اللَّه- ليست كطبقة مَن دونهم. وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "أهونُ أهلِ النار عذابًا أَبو طالب"
(2)
، ومعلوم أنّ كفر أبي طالب لى يكن مثل كفر أبي جهل وأمثاله.
الطبقة السابعة عشرة
(3)
: طبقة المقلّدين. وهم
(4)
جهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبع
(5)
، يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمّة، ولنا أُسوة
(6)
بهم. ومع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام غيرُ محاربين لهم، كنساءِ المحاربين وخدَمهم وتُبّاعهم
(7)
الذين لم ينصبوا أنفسهم لما نصب له أولئك أنفسهم من السعي في إطفاءِ نور اللَّه وهدم
(1)
"كفر" ساقط من "ك، ط".
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (212) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3)
في الأصل وغيره: "عشر"، ولعله سهو. والمثبت من "ط".
(4)
"هم" ساقط من "ب، ك، ط".
(5)
"ك": "تبع لهم". "ط": "تبعًا لهم".
(6)
"ك، ط": "وإنّا على أسوة"، تحريف.
(7)
جمع تابع. وفي "ط": "أتباعهم".
دينه وإخماد كلماته، بل هم معهم
(1)
بمنزلة الدوابّ.
وقد اتفقت الأُمّة على أنّ هذه الطبقة كفّار وإن كانوا جهّالًا مقلّدين لرؤسائهم وأئمتهم، إلَّا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنّه لم يحكم لهؤلاءِ بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة. وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا مَن بعدهم، وإنّما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدَث في الإسلام.
وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مولود إلَّا وهو يولد على الفطرة فأَبواه يهوّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه"
(2)
. فأخبر أن أَبويه ينقلانه عن الفطرة إلى اليهودية والنصرانية والمجوسية، ولم يعتبر في ذلك غير المربى والمنشأ على ما عليه الأَبوان. وصحَّ عنه أنه قال:"إنّ الجنّة لا يدخلها إلَّا نفس مسلمة"
(3)
.
وهذا المقلّد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلّف، والعاقل المكلّف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر. وأمّا من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلّف في تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين، وقد تقدَّم الكلام عليهم
(4)
. والإسلام هو توحيد اللَّه وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان باللَّه وبرسوله
(5)
واتّباعه فيما جاءَ به. فما لم يأت العبد بهذا فليس
(1)
"معهم" ساقط من "ك، ط".
(2)
سبق تخريجه في ص (842).
(3)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3062) وغيره، ومسلم في الإيمان (111).
(4)
انظر: ص (841).
(5)
"باللَّه و" سقط من "ف" سهوًا.
بمسلم، وإن لم يكن كافرًا معاندًا، فهو كافر جاهل.
فغاية هذه الطبقة أنّهم كفّار جهّال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفّارًا. فإنّ الكافر من جحد توحيدَ اللَّه وكذّب رسولَه إمّا عنادًا وإمّا جهلًا
(1)
وتقليدًا لأهل العناد. فهذا وإن كان غايته أنّه غير معاند، فهو متّبع لأهل العناد.
وقد أخبر اللَّه تعالى في القرآن في غير موضع بعذاب المقلّدين لأسلافهم من الكفار، وأنّ الأتباع مع متبوعهم، وأنّهم يتحاجّون في النار، وأنّ الأتباع يقولون:{رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)} [الأعراف/ 38].
وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)[غافر/ 47 - 48].
فهذا إخبار من اللَّه وتحذير بأنّ المتبوعين والتابعين اشتركوا في
(1)
"ط": "أو جهلًا".
العذاب ولم يُغنِ عنهم تقليدُهم شيئًا. وأصرح من هذا قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة/ 166 - 167].
وصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثلُ أوزار مَن اتّبعه. لا ينقص من أوزارهم شيئًا"
(1)
. وهذا يدل على أنَّ كفر من اتبعهم إنّما هو بمجرّد اتباعهم وتقليدهم.
نعيم، لا بدَّ في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين مقلّد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلّد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان في الوجود. فالمتمكن المعرض مفرِّط تارك للواجب عليه، لا عذر له عند اللَّه. وأمّا العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه، فهم قسمان
(2)
أيضًا:
أحدهما: مريد للهدى مؤثر له محبٌّ له، غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة.
الثاني: معرِض لا إرادة له، ولا يحدِّث نفسه بغير ما هو عليه.
فالأول يقول: يا ربّ لو أعلم لك دينًا خيرًا مما أنا عليه لَدِنْتُ به وتركت ما أنا عليه، ولكن لا أعرف غير
(3)
ما أنا عليه ولا أقدر على
(1)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. أخرجه مسلم في كتاب العلم (2674).
(2)
"ف": "نوعان"، سهو.
(3)
"ك، ط": "سوى".
غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي. والثاني راضٍ بما هو عليه، لا يؤثر غيره عليه، ولا تطلب نفسه سواه؛ ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز. وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق. فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به، فعدل عنه بعد استفراغه الوسعَ
(1)
في طلبه عجزًا وجهلًا. والثاني كمن لم يطلبه، بل مات على شركه، وإن كان لو طلبه لَعَجز عنه. ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض. فتأمّل هذا الموضع.
واللَّه يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذّب إلَّا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق. وأمّا كون زيد بعينه وعمرو بعينه
(2)
قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين اللَّه وبين عباده فيه. بل الواجب على العبد أن يعتقد أنّ كلّ من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن اللَّه سبحانه لا يعذّب أحدًا إلَّا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم اللَّه عز وجل وحكمه.
هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر. فأطفال الكفّار ومجانينهم كفّار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم.
وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة. وهو مبنيّ على أربعة أصول:
(1)
"ط": "استفراغ الوسع".
(2)
"بعينه" ساقط من "ك، ط".
أحدها: أن اللَّه سبحانه لا يعذب أحدًا إلَّا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء/ 15]. وقال: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء/ 165]. وقال: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك/ 8 - 9]. وقال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك/ 11]. وقال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} [الأنعام/ 130]. وهذا كثير في القرآن، يخبر أنَّه إنَّما يعذب من جاءَه الرسول وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه.
وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف/ 76]. والظالم من عرف ما جاءَ به الرسول أو تمكن من معرفته، ثمَّ خالفه وأعرض عنه. وأمَّا من لم يكن عنده من الرسول خبر أصلًا، ولا تمكن من معرفته
(1)
بوجه، وعجز عن ذلك، فكيف يقال إنَّه ظالم؟
الأصل الثاني: أنَّ العذاب يُستَحَق بشيئين
(2)
: أحدهما: الإعراضُ عن الحجة، وعدمُ إرادة العلم بها
(3)
وبموجَبها. الثاني: العنادُ لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها. فالأَوَّل كفر إعراض، والثاني كفر عناد.
(1)
"ثم خالفه. . . " إلى هنا سقط من "ط" أو أصلها لانتقال النظر، فزاد بعد "بوجه":"وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول"!
(2)
هذه قراءة "ف، ب". وفي "ك، ط": "بسببين".
(3)
"العلم" ساقط من "ك". وفي "ط": "إرادتها والعمل بها".
وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى اللَّه التعذيب عليه
(1)
حتَّى تقوم حجَّته بالرسل
(2)
.
الأصل الثالث: أنَّ قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة اللَّه على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى. كما أنَّها تقوم على شخص دون آخر، إمَّا لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإمَّا لعدم فهمه كمن
(3)
لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يُترجِم له، فهذا بمنزلة الأصمّ الذي لا يسمع شيئًا ولا يتمكّن من الفهم. وهو أحد الأربعة الذين يُدْلُون على اللَّه بالحجَّة يوم القيامة، كما تقدَّم في حديث الأسود وأبي هريرة وغيرهما
(4)
.
الأصل الرَّابع: أنَّ أفعال اللَّه عز وجل تابعة لحكمته التي لا يخلّ بها سبحانه، وأنَّها مقصودة لغاياتها المحبوبة
(5)
وعواقبها الحميدة. وهذا الأصل هو أساس الكلام في هذه الطبقات الذي عليه ينبني
(6)
، مع تلقّي أحكامها من نصوص الكتاب والسنَّة، لا من آراء الرجال وعقولهم. ولا يدري قدر الكلام في هذه الطبقات
(7)
إلا من عرف ما في كتب
(1)
"ط": "عنه".
(2)
"ك، ط": "حجة الرسل".
(3)
"ط": "كالذي".
(4)
انظر: ص (865 - 869).
(5)
"ك، ط": "لغايتها المحمودة".
(6)
رسم الكلمة في الأصل و"ف، ب" يقتضي هذه القراءة، وإن كان يعجبني أن تقرأ "نبني".
(7)
"الذي عليه ينبني. . . " إلى هنا ساقط من "ك" لانتقال النظر، وكذا في "ط".
الناس، ووقف على أقوال الطوائف في هذا الباب، وانتهى إلى غاية مرامهم
(1)
ونهاية إقدامهم. واللَّه سبحانه الموفّق للسَّداد، الهادي إلى الرشاد.
وأمَّا من لم يُثبِت حكمةً ولا تعليلًا، وردّ الأمر إلى محض المشيئة التي ترجحَ أحد المثلين على الآخر بلا مرجّح، فقد أراح نفسه من هذا المقام الضنك واقتحام عقبات هذه المسائل العظيمة، وأدخلها كلَّها تحت قوله:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء/ 23] وهو الفعَّال لما يريد. وصدق اللَّه وهو أصدق القائلين: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لكمال حكمته وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها، وأنَّه ليس في أفعاله خلل ولا عبث ولا فساد يُسأل عنه كما يُسال المخلوق. وهو الفعَّال لما يريد، ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما هو خير ومصلحة ورحمة وحكمة. فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور ولا خلاف مقتضى حكمته، لكمال أسمائه وصفاته، وهو الغني الحميد، العليم الحكيم.
فصل
الطبقة الثامنة عشرة
(2)
: طبقة الجنّ. وقد اتفق المسلمون على أنَّ منهم المؤمن والكافر والبرّ والفاجر. قال تعالى إخبارًا عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} [الجن/ 11] قال مجاهد: يعنُون: مسلمين وكافرين
(3)
. وقال الحسن والسدّي: أمثالكم، فمنهم
(1)
"ك، ط": "مراتبهم" تحريف.
(2)
في الأصل وغيره: "عشر". والمثبت من "ط".
(3)
تفسير الطبري (29/ 112)، معالم التنزيل (8/ 240).
قدرية ومرجئة ورافضة
(1)
. وقال سعيد بن جبير: ألوانًا شتَّى
(2)
. وقال ابن كيسان: شِيَعًا وفِرَقًا
(3)
. ومعنى الكلام: أصنافًا مختلفةً ومذاهب متفرِّقة.
ثمَّ قيل في إعراب الآية: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي: ومنَّا
(4)
قوم دون ذلك، فحذف الموصوف، وأقام صفته مقامه. كقوله:{وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)} [الصافات/ 164] أي: إلا من له مقام
(5)
. وكقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة/ 41] أي: فريق سمَّاعون. وكقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء/ 46] أي: فريق يحرِّفون. وكقوله على أظهر القولين: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} [البقرة/ 96] أي: فريق يودّ أحدهم. وقال الشاعر:
فظلُّوا ومنهم دمعُه سابقٌ له
…
وآخَرُ يُذري دمعةَ العين بالهَمْلِ
(6)
(1)
معالم التنزيل (8/ 240) زاد المسير (8/ 380).
(2)
معالم التنزيل (8/ 240).
(3)
المصدر السابق.
(4)
"أي ومنّا" ساقط من "ك، ط".
(5)
"ك، ط": "مقام معلوم".
(6)
في الأصل: "سايق لهم" وكذا في "ف". وفي "ب، ك، ط": "سابق لهم" وفي "ك، ط": "بالمهل". والبيت لذي الرمّة في ديوانه (1/ 141). وروايته فيه مع سياقه:
بكيتُ على مىٍّ بها إذ عرفتُها
…
وهِجتُ البكا حتى بكى القوم من أجلي
فظلّوا ومنهم دمعه غالب له
…
وآخرُ يَثني عبرةَ العينِ بالمَهْل
وهل هَمَلانُ العين راجعُ ما مضى
…
من الدهر أو مُدنيكِ ياميُّ من أهلي
وذكر الشارح أنه يروى "سابق له" و"دمعة العين". وفي تفسير الطبري (8/ 431): "يثني. . . بالهمل". وفي القرطبي (5/ 157): "يُذري. . . بالهمل". =
أي ومنهم من دمعه.
وقوله: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)} [الجن/ 11] بيان لقولهم: {مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي: كنَّا ذوي طرائق. وهي المذاهب، واحدها طريقة، وهي المذهب. والقِدَد جمع قِذَة، كقطعة وقِطَع وزنًا ومعنًى. وهي من القَدّ، وهو القطع.
وقيل: المعنى
(1)
كُنَّا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة في اختلافها، وعلى هذا فالمعنى: كُنَّا كطرائق
(2)
قددًا. وليس بشيء.
وأضعفُ منه قول من قال: إنَّ "طرائق" منصوب على الظرف، أي: كُنَّا في طرائق
(3)
مختلفة كقوله:
كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
(4)
وهذا ممَّا لا يحمل عليه أفصح الكلام.
وقيل: المعنى كانت طرائقنا طرائق قددًا فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه
(5)
.
= ونصّ البيت فيه أقرب شيء إلى ما هنا. أما "سائق لهم" كما في الأصل، فلعله سهو.
(1)
"المعنى" ساقط من "ط".
(2)
"ك، ط": "طرائق".
(3)
"ك": "طريق". "ط": "طرق".
(4)
"كما" ساقط من "ط". والشاهد من قول ساعدة بن جُؤيّة الهذلي:
لَدْنٌ بِهَزّ الكفِّ يعسِلُ متنُه
…
فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
شرح أشعار الهذليين (1120).
(5)
انظر الأقوال الأربعة مع الشاهد في: الكشاف (4/ 627).
وقال تعالى إخبارًا عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن/ 14]. فالمسلمون: الذين آمنوا باللَّه ورسوله منهم. والقاسطون: الجائرون العادلون عن الحقِّ. قال ابن عباس: هم الذين جعلوا للَّه أندادًا
(1)
. يقال: "أقسط الرجل" إذا عدل، فهو مقسط. ومنه:{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} [الحجرات/ 9]. "قَسَط" إذا جار فهو قاسط {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن/ 15].
وقد
(2)
تضمَّنت هذه الآيات انقسامهم إلى ثلاث طبقات: صالحين، ودون الصالحين، وكفَّار. وهذه الطبقات بإزاء طبقات بني آدم، فإنَّها ثلاثة: أبرار، ومقتصدون وكفار. فالصالحون بإزاء الأبرار، ومن دونهم بإزاء المقتصدين، والقاسطون بإزاء الكفار.
وهذا كما قسم سبحانه بني إسرائيل إلى هذه الأقسام الثلاثة في قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف/ 168]. فهؤلاء الناجون منهم. ثمَّ ذكر الظالمين، وهم خَلْف السوء الذين خلفوا بعدهم.
ولمَّا كان الإنس أكمل من الجنّ وأتمّ عقولًا ازدادوا عليهم بثلاثة أصناف أخر ليس شيء منها للجنّ، وهم: الرسل، والأنبياء، والمقرَّبون. فليس في الجنّ صنف من هؤلاء، بل غايتهم
(3)
الصلاح.
وذهب شُذوذ
(4)
من النَّاس إلى أنَّ فيهم الرسل والأنبياء
(1)
تفسير البغدي (8/ 241).
(2)
"ك، ط": "قد" دون واو العطف.
(3)
"ط": "حليتهم"، تحريف.
(4)
"ط": "شذّاذ".
محتجًّا
(1)
على ذلك بقوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام/ 130]، وبقوله تعالى:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)}
(2)
[الأحقاف/ 29]. وقد قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء/ 165]. وهذا قولٌ شاذٌ لا يُلتفت إليه ولا يُعرَف به سلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام.
وقوله سبحانه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام/ 130]، لا يدلّ على أنَّ الرسل من كلِّ واحدة من الطائفتين، بل إذا كانت الرسل من الإنس وقد أمرت الجنُّ باتباعهم صحَّ أن يقال للإنس والجنّ: ألم يأتكم رسل منكم؟ ونظير هذا أن يقال للعرب والعجم: ألم يجئكم رسل منكم يا معشر العرب والعجم؟ فهذا لا يقتضي أن يكون من هؤلاء رسل
(3)
، ومن هؤلاء. وقال تعالى:{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح/ 16]، وليس في كلِّ سماءٍ سماءٍ
(4)
.
وأمَّا
(5)
قوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} [الأحقاف/ 29] فالإنذار أعمّ من الرِّسالة، والأعمّ لا يستلزم الأخصّ. قال تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة/ 122] فهؤلاء نُذُر، وليسوا
(1)
"ط": "محتجِّين".
(2)
في "ك، ط" لم تثبت الآية كاملة، بل قال بعد "من الجنّ": إلى قوله "منذرين".
(3)
"ف": "الرسل"، سهو.
(4)
"ط": "قمرٌ".
(5)
"أما" ساقطة من "ك، ط".
برُسُل. قال غير واحد من السلف: الرسل من الإنس، وأمَّا
(1)
الجنّ ففيهم النذر
(2)
.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}
(3)
[يوسف/ 109] فهذا يدلّ على أَنَّه لم يرسل جنيًّا ولا امرأةً ولا بدويًّا. وأمَّا تسميته تعالى الجنّ رجالًا في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن/ 6] فلم يطلق عليهم الرجال، بل هي تسمية مقيَّدة بقوله:{مِنَ الْجِنِّ} ، فهم رجال من الجنّ، ولا يستلزم
(4)
ذلك دخولهم في الرجال عند الإطلاق، كما تقول: رجال من حجارة، ورجال من خشب، ونحوه.
فصل
وقد اتفق المسلمون على أنَّ كفَّار الجنّ في النَّار. وقد دلَّ على ذلك القرآن في غير موضع كقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} [السجدة/ 13]، وقوله:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} [ص/ 85] فملؤها به منه وبكفار ذريته. وقال تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف/ 38]. وقال تعالى في حكاية عن مؤمنيهم
(5)
:
(1)
"ف": "فأما"، خلاف الأصل.
(2)
وهو قول مجاهد. انظر: زاد المسير (3/ 125) وقال شيخ الإسلام إن جمهور العلماء على هذا. مجموع الفتاوى (11/ 307).
(3)
"نُوحي" قراءة حفص. وهي مضبوطة في "ف، ب" على قراءة غيره: "يُوحَى".
(4)
"ف": "ولم يستلزم"، سهو.
(5)
"ك، ط": "مؤمنهم".
(1)
[الجن/ 14 - 15]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف/ 179]. وقال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)} الشعراء/ 94 - 95]. وجنوده إن لم تختصّ
(2)
بالشياطين فهم داخلون في عمومه.
وبالجملة فهذا أمرٌ معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهو يستلزم تكليف الجنّ بشرائع الأنبياء ووجوب اتباعهم لهم. فأمَّا شريعتنا فأجمع المسلمون على أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجنّ والإنس، وأنَّه يجب على الجنّ طاعته، كما تجب
(3)
على الإنس. وأمَّا قبل نبينا صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف/ 38] يدلّ على أنَّ الأمم الخالية من كفَّار الجنّ في النَّار، وذلك إنَّما يكون بعد إقامة الحجَّة عليهم بالرسالة.
وقد دلَّت سورة الرحمن على تكليفهم بالشرائع كما كلّف الإنس، ولهذا يقول سبحانه في إثر كلِّ آية:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)} ، فدلَّ ذلك على أنَّ السورة خطاب للثقلين معًا. ولهذا قرأها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الجنّ قراءةَ تبليغ، وأخبر أصحابه أنَّهم كانوا أحسن ردًّا منهم، فإنَّهم جعلوا يقولون كلَّما قرأ عليهم {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}: لا نكذِّب بشيءٍ من آلائك ربَّنا فلك الحمد
(4)
.
(1)
أثبت الآية في "ك، ط" باختصار.
(2)
"ك، ط": "يختص".
(3)
"ك، ط": "يجب".
(4)
أخرجه الترمذي (3291)، والحاكم (2/ 473)، وأبو الشيخ في العظمة =
ولمَّا كان أَبوهم هو أَوَّل من دعا إلى معصية اللَّه، وعلى يده حصل كلّ كفر وفسوق وعصيان فهو الداعي إلى النَّار؛ كان
(1)
أول من يُكسى حُلَّةً من النَّار يوم القيامة، يسحبها وينادي:"واثبوراه! ". وأتباعه
(2)
من أولاده وغيرهم خلفه ينادون: "واثبورهم"
(3)
، حتَّى قيل: إنَّ كلَّ عذاب يُقسَم على أهل النَّار يُبدأ به فيه، ثمَّ يصير إليهم.
فصل
وأمَّا حكم مؤمنيهم في الدَّار الآخرة، فجمهور السلف والخلف على أنَّهم في الجنَّة. وترجم على ذلك البخاري رحمه الله في صحيحه
(4)
فقال: "باب ثواب الجنّ وعقابهم لقوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأنعام/ 130] بَخْسًا: نقصانًا
(5)
. قال مجاهد: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات/ 158]. قال
= (1106)، والبيهقي في الدلائل (2/ 232) من حديث جابر. قال الترمذي:"هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد. قال ابن حنبل: كأن زهير بن محمد الذي وقع بالشام ليس هو الذي يروي عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه، يعني: لما يروون عنه من المناكير. وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة". وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (ز).
(1)
"ك، ط": "وكان"، خطأ، فإنه جواب لمّا.
(2)
"ط": "فأتباعه".
(3)
"ط": "واثبوراهم".
(4)
في كتاب بدء الخلق، الباب (12).
(5)
يعني تفسير قوله تعالى حكاية عن الجن: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)} [الجن/ 13]. وفي "ط": "نقصًا". ولعله تغيير من الناشر. والوارد =
كفار قريش: الملائكة بنات اللَّه، وأمهاتهم بنات سَرَوات الجنّ. قال اللَّه:{وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)} [الصافات/ 158] ستُحضَر
(1)
للحساب".
ثمَّ ذكر حديث أبي سعيد
(2)
: "إذا كنتَ في غنمك وباديتك
(3)
، فأذَّنتَ بالصلاة، فارفع صوتَك بالنِّداءِ
(4)
؛ فإنَّه لا يسمع مدى صوت المؤذِّن جنّ ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. هذا ما ذكره في الباب.
وقد ذهب جمهور النَّاس إلى أنَّ مؤمنيهم في الجنَّة. وحكي عن أبي حنيفة وغيره أنَّ ثوابهم نجاتهم من النَّار. واحتُجَّ لهذا القول
(5)
بقوله تعالى حكايةً عنهم: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)}
(6)
[الأحقاف/ 31] فجعل غاية ثوابهم إجارتَهم من العذاب الأليم. وأمَّا الجمهور فقالوا: مؤمنهم في الجنَّة، كما أنَّ كافرهم في النَّار
(7)
. ثمَّ اختلفوا فأطلق أكثر النَّاس دخولَ الجنَّة ولم يقيِّدوه. وقال سهل بن عبد اللَّه: يكونون في رَبَض الجنَّة،
= هنا موافق لمتن الصحيح في الفتح (6/ 346).
(1)
"ب": "سيحضرون".
(2)
برقم (3296).
(3)
"ط": "أو باديتك".
(4)
"بالنداء" سقط من "ف" سهوًا.
(5)
"القول" ساقط من "ط".
(6)
لم يثبت الآية كاملة في "ك". وكذا في "ط".
(7)
ذكر المؤلف في مفتاح دار السعادة (1/ 189 - 194) عشرة دلائل على قول الجمهور.
يراهم المؤمنون من حيث لا يرونهم
(1)
.
فهذه مذاهب النَّاس في أحكامهم في الآخرة.
وأمَّا أحكامهم في الدنيا فاختلف النَّاس: هل هم مكلَّفون بالأمر والنَّهي، أم مضطرُّون إلى أفعالهم؟
(2)
على قولين حكاهما أبو الحسن الأشعري في كتاب "المقالات" له فقال: واختلف النَّاس في الجنّ، هل هم مكلَّفون، أم مضطرّون؟ فقال
(3)
قائلون من المعتزلة وغيرهم: هم مأمورون منهِيُّون، وقد أمروا ونُهوا، وهم مختارون. وزعم زاعمون أنَّهم مضطرُّون
(4)
.
قلت: الصواب الذي عليه جمهور أهل الإسلام أنَّهم مأمورون منهيُّون مكلَّفون بالشريعة الإسلامية. وأدلَّة القرآن والسنَّة على ذلك أكثر من أن تحصر. فإضافة هذا القول إلى المعتزلة بمنزلة أن يقال: ذهبت المعتزلة إلى القول بمعاد الأبدان ونحو ذلك ممَّا هو من أقوال سائر أهل الإسلام.
وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ
(1)
في مجموع الفتاوى (4/ 233) أنه حديث رواه الطبراني، وقال في (19/ 39):"وقد روي" من غير عزو. ولم أجده في معاجم الطبراني وغيرها. وذكر الحافظ في الفتح (6/ 346) أن هذا القول منقول عن مالك وطائفة. وأن بعضهم قال إنهم من أصحاب الأعراف. وبعضهم رأى التوقف. فهي أربعة أقوال.
(2)
"ك": "هم مضطرون". "ط": "هم مضطرون على. . . ".
(3)
"ف": "قال"، سهو.
(4)
مقالات الإسلاميين. (440).
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)}
(1)
[الأحقاف/ 18] فأخبر أنَّ منهم من حقَّ عليه القول، أي: وجب عليه العذاب، وأنَّه خاسر، ولا يكون ذلك إلا في أهل التكليف المستوجبين للعقاب
(2)
بأعمالهم. ثمَّ قال بعد ذلك {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف/ 19] أي: في الخير والشرّ يُوفَّونها ولا يُظلمون شيئًا من أعمالهم. وهذا ظاهر جدًّا في ثوابهم وعقابهم، وأنَّ مسيئهم كما يستحقّ العذاب بإساءته، فمحسنهم يستحقّ الدرجات بإحسانه، فلكلٍّ
(3)
درجاتٌ ممَّا عملوا. فدلّ ذلك لا محالة أنَّهم كانوا مأمورين بالشرائع، متعبِّدين بها في الدنيا، ولذلك استحقُّوا الدرجات بأعمالهم في الآخرة في الخير والشرّ.
(4)
[فصلت/25].
ومعنى الآية: أنَّ اللَّه قيَّض للمشركين -أي: سبَّب لهم- قرناءَ من الشياطين يزيّنون لهم ما بين أيديهم من اللذات في الدنيا
(5)
، وما خلفهم من التكذيب بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب.
وقيل عكس هذا، وأنَّ ما بين أيديهم هو التكذيب بالآخرة، وما
(1)
لم يثبت في "ك": "كانوا خاسرين"، وكتب مكانها "الآية"، وكذا في "ط".
(2)
"ك، ط": "العقاب".
(3)
"ك، ط": "ولكل".
(4)
هنا أيضًا نقل الآية في "ك" إلى "والإنس" ثم كتب: "الآية". وكذا في "ط".
(5)
"من اللذات في الدنيا" ساقطة من "ك، ط".
خلفهم
(1)
هو رغبتهم
(2)
في الدنيا وحرصهم عليها
(3)
. وقال الحسن: ما بين أيديهم هو حبّ ما كان عليه آباؤهم من الشرك وتكذيب الرسل، وما خلفهم تكذيبهم بالبعث وما بعده.
وفي الآية قولٌ رابع، وهو أنَّ التزيين كلّه راجع إلى أعمالهم، فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم: أعمالَهم التي عملوها، وما خلفهم: الأعمال التي هم عازمون عليها ولمَّا يعملوها بعد، وكأنَّ لفظ التزيين بهذا القول أليق.
ومن جعل ما خلفهم هو الآخرة لم يستقم قوله إلا بإضمار، أي: زيّنوا لهم التكذيب بالآخرة. ومع هذا فهو قول مستقيم ظاهر، فإنَّهم زيّنوا لهم ترك العمل لها والاستعداد للقائها.
ولهذا كان عليه جمهور أهل التفسير حتَّى لم يذكر البغوي غيره
(4)
. وحكاه عن الزجّاج فقال: وقال الزجاج: سبَّبنا لهم قرناءَ نظراء من الشياطين حتَّى أضلّوهم، فزيّنوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتَّى آثروه على الآخرة وما خلفهم من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث
(5)
.
(1)
"هو التكذيب. . . " إلى هنا ساقط من "ط".
(2)
"ط": "ترغيبهم".
(3)
زاد هنا في "ط": "وما خلفهم هو التكذيب بالآخرة"، وهو تكرار، وفي القطرية سقط هنا بعض الكلام.
(4)
معالم التنزيل (7/ 171).
(5)
ليس في هذا النقل من قول الزجّاج إلّا "سبّبنا" تفسير "قيّضنا". ونص قوله: "يقول: زينوا لهم أعمالهم التي يعملونها ويشاهدونها، و"ما خلفهم": وما يعزمون أن يعملوه" وهذا هو القول الرابع الذي ذكره المؤلف من قبل، وكذا نقله القرطبي (15/ 231) عن الزجّاج. أما تفسير البغوي فهو قول مجاهد =
والمقصود أنَّ قوله تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} [فصلت/ 25] أي: وجب عليهم العذاب مع أمم قد مضت من قبلهم من الجنّ والإنس. ففي هذا أبين دليل على تكليف الثقلين وتعلّق الأمر والنهي بهم، ولذلك
(1)
تعلّق بهم الثواب والعقاب.
(2)
[الأنعام/ 128].
وهذا صريح في تكليفهم، فإنَّ هذا القول يقال للجنّ في القيامة، فيذكر الإنس استمتاعَ بعضهم ببعض في الدنيا، وذلك الاستمتاع هو ما بين الجنّ والإنس من طاعتهم إيَّاهم في معصية اللَّه، وعبادتهم لهم دون اللَّه، ليستعينوا بهم على شهواتهم وأغراضهم. فإنَّهم كانوا يستوحونهم، ويعوذون بهم
(3)
، ويذبحون لهم وبأسمائهم، ويوالونهم من دون اللَّه، كما هو شأن أكثر المشركين من أولياءِ الشيطان
(4)
. فهذا استمتاع بعضهم ببعض.
ولهذا يقول تعالى للملائكة يوم القيامة -وقد جمع العابدين والمعبودين
(5)
-: {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا
= كما في تفسير القرطبي.
(1)
وكذا "ك، ط": "كذلك". "ط": "تعلّق الثواب والعقاب بهم".
(2)
اختصرت الآية في "ك، ط".
(3)
"ف": "ويغرّونهم"، تحريف.
(4)
"ف": "الشياطين"، خلاف الأصل.
(5)
"ف": "العابدون والمعبودون"، سهو.
مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} [سبأ/ 40 - 41] فهؤلاء عُبَّاد الجنّ وأولياء الشيطان
(1)
.
وأكثرهم يعلم ذلك ويرضى به لما ينال به من المتعة بمعبوده. وكثير منهم ملبوس عليه، فهو يعبد الشيطان ولا يشعر. وقد أشار زيد بن عمرو ابن نفيل في شعره إلى هذا الشرك بالجنّ فقال:
حنانَيك إنَّ الجنّ كانت رجاءَهم
…
وأنتَ إلهي ربَّنا ورجائيا
(2)
ولهذا يقولون في القيامة: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام/ 128] قال اللَّه تعالى: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام/ 128] فهذا خطاب للصنفين، وهو صريح في اشتراكهم في التكليف، كما هو صريح في اشتراكهم في العذاب. وهذا كثير
(3)
في القرآن.
وممَّا يدلّ على تكليفهم أيضًا قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}
(4)
[الأنعام/ 130]. فلمَّا اعترفوا بأنهم كانوا كافرين، وشهدوا على أنفسهم بالكفر، دلَّ ذلك على تكليفهم وتوجّه الخطاب إليهم.
(1)
"ف": "الشياطين"، خلاف الأصل. وكذا في "ك، ط".
(2)
"ك، ط": "رجاؤنا"، وهو تحريف. والبيت لزيد في السيرة (1/ 227) ولورقة ابن نوفل في الأغاني (3/ 119). وفي السيرة:"الحن" بالمهملة.
(3)
"ط": "وهو كثير".
(4)
اختصرت الآية في "ك، ط".
(1)
[الأحقاف/ 29 - 32].
فهذا يدلّ على تكليفهم من وجوه متعددة:
أحدها: أنَّ اللَّه سبحانه صرفهم إلى رسوله يستمعون القرآن، ليؤمنوا به، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه.
الثاني: أنَّهم ولَّوا إلى قومهم منذرين. والإنذار هو الإعلام بالمخوف
(2)
بعد انعقاد أسبابه، فعلم أنَّهم منذرون لهم بالنَّار إن عصوا الرسول.
الثالث: أنَّهم أخبروا أنَّهم سمعوا القرآن، وعقلوه وفهموه، وأنَّه يهدي إلى الحقِّ. وهذا القول منهم يدل على أنَّهم عالمون بموسى وبالكتاب المنزّل
(3)
عليه، وأنَّ القرآن مصدّق له، وأنَّه هادٍ إلى صراط مستقيم. وهذا يدل على تمكّنهم من العلم الذي تقوم به الحجة، وهم قادرون على امتثال ما فيه. والتكليف إنَّما يستلزم العلم والقدرة.
الرابع: أنَّهم قالوا لقومهم: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} .
(1)
اختصر في نقل الآيات في "ك، ط".
(2)
"ك، ط": "بالخوف".
(3)
"ف": "الذي أنزل"، خلاف الأصل.
وهذا صريح في أنَّهم مكلَّفون مأمورون بإجابة الرسول، وهي تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر.
الخامس: أنَّهم قالوا: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} . والمغفرة لا تكون إلا عن ذنب، وهو مخالفة الأمر.
السادس: أنَّهم قالوا: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} . والذنب: مخالفة الأمر.
السابع: أنَّهم قالوا: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)} . وهذا يدلّ على أنَّ من لم يستجب منهم لداعي اللَّه لم يُجِرْه من العذاب الأليم. وهذا صريح في تعلق الشريعة الإسلامية بهم.
الثامن: أنَّهم قالوا: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} . وهذا تهديد شديد لمن تخلَّف عن إجابة داعي اللَّه منهم. وقد استدلّ بهذا
(1)
أنَّهم كانوا متعبدين بشريعة موسى، كما هم متعبَّدون بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا ممكن، والآية لا تستلزمه، ولكن قوله تعالى:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ} الآية [الأنعام/ 130] يدلّ على أنَّ الجنّ كانوا متعبّدين بشرائع الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، والآيات المتقدِّمة تدلّ على ذلك أيضًا. وعلى هذا فيكون اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالبعثة إلى الثقلين هو اختصاصه بالبعثة إلى جميعهم لا إلى بعضهم، ومن قبله كان يبعث إلى طائفة مخصوصة.
وأيضًا فقد قال تعالى عن نبيّه سليمان: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ/ 12]. وهذا
(1)
"ط": "بها على".
محض التكليف.
وقد تقدَّم قوله تعالى حكاية عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)}
(1)
[الجن/ 14 - 15].
وقد صحَّ أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم القرآن، وأنَّهم سألوه الزاد لهم ولدوابّهم، فجعل لهم كلَّ عظم ذُكِرَ اسمُ اللَّه عليه، وكلُّ بعرة علفٌ لدوابّهم. ونهانا عن الاستنجاء بهما
(2)
.
ولو لم يكن في هذا إلا قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} [الإسراء/ 15] -وقد أخبر أنَّه يعذّب كفرةَ الجنّ- لكفى به حجةً على أنَّهم مكلَّفون باتباع الرسل.
وممَّا يدلّ على أنَّهم مأمورون منهيُّون بشريعة الإسلام ما تضمّنته سورة الرحمن. فإنَّه سبحانه ذكر خلق النوعين في قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)} . ثمَّ خاطب النوعين بالخطاب المتضمّن لاستدعاءِ الإيمان منهم، وإنكار تكذيبهم بالآية، وترغيبهم في وعده، وتخويفهم من وعيده، وتهديدهم بقوله:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} ، وتخويفهم من عواقب ذنوبهم، وأنَّه لعلمه بها لا يحتاج أن يسألهم عنها سؤال استعلام، بل يعرف
(1)
اختصر في نقل الآية في "ك، ط".
(2)
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في مناقب الأنصار (3860) وغيره؛ وحديث ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (450).
المجرمون منهم بسيماهم فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم
(1)
. ثمَّ ذكر عقاب الصنفين وثوابهم. وهذا كلّه صريح في أنَّهم هم المكلّفون المأمورون المنهيّون المثابون المعاقبون.
وفي الترمذي من حديث محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللَّه قال: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: "لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجنّ فكانوا
(2)
أحسن مردودًا منكم، كنتُ كلَّما أتيتُ على قوله
(3)
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)} قالوا: لا شيء من نعمك ربَّنا نكذّب، فلك الحمد"
(4)
. وهذا يدل على ذكائهم وفطنتهم ومعرفتهم بمواقع
(5)
الخطاب، وعلمهم أنَّهم مقصودون به.
وقوله في هذه السورة: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)} وعيد للصنفين المكلّفين بالشرائع. قال قتادة: معناه فراغ الدنيا وانقضاؤها، ومجيء الآخرة والجزاء فيها، واللَّه تعالى لا يشغله شيءٌ عن شيء
(6)
. والفراغ في اللغة يكون
(7)
على وجهين: فراغ من الشغل، وفراغ بمعنى القصد
(8)
. وهو في هذا الموضع بالمعنى الثاني، وهو
(1)
"ك، ط": "والأقدام".
(2)
"ك، ط": "وكانوا".
(3)
"ك، ط": "آية".
(4)
تقدّم تخريجه في ص (909).
(5)
"ط": "بمؤنة"، تحريف.
(6)
لفظ قتادة في تفسير الطبري (27/ 136): "دنا من اللَّه فراغ لخلقه".
(7)
"يكون" ساقط من "ط".
(8)
معاني القرآن للزجاج (5/ 99).
قصده
(1)
لمجازاتهم بأعمالهم
(2)
يوم الجزاء.
وقوله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)} . فيها قولان:
أحدهما: إن استطعتم أن تنفذوا ما في السماوات والأرض علمًا -أي: أن تعلموا ما فيهما- فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان، أي
(3)
: ببينة من اللَّه. وعلى هذا فالنفوذ ههنا نفوذ علم الثقلين في السماوات والأرض.
والثاني
(4)
: إن استطعتم أن تخرجوا
(5)
عن قهر اللَّه ومحلّ سلطانه ومملكته بنفوذكم من أقطار السماوات والأرض وخروجكم عن محل ملك اللَّه
(6)
وسلطانه، فافعلوا. ومعلوم أنَّ هذا من الممتنع عليكم، فإنَّكم تحت سلطاني وفي محلّ ملكي وقدرتي أين كنتم.
وقال الضحاك: معنى الآية إن استطعتم أن تهربوا عند الموت فاهربوا، فإنَّه مدرككم
(7)
.
وهذه الأقوال على تقدير
(8)
أن يكون الخطاب لهم بهذا القول في الدنيا.
(1)
"ك": "قصد". "ط": "وقد قصد".
(2)
لم تنقل الآية كاملة في "ك، ط".
(3)
"ك، ط": "أي إلّا".
(4)
"ك، ط": "الثاني" دون واو العطف.
(5)
في الأصل: "تخرجون"، سهو. وكذا نقل ناسخ "ف"، ثم ضرب على النون.
(6)
"ك، ط": "حكم اللَّه".
(7)
تفسير الطبري (27/ 137).
(8)
"تقدير" ساقط من "ك، ط".
وفي الآية تقدير
(1)
آخر، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض، وأحاطَ سُرادق النار بالآفاق، فهرب الخلائق، فلا يجدون مهربًا ولا منفذًا، كما قال تعالى:{وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر/ 32 - 33]. قال مجاهد: فارّين غير معجزين
(2)
. وقال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار نَدّوا هُرَّابًا
(3)
، فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفًا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه. فذلك
(4)
قوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة/ 17]، وقوله:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا}
(5)
[الرحمن/ 33].
وهذا القول أظهر، واللَّه أعلم. فإذا نَدّ
(6)
الخلائق وولَّوا مدبرين يقال لهم: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا} أي: إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض، فتعجزوا ربّكم حتّى لا يقدرَ على عذابكم، فافعلوا.
وكأنّ ما قبل هذه الآية وما بعدها يدلّ
(7)
على هذا القول، فإنّ قبلها {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)}
(8)
وهذا في الآخرة. وما
(1)
"ط": "تقرير"، تحريف.
(2)
تفسير الطبري (24/ 62).
(3)
"ب، ك، ط": "هربًا".
(4)
"ف": "وذلك"، قراءة محتملة.
(5)
معالم التنزيل (7/ 148)، وانظر: تفسير الطبري (27/ 137).
(6)
"ط": "بده"، تحريف. وقد سقطت واو العطف منها قبل "ولّوا".
(7)
سقط "يدل" من "ط"، واستدرك في القطرية.
(8)
لم تنقل الآية كاملة في "ك، ط".
بعدها
(1)
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)} ، وهذا في الآخرة.
وأيضًا فإنَّ هذا خطاب لجميع الإنس والجنّ، فإنَّه أتى فيه بصيغة العموم، وهي قوله:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} . فلا بدَّ أن يشترك الكلّ في سماع هذا الخطاب ومضمونه. وهذا إنَّما يكون إذا جمعهم اللَّه في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر.
وقال تعالى: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} ولم يقل: "إن استطعتما"، لإرادة الجماعة، كما قال
(2)
في آية أخرى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ} [الأنعام/ 130].
وقال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} ولم يقل: "عليكم" على إرادة
(3)
الصنفين. أي: لا يختص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفين معًا. وهذا وإن كان مرادًا بقوله:{إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} ، فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن، أي: من استطاع منكم. وحَسَّن الخطابَ بالتثنية في قوله: {عَلَيْكُمَا} أمرٌ آخر، وهو موافقة رؤوس الآي، فاتصلت التثنية بالتثنية. وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما. واللَّه أعلم. قال ابن عباس:"الشواظ": اللهب الذي لا دخان فيه. و"النحاس": الدخان الذي
(1)
"ب، ك، ط": "وبعدها".
(2)
"قال" ساقط من "ك، ط".
(3)
"ك، ط": "يرسل عليكم لإرادة".
لا لهب فيه
(1)
.
وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} ، فأضاف الذنوب إلى الثقلين، وهذا دليل على أنَّهما سواء
(2)
في التكليف. واختلف في هذا السؤال المنفي، فقيل: هو وقت البعث والمصير إلى الموقف، لا يُسألون حينئذٍ. ويُسألون بعد إطالة الوقوف واستشفاعهم إلى اللَّه أن يحاسبهم ويُريحهم من مقامهم ذلك. وقيل: المنفي سؤال الاستعلام والاستخبار، لا سؤال المحاسبة والمجازاة. أي: قد علم اللَّه ذنوبهم، فلا يسألهم عنها سؤالَ من يريد علمها، وإنَّما يحاسبهم عليها.
فصل
فإذا عُلِمَ تكليفُهم بشرائع الأنبياء ومطالبتهم بها، وحشرهم يوم القيامة للثواب والعقاب، عُلِمَ أنَّ محسنهم في الجنَّة كما أنَّ مسيئهم في النَّار.
وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى حكاية عن مؤمنيهم
(3)
(4)
[الجن/ 13]، وبهذه الحجَّة احتجَّ البخاري
(5)
. ووجه الاحتجاج بها أنَّ البخس المنفيّ هو: نقصان الثواب، والرهق: الزيادة في العقوبة على ما
(1)
انظر: مسائل نافع بن الأزرق في الإتقان (2/ 60)، وتفسير الطبري (17/ 111).
(2)
"ط": "سويًّا".
(3)
"ك، ط": "مؤمنهم".
(4)
نقلت الآية مختصرة في "ك، ط".
(5)
في ترجمة الباب (12) من كتاب بدء الخلق، كما سبق.
عمل، فلا يُنقص من ثواب حسناته ولا يُزاد
(1)
في سيئاته. ونظير هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} [طه/ 112] أي: لا يخاف زيادة في سيئاته ولا نقصًا في حسناته
(2)
.
وأيضًا فقد قال تعالى في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)} وذكر ما في الجنَّتين إلى قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)} . وهذا يدلّ على أنَّ ثواب محسنهم الجنَّة من وجوه:
أحدها: أنَّ "مَنْ" من صيغ العموم، فتتناول كلّ خائف.
الثاني: أنَّه رتَّب الجزاءَ المذكور على خوف مقامه، فدلّ على استحقاقه به.
وقد اختلف في إضافة المقام إلى الربّ: هل هي من إضافة المصدر إلى فاعله، أو إلى مفعوله؟ على قولين
(3)
: أحدهما: أنَّ المعنى: ولمن خاف مقامه بين يدي ربه. فعلى هذا هو من إضافة المصدر إلى المفعول. والثاني: أنَّ المعنى: ولمن خاف مقام ربه عليه واطلاعه عليه. فهو من باب إضافة المصدر إلى فاعله. وكذلك القولان في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)} [النازعات/ 40]. ونظيره قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)} [إبراهيم/ 14] فهذه ثلاثة مواضع.
(1)
"ك، ط": "يزداد".
(2)
"ك": "زيادة سيئاته ولا نقصان من حسناته"! وكذا في "ط" بحذف "من".
(3)
انظر: تفسير البغوي (7/ 451)، والكشاف (4/ 451).
وقد يقال: الراجح هو الأوَّل، وأنَّ المعنى: خاف مقامه بين يدي ربّه، لوجوه:
أحدها: أنَّ طريقة القرآن في التخويف أن يخوّفهم باللَّه وباليوم الآخر، فإذا خوّفهم به علَّق الخوفَ به، لا بقيامه عليهم، كقوله تعالى:{فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران/ 175] وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة/ 8] وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل/ 50] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)} [الملك/ 12]. ففي هذا كلّه لم يذكر خشية مقامه عليهم، وإنَّما مدحهم بخوفه وخشيته. وقد يذكر الخوف متعلِّقًا بعذابه، كقوله تعالى:{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء/ 57]. وأمَّا خوف مقامه عليهم، فهو وإن كان كذلك، فليس طريقة القرآن.
الثاني: أنَّ هذا نظير قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام/ 51]. فخوفهم أن يحشروا إليه هو خوفهم من مقامهم بين يديه، والقرآن يفسّر بعضه بعضًا.
الثالث: أنَّ خوف مقام العبد بين يدي ربّه تعالى في الآخرة لا يكون إلا ممن يؤمن بلقائه وباليوم الآخر والبعث
(1)
بعد الموت. وهذا هو الذي يستحقّ الجنَّتين المذكورتين، فإنَّه لا يؤمن بذلك حق الإيمان إلا من آمن بالرسل، وهو من الإيمان بالغيب الذي جاءَت به الرسل. وأمَّا مقام اللَّه على عبده في الدنيا واطلاعه عليه وقدرته عليه، فهذا يُقرّ به المؤمن والكافر والبرّ والفاجر. وأكثر الكفار يخافون جزاءَ اللَّه
(1)
"ب، ك، ط": "بالبعث".
لهم في الدنيا، لما عاينوه من مجازاة الظالم بظلمه، والمحسن بإحسانه. وأمَّا مقام العبد بين يدي ربّه في الآخرة، فلا يؤمن به إلا المؤمن بالرسل.
فإن قيل: إذا كان المعنى أنَّه خاف مقام ربّه عليه في الآخرة بالجزاءِ فقد استوى التقديران، فمن أين رجَّحتم أحدهما؟
قيل: التخويف بمقام العبد بين يدي ربّه أبلغ من التخويف بمقام اللَّه
(1)
على العبد. ولهذا خوَّفنا سبحانه به
(2)
في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين/ 6]، ولأنَّه مقام مخصوص مضاف إلى اللَّه تعالى، وذلك في يوم القيامة، بخلاف مقام اللَّه على العبد فإنَّه كل وقت.
وأيضًا فإنَّه لا يقال لقدرة اللَّه على العبد واطلاعه عليه وعلمه به: مقام اللَّه، ولا هذا من المألوف إطلاقُه على الربِّ تعالى.
وأيضًا فإنَّ المقام في القرآن والسنَّة إنَّما يطلق على المكان، كقوله:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)} [الإسراء/ 79]، وقوله تعالى:{كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)}
(3)
[الدخان/ 25 - 26]، {خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)} [مريم/ 73].
والمقصود أنَّ قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن/ 46] يتناول الصنفين، من وجوه تقدَّم منها وجهان.
الثالث: قوله عقيب هذا الوعد: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن/ 47].
(1)
"ك، ط": "بمقام الرب".
(2)
"به" ساقط من "ك، ط".
(3)
زاد في "ط" هنا: "وقوله تعالى".
الرَّابع: أنَّه ذكر في وصف نسائهم أنَّهنَّ {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)} [الرحمن/ 56]. وهذا -واللَّه أعلم- معناه أنَّه لم يطمث نساءَ الإنس إنسٌ قبلهم، ولا نساءَ الجنّ جنٌّ قبلهم.
وممَّا يدلّ على أنَّ ثوابهم الجنَّة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الكهف/ 30 - 31] وأمثال هذه من العمومات. وقد ثبت أنَّ منهم المؤمنين
(1)
، فيدخلون
(2)
في العموم، كما أنَّ كافرهم يدخل في الكافرين المستحقّين للوعيد، ولا فرق. بل
(3)
دخول مؤمنهم في آيات الوعد أولى من دخول كافرهم في آيات الوعيد، فإنَّ الوعد فضله، والوعيد عدله، وفضله من رحمته وهي تغلب غضبَه.
وأيضًا فإنَّ دخول عاصيهم النَّار إنَّما كان لمخالفته أمر اللَّه، فإذا أطاع اللَّه أدخله
(4)
الجنَّة.
وأيضًا فإنَّه لا دار للمكلّفين سوى الجنَّة والنَّار، فكلّ
(5)
من لم يدخل
(1)
"ط": "المؤمنون"، وهو خطأ صحح في القطرية.
(2)
في الأصل: "فيدخلوا"، ولعله سهو. وكذا في "ف، ك". وفي "ب": "فيدخل". والمثبت من "ط".
(3)
كأنّ الكلمة في الأصل: "بين"، وكذا في "ف، ب". ولعله سبق قلم. والصواب ما أثبتّ. وكتب ناسخ "ف" في الحاشية "أنّ" وأشار إلى أن مكانها بعد "بين"، وهو خطأ. وفي "ك":"بل بين". ولعل "بل" كان تصحيحًا في حاشية النسخة، فجمع بينهما ناسخ "ك". وفي "ط":"للوعيد ودخول"، فتصرّف في النص كما شاء!
(4)
"ك، ط": "أدخل".
(5)
"ب، ك، ط": "وكل"، قراءة محتملة.
النَّار من المكلَّفين فالجنَّة مثواه.
وأيضًا فقد ثبت
(1)
أنَّهم إذا أجابوا داعي اللَّه غفَر لهم وأجارهم من عذابه، وكلّ من غفر اللَّه
(2)
له دخل الجنة ولا بدّ، وليس فائدة المغفرة إلا الفوز بالجنَّة والنجاة من النَّار.
وأيضًا فإنَّه إذا ثبت
(3)
أنَّ الرسول مبعوث إليهم وأنَّهم مكلَّفون باتباعه كان
(4)
مطيعهم للَّه ورسوله مع الذين أنعم اللَّه عليهم، لقوله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية
(5)
[النساء/ 69].
وأيضًا فقد أخبر
(6)
سبحانه عن ملائكته حملةِ العرشِ ومَن حولهم أنَّهم يستغفرون للذين آمنوا وأنَّهم يقولون: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} [غافر/ 7 - 8]، فدلَّ على أنَّ كلّ مؤمن غفر اللَّه له ووقاه عذاب الجحيم فقد وعده الجنَّة. وقد ثبت في حق مؤمنهم الإيمان ومغفرة الذنب ووقاية النَّار -كما تقدَّم- فتعيَّن دخولُهم الجنَّة، واللَّه أعلم.
وإذا ثبت تكليفُهم وانقسامهم
(7)
إلى المسلمين والكفار والصالحين
(1)
"ف": "فإنه قد ثبت"، خلاف الأصل، وكذا في "ب"!
(2)
"ك، ط": "غفر له".
(3)
"ب": "وأيضًا فإذا ثبت". "ط": "وأيضًا فقد ثبت".
(4)
"ط": "باتباعه وأنّ".
(5)
هنا أثبت الآية كاملة في "ط".
(6)
سقط "وأيضًا" من "ك"، فأثبت ناشر "ط":"وقد أخبر".
(7)
"ط": "بانقسامهم"، تحريف.
ودون ذلك، فهم في الموازنة على نحو طبقات الإنس المتقدِّمة، إلا أنَّهم ليس فيهم رسول. وأفضل درجاتهم درجة الصالحين، ولو كان لهم درجة أفضل منها لذكروها. فقد دلَّ القرآن على انقسامهم إلى ثلاثة أقسام: صالحين، ودونهم، وكفار. وزاد عليهم الإنس بدرجة الرسالة والنبوة ودرجة المقرَّبين. واللَّه تعالى أعلم.
فهذا ما وصل إليه الإحصاءُ من طبقات المكلّفين في الدار الآخرة، وهي ثمان عشرة طبقة، وكلّ طبقة منها لها أعلى وأدنى ووسط، وهم درجات عند اللَّه. واللَّه تعالى يحشر الشكل مع شكله والنظير مع نظيره، ويقرن
(1)
بينهما في الدرجة.
قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات/ 22 - 23]. قال الإمام أحمد وقبله عمر بن الخطاب: "أزواجهم": أشباههم ونظراؤهم
(2)
.
وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)} [التكوير/ 7]. روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنَّه سئل عن هذه الآية فقال: يُقرَن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنَّة، ويُقرَن بين الرجل السَّوء مع الرجل السَّوء في النَّار
(3)
. وقال الحسن وقتادة: يلحق كل امرئ بشيعته، اليهودي باليهودي، والنصراني بالنصراني
(4)
. وقال الربيع بن خُثيَم:
(1)
"ف، ب": "يفرق"، تحريف.
(2)
تفسير الطبري (23/ 46)، زاد المسير (7/ 52). وانظر الكافية الشافية (21).
(3)
تفسير الطبري (30/ 69). وكذا النصّ "بين الرجل. . مع. . . " في الموضعين في الأصل وغيره، وفي التفسير. وحذفت كلمة "بين" في "ط".
(4)
المصدر السابق (30/ 70).
يحشر الرجل مع صاحب عمله
(1)
. وفي الآية ثلاثة أقوال أخر أحدها: أنَّ تزويجَ النفوس اقترانها بأجسادها وردّها إليها. الثاني: أنَّ
(2)
تزويجها اقترانها بأعمالها. الثالث: أنَّ
(3)
تزويج المؤمنين بالحور
(4)
العين، وتزويج الكفار بالشياطين.
والقول الأوَّل أظهر الأقوال. واللَّه أعلم.
والحمد للَّه ربِّ العالمين. وصلَّى اللَّه على محمد وآله
(5)
.
(1)
المصدر السابق.
(2)
"أنَّ" ساقطة من "ك، ط".
(3)
"ك، ط": "أنه".
(4)
"ك، ط": "الحور".
(5)
خاتمة "ف" المنقولة من الأصل: "كمل الكتاب بحمد اللَّه تعالى ومنّه وحسن توفيقه. فرغ من كتابته من نسخة المصنف المسودّة العبدُ محمد بن عيسى بن عبد اللَّه بن سليمان البعلي الحنبلي غفر اللَّه له ولوالديه وللمصنّف ولجميع المسلمين. ووافق الفراغ يوم الأربعاء المبارك تاسع عشري شهر رمضان المعظم من عام اثنين وسبعين وسبع مائة ببعلبك. والحمدُ للَّه وصلَّى اللَّه على سيدنا محمد وآله وصحبه.
قابله كاتبُه بأصل مصنفه رحمه الله المنقول منه، فصحّ بحمد اللَّه. غفر اللَّه له، ولمن قابل معه، وللمصنف، والمالك، ولمن نظر فيه ودعا لهم. آمين. وفيه تبييضات أكلها الزمان من أطراف الأصل قصرت العبارة عن معرفة مضمونها، فبيّضها، كما تراها في القريب من آخره. واللَّه المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل".