الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و
أصل القولين
أنّ هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة؟ فمن قال إنه في الدنيا قال
(1)
: هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها، وهي حسنات؛ وهذا تبديل حقيقة. والذين نصروا هذا القول احتجّوا بأنّ السيّئة لا تنقلب حسنةً، بل غايتها أن تُمْحى وتُكَفَّر ويذهب أثرها. فأما أن تنقلب حسنةً فلا، فإنّها لم تكن طاعة، وإنّما كانت بغيضة
(2)
مكروهة للربّ، فكيف تنقلب محبوبة له
(3)
مرضيّة؟
قالوا: وأيضًا فالذي دلّ عليه القرآن إنّما هو تكفير السيّئات ومغفرة الذنوب، كقوله:{رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران/ 193]، وقوله:{وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى/ 25]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر/ 53]. والقرآن مملوءٌ من ذلك.
وفي الصحيح من حديث قتادة، عن صفوان بن مُحرِز قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعتَ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: سمعتُه يقول: "يُدنى المؤمن يوم القيامة من ربّه حتّى يضعَ عليه كنَفَه، فيقرّره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟
(4)
فيقول: ربِّ أعرِفُ
(5)
. قال: فإنّي قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. فيعطَى صحيفةَ حسناتِه. وأمّا الكفّار والمنافقون فيُنادى بهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاءِ الذين كذبوا على اللَّه عز وجل"
(6)
. فهذا الحديث المتفَق عليه الذي
(1)
"ف": "هل"، سهو.
(2)
"ب": "معصية"، تحريف.
(3)
"له": ساقط من "ط".
(4)
"ب": "أتعرف ذنب كذا".
(5)
"ب": "فكيف".
(6)
أخرجه البخاري في كتاب المظالم (2441) وغيره، ومسلم في كتاب التوبة =
يتضمّن
(1)
العنايةَ بهذا العبد إنّما فيه سترُ ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتُها له يوم القيامة، ولم يقل له: وأعطيُتك بكلّ سيّئة منها حسنة؛ فدل على أن غاية السيّئات مغفرتُها وتجاوزُ اللَّه عنها.
وقد قال تعالى في حقّ الصادقين: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)} [الزمر/ 35]. فهؤلاءِ خيار الخلق، وقد أخبر
(2)
أنّه يكفر عنهم سيئاتِ أعمالهم، ويجزيهم بأحسن ما عملوا
(3)
، وأحسن ما عملوا إنّما هو الحسنات لا السيّئات؛ فدلّ على أن الجزاء بالحسنى إنّما يكون على الحسنات وحدها. وأمّا السيّئات فحسبُها أن تلغى
(4)
ويبطلَ أثرها.
قالوا: وأيضًا فلو انقلبت السيّئات أنفسها حسناتِ في حق التائب لكان أحسن حالًا من الذي لم يرتكب منها شيئًا، وأكثرَ حسناتِ منه، لأنّه إذا
(5)
شاركه في حسناته التي فعلها، وامتاز عنه بتلك السيّئات، ثمّ انقلبت له حسناتٍ، ترجَّحَ عليه. وكيف
(6)
يكون صاحبُ السيّئات أرجحَ ممّن لا سيّئة له؟
قالوا: وأيضًا فكما أنّ العبد إذا فعل حسناتٍ، ثمّ أتى بما يُحبِطها،
= (2768).
(1)
"ب، ك، ط": "تضمن".
(2)
"ك، ط": "أخبر عنهم".
(3)
"ط": "يعملون".
(4)
"ط": "السيئات فان تلغى".
(5)
"ب": "إذا أسيء". "ك، ط": "إذا أساء" وهي زيادة لا معنى لها.
(6)
"ب": "فكيف".
فإنّها لا تنقلب سيّئاتِ يعاقَبُ عليها، بل يبطل أثرُها، ويكون لا له ولا عليه، وتكون عقوبتُه عدمَ ترتُّب ثوابِه عليها؛ فهكذا من فعل سيّئاتٍ ثمّ تاب منها، فإنّها لا تنقلب حسنات. فإن قلتم: وهكذا التائبُ يكون ثوابه عدمَ ترتُّب العقوبة على سيّئاته، لم نُنازِعْكم في هذا. وليس هذا معنى الحسنة، فإنّ الحسنة تقتضي ثوابًا وجوديًّا.
واحتجّت الطائفة الأخرى التي قالت: هو تبديل السيّئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة بأن قالت: حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيّئة. وهذا إنّما يكون في السيّئة المحقّقة، وهي التي قد فُعِلتْ ووقَعتْ؛ فإذا بُدِّلت حسنةً كان معناه أنّها مُحِيت وأُثبتَ مكانها حسنةٌ.
قالوا: ولهذا قال سبحانه: {سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان/ 70]، فأضاف السيئات إليهم لكونهم باشروها واكتسبوها، ونكَّر الحسناتِ ولم يُضفها إليهم لأنَّها من غير صنعهم وكسبهم، بل هي مجرَّد فضل اللَّه وكرمه.
قالوا: وأيضًا فالتبديل في الآية إنَّما هو فعل اللَّه، لا فعلهم؛ فإنَّه أخبر أنَّه هو يُبدِّل سيّئاتِهم حسناتٍ. ولو كان المراد ما ذكرتم لأضافَ التبديل إليهم، فإنَّهم هم الذين بدَّلوا
(1)
سيّئاتهم حسنات. والأعمال إنَّما تضاف إلى فاعلها وكاسبها، كما قال تعالى:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة/ 59]. وأمَّا ما كان من غيِر الفاعل فإنَّه يجعله من تبديله هو، كما قال تعالى:{وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ/ 16]. فلمَّا أخبر سبحانه أنَّه هو الذي يبدِّل سيئاتهم حسنات، دلَّ على أنَّه شيء فعله
(1)
"ك، ط": "يبدّلون".
هو سبحانه بسيّئاتهم، لا أنَّهم فعلوه من تلقاءِ أنفسهم، وإن كان سببُه منهم، وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح.
قالوا: ويدلّ عليه ما رواه مسلم في صحيحه
(1)
من حديث الأعمش، عن المعرور بن سُويد، عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنِّي لأعلم آخرَ أهلِ الجنَّة دخولًا الجنَّة، وآخِرَ أهل النَّارِ خروجًا منها: رجلٌ يُؤتَى به يومَ القيامة فيقال: اعرضُوا عليه صغارَ ذنوبه، وارفعوا عنه كبارَها. فتُعرَضُ عليه صغارُ ذنوبه فيقال: عملتَ يومَ كذا وكذا كذا وكذا، وعملتَ يومَ كذا وكذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم. لا يستطيع أن يُنكر، وهو مشفِق من كبار ذنوبه أن تُعرَضَ عليه. فيقال له: فإنَّ لك مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً. فيقول: ربِّ، قد عملتُ أشياءَ لا أراها ههنا" فلقد رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضحِكَ حتَّى بدَتْ نواجذُه.
وقال الإمام أحمد: حدَّثنا وكيع، حدَّثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالرجل يومَ القيامة، فيقال: اعرِضوا عليه صغارَ ذنوبه. قال: فتُعرَض عليه، ويُخَبَّأ عنه كبارُها. فيقال: عملتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ وهو مُقِرٌّ لا ينكر، وهو مشفِق من الكبار. فيقال: أعطُوه مكانَ كلِّ سيئةٍ عمِلَها حسنةً. قال: فيقول: إنَّ لي ذنوبًا ما أراها". فلقد رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضحك حتَّى بدت نواجذُه
(2)
.
قالوا: وأيضًا فروى أبو حفص المستملي، عن محمد بن عبد العزيز
(1)
في كتاب الإيمان (190).
(2)
المسند (21393) وقال محققه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين". ومن طريقه أخرجه مسلم في الإيمان (190/ 315).
ابن أبي رِزْمة، حدثنا الفضل بن موسى القطيعي، عن أبي العنبَس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَيَتَمَنَّينَّ أقوامٌ أنَّهم أكثروا من السيّئات". قيل: مَن هم؟ قال: "الذين بدّل اللَّهُ
(1)
سيّئاتِهم حسناتٍ"
(2)
.
قالوا: وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة، فإنَّهم إنَّما سُمُّوا "أبدالًا" لأنهم بدَّلوا أعمالهم السيّئة بالأعمال الحسنة، فبدَّل اللَّهُ سيّئاتِهم التي عملوها حسناتٍ.
قالوا: وأيضًا فالجزاءُ من جنس العمل، فكما بدَّلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة، بدَّلها اللَّهُ من
(3)
صُحُفِ الحَفَظة حسناتٍ جزاءً وفاقًا.
قالت الطائفة الأولى: كيف يمكنكم الاحتجاجُ بحديث أبي ذرّ على صحّة قولكم، وهو صريح في أنَّ هذا الذي قد بُدِّلت سيّئاته حسنات قد عُذِّبَ عليها في النَّار حتَّى كان آخرَ أهلها خروجًا منها؟ فهذا قد عوقب على سيّئاته، فزال أثرُها بالعقوبة، فبُدِّل مكانَ كلّ سيّئة منها حسنةً. وهذا حكمُ غير
(4)
ما نحن فيه، فإنَّ الكلام في التائب من السيّئات، لا فيمن مات مصرًّا عليها غيرَ تائب منها
(5)
، فأين أحدهما من الآخر؟
(1)
لفظ الجلالة ساقط من "ط".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (15429)، والحاكم (4/ 252) وقال:"أبو العنبس هذا سعيد بن كثير وإسناده صحيح ولم يخرجاه". وأبو العنبس ثقة، لكن فيه كثير بن عبيد والد أبي العنبس، رضيع عائشة، تابعي سمع عائشة وروى عنه جماعة. وذكره ابن حبان في الثقات، ولا يبعد سماعه من أبي هريرة. (ز).
(3)
"ف": "في"، خلاف الأصل.
(4)
"ب": "على غير".
(5)
"منها" ساقط من "ب، ك، ط".
وأمَّا
(1)
حديث الإمام أحمد فهو الحديث بعينه إسنادًا ومتنًا، إلا أنَّه مختصر.
وأمَّا حديث أبي هريرة فلا يثبت مثلُه. ومن أبو العنبس ومن أبوه حتّى يُقبَل منهما تفرّدُهما بمثل هذا الأمر الجليل؟ وكيف يصحّ مثل هذا الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع شدَّة حرصه على التنفير من السيّئات، وتقبيح أهلها، وذفهم وعيبهم، والإخبار بأنَّها تنقص الحسنات وتضادّها؟ فكيف يصحّ عنه
(2)
صلى الله عليه وسلم أنَّه يقول: "ليتمنينَّ أقوام أنَّهم أكثروا منها"؟ ثمَّ كيف يتمنَّى المرءُ إكثاره منها، مع سوء عاقبتها، وسوءِ مغبّتها؟ وإنَّما يُتمنَّى الإكثارُ من الطاعات. وفي الترمذيّ مرفوعًا:"لَيتمنينَّ أقوامٌ يومَ القيامة أنَّ جلودَهم كانت تُقرَض بالمقاريض، لِما يَرون من ثواب أهل البلاءِ"
(3)
. فهذا فيه تمنّي البلاءِ يوم القيامة لأجل مزيد ثواب أهله
(4)
. وأمَّا تمنِّي الحسناتِ، فهذا لا ريب فيه؛ وأمَّا تمنِّي السيئات، فكيف يتمنَّى العبدُ أنَّه كان
(5)
أكثرَ من السيّئات؟ هذا ما لا يكون أبدًا. وإنَّما يتمنَّى المسيء أن لو لم يكن أساءَ، وأمَّا تمنّيه أنَّه
(1)
"ف": "فأما"، خلاف الأصل.
(2)
"ب": "عن رسول اللَّه".
(3)
أخرجه الترمذي (2402) من حديث جابر وقال: "وهذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلَّا من هذا الوجه، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن الأعمش، عن طلحة بن مصرف، عن مسروق قوله شيئًا من هذالا. والصواب أنَّه من قول مسروق مقطوع كما أشار إليه الترمذي، وأخرجه ابن أبي شيبة (10829) وسنده صحيح إلى مسروق. وجاء من وجه آخر عن ابن مسعود موقوفًا عند ابن أبي شيبة (35590) وفيه جهالة الرجل من النخع. (ز).
(4)
زاد في "ط": "وهو تمني الحسنات".
(5)
"كان" ساقط من "ط".
ازداد من إساءته، فكلَّا!
قالوا: وأمَّا ما ذكرتم من أنَّ التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيّئه، فحقٌّ، وكذلك نقول إنَّ الحسنة المفعولة صارت في مكان السيّئة التي لولا الحسنة لحلَّت محلّها.
قالوا: وأمَّا احتجاجكم بإضافةِ السيّئاتِ إليهم، وذلك يقتضي أن تكون هي السيّئات الواقعة؛ وتنكير الحسنات، وهو يقتضي أن تكون حسناتٍ من فضل اللَّه = فهو حقٌّ بلا ريب، ولكن من أين يُنفَى
(1)
أن يكون فضلُ اللَّه بها مقارنًا لكسبهم إيَّاها بفضله؟
قالوا: وأمَّا قولكم: إنَّ التبديل مضاف إلى اللَّه لا إليهم، وذلك يقتضي أنَّه هو الذي بدَّلها سبحانه من الصحف، لا أنَّهم هم الذين بدَّلوا الأعمال بأضدادها؛ فهذا
(2)
لا دليلَ لكم فيه
(3)
، فإنَّ اللَّه تعالى خالق أفعال العباد، فهو المبدّل للسيّئات حسناتٍ خلقًا وتكوينًا، وهم المبدّلون لها فعلًا وكسبًا.
قالوا: وأمَّا احتجاجكم بأنَّ الجزاءَ من جنس العمل، فكما بدّلوا سيّئات أعمالهم بمحاسنهم
(4)
، بدَّلها اللَّهُ كذلك في صحف الأعمال؛ فهذا حقّ، وبه نقول، وأنَّه بُدِّلت السيّئات التي كانت مهيّأة معدَّة
(5)
أن تحلّ في الصحف بحسناتٍ حلَّت موضعها.
(1)
"ب، ط": "يبقى"، تصحيف.
(2)
"ب": "وهذا".
(3)
"فيه": ساقط من الأصل، "ف، ك".
(4)
"ب، ك، ط": "بحسناتهم".
(5)
"ك، ط": "ومعدة".
فهذا منتهى إقدام الطائفتين، ومحطّ نظر الفريقين. وإليك أيّها المنصف الحكمَ بينهما، فقد أدلى كلّ منهما بحجّته، وقام ببيّنته
(1)
، والحقُ لا يعدوهما ولا يتجاوزهما
(2)
. فأرشدَ اللَّهُ من أعانَ
(3)
على هدًى، فنال به درجةَ الدَّاعين إلى اللَّه القائمين ببيان حججه ودينه؛ أو عذَرَ طالبًا منفردًا في طريق مطلبه، قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق، فغايةُ أمنيّته أن يُخلَّى بينه وبين سيره، وأن لا يُقطع عليه طريقُه. فمن رُفع له مثل هذا العَلَم، ولم يشمّر إليه، فقد رضي بالدون، وحصل على صفقة المغبون. ومن شمَّر إليه، ورامَ أن لا يعارضه معارض، ولا يتصدّى له ممانع، فقد منَّى نفسه المحال! وإن صبر على لأوائها وشدّتها، فهو -واللَّه- الفوز المبين والحظّ الجزيل. وما توفيقي إلا باللَّه، عليه توكّلت، وإليه أنيب.
فالصواب
(4)
-إن شاء اللَّه- في هذه المسألة أن يقال: لا ريب أنَّ الذنب نفسه لا ينقلب حسنة، والحسنة إنَّما هي أمرٌ وجوديّ يقتضي ثوابًا، ولهذا كان تارك المنهيّات إنَّما يثاب على كف نفسه وحبسها عن مواقعة المنهي، وذلك الكفّ والحبس أمرٌ وجوديّ هو
(5)
متعلَّق الثواب. وأمَّا من لم يخطر بباله الذنبُ أصلًا، ولم يحدّث به نفسَه، فهذا كيف يثاب على تركه؟ ولو أثيب مثلُ هذا على ترك هذا الذنب لكان مثابًا على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله، وذلك أضعاف حسناته بما
(1)
"ك، ط": "أقام بينته".
(2)
"ب": "لا يجاوزهما".
(3)
"ف": "دل"، خلاف الأصل.
(4)
"ب": "والصواب".
(5)
"ط": "وهو".
لا يحصى، فإنَّ الترك مستصحَب معه، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط، فهل يثاب على ذلك كلّه؟ هذا ممَّا لا يُتوهَّم. وإذا كانت الحسنة لا بدّ أن تكون أمرًا وجوديًّا، فالتائب من الذنوب التي قد عملها
(1)
قد قارن كلَّ ذنب منها ندمًا عليه، وكفَّ نفسِه عنه، وعزمَه
(2)
على تركِ معاودته، وهذه حسنات بلا ريب، وقد محت التوبة أثرَ الذنب، وخلَفَه هذا الندم والعزمُ، وهو حسنة، فقد بُدِّلت
(3)
تلك السيّئةُ حسنةً. وهذا معنى قول بعض المفسِّرين: "يجعل مكان السيّئة التوبة، والحسنة مع التوبة"
(4)
. فإذا كانت كلُّ سيّئةٍ من سيّئاته قد تاب منها، فتوبته منها حسنة حلَّت مكانها، فهذا معنى التبديل، لا أنَّ السيّئة نفسها تنقلب حسنة. ولهذا
(5)
قال بعض المفسّرين في هذه الآية: "يعطيهم بالندم على كلّ سيّئة أساؤوها حسنة".
وعلى هذا فقد زالَ بحمد اللَّه الإشكالُ، واتَّضح الصوابُ، وظهر أنَّ كلَّ واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجَب العلم والحجّة.
وأمَّا حديث أبي ذرّ -وإن كان التبديل فيه في حقّ المصرّ الذي عُذِّب على سيئاته- فهو يدلّ بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيّئاته. فإنَّ الذنوب التي عُذِّب عليها المصرُّ لمَّا زال أثرُها بالعقوبة بقيت كأن لم تكن، فأعطاه اللَّه مكان كلّ سيئة منها حسنةً، لأنَّ
(1)
"ط": "التي عملها"، فحذف "قد".
(2)
"ب": "وكفًّا عنه وعزمًا على". "ط": "وعزم".
(3)
"ك، ط": "قد بدلت".
(4)
وهو قول الزجاج، كما سبق.
(5)
"ولهذا" ساقط من "ك، ط".