المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل [حد آخر للمحبة] - طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصلالمثال الثاني: الزهد

- ‌[قاعدة نافعة في إثبات الصفات]

- ‌فصل

- ‌أصل القولين

- ‌الوجه الثالث

- ‌ النقص في الزهد يكون من أحد وجوه ثلاثة

- ‌الوجه الرَّابع:

- ‌فصلالمثال الثالث(1): التوكّل

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌[أقسام الفناء عند السالكين]

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه العاشر:

- ‌الوجه الثاني عشر:

- ‌الوجه الرَّابع عشر:

- ‌الوجه الخامس عشر:

- ‌فصلالمثال الرَّابع(1): الصبر

- ‌منازل الإيمان كلُّها بين الصبر والشكر

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرَّابع:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌فصلالمثال الخامس: الحزن

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه الثاني عشر:

- ‌الوجه الثالث عشر:

- ‌فصل [في المحبّة]

- ‌المحبّة المشتركة ثلاثة أنواع:

- ‌فصل [حدّ آخر للمحبة]

- ‌الفرق بين الإيثار والأثرة

- ‌فصل [حدّ آخر للمحبة]

- ‌فصل [حدود أخرى للمحبَّة]

- ‌فصل

- ‌ غيرة المحب

- ‌الفصل الأوَّل في حقيقته

- ‌فصل في مراتب المكلَّفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها. وهم ثمانِ عشرةَ طبقةً

- ‌الطبقة الثانية: من عداهم من الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌ثبت المصادر والمراجع

الفصل: ‌فصل [حد آخر للمحبة]

‌فصل [حدّ آخر للمحبة]

قال

(1)

: "وقيل: المحبّة موافقة المحبوب فيما ساءَ وسرّ، ونفع وضرّ، كما قيل:

وأهنتِني فأهنتُ نفسي صاغرًا

ما مَن يهون عليكِ ممَّن أُكرِمُ

(2)

"

فيقال: وهذا الحدّ أيضًا من جنس ما قبله، فإنَّ موافقة المحبوب من موجَبات المحبة وثمراتها، وليست نفس المحبّة؛ بل المحبَّة تستدعي الموافقة، وكلَّما كانت المحبة أقوى كانت الموافقة أتمّ. قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران/ 31].

قال الحسن: قال قوم على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنَّا نحبّ ربنا، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}

(3)

.

وقال الجنيد: ادَّعى قوم محبة اللَّه، فأنزل اللَّه آية المحبة وهي قوله

(4)

: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . يعني أنَّ متابعة الرسول هي موافقة حبيبكم، فإنَّه المبلّغ عنه ما يحبه وما يكرهه، فمتابعته موافقة اللَّه في فعل ما يحبّ وترك ما يكره

(5)

.

(1)

محاسن المجالس (90).

(2)

في "ب" والمجالس: "يكرم". والبيت لأبي الشيص وقد سبق في ص (583)، وسيأتي مرّة أخرى ضمن أبيات في ص (659).

(3)

تفسير الطبري (6/ 322 - 323).

(4)

"وهي قوله" ساقط من "ك، ط".

(5)

"فمتابعته. . ." إلى هنا ساقط من "ط". وفي "ك": "يحبّه وترك ما يكرهه".

ص: 656

قال

(1)

مالك رحمه الله في هذه الآية: "من أحبَّ طاعةَ اللَّه أحبَّه اللَّهُ وحبّبه إلى خلقه".

وإنَّما كانت موافقة المحبوب دليلًا على محبّته لأنَّ من أحبَّ حبيبًا فلا بدَّ أن يحبّ ما يحبّه ويبغض ما يبغضه، وإلا لم يكن محبًّا له محبة صادقة. بل إن تخلّف ذلك عنه لم يكن محبًّا له، بل يكون محبًّا لمراده منه، أحبَّه محبوبُه أم كرهه، ومحبوبه عنده وسيلة إلى ذلك المراد، فلو حصل له حظّه من غيره لترحّل عن حبّه

(2)

. فهذه المحبة المدخولة الفاسدة. وإذا كانت المحبة الصحيحة تستدعي حبّ ما يحبّه المحبوب وبغض ما يبغضه، فلا بدّ أن يوافقه فيه.

ولكن ههنا مسألة يغلط فيها كثير من المدّعين للحبّ

(3)

. وهي أنَّ موافقة المحبوب في مراده ليس المعنيُّ بها مرادَه الخَلقي الكوني، فإنَّ كلَّ الكون مراده، وكلَّ ما يفعله الخلائق فهو موجَب مشيئته وإرادته الكونية. فلو كانت موافقته في هذا المراد هي محبته لم يكن له عدوّ أصلًا، وكانت الشياطين والكفَّار والمشركون عبَّاد الأوثان والشمس والقمر أولياءَه وأحبابه، تعالى

(4)

عن ذلك علوًّا كبيرًا.

وإنَّما يظنّ ذلك من يظنّه من أعدائه الجاحدين لإلهيته

(5)

ودينه،

(1)

"ط": "وقال مالك".

(2)

هكذا قرأتُ، ويحتمل:"لرحل". وفي "ف، ب": "لرحل غرضه". وفي "ك": الرحل عوضه". وفي "ط": "ترحّل عوضه".

(3)

"ك، ط": "للمحبة".

(4)

"ب": "تعالى اللَّه".

(5)

"ك، ط": "لمحبته".

ص: 657

الذين يسوّون بين أوليائه وأعدائه. قال اللَّه تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)}

(1)

[ص/ 28]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية/ 21]. وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم/ 35 - 36]. فأنكر سبحانه على من سوَّى بين المسلمين والمجرمين

(2)

وبين المطيعين والمفسدين مع أنَّ الكلَّ تحت المراد الكوني والمشيئة العامَّة.

وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس اللَّه روحه

(3)

- يقول: قال لي بعض شيوخ هؤلاء: المحبَّة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، والكون كلّه مراده، فأيّ شيء أُبغِضُ منه؟ قال: فقلت له: فإذا كان المحبوب قد أبغضَ بعضَ ما في الكون، فأبغضَ قومًا ولعنَهم ومقَتَهم

(4)

وعاداهم؛ فأحببتَهم أنتَ وواليتَهم، تكون مواليًا للمحبوب موافقًا له، أو مخالفًا له معاديًا له؛ قال: فكأنَّما أُلقِمَ حَجرًا

(5)

.

ويبلغ الجهل والكفر ببعض هؤلاء إلى حدّ بحيث إذا فعل محظورًا يزعم أنَّه مطيع للَّه فيه

(6)

، ويقول: أنا مطيع لإرادته، وينشد في ذلك:

(1)

في الأصل: "أفنجعل الذين" وكذا في "ف". وهو سهو.

(2)

"فأنكر سبحانه. . ." إلى هنا ساقط من "ط". وكذا من "ك". ثمّ استدركه بعضهم في الحاشية.

(3)

"قدّس اللَّه روحه" ساقط من "ك، ط". وفي "ب": "رحمه الله".

(4)

"ب": "فلعنهم ومقتهم". "ك، ط": "ومقتهم ولعنهم".

(5)

سبقت الحكاية في ص (185).

(6)

"فيه" ساقط من "ك، ط". وفي "ب": "به".

ص: 658

أصبحتُ منفعلًا لما تختاره

منِّي ففعلي كلُّه طاعاتُ!

(1)

ويقول أحدهم: إبليس وإن عصى الأمر، لكنَّه أطاع الإرادة! يعني أنَّ فعله طاعة للَّه من حيث موافقة إرادته. وهذا انسلاخ من ربقة العقل والدين، وخروج عن الشرائع كلّها؛ فإنَّ الطاعة إنَّما هي موافقة الأمر الديني الذي يحبّه اللَّه ويرضاه. وأمَّا دخوله تحت القدر الكوني الذي يبغضه ويسخطه ويكفّر فاعلَه ويعاقبه، فهي المعصية والكفر ومعاداته ومعاداة دينه. ولا ريب أنَّ المسرفين على أنفسهم، المنهمكين في الذنوب والمعاصي، المعترفين بأنَّهم عصاة مذنبون = أقربُ إلى اللَّه من هؤلاء العارفين المنسلخين عن دين الأنبياء كلّهم، الذين لا عقل لهم ولا دين! فنسأل اللَّه أن يثبِّت قلوبنا على دينه.

أمَّا البيت الذي استشهد به فهو من أبياب لأبي الشِّيص

(2)

يقول

(3)

فيها:

وقفَ الهوى بي حيثُ أنتِ فليس لي

متأخَّرٌ عنه ولا متقدَّمُ

وأهنتِني فأهنتُ نفسي جاهدًا

ما مَن يهون عليك ممن يُكرَمُ

(4)

أشبهتِ أعدائي فصِرتُ أحبُّهم

إذ كان حظِّي منك حظِّي منهمُ

أجدُ الملامَةَ في هواكِ لذيذةً

حُبًّا لذكركِ فَلْيَلُمْني اللُّوَّمُ

(1)

"تختاره" كذا في الأصل هنا، وفي غيره:"يختاره"، والبيت للنجم ابن إسرائيل، وقد سبق في ص (55).

(2)

الخزاعي، من طبقة أبي نواس ومسلم بن الوليد. والأبيات المذكورة من مشهور شعره. وقد أوردها المصنّف في روضة المحبّين (402) أيضًا. وانظر: ديوانه (101).

(3)

"ط": "من قصيدة يقول".

(4)

"ب": "أكرِم".

ص: 659

وقد ناقض فيها في دعواه مناقضةً بيِّنةً، فإنَّه أخبرَ أنَّ هواه قد صار وقفًا عليها، لا يزول عنها ولا يتحوَّل بتقدّم ولا تأخّر؛ ثمَّ أخبرَ أنَّه قد بلغ به حبُّها وهواها إلى أن صار مرادُها من نفسه عينَ

(1)

مراده هو. فلمَّا أرادت إهانته بالصدّ والهجران والبعد سعى هو في إهانة نفسه بجهده موافَقةً لها في إرادتها، فصارت إهانتُه لنفسه مرادةً محبوبةً له من حيث هي مرادةٌ محبوبةٌ لها. وزعم أنَّه لو أكرم نفسَه لكان مخالفًا لمحبوبته مكرِمًا

(2)

لمن أهانته. ثمَّ نقض هذا الغرض من حيث شبَّهها بأعدائه الذين هم أبغض شيءٍ إليه. ووجه هذا التشبيه أنَّه لم يحصل منها من حطه ومراده على شيء، بل الذي يحصل له منها مثلُ ما يحصل له من أعدائه من إهانتهم له وأذاه، فصار حطه منها ومن أعدائه واحدًا، فصارت شبيهةً بهم، فأين هذا من الموافقة التامَّة

(3)

لها في مرادها، بحيث يهين

(4)

نفسه لمحبتها في إهانته؟

ثمَّ أخبر أنَّ له منها حظًّا مرادًا، وأنَّ ذلك الحظّ الذي يريده لم يحصل له، وإنَّما حصل له منه نظير ما يحصل له من أعدائه. وهذه شكاية في الحقيقة وإخبار عن محبّة معلولة

(5)

بالحظّ، وشكاية للحبيب بتفويته عليه.

ثمَّ إنَّه أخبر عن جناية أخرى، وهي أنَّه شرَّكَ بينها وبين أعدائه في حبّه

(1)

"ك، ط": "غير"، تحريف.

(2)

في الأصل: "مكرم"، سهو.

(3)

"ف": "الثانية"، تحريف.

(4)

"ف": "يهنى"، تحريف.

(5)

"ط": "محبه ببخله"، تحريف.

ص: 660

لها، فصار حبُّه منقسمًا: بعضُه لها

(1)

، وبعضُه لأعدائه لشبههم إياها.

ثُمَّ إنَّ في الشعر جنايةً أخرى عليها، وهو أنَّه شبَّهها بمن جبلت القلوب على بغضه، وهو العدوّ. واللائق تشبيه الحبيب بما هو أحبّ الأشياء إلى النفس كالسمع والبصر والحياة والروح والعافية، كما هو عادة الشعراء والناس في نظمهم ونثرهم، كما هو معروف بينهم، وهو جادة كلامهم.

ثمَّ أخبر بمحبته لأعدائه لشبههم بها، فتضمَّن كلامُه معاداة من يحبه، ومحبة من يعاديه. فإنَّها إذا أشبهت أعداءَه لزم أن يحصل لها نصيب من معاداته، وإذا أشبهها أعداؤه لزم أن يحصل لهم نصيب من محبته، كما صرَّح به في جانبهم، وترك التصريح به

(2)

في جانبها، وهو مفهوم من كلامه.

ثُمَّ أخبر أنه يلتذّ بملامة اللوَّام في هواها لما يتضمَّن من ذكراها. وهذا يدلُّ على قوة محبتها وسماع ذكرها. وهذا غرض صحيح، مع أنَّه مدخول أيضًا، فإنَّ محبوبته قد تكره ذلك لما يتضمَّن من فضيحتها به وجعلِها مضغةً للماضغين، فيكون محبًا لنفس ما تكرهه. وهذه محبة فاسدة معلولة، ناقضة لدعواه موافقتَها في محابّها.

(1)

"ط": "له"، خطأ.

(2)

"به" ساقط من "ك، ط".

ص: 661

فصل [حدّ آخر]

قال

(1)

: "وقيل: المحبة: القيام بين يديه وأنت قاعد، ومفارقةُ المضجع وأنت راقد، والسكوت وأنت ناطق، ومفارقة المألوف والوطن وأنت مستوطن".

فيقال: وهذا أيضًا أثر من آثار المحبة، وموجَب من موجباتها، وحكم من أحكامها. وهو صحيح، فإنَّ المحبة تُوجِبُ سفرَ القلب نحو المحبوب دائمًا. والمحِبُّ في وطنه قاطن

(2)

، وتوجب مثولَه وقيامَه بين يدي محبوبه وهو قاعد، وتجافيَه عن مضجعه ومَفارقتَه إيَّاه وهو فيه راقد، وفراغَه لمحبوبه بكلّه

(3)

وهو مشغول في الظاهر

(4)

بغيره. كما قال بعضهم:

وأُدِيمُ نحوَ محدِّثي لِيرَى

أن قد عقلتُ وعندكم عقلي

(5)

وقال بعض المريدين لشيخه: أيسجد القلب بين يدي اللَّه؟ فقال: نعم، سجدةً لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة!

(6)

فهذه سجدة متّصلة بقيامه وقعوده وذهابه ومجيئه وحركته وسكونه. وكذلك يكون جسده في

(1)

محاسن المجالس (91).

(2)

"قاطن" ساقط من "ك". وفي "ط": "والمحبة وطنه"!

(3)

"ب، ك، ط": "كله".

(4)

"ف": "الطاعة"، تحريف.

(5)

لمجنون ليلى في ديوانه (182). وقد أنشده المصنف في روضة المحبين (390) أيضًا.

(6)

من كلام سهل التستري. وقد تقدّم في ص (451).

ص: 662

مضجعه، وقلبُه قد قطع المراحل مسافرًا إلى حبيبه. فإذا أخذ مضجعه اجتمع عليه حبُّه وشوقه، فيهزه المضجعُ إلى سَكَنِه. كما قال اللَّه تعالى في حقِّ المحبين:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة/ 16]. فلمَّا تجافت قلوبهم

(1)

عن المضاجع جافت الجُنوبَ عنها واستخدمتها، وأمرتها فأطاعتها. وقال القائل:

نهاري نهارُ الناس، حتَّى إذا بدا

ليَ الليلُ هزَّتْني إليكِ المضاجعُ

(2)

ويحكى أنَّ بعض الصالحين اجتاز بمسجد، فرأى الشيطانَ واقفًا ببابه لا يستطيع دخوله. فنظر فهذا فيه رجل نائم، وآخر قائم يصلي. فقال له: أيمنعك هذا المصلي من دخوله؟ فقال: كلا، إنَّما يمنعني ذلك الأسد الرابض، ولولا مكانه لدخلتُ!

وبالجملة فقلبُ المحبّ دائمًا في سفر لا ينقضي نحو محبوبه، كلَّما قطع مرحلة

(3)

ومنزلة تبدَّتْ له أخرى، كما قيل:

إذَا قطعنَ عَلَمًا يدا عَلَمْ

(4)

فهو مسافر بين أهله

(5)

، وظاعن وهو في داره، وغريب

(1)

"ط": "جنوبهم"، خطأ.

(2)

البيت لابن الدمينة، وقد دخل مع بيتين آخرين في عينية قيس بن ذريح. قاله صاحب الأغاني (9/ 210)، وانظر: ديوان ابن الدمينة (17)، وقيس ولبنى (107).

(3)

"ك، ط": "مرحلة له".

(4)

"ب": "قطعنا"، "ط":"قطعت"، تحريف. والبيت من أرجوزة لجرير في ديوانه (512). "قطعنَ": يعني النوق.

(5)

"ب": "وهو بين أهله".

ص: 663

وهو

(1)

بين إخوانه وعشيرته؛ يرى كلَّ أحد عنده، ولا يرى نفسَه عند أحد. فقوةُ تعلّق المحبّ بمحبوبه تُوجِب له أن لا يستقرّ قلبه دون الوصول إليه، وكلّما هدأت حركاته وقلّت شواغله اجتمعت عليه شؤون قلبه، وقوي

(2)

سيره إلى محبوبه.

ومحك هذه

(3)

الحال يظهر في مواطن أربعة:

أحدها: عند أخذ مضجعه وتفرغّ حواسه

(4)

وجوارحه من الشواغل، واجتماع قلبه على ما يحبه. فإنَّه لا ينام إلا على ذكر من يحبّه وشغل قلبه به.

الموطن الثاني: عند انتباهه من النوم. فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه. فإنَّه إذا استيقظ ورُدَّتْ إليه روحُه رُدَّ معها إليه ذكرُ محبوبه الذي كان قد غاب عنه في النوم، ولكن كان قد خالط روحه وقلبه، فلمَّا ردّت إليه الروح أسرَعَ من الطرف رُدَّ إليه ذكرُ محبوبه متصلًا بها، مصاحبًا لها، فورد عليه قبل كلّ وارد، وهجم عليه قبل كلّ طارق. فإذا وردَتْ عليه الشواغل والقواطع وردَتْ على محلّ ممتلئ بمحبّة ما يحبه، فوردت على ساحته من ظاهرها. فإذا قضى وطره منها قضاه بمصاحبته لما في قلبه من الحبّ، فإنه قد لزمه كملازمة الغريم

(5)

لغريمه لذلك يسمَّى "غرامًا"، وهو الحبّ اللازم الذي لا يفارق فسمع بمحبوبه، وأبصر به،

(1)

"وهو": ساقط من "ف".

(2)

"ب": "ويرى". "ك": "فله قوى". "ط": "بله قوى"، وكله تحريف.

(3)

"ك، ط": "هذا".

(4)

"ف": "حواشيه"، تحريف.

(5)

"ط": "ملازمة الغريم".

ص: 664

وبطَش به، ومشى به. فصار محبوبه في وجوده في محلّ سمعه الذي يسمَع به، وبصرِه الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها.

هذا مثل محبوبه في وجوده، وهو غير متّحد به، بل هو قائم بذاته مباين له. وهذا المعنى مفهوم بين الناس لا ينكره منهم إلا غليظ الحجاب، أو قليل العلم، ضعيف العقل، يجد محبوبَه قد استولى على قلبه وذكره، فيظن أنه هو نفس ذاته الخارجة قد اتّحدتْ به أو

(1)

حلَّت فيه. فينشأ من قسوة الأوَّل وكثافته وغِلَظ حجابه

(2)

، ومن قلَّة علم الثاني ومعرفته وضعف تمييزه ضلالُ الحلول والاتحاد، وضلالُ الإنكار والتعطيل والحرمان. ويخرج

(3)

من بين فَرْثِ هذا ودمِ هذا لبنُ الفطرة الأولى خالصًا سائغًا للشاربين.

الموطن الثالث: عند دخوله في الصلاة. فإنَّها محكّ الأحوال وميزان الإيمان، بها يوزن إيمان الرجل، ويتحفق حاله ومقامه ومقدار قربه من اللَّه ونصيبه منه، فإنَّها محلّ المناجاة والقربة، ولا واسطة فيها بين العبد وبين ربِّه. فلا شيء أقرّ لعين المحبّ ولا ألذ لقلبه ولا أنعم لعيشه منها إن

(4)

كان محبًّا، فإنه لا شيء آثر عند المحبّ ولا أطيب له من خلوته بمحبوبه، ومناجاته له، ومثوله بين يديه، وقد أقبل بقلبه على محبوبه، وقد أقبل

(5)

محبوبه عليه. وكان قبل ذلك معذَّبًا بمقاساة

(1)

"ف": "إذ"، تحريف.

(2)

"ك": "وغلظ حجاب". "ط": "غلظ حجاب".

(3)

زاد في "ط" بين حاصرتين: "للبصير".

(4)

"ك، ط": "إذا".

(5)

"بقلبه. . . " إلى هنا ساقط من "ط".

ص: 665

الأغيار ومواصلة الخلق والاشتغال بهم، فإذا قام إلى الصلاة هرب من سوى اللَّه إليه، وأوى عنده، واطمأنَّ بذكره، وقرَّت عينُه بالمثول بين يديه ومناجاته. فلا شيء أهم إليه

(1)

من الصلاة، كأنَّه في سجن وضيق وغمّ حتَّى تحضر الصلاة، فيجد قلبه قد انفسح وانشرح واستراح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال:"يا بلال، أرِحْنا بالصلاة"

(2)

ولم يقل: أَرِحْنا منها، كما يقول المبطلون الغافلون.

وقال بعض السلف: ليس بمستكمل الإيمان من لم يزل في همّ وغمّ حتى تحضر الصلاة، فيزول همّه وغمّه

(3)

، أو كما قال. فالصلاة قرَّة عيون المحبين، وسرور أرواحهم، ولذَّة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون همّ الفراغ منها إذا دخلوا فيها، كما يحمل الفارغ البطَّال همّها حتَّى يقضيها بسرعة، فلهم فيها شأن وللنقَّارين شأن! يشكون إلى اللَّه سوءَ صنيعهم بهم

(4)

إذا ائتمّوا بهم، كما يشكو الغافل المعرض تطويلَ إمامه. فسبحانه من فاضَلَ بين النفوس، وفاوتَ بينها هذا التفاوت العظيم!

وبالجملة فمن كانت

(5)

قرَّة عينه في الصلاة فلا شيء أحبّ إليه وأنعم

(6)

عنده منها، وبودّه

(7)

أن لو قطع عمرَه بها غيرَ مشتغل بغيرها،

(1)

كذا قال: "أهمّ إليه" مثل "أحب إليه".

(2)

سبق تخريجه في ص (81).

(3)

كذا وردت العبارة في الأصل وغيره. وأراها تدلّ على ضدّ المقصود، فلينظر.

(4)

"ط": "بها".

(5)

"ط": "كان".

(6)

"ب، ك، ط": "ولا أنعم".

(7)

"ك، ط": "ويود".

ص: 666

وإنَّما يسلّي نفسه إذا فارقها بأنّه سيعود إليها عن قرب. فهو دائمًا يثوب إليها، ولا يقضي منها وطرًا. فلا يزنُ العبد إيمانه ومحبّته للَّه بمثل ميزان الصلاة، فإنّها الميزان العادل، الذي وزنه غير عائل.

الموطن الرابع: عند الشدائد والأهوال. فإن القلب في هذا الموطن لا يذكر إلّا أحبّ الأشياءِ إليه، ولا يهرب إلّا إلى محبوبه الأعظم عنده. ولهذا كانوا يفتخرون بذكرهم من يحبّونهم

(1)

عند الحرب واللقاء، وهو كثير في أشعارهم، كما قال

(2)

:

ذكرتُكِ والخطّيُّ يخطِر بيننا

وقد نهِلَتْ منَّا المثقَّفةُ السُّمْرُ

(3)

وقال غيره:

ولقد ذكرتُكِ والرماحُ كأنَّها

أشطانُ بئرٍ في لَبان الأدهَمِ

(4)

(1)

"ب": "يحبونه".

(2)

"ب": "قال القائل".

(3)

لابن عطاء السندي. انظر: الحماسة (1/ 66). وقد ذكره المصنف في مدارج السالكين (2/ 479)، وروضة المحبّين (386). وفي "ط":"متي".

(4)

كذا ورد البيت هنا، وفي روضة المحبين (386)، ومدارج السالكين (2/ 479)، ونسبه فيه إلى عنترة. وروايته في الديوان وشروح المعلّقات:

يدعون عنترَ والرماح كأنّها

أشطان بئر في لبان الأدهم

وقد ذكر المصنف في الروضة بيتًا آخر بعده:

فودِدتُ تقبيلَ السيوف لأنّها

برقت كبارقِ ثغرِك المتبسّمِ

والبيت الذي ذكر قبل هذا البيت في ديوان الصبابة (221) وغيره منسوبَين إلى عنترة:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

مني وبيضُ الهند تقطر من دمي

وهذا الصواب، وذكرُ بيض الهند في آخر هذا البيت هو الذي حسّن قوله =

ص: 667

وقد جاء في بعض الآثار

(1)

: "يقول تبارك وتعالى: إنَّ عبدي كل عبدي الذي يذكرُني وهو ملاقٍ قِرنَه"

(2)

.

والسرّ في هذا -واللَّه أعلم- أنْ عند معاينة الشدائد

(3)

والأهوال يشتدّ خوف القلب من ذوات أحبّ الأشياء إليه، وهي حياته التي لم يكن يؤثرها إلا لقربه من محبوبه، فهو إنَّما يحبّ حياته لتنغمه بمحبوبه، فإذا خاف فوتها بدر إلى قلبه ذكرُ المحبوب الذي يفوت بفوات حياته. ولهذا -واللَّه أعلم- كثيرًا ما يعرض للعبد عند موته لهَجُه بما يحبّه وكثرةُ ذكره له، وربما خرجت روحه، وهو يلهج به.

= "فوددت تقبيل السيوف" في البيت التالي. وأنشد المؤلف بيتًا آخر في المدارج يشبه هذا البيت:

ولقد ذكرتك والرماح شواجر

نحوي وبيض الهند تقطر من دمي

هذا والبيتان المذكوران في ديوان الصبابة وغيره لم يروهما الثقات، ولم يردا في الديوان وشروح المعلقات. ولا يشبه البيت الثاني شعر الجاهليين. وفات محقق الديوان إثباتهما في ذيل الديوان.

(1)

أخرجه الترمذي (3580)، وأبو نعيم في المعرفة (5238). قال الترمذي:"هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي، ولا نعرف لعمارة بن زعكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث الواحد. ومعنى قوله: "وهو ملاق قرنه" إنَّما يعني عند القتال يعني أن يذكر اللَّه في تلك الساعة". وقال البخاري في تاريخه (6/ 454): "عمارة بن زعكرة له صحبة، لم يصح حديثه". وقال ابن حجر في الإصابة (4/ 276): "قلت: فيه عفير بن معدان، وهو ضعيف. . . ". (ز).

(2)

ذكره المصنف في مدارج السالكين (2/ 478) وقال: "سمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله يستشهد به، وسمعته يقول: المحبّون يفتخرون بذكر من يحبونه في هذه الحال".

(3)

"ك، ط": "مصائب الشدائد"، تحريف.

ص: 668

وقد

(1)

ذكر ابن أبي الدنيا في "كتاب المحتضرين"

(2)

عن زُفَر رحمه الله

(3)

أنَّه جعل يقول عند موته: "لها ثلاثة أخماس الصداق، لها ربع الصداق، لها كذا. . . " حتَّى

(4)

مات؛ لامتلاءِ قلبه رحمه الله من محبّة

(5)

الفقه والعلم.

وأيضًا فإنه عند الموت تنقطع شواغله، وتتعطَّل

(6)

حواسّه، فيظهر ما في القلب، ويقوى سلطانه، فيبدر ما فيه من غير حاجب ولا مدافع. وكثيرًا ما سُمِعَ من بعض المحتضرين عند الموت:"شاه مات"

(7)

. وسُمِعَ من آخر بيتُ شعر لم يزل يغنِّي به، حتَّى مات، وكان مغنِّيًا. وأخبرني رجل عن قرابة له أنه حضره عند الموت -وكان تاجرًا يبيع القماش- قال فجعل يقول:"هذه قطعة جيدة، هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص تساوي كذا وكذا. . . " حتى مات. والحكايات

(8)

في هذا كثيرة جدًا.

فمن كان مشغولًا باللَّه وبذكره ومحبته في حال

(9)

حياته وجد ذلك

(1)

"قد" ساقط من "ك، ط".

(2)

ص (178) مع اختلاف يسير في اللفظ.

(3)

زفر بن الهذيل العنبري (110 - 158 هـ) من تلامذة أبي حنيفة. قال الذهبي: "من بحور الفقه وأذكياء الوقت. . . وكان ممن جمع بين العلم والعمل، وكان يدري الحديث ويتقنه". سير أعلام النبلاء (8/ 39).

(4)

"حتى" ساقط من "ط".

(5)

"محبة" ساقط من "ف".

(6)

"ك، ط": "تبطل".

(7)

انظر: محاضرات الأدباء (2/ 502). و"شاه" من أحجار الشطرنج.

(8)

"ط": "الحكاية"، خطأ.

(9)

"ف": "كلّ"، تحريف.

ص: 669